فصل: فصل مَنْ قَالَ بِأَنّ الْعَوْدَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.إبْطَالُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ مِنْ كَوْنِ الظّهَارِ طَلَاقًا وَكَذَا إنْ نَوَى بِهِ الطّلَاقَ:

أَحَدُهَا: إبْطَالُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَفِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ كَوْنِ الظّهَارِ طَلَاقًا وَلَوْ صَرّحَ بِنِيّتِهِ لَهُ فَقَالَ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا وَكَانَ ظِهَارًا وَهَذَا بِالِاتّفَاقِ إلّا مَا عَسَاهُ مِنْ خِلَافٍ شَاذّ وَقَدْ نَصّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الشّافِعِيّ: وَلَوْ ظَاهَرَ يُرِيدُ طَلَاقًا كَانَ ظِهَارًا أَوْ طَلّقَ يُرِيدُ ظِهَارًا كَانَ طَلَاقًا هَذَا لَفْظُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَذْهَبِهِ خِلَافُ هَذَا وَنَصّ أَحْمَدَ: عَلَى أَنّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ أَنّهُ ظِهَارٌ وَلَا تَطْلُقُ بِهِ وَهَذَا لِأَنّ الظّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَنُسِخَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ إلَى الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ. وَأَيْضًا فَأَوْسُ بْنُ الصّامِتِ إنّمَا نَوَى بِهِ الطّلَاقَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الظّهَارِ دُونَ الطّلَاقِ. وَأَيْضًا فَإِنّهُ صَرِيحٌ فِي حُكْمِهِ فَلَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ كِنَايَةً فِي الْحُكْمِ الّذِي عَزّ وَجَلّ بِشَرْعِهِ وَقَضَاءُ اللّهِ أَحَقّ وَحُكْمُ اللّهِ أَوْجَبُ.

.حُرْمَةُ الظّهَارِ:

