فصل: فصل مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ أَكْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ اللّحْمِ الّذِي تُصُدّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.الرّدّ عَلَى الْمَأْخَذِ الْأَوّلِ وَهُوَ كَمَالُهَا تَحْتَ نَاقِصٍ:

الْمَأْخَذُ الْأَوّلُ وَهُوَ كَمَالُهَا تَحْتَ نَاقِصٍ فَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الدّوَامِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِذَا زَالَتْ خُيّرَتْ الْمَرْأَةُ كَمَا تُخَيّرُ إذَا بَانَ الزّوْجُ غَيْرَ كُفْءٍ لَهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنّ شُرُوطَ النّكَاحِ لَا يُعْتَبَرُ دَوَامُهَا وَاسْتِمْرَارُهَا وَكَذَلِكَ تَوَابِعُهُ الْمُقَارِنَةُ لِعَقْدِهِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ تَوَابِعَ فِي الدّوَامِ فَإِنّ رِضَى الزّوْجَةِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الدّوَامِ وَكَذَلِكَ الْوَلِيّ وَالشّاهِدَانِ وَكَذَلِكَ مَانِعُ الْإِحْرَامِ وَالْعِدّةِ وَالزّنَى عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ نِكَاحَ الزّانِيَةِ إنّمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْكَفَاءَةِ ابْتِدَاءُ اشْتِرَاطِ اسْتِمْرَارِهَا وَدَوَامِهَا.
الثّانِي: أَنّهُ لَوْ زَالَتْ الْكَفَاءَةُ فِي أَثْنَاءِ النّكَاحِ بِفِسْقِ الزّوْجِ أَوْ حُدُوثِ عَيْبٍ مُوجِبٍ لِلْفَسْخِ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ اخْتِيَارُ قُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ. وَأَثْبَتَ الْقَاضِي الْخِيَارَ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ وَيَلْزَمُهُ إثْبَاتُهُ بِحُدُوثِ فِسْقِ الزّوْجِ وَقَالَ الشّافِعِيّ إنْ حَدَثَ بِالزّوْجِ ثَبَتَ الْخِيَارُ وَإِنْ حَدَث بِالزّوْجَةِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ.

.الرّدّ عَلَى الْمَأْخَذِ الثّانِي وَهُوَ أَنّ عِتْقَهَا أَوْجَبَ لِلزّوْجِ عَلَيْهَا مِلْكَ طَلْقَةٍ ثَالِثَة:

وَأَمّا الْمَأْخَذُ الثّانِي وَهُوَ أَنّ عِتْقَهَا أَوْجَبَ لِلزّوْجِ عَلَيْهَا مِلْكَ طَلْقَةٍ ثَالِثَةٍ فَمَأْخَذٌ ضَعِيفٌ جِدّا فَأَيّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ ثُبُوتِ طَلْقَةٍ ثَالِثَةٍ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا؟ وَهَلْ نَصَبَ الشّارِعُ مِلْكَ الطّلْقَةِ الثّالِثَةِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْفَسْخِ وَمَا يُتَوَهّمُ- مِنْ أَنّهَا كَانَتْ تَبِينُ مِنْهُ بِاثْنَتَيْنِ فَصَارَتْ لَا تَبِينُ إلّا بِثَلَاثٍ وَهُوَ زِيَادَةُ إمْسَاكٍ وَحَبْسٍ لَمْ فَكَيْفَ يَسْلُبُهُ إيّاهُ مِلْكَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةً ثَالِثَةً وَهَذَا لَوْ كَانَ الطّلَاقُ مُعْتَبَرًا بِالنّسَاءِ فَكَيْفَ وَالصّحِيحُ أَنّهُ مُعْتَبِرٌ بِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ وَمَشْرُوعٌ فِي جَانِبِهِ.

.تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ لِلْمَأْخَذِ الثّالِثِ وَهُوَ مِلْكُهَا نَفْسَهَا:

وَأَمّا الْمَأْخَذُ الثّالِثُ وَهُوَ مَلِكُهَا نَفْسَهَا فَهُوَ أَرْجَحُ الْمَآخِذِ وَأَقْرَبُهَا إلَى أُصُولِ الشّرْعِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ التّنَاقُضِ وَسِرّ هَذَا الْمَأْخَذِ أَنّ السّيّدَ عَقَدَ عَلَيْهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ حَيْثُ كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهَا وَمَنَافِعِهَا وَالْعِتْقُ يَقْتَضِي تَمْلِيكَ الرّقَبَةِ وَالْمَنَافِعِ لِلْمُعْتِقِ وَهَذَا مَقْصُودُ الْعِتْقِ وَحِكْمَتُهُ فَإِذَا مَلَكَتْ رَقَبَتَهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا وَمَنَافِعَهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ فَلَا يُمَلّك عَلَيْهَا إلّا بِاخْتِيَارِهَا فَخَيّرَهَا الشّارِعُ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ مَعَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ نِكَاحَهُ إذْ قَدْ مَلَكَتْ مَنَافِعَ بُضْعِهَا وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنّهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهَا: مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَوْ زَوّجَهَا ثُمّ بَاعَهَا فَإِنّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ رَقَبَتَهَا وَبُضْعَهَا وَمَنَافِعَهُ وَلَا تُسَلّطُونَهُ عَلَى فَسْخِ النّكَاحِ. قُلْنَا: لَا يَرِدُ هَذَا نَقْضًا فَإِنّ الْبَائِعَ نَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَصَارَ الْمُشْتَرِي خَلِيفَتهُ وَهُوَ لَمّا زَوّجَهَا أَخْرَجَ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِهِ إلَى الزّوْجِ ثُمّ نَقَلَهَا إلَى الْمُشْتَرِي مَسْلُوبَةً مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ آجَرَ عَبْدَهُ مُدّةً ثُمّ بَاعَهُ. فَإِنْ قِيلَ فَهَبْ أَنّ هَذَا يَسْتَقِيمُ لَكُمْ فِيمَا إذَا بَاعَهَا فَهَلّا قُلْتُمْ ذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهَا وَأَنّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا مَسْلُوبَةً مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ كَمَا لَوْ آجَرَهَا ثُمّ أَعْتَقَهَا وَلِهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْمَأْخَذُ؟. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنّ الْعِتْقَ فِي تَمْلِيكِ الْعَتِيقِ رَقَبَتَهُ وَمَنَافِعَهُ أَقْوَى مِنْ الْبَيْعِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ فِيمَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَيَسْرِي فِي حِصّةِ الشّرِيكِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَالْعِتْقُ إسْقَاطُ مَا كَانَ السّيّدُ يَمْلِكُهُ مِنْ عَتِيقِهِ وَجَعَلَهُ لَهُ مُحَرّرًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي إسْقَاطَ مِلْكِ نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهَا كُلّهَا. وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ يَسْرِي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ الْمَحْضِ الّذِي لَا حَقّ لَهُ فِيهِ الْبَتّةَ فَكَيْفَ لَا يَسْرِي إلَى مَلِكِهِ الّذِي تَعَلّقَ بِهِ حَقّ الزّوْجِ فَإِذَا سَرَى إلَى نَصِيبِ الشّرِيكِ الّذِي حَقّ لِلْمُعْتِقِ فِيهِ فَسَرَيَانُهُ إلَى مِلْكِ الّذِي يَتَعَلّقُ بِهِ حَقّ الزّوْجِ أَوْلَى وَأَحْرَى فَهَذَا مَحْضُ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ الصّحِيحِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا فِيهِ إبْطَالُ حَقّ الزّوْجِ مِنْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ الشّرِيكِ فَإِنّهُ يَرْجِعُ إلَى الْقِيمَةِ. قِيلَ الزّوْجُ قَدْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِالْوَطْءِ فَطَرَيَانُ مَا يُزِيلُ دَوَامَهَا لَا يُسْقِطُ لَهُ حَقّا كَمَا لَوْ طَرَأَ مَا يُفْسِدُهُ أَوْ يَفْسَخُهُ بِرَضَاعٍ أَوْ حُدُوثِ عَيْبٍ أَوْ زَوَالِ كَفَاءَةٍ عِنْدَ مَنْ يَفْسَخُ بِهِ.

.إشْكَالَانِ عَلَى تَخْيِيرِ الْمُعْتَقَةِ إذَا كَانَتْ مُتَزَوّجَةً بِحُرّ:

فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا رَوَاهُ النّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَوْهِبٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ قَالَ كَانَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ قَالَتْ فَأَرَدْت أَنْ أُعْتِقَهُمَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ ابْدَئِي بِالْغُلَامِ قَبْلَ الْجَارِيَةِ وَلَوْلَا أَنّ التّخْيِيرَ يُمْنَعُ إذَا كَانَ الزّوْجُ حُرّا لَمْ يَكُنْ لِلْبُدَاءَةِ بِعِتْقِ الْغُلَامِ فَائِدَةٌ فَإِذَا بَدَأَتْ بِهِ عَتَقَتْ تَحْتَ حُرّ فَلَا يَكُونُ لَهَا اخْتِيَارٌ. وَفِي سُنَنِ النّسَائِيّ أَيْضًا: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَيّمَا أَمَةٍ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَعَتَقَتْ فَهِيَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا زَوْجُهَا قِيلَ أَمّا الْحَدِيثُ الْأَوّلُ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيّ وَقَدْ رَوَاهُ هَذَا خَبَرٌ لَا يُعْرَفُ إلّا بِعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مَوْهِبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ هُوَ كَانَا زَوْجَيْنِ بَلْ قَالَ كَانَ لَهَا عَبْدٌ وَجَارِيَةٌ. ثُمّ لَوْ كَانَا زَوْجَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي أَمْرِهِ لَهَا بِعِتْقِ الْعَبْدِ أَوّلًا مَا يُسْقِطُ خِيَارَ الْمُعْتَقَةِ تَحْتَ الْحُرّ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنّهُ أَمَرَهَا بِالِابْتِدَاءِ بِالزّوْجِ لِهَذَا الْمَعْنَى بَلْ الظّاهِرُ أَنّهُ أَمَرَهَا بِأَنْ تَبْتَدِئَ بِالذّكَرِ لِفَضْلِ عِتْقِهِ عَلَى الْأُنْثَى وَأَنّ عِتْقَ أُنْثَيَيْنِ يَقُومُ مَقَامَ عِتْقِ ذَكَرٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ مُبَيّنًا. وَأَمّا الْحَدِيثُ الثّانِي: فَضُعّفَ لِأَنّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ وَهُوَ مَجْهُولٌ. فَإِذَا تَقَرّرَ هَذَا وَظَهَرَ حُكْمُ الشّرْعِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهَا فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ فَهِيَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا إنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ وَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا تَسْتَطِيعُ فِرَاقَهُ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا قَضِيّتَانِ.

.خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ عَلَى التّرَاخِي:

إحْدَاهُمَا: أَنّ خِيَارَهَا عَلَى التّرَاخِي مَا لَمْ تُمَكّنْهُ مِنْ وَطِئَهَا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ. وَالشّافِعِيّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. هَذَا أَحَدُهَا.
وَالثّانِي: أَنّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَالثّالِثُ أَنّهُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيّامٍ.

.التّمْكِينُ مِنْ الْوَطْءِ يَسْقُطُ:

الثّانِيَةُ أَنّهَا إذَا مَكّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَطِئَهَا سَقَطَ خِيَارُهَا وَهَذَا إذَا عَلِمَتْ بِالْعِتْقِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ بِهِ فَلَوْ جَهِلَتْهُمَا لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهَا بِالتّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهَا لَا تُعْذَرُ بِجَهْلِهَا بِمِلْكِ الْفَسْخِ بَلْ إذَا عَلِمَتْ بِالْعِتْقِ وَمَكّنَتْهُ مِنْ وَطِئَهَا سَقَطَ خِيَارُهَا وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ أَنّ لَهَا الْفَسْخَ وَالرّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحّ فَإِنْ عَتَقَ الزّوْجُ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ- وَقُلْنَا: إنّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُعْتَقَةِ تَحْتَ حُرّ- بَطَلَ خِيَارُهَا لِمُسَاوَاةِ الزّوْجِ لَهَا وَحُصُولِ الْكَفَاءَةِ قَبْلَ الْفَسْخِ. قَالَ الشّافِعِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ- وَلَيْسَ هُوَ الْمَنْصُورَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ لَهَا الْفَسْخُ لِتَقَدّمِ مِلْكِ الْخِيَارِ عَلَى الْعِتْقِ فَلَا يُبْطِلُهُ وَالْأَوّلُ أَقْيَسُ لِزَوَالِ سَبَبِ الْفَسْخِ بِالْعِتْقِ وَكَمَا لَوْ زَالَ الْعَيْبُ زَالَ الْإِعْسَارُ فِي زَمَنِ مِلْكِ الزّوْجَةِ الْفَسْخَ بِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: الْعِلّةُ مِلْكُهَا نَفْسِهَا فَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فَإِنْ طَلّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيّا فَعَتَقَتْ فِي عِدّتِهَا فَاخْتَارَتْ الْفَسْخَ بَطَلَتْ الرّجْعَةُ وَإِنْ اخْتَارَتْ الْمَقَامَ مَعَهُ صَحّ وَسَقَطَ اخْتِيَارُهَا لِلْفَسْخِ لِأَنّ الرّجْعِيّةَ كَالزّوْجَةِ. وَقَالَ الشّافِعِيّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: لَا يَسْقُطُ خِيَارُهَا إذَا رَضِيَتْ بِالْمَقَامِ دُونَ الرّجْعَةِ وَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ الِارْتِجَاعِ وَلَا يَصِحّ اخْتِيَارُهَا فِي زَمَنِ الطّلَاقِ فَإِنّ الِاخْتِيَارَ فِي زَمَنٍ هِيَ فِيهِ صَائِرَةٌ إلَى بَيْنُونَةِ مُمْتَنِعٍ. فَإِذَا رَاجَعَهَا صَحّ حِينَئِذٍ أَنْ تَخْتَارَهُ وَتُقِيمَ مَعَهُ لِأَنّهَا صَارَتْ زَوْجَةً وَعَمِلَ الِاخْتِيَارُ عَمَلَهُ وَتَرَتّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ. وَنَظِيرُ هَذَا إذَا ارْتَدّ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ الدّخُولِ ثُمّ عَتَقَتْ فِي زَمَنِ الرّدّةِ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوّلِ لَهَا الْخِيَارُ قَبْلَ إسْلَامِهِ فَإِنْ اخْتَارَتْهُ ثُمّ أَسْلَمَ سَقَطَ مِلْكُهَا لِلْفَسْخِ وَعَلَى قَوْلِ الشّافِعِيّ: لَا يَصِحّ لَهَا خِيَارٌ قَبْلَ إسْلَامِهِ لِأَنّ الْعَقْدَ صَائِرٌ إلَى الْبُطْلَانِ. فَإِذَا أَسْلَمَ صَحّ خِيَارُهَا. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ إذَا طَلّقَهَا قَبْلَ أَنْ تَفْسَخَ هَلْ يَقَعُ الطّلَاقُ أَمْ لَا؟. قِيلَ نَعَمْ يَقَعُ لِأَنّهَا زَوْجَةٌ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُمْ يُوقَفُ الطّلَاقُ فَإِنْ فَسَخَتْ تَبَيّنّا أَنّهُ لَمْ يَقَعْ وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا تَبَيّنّا وُقُوعَهُ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا حُكْمُ الْمَهْرِ إذَا اخْتَارَتْ الْفَسْخَ؟. قِيلَ إمّا أَنْ تَفْسَخَ قَبْلَ الدّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ فَسَخَتْ بَعْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ الْمَهْرَ وَهُوَ لِسَيّدِهَا سَوَاءٌ فَسَخَتْ أَوْ أَقَامَتْ وَإِنْ فَسَخَتْ قَبْلَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. إحْدَاهُمَا: لَا مَهْرَ لِأَنّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا وَالثّانِيَةُ يَجِبُ نِصْفُهُ وَيَكُونُ لِسَيّدِهَا لَا لَهَا. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي الْمُعْتَقِ نِصْفُهَا هَلْ لَهَا خِيَارٌ؟ قِيلَ فِيهَا قَوْلَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ فَإِنْ قُلْنَا: لَا خِيَارَ لَهَا كَزَوْجِ مُدَبّرَةٍ لَهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ فَعَقَدَ عَلَى مِائَتَيْنِ مَهْرًا ثُمّ مَاتَ عَتَقَتْ وَلَمْ تَمْلِكْ الْفَسْخَ قَبْلَ سَقَطَ الْمَهْرُ أَوْ انْتَصَفَ فَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثّلُثِ فَيَرِقّ بَعْضُهَا فَيَمْتَنِعُ الْفَسْخُ قَبْلَ الدّخُولِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَمْلِكْهُ فَإِنّهَا تَخْرُجُ مِنْ الثّلُثِ فَيَعْتِقُ جَمِيعُهَا.

.فَصْلٌ فِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «لَوْ رَاجَعْتِهِ» فَقَالَتْ أَتَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ: «لَا إنّمَا أَنَا شَافِعٌ» فَقَالَتْ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فِيهِ ثَلَاثُ قَضَايَا:

.الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ:

إحْدَاهَا: أَنّ أَمْرَهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَلِهَذَا فَرّقَ بَيْنَ أَمْرِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ امْتِثَالَ شَفَاعَتِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْتَحَبّاتِ.

