فصل: فصل مُقَاطَعَةُ قُرَيْشٍ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.الْهِجْرَةُ الثّانِيَةُ إلَى الْحَبَشَةِ:

ثُمّ اشْتَدّ الْبَلَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى مَنْ قَدِمَ مِنْ مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ وَغَيْرِهِمْ وَسَطَتْ بِهِمْ عَشَائِرُهُمْ وَلَقُوا مِنْهُمْ أَذًى شَدِيدًا فَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْخُرُوجِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَرّةً ثَانِيَةً وَكَانَ خُرُوجُهُمْ الثّانِي أَشَقّ عَلَيْهِمْ وَأَصْعَبَ وَلَقُوا مِنْ قُرَيْشٍ تَعْنِيفًا شَدِيدًا وَنَالُوهُمْ بِالْأَذَى وَصَعُبَ عَلَيْهِمْ مَا بَلَغَهُمْ عَنْ النّجَاشِيّ مِنْ حُسْنِ جِوَارِهِ لَهُمْ وَكَانَ عِدّةُ مَنْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الْمَرّةِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا إنْ كَانَ فِيهِمْ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَإِنّهُ يُشَكّ فِيهِ قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَمِنْ النّسَاءِ تِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً. قُلْتُ قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْهِجْرَةِ الثّانِيَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَجَمَاعَةٌ مِمّنْ شَهِدَ بَدْرًا فَإِمّا أَنْ يَكُونَ هَذَا وَهْمًا وَإِمّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَدْمَةٌ أُخْرَى قَبْلَ بَدْرٍ فَيَكُونُ لَهُمْ ثَلَاثُ قَدَمَاتٍ قَدْمَةٌ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقَدْمَةٌ قَبْلَ بَدْرٍ وَقَدْمَةٌ عَامَ خَيْبَرَ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ إنّهُمْ لَمّا سَمِعُوا مُهَاجَرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَمِنْ النّسَاءِ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِمَكّةَ وَحُبِسَ بِمَكّةَ سَبْعَةٌ وَشَهِدَ بَدْرًا مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا. كَانَ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَة كَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا إلَى النّجَاشِيّ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ فَلَمّا قُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ أَسْلَمَ وَقَالَ لَئِنْ قَدَرْتُ أَنْ آتِيَهُ لَآتِيَنّهُ. وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ يُزَوّجَهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَتْ فِيمَنْ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ فَتَنَصّرَ هُنَاكَ وَمَاتَ فَزَوّجَهُ النّجَاشِيّ إيّاهَا وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ وَكَانَ الّذِي وَلِيَ تَزْوِيجَهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ. وَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِ مَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَيَحْمِلُهُمْ فَفَعَلَ وَحَمَلَهُمْ فِي سَفِينَتَيْنِ مَعَ عَمْرو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِخَيْبَرَ فَوَجَدُوهُ قَدْ فَتَحَهَا فَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْخُلُوهُمْ فِي سِهَامِهِمْ فَفَعَلُوا. ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَيَكُونُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدِمَ فِي الْمَرّةِ الْوُسْطَى بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ بَدْرٍ إلَى الْمَدِينَةِ وَسَلّمَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ وَكَانَ الْعَهْدُ حَدِيثًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَيَكُونُ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكّةَ وَهَذَا أَنْسَبُ بِالنّسْخِ الّذِي وَقَعَ فِي الصّلَاةِ وَالتّغْيِيرُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَجَعْلِهَا أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ وَوُجُوبِ الِاجْتِمَاعِ لَهَا. فَإِنْ قِيلَ مَا أَحْسَنَهُ مِنْ جَمْعٍ وَأَثْبَتَهُ لَوْلَا أَنّ مُحَمّدَ بْنَ إسْحَاقَ قَدْ قَالَ مَا حَكَيْتُمْ عَنْهُ أَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقَامَ بِمَكّةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ الْحَبَشَةِ حَتّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَهَذَا يَدْفَعُ مَا ذُكِرَ. قِيلَ إنْ كَانَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ قَدْ قَالَ هَذَا فَقَدْ قَالَ مُحَمّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ: إنّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَكَثَ يَسِيرًا بَعْدَ مَقْدَمِهِ ثُمّ رَجَعَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِمَكّةَ مَنْ يَحْمِيهِ وَمَا حَكَاهُ ابْنُ سَعْدٍ قَدْ تَضَمّنَ زِيَادَةَ أَمْرٍ خَفِيَ عَلَى ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنُ إسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْ مَنْ حَدّثَهُ وَمُحَمّدُ بْنُ سَعْدٍ أَسْنَدَ مَا حَكَاهُ إلَى الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَنْطَبٍ فَاتّفَقَتْ الْأَحَادِيثُ وَصَدّقَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَزَالَ عَنْهَا الْإِشْكَالُ ولِلّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنّةُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ قَيْسٍ وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَهْلُ السّيَرِ مِنْهُمْ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا: كَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى ابْنِ إسْحَاقَ أَوْ عَلَى مَنْ دُونَهُ؟ قُلْتُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمّا يَخْفَى عَلَى مَنْ دُونَ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَضْلًا عَنْهُ وَإِنّمَا نَشَأَ الْوَهْمُ أَنّ أَبَا مُوسَى هَاجَرَ مِنْ الْيَمَنِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إلَى عِنْدِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ لَمّا سَمِعَ بِهِمْ ثُمّ قَدِمَ مَعَهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِخَيْبَرَ كَمَا جَاءَ مُصَرّحًا بِهِ فِي الصّحِيحِ فَعَدّ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ لِأَبِي مُوسَى هِجْرَةً وَلَمْ يَقُلْ إنّهُ هَاجَرَ مِنْ مَكّةَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ.