وَمِنْهَا أَنّ الظّهَارَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ لِأَنّهُ كَمَا أَخْبَرَ اللّهُ عَنْهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْكَرًا وَجِهَةِ كَوْنِهِ زُورًا أَنّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي يَتَضَمّنُ إخْبَارَهُ عَنْهَا بِذَلِكَ وَإِنْشَاءَهُ تَحْرِيمَهَا فَهُوَ يَتَضَمّنُ إخْبَارًا وَإِنْشَاءً فَهُوَ خَبَرٌ زُورٌ وَإِنْشَاءٌ مُنْكَرٌ فَإِنّ الزّورَ هُوَ الْبَاطِلُ خِلَافُ الْحَقّ الثّابِتِ وَالْمُنْكَرَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ وَخَتَمَ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ} وَفِيهِ إشْعَارٌ بِقِيَامِ سَبَبِ الْإِثْمِ الّذِي لَوْلَا عَفْوُ اللّهِ وَمَغْفِرَتُهُ لَآخَذَ بِهِ. وَمِنْهَا: أَنّ الْكَفّارَةَ لَا تَجِبُ بِنَفْسِ الظّهَارِ وَإِنّمَا تَجِبُ بِالْعَوْدِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَرَوَى الثّوْرِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ إذَا تَكَلّمَ بِالظّهَارِ فَقَدْ لَزِمَهُ وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قَالَ جَعَلَهَا عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمّهِ ثُمّ يَعُودُ فَيَطَؤُهَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. وَحَكَى النّاسُ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنّهُ تَجِبُ الْكَفّارَةُ بِنَفْسِ الظّهَارِ وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ الثّوْرِيّ وَعُثْمَانَ الْبَتّيّ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ أَنّ الْعَوْدَ شَرْطٌ فِي الْكَفّارَةِ وَلَكِنْ الْعَوْدُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْعَوْدُ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ التّظَاهُرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصّيْدِ {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ} [الْمَائِدَةُ 95] أَيْ عَادَ إلَى الِاصْطِيَادِ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهِ وَلِهَذَا قَالَ: {عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ} [الْمَائِدَةُ 95] قَالُوا: وَلِأَنّ الْكَفّارَةَ إنّمَا وَجَبَتْ فِي مُقَابَلَةِ مَا تَكَلّمَ بِهِ مِنْ الْمُنْكَرِ وَالزّورِ وَهُوَ الظّهَارُ دُونَ الْوَطْءِ أَوْ الْعَزْمِ عَلَيْهِ قَالُوا: وَلِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمّا حَرّمَ الظّهَارَ وَنَهَى عَنْهُ كَانَ الْعَوْدُ هُوَ فِعْلُ الْمَنْهِيّ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَسَى رَبّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الْإِسْرَاءُ: 8] أَيْ إنْ عُدْتُمْ إلَى الذّنْبِ عُدْنَا إلَى الْعُقُوبَةِ؟ فَالْعَوْدُ هُنَا نَفْسُ فِعْلِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ. قَالُوا: وَلِأَنّ الظّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَنُقِلَ حُكْمُهُ مِنْ الطّلَاقِ يَكُونَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِلَفْظِهِ كَالطّلَاقِ. وَنَازَعَهُمْ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا: إنّ الْعَوْدَ أَمْرٌ وَرَاءَ مُجَرّدِ لَفْظِ الظّهَارِ وَلَا يَصِحّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانٌ لِحُكْمِ مَنْ يُظَاهِرُ فِي الْإِسْلَام وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِلَفْظِ الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلًا فَقَالَ يُظَاهِرُونَ وَإِذَا كَانَ هَذَا بَيَانًا لِحُكْمِ ظِهَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عِنْدَكُمْ نَفْسُ الْعَوْدِ فَكَيْفَ يَقُولُ بَعْدَهُ ثُمّ يَعُودُونَ وَأَنّ مَعْنَى هَذَا الْعَوْدِ غَيْرُ الظّهَارِ عِنْدَكُمْ؟.
الثّانِي: أَنّهُ لَوْ كَانَ الْعَوْدُ مَا ذَكَرْتُمْ وَكَانَ الْمُضَارِعُ بِمَعْنَى الْمَاضِي كَانَ تَقْدِيرُهُ وَاَلّذِينَ ظَاهَرُوا مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمّ عَادُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمَا وَجَبَتْ الْكَفّارَةُ إلّا عَلَى مَنْ تَظَاهَرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ ثُمّ عَادَ فِي الْإِسْلَامِ فَمِنْ أَيْنَ تُوجِبُونَهَا عَلَى مَنْ ابْتَدَأَ الظّهَارَ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ عَائِدٍ؟ فَإِنّ هُنَا أَمْرَيْنِ ظِهَارٌ سَابِقٌ وَعَوْدٌ إلَيْهِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ حُكْمَ الظّهَارِ الْآنَ بِالْكُلّيّةِ إلّا أَنْ تَجْعَلُوا يُظَاهِرُونَ لِفُرْقَةٍ وَيَعُودُونَ لِفُرْقَةٍ وَلَفْظُ الْمُضَارِعِ نَائِبًا عَنْ لَفْظِ الْمَاضِي وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلنّظْمِ وَمُخْرِجٌ عَنْ الْفَصَاحَةِ.
الثّالِثُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِالْكَفّارَةِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا: هَلْ تَظَاهَرَا فِي الْجَاهِلِيّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا عَنْ الْعَوْدِ الّذِي تَجْعَلُونَهُ شَرْطًا وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَسَأَلَهُمَا عَنْهُ. قِيلَ أَمّا مَنْ يَجْعَلُ الْعَوْدَ نَفْسَ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الظّهَارِ زَمَنًا يُمْكِنُ وُقُوعُ الطّلَاقِ فِيهِ فَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ نَفْسُ حُجّتِهِ وَمَنْ جَعَلَ الْعَوْدَ هُوَ الْوَطْءُ وَالْعَزْمُ قَالَ سِيَاقُ الْقِصّةِ بَيّنٌ فِي أَنّ الْمُتَظَاهِرِينَ كَانَ قَصْدُهُمْ الْوَطْءُ وَإِنّمَا أَمْسَكُوا لَهُ وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى. وَأَمّا كَوْنُ الظّهَارِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا فَنَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنّ عَزّ وَجَلّ إنّمَا أَوْجَبَ الْكَفّارَةَ فِي هَذَا الْمُنْكَرِ وَالزّوْرِ بِأَمْرَيْنِ بِهِ وَبِالْعَوْدِ كَمَا أَنّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ إنّمَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَطْءِ لَا عَلَى أَحَدِهِمَا.
فَصْلٌ:
وَقَالَ الْجُمْهُورُ لَا تَجِبُ الْكَفّارَةُ إلّا بِالْعَوْدِ بَعْدَ الظّهَارِ ثُمّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْعَوْدِ هَلْ هُوَ إعَادَةُ لَفْظِ الظّهَارِ بِعَيْنِهِ أَوْ أَمْرٌ وَرَاءَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ أَهْلُ الظّاهِرِ كُلّهُمْ هُوَ إعَادَةُ لَفْظِ الظّهَارِ وَلَمْ يَحْكُوا هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السّلَفِ الْبَتّةَ وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشّكَاةُ لَا يَكَادُ مَذْهَبٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ يَخْلُو عَنْهَا. قَالُوا: فَلَمْ يُوجِبْ اللّهُ سُبْحَانَهُ الْكَفّارَةَ إلّا بِالظّهَارِ الْمُعَادِ لَا الْمُبْتَدَأِ. قَالُوا: وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنّ الْعَرَبَ لَا يُعْقَلُ فِي لُغَاتِهَا الْعَوْدُ إلَى الشّيْءِ إلّا فِعْلُ مِثْلِهِ مَرّةً ثَانِيَةً قَالُوا: وَهَذَا كِتَابُ اللّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الْأَنْعَامُ 28] فَهَذَا نَظِيرُ الْآيَةِ سَوَاءٌ فِي أَنّهُ عَدّى فِعْلَ الْعَوْدِ بِاللّامِ وَهُوَ إتْيَانُهُمْ مَرّةً ثَانِيَةً بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ أَوّلًا وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الْإِسْرَاءُ: 8] أَيْ إنْ كَرّرْتُمْ الذّنْبَ كَرّرْنَا الْعُقُوبَةَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُوا عَنِ النّجْوَى ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الْمُجَادَلَةُ 8] وَهَذَا فِي سُورَةِ الظّهَارِ نَفْسِهَا وَهُوَ يُبَيّنُ الْمُرَادَ مِنْ الْعَوْدِ فِيهِ فَإِنّهُ نَظِيرُهُ فِعْلًا وَإِرَادَةً وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ بِذِكْرِهِ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَاَلّذِي قَالُوهُ هُوَ لَفْظُ الظّهَارِ فَالْعَوْدُ إلَى الْقَوْلِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ مَرّةً ثَانِيَةً لَا تَعْقِلُ الْعَرَبُ غَيْرَ هَذَا. قَالُوا: وَأَيْضًا فَمَا عَدَا تَكْرَارَ اللّفْظِ إمّا إمْسَاكٌ وَإِمّا عَزْمٌ وَإِمّا فِعْلٌ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا بِقَوْلٍ فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَوْدًا لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنَى وَلِأَنّ الْعَزْمَ وَالْوَطْءَ وَالْإِمْسَاكَ لَيْسَ ظِهَارًا فَيَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهَا عَوْدًا إلَى الظّهَارِ. قَالُوا: وَلَوْ أُرِيدَ بِالْعَوْدِ الرّجُوعُ فِي الشّيْءِ الّذِي مَنَعَ مِنْهُ نَفْسَهُ كَمَا يُقَالُ عَادَ لَقَالَ ثُمّ يَعُودُونَ فِيمَا قَالُوا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ وَاحْتَجّ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ حَزْمٍ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ كَانَ بِهِ لَمَمٌ فَكَانَ إذَا اشْتَدّ بِهِ لَمَمُهُ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ كَفّارَةَ الظّهَارِ. فَقَالَ هَذَا يَقْتَضِي التّكْرَارَ وَلَابُدّ قَالَ وَلَا يَصِحّ فِي الظّهَارِ إلّا هَذَا الْخَبَرُ وَحْدَهُ. قَالَ وَأَمّا تَشْنِيعُكُمْ عَلَيْنَا بِأَنّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ فَأَرَوْنَا مِنْ الصّحَابَةِ مَنْ قَالَ إنّ الْعَوْدَ هُوَ الْوَطْءُ أَوْ الْعَزْمُ أَوْ الْإِمْسَاكُ أَوْ هُوَ الْعَوْدُ إلَى الظّهَارِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَلَوْ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ الصّحَابَةِ فَلَا تَكُونُونَ أَسْعَدَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنّا أَبَدًا.
فَصْلٌ:
وَنَازَعَهُمْ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا: لَيْسَ مَعْنَى الْعَوْدِ إعَادَةَ اللّفْظِ الْأَوّلِ لِأَنّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ هُوَ الْعَوْدَ لَقَالَ ثُمّ يُعِيدُونَ مَا قَالُوا لِأَنّهُ يُقَالُ أَعَادَ كَلَامَهُ بِعَيْنِهِ وَأَمّا عَادَ فَإِنّمَا هُوَ فِي الْأَفْعَالِ كَمَا يُقَالُ عَادَ فِي فِعْلِهِ وَفِي هِبَتِهِ فَهَذَا اسْتِعْمَالُهُ بِفِي. وَيُقَالُ عَادَ إلَى عَمَلِهِ وَإِلَى وِلَايَتِهِ وَإِلَى حَالِهِ وَإِلَى إحْسَانِهِ وَإِسَاءَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَادَ لَهُ أَيْضًا. وَأَمّا الْقَوْلُ فَإِنّمَا يُقَالُ أَعَادَهُ كَمَا قَالَ ضِمَادُ بْنُ ثَعْلَبَةَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعِدْ عَلَيّ كَلِمَاتِك وَكَمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَعِدْهَا عَلَيّ يَا رَسُولَ اللّه وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ يُقَالُ أَعَادَ مَقَالَتَهُ وَعَادَ لِمَقَالَتِهِ وَفِي الْحَدِيثِ فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ بِمَعْنَى أَعَادَهَا سَوَاءٌ وَأَفْسَدُ مِنْ هَذَا رَدّ مَنْ رَدّ عَلَيْهِمْ بِأَنّ إعَادَةَ الْقَوْلِ مُحَالٌ كَإِعَادَةِ أَمْسٍ. قَالَ لِأَنّهُ لَا يَتَهَيّأُ اجْتِمَاعُ زَمَانَيْنِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ فَإِنّ إعَادَةَ الْقَوْلِ مِنْ جِنْسِ إعَادَةِ الْفِعْلِ وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْأَوّلِ لَا بِعَيْنِهِ وَالْعَجَبُ مِنْ مُتَعَصّبٍ يَقُولُ لَا يُعْتَدّ بِخِلَافِ الظّاهِرِيّةِ وَيُبْحَثُ مَعَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْبُحُوثِ وَيُرَدّ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الرّدّ وَكَذَلِكَ رَدّ مَنْ رَدّ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ الْعَائِدِ فِي هِبَتِهِ فَإِنّهُ لَيْسَ نَظِيرَ الْآيَةِ وَإِنّمَا نَظِيرُهَا {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُوا عَنِ النّجْوَى ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وَمَعَ هَذَا فَهَذِهِ الْآيَةُ تُبَيّنُ الْمُرَادَ مِنْ آيَةِ الظّهَارِ فَإِنّ عَوْدَهُمْ لِمَا نُهُوا عَنْهُ هُوَ رُجُوعُهُمْ إلَى نَفْسِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَهُوَ النّجْوَى وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إعَادَةَ تِلْكَ النّجْوَى بِعَيْنِهَا بَلْ رُجُوعُهُمْ إلَى الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الظّهَارِ {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أَيْ لِقَوْلِهِمْ. فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الزّوْجَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِالْمُحَرّمَةِ فَالْعَوْدُ إلَى الْمُحَرّمِ هُوَ الْعَوْدُ إلَيْهِ وَهُوَ فِعْلُهُ فَهَذَا مَأْخَذُ مَنْ قَالَ إنّهُ الْوَطْءُ. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنّ الْقَوْلَ فِي مَعْنَى الْمَقُولِ وَالْمَقُولُ هُوَ التّحْرِيمُ وَالْعَوْدُ لَهُ هُوَ الْعَوْدُ إلَيْهِ وَهُوَ اسْتِبَاحَتُهُ عَائِدًا إلَيْهِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ اللّغَةِ الْعَرَبِيّةِ وَاسْتِعْمَالِهَا وَهَذَا الّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ وَطَاوُوسٌ وَالْحَسَنُ وَالزّهْرِيّ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السّلَفِ أَنّهُ فَسّرَ الْآيَةَ بِإِعَادَةِ اللّفْظِ الْبَتّةَ لَا مِنْ الصّحَابَةِ وَلَا مِنْ التّابِعِينَ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ وَهَاهُنَا أَمْرٌ خَفِيَ عَلَى مَنْ جَعَلَهُ إعَادَةَ اللّفْظِ وَهُوَ أَنّ الْعَوْدَ إلَى الْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ مُفَارَقَةَ الْحَالِ الّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ وَعَوْدَهُ إلَى الْحَالِ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوّلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الْإِسْرَاءُ 8] أَلَا تَرَى أَنّ عَوْدَهُمْ مُفَارَقَةُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِحْسَانِ وَعَوْدُهُمْ إلَى الْإِسَاءَةِ وَكَقَوْلِ الشّاعِرِ وَإِنْ عَادَ لِلْإِحْسَانِ فَالْعَوْدُ أَحْمَدُ وَالْحَالُ الّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ التّحْرِيمُ بِالظّهَارِ وَاَلّتِي كَانَ عَلَيْهَا إبَاحَةُ الْوَطْءِ بِالنّكَاحِ الْمُوجِبِ لِلْحِلّ فَعَوْدُ الْمُظَاهِرِ عَوْدٌ إلَى حِلّ كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الظّهَارِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْكَفّارَةِ فَتَأَمّلْهُ فَالْعَوْدُ يَقْتَضِي أَمْرًا يَعُودُ إلَيْهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ وَظَهَرَ سِرّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَوْدِ فِي الْهِبَةِ وَبَيْنَ الْعَوْدِ لِمَا قَالَ الْمُظَاهِرُ فَإِنّ الْهِبَةَ بِمَعْنَى الْمَوْهُوبِ وَهُوَ عَيْنٌ يَتَضَمّنُ عَوْدُهُ فِيهِ إدْخَالَهُ فِي مِلْكِهِ وَتَصَرّفَهُ فِيهِ كَمَا كَانَ أَوّلًا بِخِلَافِ الْمُظَاهِرِ فَإِنّهُ بِالتّحْرِيمِ قَدْ خَرَجَ عَنْ الزّوْجِيّةِ وَبِالْعَوْدِ قَدْ طَلَبَ الرّجُوعَ إلَى الْحَالِ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا مَعَهَا قَبْلَ التّحْرِيمِ فَكَانَ الْأَلْيَقُ أَنْ يُقَالَ عَادَ لِكَذَا يَعْنِي: عَادَ إلَيْهِ. وَفِي الْهِبَةِ عَادَ إلَيْهَا وَقَدْ أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِكَفّارَةِ الظّهَارِ وَلَمْ يَتَلَفّظَا بِهِ مَرّتَيْنِ فَإِنّهُمَا لَمْ يُخْبِرَا بِذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَلَا أَخْبَرَ بِهِ أَزْوَاجُهُمَا عَنْهُمَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَلَا سَأَلَهُمَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ قُلْتُمَا ذَلِكَ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ؟ وَمِثْلُ هَذَا لَوْ كَانَ شَرْطًا لَمَا أَهْمَلَ بَيَانَهُ. وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ أَنّ الْعَوْدَ يَتَضَمّنُ أَمْرَيْنِ أَمْرًا يَعُودُ إلَيْهِ وَأَمْرًا يَعُودُ عَنْهُ وَلَابُدّ مِنْهُمَا فَاَلّذِي يَعُودُ عَنْهُ يَتَضَمّنُ نَقْضَهُ وَإِبْطَالَهُ وَاَلّذِي يَعُودُ إلَيْهِ يَتَضَمّنُ إيثَارَهُ وَإِرَادَتَهُ فَعَوْدُ الْمُظَاهِرِ يَقْتَضِي نَقْضَ الظّهَارِ وَإِبْطَالَهُ وَإِيثَارَ ضِدّهِ وَإِرَادَتَهُ وَهَذَا عَيْنُ فَهْمِ السّلَفِ مِنْ الْآيَةِ فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إنّ الْعَوْدَ هُوَ الْإِصَابَةُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الْوَطْءُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ اللّمْسُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الْعَزْمُ. وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ إنّمَا أَوْجَبَ الْكَفّارَةَ فِي الظّهَارِ الْمُعَادِ إنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْمُعَادَ لَفْظُهُ فَدَعْوَى بِحَسَبِ مَا فَهِمْتُمُوهُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الظّهَارَ الْمُعَادَ فِيهِ لِمَا قَالَ الْمُظَاهِرُ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ إعَادَةَ اللّفْظِ الْأَوّلِ. وَأَمّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِي ظِهَارِ أَوْسِ بْنِ الصّامِتِ فَمَا أَصَحّهُ وَمَا أَبْعَدَ دَلَالَتُهُ عَلَى مَذْهَبِكُمْ.

