فصل: فصل قِصّةُ الْفَضْلِ مَعَ الْخَثْعَمِيّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.هَلْ يَجُوزُ رَمْيُ الْجِمَارِ قَبْلَ الْفَجْرِ:

وَأَذِنَ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ لِضَعَفَةِ أَهْلِهِ أَنْ يَتَقَدّمُوا إلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الْقَمَرِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَحّحَهُ التّرْمِذِيّ وَغَيْرُهُ وَأَمّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا: أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأُمّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النّحْرِ فَرَمَتْ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَعْنِي عِنْدَهَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، فَحَدِيثٌ مُنْكَرٌ أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَمِمّا يَدُلّ عَلَى إنْكَارِهِ أَنّ فِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهَا أَنْ تُوَافِيَ صَلَاةَ الصّبْحِ يَوْمَ النّحْرِ بِمَكّة وَفِي رِوَايَةٍ تُوَافِيهِ بِمَكّةَ وَكَانَ يَوْمَهَا، فَأَحَبّ أَنْ تُوَافِيَهُ وَهَذَا مِنْ الْمُحَالِ قَطْعًا. قَالَ الْأَثْرَمُ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّهِ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمّ سَلَمَةَ، أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهَا أَنْ تُوَافِيَهُ يَوْمَ النّحْرِ بِمَكّةَ لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُهُ وَهُوَ خَطَأٌ. وَقَالَ وَكِيعٌ: عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا: إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهَا أَنْ تُوَافِيَهُ صَلَاةَ الصّبْحِ يَوْمَ النّحْرِ بِمَكّةَ أَوْ نَحْوَ هَذَا، وَهَذَا أَعْجَبُ أَيْضًا، أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ النّحْرِ وَقْتَ الصّبْحِ مَا يَصْنَعُ بِمَكّةَ؟ يُنْكِرُ ذَلِكَ. قَالَ فَجِئْتُ إلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَمَرَهَا أَنْ تُوَافِيَ وَلَيْسَ تُوَافِيه قَالَ وَبَيْنَ ذَيْنِ فَرْقٌ. قَالَ وَقَالَ لِي يَحْيَى: سَلْ عَبْدَ الرّحْمَنِ عَنْهُ فَسَأَلْته، فَقَالَ هَكَذَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ الْخَلّالُ سَهَا الْأَثْرَمُ فِي حِكَايَتِهِ عَنْ وَكِيعٍ تُوَافِيهِ، وَإِنّمَا قَالَ وَكِيعٌ: تُوَافِي مِنًى. وَأَصَابَ فِي قَوْلِهِ تُوَافِي كَمَا قَالَ أَصْحَابُهُ وَأَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ منى. قَالَ الْخَلّالُ أَنْبَأَنَا عَلِيّ بْنُ حَرْبٍ، حَدّثَنَا هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَخْبَرَتْنِي أُمّ سَلَمَةَ، قَالَتْ قَدّمَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ قَدّمَ مِنْ أَهْلِهِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ. قَالَتْ فَرَمَيْتُ بِلَيْلٍ ثُمّ مَضَيْتُ إلَى مَكّةَ، فَصَلّيْتُ بِهَا الصّبْحَ ثُمّ رَجَعْتُ إلَى مِنًىً قُلْت: سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا: هُوَ الدّمَشْقِيّ الْخَوْلَانِيّ، وَيُقَالُ ابْنَ دَاوُدَ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَحْمَدَ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ: ضَعِيفٌ. قُلْت: وَمِمّا يَدُلّ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ وَقَبْلَ حَطْمَةِ النّاسِ وَكَانَتْ امْرَأَةً ثَبِطَةً قَالَتْ فَأَذِنَ لَهَا، فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ وَحُبِسْنَا حَتّى أَصْبَحْنَا، فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ وَلِأَنْ أَكُونَ اسْتَأَذَنْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ أَحَبّ إلَيّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ فَهَذَا الْحَدِيثُ الصّحِيحُ يُبَيّنُ أَنّ نِسَاءَهُ غَيْرَ سَوْدَةَ، إنّمَا دَفَعْنَ مَعَهُ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الّذِي رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ عَنْهَا، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ نِسَاءَهُ أَنْ يَخْرُجْنَ مِنْ جَمْعٍ لَيْلَةَ جَمْعٍ، فَيَرْمِينَ الْجَمْرَةَ ثُمّ تُصْبِحُ فِي مَنْزِلِهَا، وَكَانَتْ تَصْنَعُ ذَلِكَ حَتّى مَاتَتْ قِيلَ يَرُدّهُ مُحَمّدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَحَدُ رُوَاتِهِ كَذّبَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَيَرُدّهُ أَيْضًا: الصّحِيحَيْنِ وَقَوْلُهَا: وَدِدْتُ أَنّي كُنْت اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ. وَإِنْ قِيلَ فَهَبْ أَنّكُمْ يُمْكِنُكُمْ رَدّ هَذَا الْحَدِيثِ فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أُمّ حَبِيبَةَ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ بِهَا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ. قِيلَ قَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدّمَ تِلْكَ اللّيْلَةَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ فِيمَنْ قَدّمَ. وَثَبَتَ أَنّهُ قَدّمَ سَوْدَةَ، وَثَبَتَ أَنّهُ حَبَسَ نِسَاءَهُ عِنْدَهُ حَتّى دَفَعْنَ بِدَفْعِهِ. وَحَدِيثُ أُمّ حَبِيبَةَ، انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ. فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا، فَهِيَ إذًا مِنْ الضّعَفَةِ الّتِي قَدّمَهَا. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ بِهِ مَعَ أَهْلِهِ إلَى مِنًى يَوْمَ النّحْرِ فَرَمَوْا الْجَمْرَةَ مَعَ الْفَجْرِ قِيلَ نُقَدّمُ عَلَيْهِ حَدِيثَهُ الْآخَرَ الّذِي رَوَاهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتّرْمِذِيّ وَصَحّحَهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ وَقَالَ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَى تَطْلُعَ الشّمْسُ وَلَفْظُ أَحْمَدَ فِيهِ قَدّمَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَلَى حُمُرَاتٍ لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ أَيْ بُنَيّ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ لِأَنّهُ أَصَحّ مِنْهُ وَفِيهِ نَهَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ رَمْيِ الْجَمْرَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَهُوَ مَحْفُوظٌ بِذِكْرِ الْقِصّةِ فِيهِ. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ إنّمَا فِيهِ أَنّهُمْ رَمَوْهَا مَعَ الْفَجْرِ ثُمّ تَأَمّلْنَا فَإِذَا أَنّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَإِنّهُ أَمَرَ الصّبْيَانَ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ فَإِنّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَقْدِيمِ الرّمْيِ أَمّا مَنْ قَدّمَهُ مِنْ النّسَاءِ فَرَمَيْنَ قَبْلَ مُزَاحَمَةِ النّاسِ وَحَطْمِهِمْ وَهَذَا الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ جَوَازُ الرّمْيِ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ لِلْعُذْرِ بِمَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ يَشُقّ عَلَيْهِ مُزَاحَمَةُ النّاسِ لِأَجْلِهِ وَأَمّا الْقَادِرُ الصّحِيحُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا: الْجَوَازُ بَعْدَ نِصْفِ اللّيْلِ مُطْلَقًا لِلْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ كَقَوْلِ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللّهُ وَالثّانِي: لَا يَجُوزُ إلّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ وَالثّالِثُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْقُدْرَةِ إلّا بَعْدَ طُلُوعِ الشّمْسِ كَقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاَلّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ إنّمَا هُوَ التّعْجِيلُ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الْقَمَرِ لَا نِصْفِ اللّيْلِ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ حَدّهُ بِالنّصْفِ دَلِيلٌ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل مَذْهَبُ مَنْ قَالَ بِرُكْنِيّةِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ وَالْمَبِيتِ بِهَا:

فَلَمّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلّاهَا فِي أَوّلِ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ قَطْعًا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ يَوْمَ النّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَذَانِ بِبَرَاءَةِ اللّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ كُلّ مُشْرِكٍ. ثُمّ رَكِبَ حَتّى أَتَى مَوْقِفَهُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَأَخَذَ فِي الدّعَاءِ وَالتّضَرّعِ وَالتّكْبِيرِ وَالتّهْلِيلِ وَالذّكْرِ حَتّى أَسْفَرَ جِدّا، وَذَلِك قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ. وَهُنَالِكَ سَأَلَهُ عُرْوَةُ بْنُ مُضَرّسٍ الطّائِيّ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ طَيّئٍ، أكْلَلْتُ رَاحِلَتِي، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاَللّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إلّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتّى نَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ أَتَمّ حَجّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ قَالَ التّرْمِذِيّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ذَهَبَ إلَى أَنّ الْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ وَالْمَبِيتَ بِهَا، رُكْنٌ كَعَرَفَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ اثْنَيْنِ مِنْ الصّحَابَةِ ابْنِ عَبّاسٍ، وَابْنِ الزّبَيْرِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إبْرَاهِيمُ النّخَعِيّ، وَالشّعْبِيّ، وَعَلْقَمَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيّ، وَحَمّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، ودَاوُدَ الظّاهِرِيّ وَأَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ، وَاخْتَارَهُ الْمُحَمّدَانِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ لِلشّافِعِيّةِ، وَلَهُمْ ثَلَاثُ حُجَجٍ هَذِهِ إحْدَاهَا، وَالثّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَةُ 198].
وَالثّالِثَةُ فِعْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي خَرَجَ مَخْرَجَ الْبَيَانِ لِهَذَا الذّكْرِ الْمَأْمُورِ به. وَاحْتَجّ مَنْ لَمْ يَرَهُ رُكْنًا بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَدّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِأَيْسَرِ زَمَانٍ صَحّ حَجّهُ وَلَوْ كَانَ الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ رُكْنًا لَمْ يَصِحّ حَجّهُ.
الثّانِي: أَنّهُ لَوْ كَانَ رُكْنًا، لَاشْتَرَكَ فِيهِ الرّجَالُ وَالنّسَاءُ فَلَمّا قَدّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ بِاللّيْلِ عُلِمَ أَنّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَفِي الدّلِيلَيْنِ نَظَرٌ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا قَدّمَهُنّ بَعْدَ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَذَكَرَ اللّهُ تَعَالَى بِهَا لِصَلَاةِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ وَالْوَاجِبُ هُوَ ذَلِكَ. وَأَمّا تَوْقِيتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إلَى الْفَجْرِ فَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ رُكْنًا، وَتَكُونُ تِلْكَ اللّيْلَةُ وَقْتًا لَهُمَا كَوَقْتِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ مِنْ الصّلَوَاتِ وَتَضْيِيقُ الْوَقْتِ لِأَحَدِهِمَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لَهُمَا حَالَ الْقُدْرَةِ.

.فصل قِصّةُ الْفَضْلِ مَعَ الْخَثْعَمِيّةِ:

وَقَفَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَوْقِفِهِ وَأَعْلَمَ النّاسَ أَنّ مُزْدَلِفَةَ كُلّهَا مَوْقِفٌ ثُمّ سَارَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ مُرْدِفًا لِلْفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ وَهُوَ يُلَبّي فِي مَسِيرِهِ وَانْطَلَقَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي سِبَاقِ قُرَيْشٍ. وَفِي طَرِيقِهِ ذَلِكَ أَمَرَ ابْنَ عَبّاسٍ أَنْ يَلْقُطَ لَهُ حَصَى الْجِمَارِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ وَلَمْ يَكْسِرْهَا مِنْ الْجَبَلِ تِلْكَ اللّيْلَةَ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا الْتَقَطَهَا بِاللّيْلِ فَالْتَقَطَ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنّ فِي كَفّهِ وَيَقُولُ بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، وَإِيّاكُمْ وَالْغُلُوّ فِي الدّينِ فَإِنّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوّ فِي الدّينِ وَفِي طَرِيقِهِ تِلْكَ عَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ جَمِيلَةٌ فَسَأَلَتْهُ عَنْ الْحَجّ عَنْ أَبِيهَا وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرّاحِلَةِ فَأَمَرَهَا أَنْ تَحُجّ عَنْهُ وَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وَتَنْظُرُ إلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَصَرَفَهُ إلَى الشّقّ الْآخَرِ وَكَانَ الْفَضْلُ وَسِيمًا، فَقِيلَ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ نَظَرِهَا إلَيْهِ. وَقِيلَ صَرَفَهُ عَنْ نَظَرِهِ إلَيْهَا، وَالصّوَابُ إنّهُ فَعَلَهُ لِلْأَمْرَيْنِ فَإِنّهُ فِي الْقِصّةِ جَعَلَ يَنْظُرُ إلَيْهَا وَتَنْظُرُ إلَيْهِ.