.فصل مُحَاوَلَةُ الْمُشْرِكِينَ رَدّ النّجَاشِيّ الْمُهَاجِرِينَ:

الْمُهَاجِرُونَ إلَى مَمْلَكَةِ أَصْحَمَةَ النّجَاشِيّ آمِنِينَ فَلَمّا عَلِمَتْ قُرَيْشٌ بِذَلِكَ بَعَثَتْ فِي أَثَرِهِمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَدَايَا وَتُحَفٍ مِنْ بَلَدِهِمْ إلَى النّجَاشِيّ لِيَرُدّهُمْ عَلَيْهِمْ فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَشَفَعُوا إلَيْهِ بِعُظَمَاءِ بِطَارِقَتِهِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ إلَى مَا طَلَبُوا فَوَشَوْا إلَيْهِ إنّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا يَقُولُونَ إنّهُ عَبْدُ اللّهِ فَاسْتَدْعَى الْمُهَاجِرِينَ إلَى مَجْلِسِهِ وَمُقَدّمُهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَلَمّا أَرَادُوا الدّخُولَ عَلَيْهِ قَالَ جَعْفَرٌ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْك حِزْبَ اللّهِ فَقَالَ لِلْآذِنِ قُلْ لَهُ يُعِيدُ اسْتِئْذَانَهُ فَأَعَادَهُ عَلَيْهِ فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى؟ فَتَلَا عَلَيْهِ جَعْفَرٌ صَدْرًا مِنْ سُورَةِ كهيعص فَأَخَذَ النّجَاشِيّ عُودًا مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ مَا زَادَ عِيسَى عَلَى هَذَا وَلَا هَذَا الْعُودُ فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ عِنْدَهُ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي مَنْ سَبّكُمْ غُرّم وَالسّيُومُ الْآمِنُونَ فِي لِسَانِهِمْ ثُمّ قَالَ لِلرّسُولَيْنِ لَوْ أَعْطَيْتُمُونِي دَبَرًا مِنْ ذَهَبٍ يَقُولُ جَبَلًا مِنْ ذَهَبٍ مَا أَسْلَمْتهمْ إلَيْكُمَا ثُمّ أَمَرَ فَرُدّتْ عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا وَرَجَعَا مَقْبُوحِينَ.

.فصل مُقَاطَعَةُ قُرَيْشٍ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ:

ثُمّ أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَمّهُ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ وَفَشَا الْإِسْلَامُ فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَمْرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْلُو وَالْأُمُورُ تَتَزَايَدُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَتَعَاقَدُوا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُكَلّمُوهُمْ وَلَا يُجَالِسُوهُمْ حَتّى يُسَلّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً وَعَلّقُوهَا فِي سَقْفِ الْكَعْبَةِ يُقَالُ كَتَبَهَا مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَاشِمٍ وَيُقَالُ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَالصّحِيحُ أَنّهُ بَغِيضُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمٍ فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَشُلّتْ يَدُهُ فَانْحَازَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ إلّا أَبَا لَهَبٍ فَإِنّهُ ظَاهَرَ قُرَيْشًا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ وَحُبِسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ مَعَهُ فِي الشّعْبِ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ لَيْلَةَ هِلَالِ الْمُحَرّمِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الْبَعْثَةِ وَعُلّقَتْ الصّحِيفَةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَبَقُوا مَحْبُوسِينَ وَمَحْصُورِينَ مُضَيّقًا عَلَيْهِمْ جِدّا مَقْطُوعًا عَنْهُمْ الْمِيرَةُ وَالْمَادّةُ نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَتّى بَلَغَهُمْ الْجَهْدُ وَسُمِعَ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِمْ بِالْبُكَاءِ مِنْ وَرَاءِ الشّعْبِ وَهُنَاكَ عَمِلَ أَبُو طَالِبٍ قَصِيدَتَهُ اللّامِيّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوّلُهَا: جَزَى اللّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلِ.