.فَصْلٌ مَنْ قَالَ بِأَنّ الْعَوْدَ هُوَ إمْسَاكُهَا زَمَنًا يَتّسِعُ لِقَوْلِهِ أَنْتَ طَالِقٌ:

ثُمّ الّذِينَ جَعَلُوا الْعَوْدَ أَمْرًا غَيْرَ إعَادَةِ اللّفْظِ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مُجَرّدُ إمْسَاكِهَا بَعْدَ الظّهَارِ أَوْ أَمْرٌ غَيْرُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ إمْسَاكُهَا زَمَنًا يَتّسِعُ لِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَمَتَى لَمْ يَصِلْ الطّلَاقَ بِالظّهَارِ لَزِمَتْهُ الْكَفّارَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ. قَالَ مُنَازِعُوهُ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالثّوْرِيّ فَإِنّ هَذَا النّفَسَ الْوَاحِدَ لَا يُخْرِجُ الظّهَارَ عَنْ كَوْنِهِ مُوجَبَ الْكَفّارَةِ فَفِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُوجِبْ الْكَفّارَةَ إلّا لَفْظُ الظّهَارِ وَزَمَنُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ إيجَابًا وَلَا نَفْيًا فَتَعْلِيقُ الْإِيجَابِ بِهِ مُمْتَنِعٌ وَلَا تُسَمّى تِلْكَ اللّحْظَةُ وَالنّفَسُ الْوَاحِدُ مِنْ الْأَنْفَاسِ عَوْدًا لَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عُرْفِ الشّارِعِ وَأَيّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْجُزْءِ الْيَسِيرِ جِدّا مِنْ الزّمَانِ مِنْ مَعْنَى الْعَوْدِ أَوْ حَقِيقَتِهِ؟. قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ هُوَ إعَادَةُ اللّفْظِ بِعَيْنِهِ فَإِنّ ذَلِكَ قَوْلٌ مَعْقُولٌ يُفْهَمُ مِنْهُ الْعَوْدُ لُغَةً وَحَقِيقَةً وَأَمّا هَذَا الْجُزْءُ مِنْ الزّمَانِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْ الْإِنْسَانِ فِيهِ الْعَوْدُ الْبَتّةَ. قَالُوا: وَنَحْنُ نُطَالِبُكُمْ بِمَا طَالَبْتُمْ بِهِ الظّاهِرِيّةَ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَ الشّافِعِيّ؟ قَالُوا: وَاللّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْكَفّارَةَ بِالْعَوْدِ بِحَرْفِ ثُمّ الدّالّةِ عَلَى التّرَاخِي عَنْ الظّهَارِ فَلَا بُدّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْعَوْدِ وَبَيْنَ الظّهَارِ مُدّةٌ مُتَرَاخِيَةٌ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَكُمْ وَبِمُجَرّدِ انْقِضَاءِ قَوْلِهِ أَنْتَ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي صَارَ عَائِدًا مَا لَمْ يَصِلْهُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَأَيْنَ التّرَاخِي وَالْمُهْلَةُ بَيْنَ الْعَوْدِ وَالظّهَارِ؟ وَالشّافِعِيّ لَمْ يَنْقُلْ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ وَإِنّمَا أَخْبَرَ أَنّهُ أَوْلَى الْمَعَانِي بِالْآيَةِ فَقَالَ الّذِي عَقَلْتُ مِمّا سَمِعْتُ فِي {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أَنّهُ إذَا أَتَتْ عَلَى الْمُظَاهِرِ مُدّةٌ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالظّهَارِ لَمْ يُحَرّمْهَا بِالطّلَاقِ الّذِي يَحْرُمُ بِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفّارَةُ كَأَنّهُمْ يَذْهَبُونَ إلَى أَنّهُ إذَا أَمْسَكَ مَا حَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَنّهُ حَلَالٌ فَقَدْ عَادَ لِمَا قَالَ فَخَالَفَهُ فَأَحَلّ مَا حَرّمَ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ مَعْنًى أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا. انْتَهَى.