.الْحَجّ عَنْ الْأُمّ:

وَسَأَلَهُ آخَرُ هُنَالِكَ عَنْ أُمّهِ فَقَالَ إنّهَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ فَإِنْ حَمَلْتُهَا لَمْ تَسْتَمْسِكْ وَإِنْ رَبَطْتُهَا خَشِيتُ أَنْ أَقْتُلَهَا، فَقَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَال: نَعَمْ. قَالَ فَحُجّ عَنْ أُمّكَ فَلَمَا أَتَى بَطْنَ مُحَسّرٍ، حَرّكَ نَاقَتَهُ وَأَسْرَعَ السّيْرَ وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الّتِي نَزَلَ فِيهَا بَأْسُ اللّهِ بِأَعْدَائِهِ فَإِنّ هُنَالِكَ أَصَابَ أَصْحَابَ الْفِيلِ مَا قَصّ اللّهُ عَلَيْنَا، وَلِذَلِكَ سُمّيَ ذَلِكَ الْوَادِي وَادِيَ مُحَسّرٍ، لِأَنّ الْفِيلَ حُسِرَ فِيهِ أَيْ أُعْيِيَ وَانْقَطَعَ عَنْ الذّهَابِ إلَى مَكّةَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي سُلُوكِهِ الْحِجْرَ دِيَارَ ثَمُودَ، فَإِنّهُ تَقَنّعَ بِثَوْبِهِ وَأَسْرَعَ السّيْرَ. وَمُحَسّرٌ: بَرْزَخٌ بَيْنَ مِنًى وَبَيْنَ مُزْدَلِفَةَ، لَا مِنْ هَذِهِ وَلَا مِنْ هَذِهِ وَعُرَنَةُ: بَرْزَخٌ بَيْنَ عَرَفَةَ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَبَيْنَ كُلّ مَشْعَرَيْنِ بَرْزَخٌ لَيْسَ مِنْهُمَا، فَمِنًى: مِنْ الْحَرَمِ، وَهِيَ مَشْعَرٌ وَمُحَسّرٌ: مِنْ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ بِمَشْعَرٍ وَمُزْدَلِفَةُ: حَرَمٌ وَمَشْعَرٌ وَعُرَنَةُ لَيْسَتْ مَشْعَرًا، وَهِيَ مِنْ الْحِلّ. وَعَرَفَةُ: حِلّ وَمَشْعَرٌ. وَسَلَكَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الطّرِيقَ الْوُسْطَى بَيْنَ الطّرِيقَيْنِ وَهِيَ الّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتّى أَتَى مِنًى، فَأَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَوَقَفَ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي، وَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْجَمْرَةَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَرَمَاهَا رَاكِبًا بَعْدَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ يُكَبّرُ مَعَ كُلّ حَصَاةٍ. وَحِينَئِذٍ قَطَعَ التّلْبِيَةَ وَكَانَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ يُلَبّي حَتّى شَرَعَ فِي الرّمْيِ وَرَمَى بَلَالٌ وَأُسَامَةُ مَعَهُ أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ وَالْآخَرُ يُظَلّلُهُ بِثَوْبٍ مِنْ الْحَرّ. وَفِي هَذَا: دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِظْلَالِ الْمُحْرِمِ بِالْمَحْمِلِ وَنَحْوِهِ إنْ كَانَتْ قِصّةُ هَذَا الْإِظْلَالِ يَوْمَ النّحْرِ ثَابِتَةً وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ فِي أَيّامِ مِنًى، فَلَا حُجّةَ فِيهَا، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ فِي أَيّ زَمَنٍ كَانَتْ. وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل خُطْبَةُ مِنًى:

ثُمّ رَجَعَ إلَى مِنًى، فَخَطَبَ النّاسَ خُطْبَةً بَلِيغَةً أَعْلَمَهُمْ فِيهَا بِحُرْمَةِ يَوْمِ النّحْرِ وَتَحْرِيمِهِ وَفَضْلِهِ عِنْدَ اللّهِ وَحُرْمَةِ مَكّةَ عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ وَأَمَرَهُمْ بِالسّمْعِ وَالطّاعَةِ لِمَنْ قَادَهُمْ بِكِتَابِ اللّهِ وَأَمَرَ النّاسَ بِأَخْذِ مَنَاسِكِهِمْ عَنْهُ وَقَالَ لَعَلّي لَا أَحُجّ بَعْدَ عَامِي هَذَا. وَعَلّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ وَأَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ مَنَازِلَهُمْ وَأَمَرَ النّاسَ أَنْ لَا يَرْجِعُوا بَعْدَهُ كُفّارًا يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ وَأَمَرَ بِالتّبْلِيغِ عَنْهُ. وَأَخْبَرَ أَنّهُ رُبّ مُبَلّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ. وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ لَا يَجْنِي جَانٍ إلّا عَلَى