.نَقْضُ الصّحِيفَةِ:

وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ رَاضٍ وَكَارِهٍ فَسَعَى فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ مَنْ كَانَ كَارِهًا لَهَا وَكَانَ الْقَائِمُ بِذَلِكَ هِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ مَشَى فِي ذَلِكَ إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَجَابُوهُ إلَى ذَلِكَ ثُمّ أَطْلَعَ اللّهُ رَسُولَهُ عَلَى أَمْرِ صَحِيفَتِهِمْ وَأَنّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهَا الْأَرَضَةَ فَأَكَلَتْ جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ جَوْرٍ وَقَطِيعَةٍ وَظُلْمٍ إلّا ذِكْرَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَمّهُ فَخَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّ ابْنَ أَخِيهِ قَدْ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا خَلّيْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا رَجَعْتُمْ عَنْ قَطِيعَتِنَا وَظُلِمْنَا قَالُوا: قَدْ أَنْصَفْت فَأَنْزَلُوا الصّحِيفَةَ فَلَمّا رَأَوْا الْأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ازْدَادُوا كُفْرًا إلَى كُفْرِهِمْ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الشّعْبِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ: بَعْدَ عَشْرَةِ أَعْوَامٍ مِنْ الْمَبْعَثِ وَمَاتَ أَبُو طَالِبٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِتّةِ أَشْهُرٍ وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَيّامٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ: الْخُرُوجُ إلَى الطّائِفِ:

فَلَمّا نُقِضَتْ الصّحِيفَةُ وَافَقَ مَوْتَ أَبِي طَالِبٍ وَمَوْتَ خَدِيجَةَ وَبَيْنَهُمَا يَسِيرٌ فَاشْتَدّ الْبَلَاءُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ وَتَجَرّءُوا عَلَيْهِ فَكَاشَفُوهُ بِالْأَذَى فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الطّائِفِ رَجَاءَ أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَنْصُرُوهُ عَلَى قَوْمِهِ وَيَمْنَعُوهُ مِنْهُمْ وَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي وَلَمْ يَرَ نَاصِرًا وَآذَوْهُ مَعَ ذَلِكَ أَشَدّ الْأَذَى وَنَالُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَنَلْهُ قَوْمُهُ وَكَانَ مَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ فَأَقَامَ بَيْنَهُمْ عَشَرَةَ أَيّامٍ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ إلّا جَاءَهُ وَكَلّمَهُ فَقَالُوا: اُخْرُجْ مِنْ بَلَدِنَا وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ فَوَقَفُوا لَهُ سِمَاطَيْنِ وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى دَمِيَتْ قَدَمَاهُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتّى أَصَابَهُ شِجَاجٌ فِي رَأْسِهِ فَانْصَرَفَ رَاجِعًا مِنْ الطّائِفِ إلَى مَكّةَ مَحْزُونًا وَفِي مَرْجِعِهِ ذَلِكَ دَعَا بِالدّعَاءِ الْمَشْهُورِ دُعَاءِ الطّائِفِ: اللّهُمّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي وَقِلّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي إلَى مَنْ تَكِلُنِي إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَوْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيّ فَلَا أُبَالِي غَيْرَ أَنّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَحِلّ عَلَيّ غَضَبُك أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِكَ. فَأَرْسَلَ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَيْهِ مَلَكَ الْجِبَالِ يَسْتَأْمِرُهُ أَنْ يُطْبِقَ الْأَخْشَبَيْنِ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ وَهُمَا جَبَلَاهَا اللّذَانِ هِيَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ لَا بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ لَعَلّ اللّهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.

.اسْتِمَاعُ الْجِنّ لِقِرَاءَتِهِ صلى الله عليه وسلم:

فَلَمّا نَزَلَ بِنَخْلَةَ مَرْجِعَهُ قَامَ يُصَلّي مِنْ اللّيْلِ فَصُرِفَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْجِنّ فَاسْتَمَعُوا قِرَاءَتَهُ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ عَلَيْهِ {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الْأَحْقَافُ 29- 32]. وَأَقَامَ بِنَخْلَةَ أَيّامًا فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجُوك؟ يَعْنِي قُرَيْشًا فَقَالَ يَا زَيْدُ إنّ اللّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجًا وَمَخْرَجًا وَإِنّ اللّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيّهُ.

.دُخُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ بِجِوَارِ الْمُطْعِمِ:

ثُمّ انْتَهَى إلَى مَكّةَ فَأَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ إلَى مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ أَدَخَلَ فِي جِوَارِكَ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَدَعَا بَنِيهِ وَقَوْمَهُ فَقَالَ الْبِسُوا السّلَاحَ وَكُونُوا عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ فَإِنّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمّدًا فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحِرَامِ فَقَامَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمّدًا فَلَا يَهْجُهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الرّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَانْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ وَوَلَدُهُ مُحْدِقُونَ بِهِ بِالسّلَاحِ حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ.

.فَصْلٌ: الْإِسْرَاءُ:

ثُمّ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَسَدِهِ عَلَى الصّحِيحِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَاكِبًا عَلَى الْبُرَاقِ صُحْبَة جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا الصّلَاةُ وَالسّلَامُ فَنَزَلَ وَصَلّى بِالْأَنْبِيَاءِ إمَامًا وَرَبَطَ الْبُرَاقَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْمَسْجِدِ. وَقَدْ قِيلَ إنّهُ نَزَلَ بِبَيْتِ لَحْمٍ وَصَلّى فِيهِ وَلَمْ يَصِحّ ذَلِكَ عَنْهُ الْبَتّةَ.

.الْمِعْرَاجُ:

ثُمّ عُرِجَ بِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى السّمَاءِ الدّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ لَهُ جِبْرِيلُ فَفُتِحَ لَهُ فَرَأَى هُنَالِكَ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ فَسَلّمَ عَلَيْهِ فَرَدّ عَلَيْهِ السّلَامَ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ وَأَرَاهُ اللّهُ أَرْوَاحَ السّعَدَاءِ عَنْ يَمِينِهِ وَأَرْوَاحَ الْأَشْقِيَاءِ عَنْ يَسَارِهِ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ الثّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ لَهُ فَرَأَى فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيّا وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَلَقِيَهُمَا وَسَلّمَ عَلَيْهِمَا فَرَدّا عَلَيْهِ وَرَحّبَا بِهِ وَأَقَرّا بِنُبُوّتِهِ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ الثّالِثَةِ فَرَأَى فِيهَا يُوسُفَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ فَرَدّ عَلَيْهِ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ الرّابِعَةِ فَرَأَى فِيهَا إدْرِيسَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَرَأَى فِيهَا هَارُونَ بْنَ عِمْرَانَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ السّادِسَةِ فَلَقِيَ فِيهَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ فَلَمّا جَاوَزَهُ بَكَى مُوسَى فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ أَبْكِي لِأَنّ غُلَامًا بُعِثَ مِنْ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنّةَ مِنْ أُمّتِهِ أَكْثَرُ مِمّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمّتِي ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ فَلَقِيَ فِيهَا إبْرَاهِيمَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ وَرَحّبَ بِهِ وَأَقَرّ بِنُبُوّتِهِ ثُمّ رُفِعَ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ثُمّ رُفِعَ لَهُ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ثُمّ عُرِجَ بِهِ إلَى الْجَبّارِ جَلّ جَلَالُهُ فَدَنَا مِنْهُ حَتّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا مَرّ عَلَى مُوسَى فَقَالَ لَهُ بِمَ أُمِرْتَ؟ قَالَ بِخَمْسِينَ صَلَاةً قَالَ إنّ أُمّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ارْجِعْ إلَى رَبّك فَاسْأَلْهُ التّخْفِيفَ لِأُمّتِك فَالْتَفَتَ إلَى جِبْرِيلَ كَأَنّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ إنْ شِئْت فَعَلَا بِهِ جِبْرِيلُ حَتّى أَتَى بِهِ الْجَبّارَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ فِي مَكَانِهِ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيّ فِي بَعْضِ الطّرُقِ فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا ثُمّ أَنْزَلَ حَتَى مَرّ بِمُوسَى فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ارْجِعْ إلَى رَبّك فَاسْأَلْهُ التّخْفِيفَ فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدّدُ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ حَتَى جَعَلَهَا خَمْسًا فَأَمَرَهُ مُوسَى بِالرّجُوعِ وَسُؤَالِ التّخْفِيفِ فَقَالَ قَدْ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبّي وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلّمُ فَلَمّا بَعُدَ نَادَى مُنَادٍ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفّفْتُ عَنْ عِبَادِي.