.لَا يَحْرُمُ عِصْيَانُ شَفَاعَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

الثّانِيَةُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَغْضَبْ عَلَى بَرِيرَةَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا إذْ لَمْ تَقْبَلْ شَفَاعَتُهُ لِأَنّ الشّفَاعَةَ فِي إسْقَاطِ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ حَقّهُ وَذَلِكَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ أَسْقَطَهُ وَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهُ فَلِذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عِصْيَانُ شَفَاعَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَحْرُمُ عِصْيَانُ أَمْرِهِ.

.مَعْنَى الْمُرَاجَعَةِ فِي لِسَانِ الشّارِعِ:

الثّالِثَةُ أَنّ اسْمَ الْمُرَاجَعَةِ فِي لِسَانِ الشّارِعِ قَدْ يَكُونُ مَعَ زَوَالِ عَقْدِ النّكَاحِ بِالْكُلّيّةِ فَيَكُونُ ابْتِدَاءَ عَقْدٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ تَشَعّثِهِ فَيَكُونُ إمْسَاكًا وَقَدْ سَمّى سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءَ النّكَاحِ لِلْمُطَلّقِ ثَلَاثًا بَعْدَ الزّوْجِ الثّانِي مُرَاجَعَةً فَقَالَ فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا [الْبَقَرَةُ 230] أَيْ إنْ طَلّقَهَا الثّانِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَوّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا نِكَاحًا مُسْتَأْنَفًا.

.فصل مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ أَكْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ اللّحْمِ الّذِي تُصُدّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ:

وَفِي أَكْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ اللّحْمِ الّذِي تُصُدّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَقَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيّةٌ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْغَنِيّ وَبَنِي هَاشِمٍ وَكُلّ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصّدَقَةُ مِمّا يُهْدِيهِ إلَيْهِ الْفَقِيرُ مِنْ الصّدَقَةِ لِاخْتِلَافِ جِهَةِ الْمَأْكُولِ وَلِأَنّهُ قَدْ بَلَغَ مَحِلّهُ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِمَالِهِ. هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ صَدَقَةَ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ صَدَقَتُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَلَا يَهَبَهَا وَلَا يَقْبَلَهَا هَدِيّةً. كَمَا نَهَى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ شِرَاءِ صَدَقَتِهِ وَقَالَ لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ.

.فَصْلٌ فِي قَضَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّدَاقِ بِمَا قَلّ وَكَثُرَ:

وَقَضَائِهِ بِصِحّةِ النّكَاحِ عَلَى مَا مَعَ الزّوْجِ مِنْ الْقُرْآنِ:
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا: كَانَ صَدَاقُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشَا فَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَكَحَ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أَنْكَحَ شَيْئًا مِنْ بَنَاتِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّة. قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. انْتَهَى. وَالْأُوقِيّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ: مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِرَجُلٍ تَزَوّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقٍ مِلْءَ كَفّيْهِ سَوِيقًا أَوْ تَمْرًا فَقَدْ اسْتَحَلّ. أَنّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ تَزَوّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَضِيت مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِك بِنَعْلَيْنِ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَأَجَازَهُ. قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ أَعْظَمَ النّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مَؤُونَةً. وَفِي الصّحِيحَيْنِ: أَنّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَك فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَوّجْنِيهَا إنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إيّاهُ؟ قَالَ مَا عِنْدِي إلّا إزَارِي هَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّكَ إنْ أَعْطَيْتَهَا إزَارَكَ جَلَسْتَ وَلَا إزَارَ لَك فَالْتَمِسْ شَيْئًا قَالَ لَا أَجِدُ شَيْئًا قَالَ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُورٍ سَمّاهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ زَوّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ. النّسَائِيّ أَنّ أَبَا طَلْحَةَ خَطَبَ أُمّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ وَاَللّهِ يَا أَبَا طَلْحَةَ مَا مِثْلُكَ يُرَدّ وَلَكِنّك رَجُلٌ كَافِرٌ وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ وَلَا يَحِلّ لِي أَنْ أَتَزَوّجَك فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي وَمَا أَسَالُك غَيْرَهُ فَأَسْلَمَ فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا. قَالَ ثَابِتٌ فَمَا سَمِعْنَا بِامْرَأَةٍ قَطّ كَانَتْ أَكْرَمَ مَهْرًا مِنْ أُمّ سُلَيْمٍ فَدَخَلَ بِهَا فَوَلَدَتْ لَهُ.
فَتَضَمّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنّ الصّدَاقَ لَا يَتَقَدّرُ أَقَلّهُ وَأَنّ قَبْضَةَ السّوِيقِ وَخَاتَمَ الْحَدِيدِ وَالنّعْلَيْنِ يَصِحّ تَسْمِيَتُهَا مَهْرًا وَتَحِلّ بِهَا الزّوْجَةُ. وَتَضَمّنَ أَنّ الْمُغَالَاةَ فِي الْمَهْرِ مَكْرُوهَةٌ فِي النّكَاحِ وَأَنّهَا مِنْ قِلّةِ بَرَكَتِهِ وَعُسْرِهِ. وَتَضَمّنَ أَنّ الْمَرْأَةَ إذَا رَضِيَتْ بِعِلْمِ الزّوْجِ وَحِفْظِهِ لِلْقُرْآنِ أَوْ بَعْضِهِ مِنْ مَهْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَكَانَ مَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ انْتِفَاعِهَا بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ هُوَ صَدَاقُهَا كَمَا إذَا جَعَلَ السّيّدُ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَكَانَ انْتِفَاعُهَا بِحُرّيّتِهَا وَمِلْكِهَا لِرَقَبَتِهَا هُوَ صَدَاقَهَا وَهَذَا هُوَ الّذِي اخْتَارَتْهُ أُمّ سُلَيْمٍ مِنْ انْتِفَاعِهَا بِإِسْلَامِ أَبِي طَلْحَةَ وَبَذْلِهَا نَفْسَهَا لَهُ إنْ أَسْلَمَ وَهَذَا أَحَبّ إلَيْهَا مِنْ الْمَالِ الّذِي يَبْذُلُهُ الزّوْجُ فَإِنّ الصّدَاقَ شُرِعَ فِي الْأَصْلِ حَقّا لِلْمَرْأَةِ تَنْتَفِعُ بِهِ فَإِذَا رَضِيَتْ بِالْعِلْمِ وَالدّينِ وَإِسْلَامِ الزّوْجِ وَقِرَاءَتِهِ لِلْقُرْآنِ كَانَ هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْمُهُورِ وَأَنْفَعِهَا وَأَجَلّهَا فَمَا خَلَا الْعَقْدُ عَنْ مَهْرٍ وَأَيْنَ الْحُكْمُ بِتَقْدِيرِ الْمَهْرِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ عَشَرَةٍ مِنْ النّصّ؟ وَالْقِيَاسُ إلَى الْحُكْمِ بِصِحّةِ كَوْنِ الْمَهْرِ مَا ذَكَرْنَا نَصّا وَقِيَاسًا وَلَيْسَ هَذَا مُسْتَوِيًا بَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبَةِ الّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهِيَ خَالِصَةٌ لَهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنّ تِلْكَ وَهَبَتْ نَفْسَهَا هِبَةً مُجَرّدَةً عَنْ وَلِيّ وَصَدَاقٍ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنّهُ نِكَاحٌ بِوَلِيّ وَصَدَاقٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَالِيّ فَإِنّ الْمَرْأَةَ جَعَلَتْهُ عِوَضًا عَنْ الْمَالِ لَمّا يَرْجِعُ إلَيْهَا مِنْ نَفْعِهِ وَلَمْ تَهَبْ نَفْسَهَا لِلزّوْجِ هِبَةً مُجَرّدَةً كَهِبَةِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا بِخِلَافِ خَصّ اللّهُ بِهَا رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا مُقْتَضَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ خَالَفَ فِي بَعْضِهِ مَنْ قَالَ لَا يَكُونُ الصّدَاقُ إلّا مَالًا وَلَا تَكُونُ مَنَافِعَ أُخْرَى وَلَا عِلْمُهُ وَلَا تَعْلِيمُهُ صَدَاقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. وَمَنْ قَالَ لَا يَكُونُ أَقَلّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ كَمَالِكٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ شَاذّةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ. وَمَنْ ادّعَى فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا اخْتِصَاصَهَا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ أَنّهَا مَنْسُوخَةٌ أَوْ أَنْ عَمِلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهَا فَدَعْوَى لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ. وَالْأَصْلُ يَرُدّهَا وَقَدْ زَوّجَ سَيّدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ التّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ ابْنَتَهُ عَلَى دِرْهَمَيْنِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَلْ عُدّ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِهِ وَفَضَائِلِهِ وَقَدْ تَزَوّجَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى صَدَاقِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَأَقَرّهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ إلّا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الشّرْعِ.