نَفْسِهِ. وَأَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَالْأَنْصَارَ عَنْ يَسَارِهَا، وَالنّاسُ حَوْلَهُمْ وَفَتَحَ اللّهُ لَهُ أَسْمَاعَ النّاسِ حَتّى سَمِعَهَا أَهْلُ مِنًى فِي مَنَازِلِهِمْ. وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ تِلْكَ اُعْبُدُوا رَبّكُمْ وَصَلّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنّةَ رَبّكُمْ. وَوَدّعَ حِينَئِذٍ النّاسَ فَقَالُوا: حَجّةُ الْوَدَاعِ. وَهُنَاكَ سُئِلَ عَمّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ وَعَمّنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ فَقَالَ لَا حَرَجَ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو مَا رَأَيْتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إلّا قَالَ افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ. قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ إنّهُ قِيلَ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرّمْيِ وَالتّقْدِيمِ وَالتّأْخِيرِ فَقَالَ لَا حَرَجَ. وَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ شَرِيكٍ خَرَجْتُ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَاجّا، وَكَانَ النّاسُ يَأْتُونَهُ فَمِنْ قَائِلٍ يَا رَسُولَ اللّهِ سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ أَوْ قَدّمْت شَيْئًا أَوْ أَخّرْتُ شَيْئًا فَكَانَ يَقُولُ لَا حَرَجَ لَا حَرَجَ إلّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَهُوَ ظَالِمٌ فَذَلِكَ الّذِي حَرَجَ وَهَلَكَ. وَقَوْلُهُ سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَالْمَحْفُوظُ تَقْدِيمُ الرّمْيِ وَالنّحْرِ وَالْحَلْقِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.

.بَحْثٌ فِي نَحْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثًا وَسِتّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ:

ثُمّ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ بِمِنًى، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ وَكَانَ يَنْحَرُهَا قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى. وَكَانَ عَدَدُ هَذَا الّذِي نَحَرَهُ عَدَدَ سِنِي عُمْرِهِ ثُمّ أَمْسَكَ وَأَمَرَ عَلِيّا أَنْ يَنْحَرَ مَا غَبَرَ مِنْ الْمِائَةِ ثُمّ أَمَرَ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنْ يَتَصَدّقَ بِجَلَالِهَا وَلُحُومِهَا وَجُلُودِهَا فِي الْمَسَاكِينِ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الْجَزّارَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا مِنْهَا، وَقَالَ نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا وَقَالَ مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الّذِي فِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الظّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَبَاتَ بِهَا، فَلَمّا أَصْبَحَ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَجَعَلَ يُهَلّلُ وَيُسَبّحُ فَلَمّا عَلَا عَلَى الْبَيْدَاءِ، لَبّى بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَمّا دَخَلَ مَكّةَ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلّوا، وَنَحَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَالْجَوَابُ أَنّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ: مَخْرَجُ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَنْحَرْ بِيَدِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ بُدْنٍ كَمَا قَالَ أَنَسٌ، وَأَنّهُ أَمَرَ مَنْ يَنْحَرُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى تَمَامِ ثَلَاثٍ وَسِتّينَ ثُمّ زَالَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَأَمَرَ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَنَحَرَ مَا بَقِيَ.