.فصل مَنْ قَالَ بِأَنّ الْعَوْدَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ:

وَاَلّذِينَ جَعَلُوهُ أَمْرًا وَرَاءَ الْإِمْسَاكِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى عُبَيْدٍ: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ يَقُولُ إذَا أَجْمَعَ لَزِمَتْهُ الْكَفّارَةُ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا لَوْ طَلّقَهَا بَعْدَ مَا يَجْمَعُ أَكَانَ عَلَيْهِ كَفّارَةٌ إلّا أَنْ يَكُونَ يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ طَاوُسٍ إذَا تَكَلّمَ بِالظّهَارِ لَزِمَهُ مِثْلُ الطّلَاقِ؟.

.مَنْ قَالَ بِأَنّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ أَوْ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ مَعًا:

ثُمّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ طَلّقَ بَعْدَ الْعَزْمِ وَقَبْلَ الْوَطْءِ هَلْ تَسْتَقِرّ عَلَيْهِ الْكَفّارَةُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو الْخَطّابِ تَسْتَقِرّ الْكَفّارَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي وَعَامّةُ أَصْحَابِهِ لَا تَسْتَقِرّ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَحْدَهُ وَرِوَايَةُ الْمُوَطّأِ خِلَافُ هَذَا كُلّهِ أَنّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ مَعًا.

.مَنْ قَالَ إنّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ:

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ أَنّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قَالَ الْغَشَيَانُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَغْشَى كَفّرَ وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ بَلْ مَذْهَبُهُ الّذِي لَا يُعْرَفُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَنّهُ الْوَطْءُ وَيَلْزَمُهُ إخْرَاجُهَا قَبْلَهُ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ.

.حُجَجُ مَنْ قَالَ إنّهُ الْعَزْمُ:

وَاحْتَجّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْكَفّارَةِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا} فَأَوْجَبَ الْكَفّارَةَ بَعْدَ الْعَوْدِ وَقَبْلَ التّمَاسّ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّ الْعَوْدَ غَيْرُ التّمَاسّ وَأَنّ مَا يَحْرُمُ قَبْلَ الْكَفّارَةِ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مُتَقَدّمًا عَلَيْهَا. قَالُوا: وَلِأَنّهُ قَصَدَ بِالظّهَارِ تَحْرِيمَهَا وَالْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا عَوْدٌ فِيمَا قَصَدَهُ. قَالُوا: وَلِأَنّ الظّهَارَ تَحْرِيمٌ فَإِذَا أَرَادَ اسْتِبَاحَتَهَا فَقَدْ رَجَعَ فِي ذَلِكَ التّحْرِيمِ فَكَانَ عَائِدًا.