الثّانِي: أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ لَمْ يُشَاهِدْ إلّا نَحْرَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبْعًا فَقَطْ بِيَدِهِ وَشَاهَدَ جَابِرٌ تَمَامَ نَحْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْبَاقِي، فَأَخْبَرَ كُلّ مِنْهُمَا بِمَا رَأَى وَشَاهَدَ.
الثّالِثُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحَرَ بِيَدِهِ مُنْفَرِدًا سَبْعَ بُدْنٍ كَمَا قَالَ أَنَسٌ، ثُمّ أَخَذَ هُوَ وَعَلِيّ الْحَرْبَةَ مَعًا، فَنَحَرَا كَذَلِكَ تَمَامَ ثَلَاثٍ وَسِتّينَ كَمَا قَالَ غَرَفَةُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِنْدِيّ أَنّهُ شَاهَدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ قَدْ أَخَذَ بِأَعْلَى الْحَرْبَةِ وَأَمَرَ عَلِيّا فَأَخَذَ بِأَسْفَلِهَا، وَنَحَرَا بِهَا الْبُدْنَ ثُمّ انْفَرَدَ عَلِيّ بِنَحْرِ الْبَاقِي مِنْ الْمِائَةِ كَمَا قَالَ جَابِرٌ. وَاللّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيّ قَالَ لَمّا نَحَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُدْنَهُ فَنَحَرَ ثَلَاثِينَ بِيَدِهِ وَأَمَرَنِي فَنَحَرْتُ سَائِرَهَا قُلْنَا: هَذَا غَلَطٌ انْقَلَبَ عَلَى الرّاوِي، فَإِنّ الّذِي نَحَرَ ثَلَاثِينَ هُوَ عَلِيّ، فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحَرَ سَبْعًا بِيَدِهِ لَمْ يُشَاهِدْهُ عَلِيّ، وَلَا جَابِرٌ، ثُمّ نَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتّينَ أُخْرَى، فَبَقِيَ مِنْ الْمِائَةِ ثَلَاثُونَ فَنَحَرَهَا عَلِيّ، فَانْقَلَبَ عَلَى الرّاوِي عَدَدُ مَا نَحَرَهُ عَلِيّ بِمَا نَحَرَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطٍ، عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ: «إنّ أَعْظَمَ الْأَيّامِ عِنْدَ اللّهِ يَوْمُ النّحْرِ، ثُمّ يَوْمُ الْقَرّ» وَهُوَ الْيَوْمُ الثّانِي. قَالَ وَقُرّبَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَدَنَاتٌ خَمْسٌ فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ بِأَيّتِهِنّ يَبْدَأُ؟ فَلَمّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قَال: فَتَكَلّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيّةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَقُلْتُ مَا قَالَ؟ قَالَ مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ قِيلَ نَقْبَلُهُ وَنُصَدّقُهُ فَإِنّ الْمِائَةَ لَمْ تُقَرّبْ إلَيْهِ جُمْلَةً وَإِنّمَا كَانَتْ تُقَرّبُ إلَيْهِ أَرْسَالًا، فَقُرّبَ مِنْهُنّ إلَيْهِ خَمْسُ بَدَنَاتٍ رَسَلًا، وَكَانَ ذَلِكَ الرّسَلُ يُبَادِرْنَ وَيَتَقَرّبْنَ إلَيْهِ لِيَبْدَأَ بِكُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الّذِي فِي الصّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي فِي خُطْبَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ النّحْرِ بِمِنًى، وَقَالَ فِي آخِرِهِ ثُمّ انْكَفَأَ إلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْن فَذَبَحَهُمَا، وَإِلَى جُزَيْعَةٍ مِنْ الْغَنَمِ فَقَسَمَهَا بَيْنَنَا لَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. فَفِي هَذَا، أَنّ ذَبْحَ الْكَبْشَيْنِ كَانَ بِمَكّةَ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ، أَنّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. قِيلَ فِي هَذَا طَرِيقَتَانِ لِلنّاسِ. إحْدَاهُمَا: أَنّ الْقَوْلَ قَوْلُ أَنَسٍ، وَأَنّهُ ضَحّى بِالْمَدِينَةِ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ وَأَنّهُ صَلّى الْعِيدَ ثُمّ انْكَفَأَ إلَى كَبْشَيْنِ فَفَصّلَ أَنَسٌ، وَمَيّزَ بَيْنَ نَحْرِهِ بِمَكّةَ لِلْبُدْنِ وَبَيْنَ نَحْرِهِ بِالْمَدِينَةِ لِلْكَبْشَيْنِ وَبَيّنَ أَنّهُمَا قِصّتَانِ وَيَدُلّ عَلَى هَذَا أَنّ جَمِيعَ مَنْ ذَكَرَ نَحْرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِنًى، إنّمَا ذَكَرُوا أَنّهُ نَحَرَ الْإِبِلَ وَهُوَ الْهَدْيُ الّذِي سَاقَهُ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ نَحْرِ الْغَنَمِ هُنَاكَ بِلَا سَوْقٍ وَجَابِرٌ قَدْ قَالَ فِي صِفَةِ حَجّةِ الْوَدَاعِ إنّهُ رَجَعَ مِنْ الرّمْيِ فَنَحَرَ الْبُدْنَ وَإِنّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الرّوَاةِ أَنّ قِصّةَ الْكَبْشَيْنِ كَانَتْ يَوْمَ عِيدٍ فَظَنّ أَنّهُ كَانَ بِمِنًى فَوَهِمَ. الطّرِيقَةُ الثّانِيَةُ طَرِيقَةُ ابْنِ حَزْمٍ، وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُ أَنّهُمَا عَمَلَانِ مُتَغَايِرَانِ وَحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ فَذَكَرَ أَبُو بَكْرَةَ تَضْحِيَتَهُ بِمَكّةَ، وَأَنَسٌ تَضْحِيَتَهُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ وَذَبَحَ يَوْمَ النّحْرِ الْغَنَمَ وَنَحَرَ الْبَقَرَ وَالْإِبِل كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: ضَحّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ وَهُوَ فِي الصّحِيحَيْنِ. وفي صحيح مسلم: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر وَفِي السّنَنِ: أَنّهُ نَحَرَ عَنْ آلِ مُحَمّدٍ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً وَاحِدَةً وَمَذْهَبُهُ أَنّ الْحَاجّ شُرِعَ لَهُ التّضْحِيَةُ مَعَ الْهَدْيِ وَالصّحِيحُ إنْ شَاءَ اللّهُ الطّرِيقَةُ الْأُولَى، وَهَدْيُ الْحَاجّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيّةِ لِلْمُقِيمِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا أَصْحَابَهُ جَمَعُوا بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيّةِ بَلْ كَانَ هَدْيُهُمْ هُوَ أَضَاحِيّهُمْ فَهُوَ هَدْيٌ بِمِنًى، وَأُضْحِيّةٌ بِغَيْرِهَا. وَأَمّا قَوْلُ عَائِشَةَ: ضَحّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَر فَهُوَ هَدْيٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْأُضْحِيّةِ وَأَنّهُنّ كُنّ مُتَمَتّعَاتٍ وَعَلَيْهِنّ الْهَدْيُ فَالْبَقَرُ الّذِي نَحَرَهُ عَنْهُنّ هُوَ الْهَدْيُ الّذِي يَلْزَمُهُنّ. وَلَكِنْ فِي قِصّةِ نَحْرِ الْبَقَرَةِ عَنْهُنّ وَهُنّ تِسْعٌ إشْكَالٌ وَهُوَ إجْزَاءُ الْبَقَرَةِ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ.