فصل: فصل عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.الرّدّ عَلَى مَنْ ادّعَى حَجّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُفْرِدًا:

فَمَنْ قَالَ إنّهُ أَفْرَدَ الْحَجّ وَأَرَادَ بِهِ أَنّهُ أَتَى بِالْحَجّ مُفْرِدًا، ثُمّ فَرَغَ مِنْهُ وَأَتَى بِالْعُمْرَةِ بَعْدَهُ مِنْ التّنْعِيمِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَظُنّ كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ فَهَذَا غَلَطٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَلَا التّابِعِينَ وَلَا الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمّةِ الْحَدِيثِ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنّهُ حَجّ حَجّا مُفْرَدًا، لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ فَوَهْمٌ أَيْضًا، وَالْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ تَرُدّهُ كَمَا تَبَيّنَ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنّهُ اقْتَصَرَ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجّ وَحْدَهُ وَلَمْ يُفْرِدْ لِلْعُمْرَةِ أَعْمَالًا، فَقَدْ أَصَابَ وَعَلَى قَوْلِهِ تَدُلّ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ. وَمَنْ قَالَ إنّهُ قَرَنَ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنّهُ طَافَ لِلْحَجّ طَوَافًا عَلَى حِدَةٍ وَلِلْعُمْرَةِ طَوَافًا عَلَى حِدَةٍ وَسَعَى لِلْحَجّ سَعْيًا، وَلِلْعُمْرَةِ سَعْيًا، فَالْأَحَادِيثُ الثّابِتَةُ تَرُدّ قَوْلَهُ. وَإِنْ أَرَادَ أَنّهُ قَرَنَ بَيْنَ النّسُكَيْنِ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا، فَالْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ تَشْهَدُ لِقَوْلِهِ وَقَوْلُهُ هُوَ الصّوَابُ.

.الرّدّ عَلَى مَنْ ادّعَى حَجّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُتَمَتّعًا:

وَمَنْ قَالَ إنّهُ تَمَتّعَ فَإِنْ أَرَادَ أَنّهُ تَمَتّعَ تَمَتّعًا حَلّ مِنْهُ ثُمّ أَحْرَمَ بِالْحَجّ أَرَادَ أَنّهُ تَمَتّعَ تَمَتّعًا لَمْ يَحِلّ مِنْهُ بَلْ بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ لِأَجْلِ سَوْقِ الْهَدْيِ فَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ تَرُدّ قَوْلَهُ أَيْضًا، وَهُوَ أَقَلّ غَلَطًا، وَإِنْ أَرَادَ تَمَتّعَ الْقِرَانِ فَهُوَ الصّوَابُ الّذِي تَدُلّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الثّابِتَةِ وَيَأْتَلِفُ بِهِ شَمْلُهَا، وَيَزُولُ عَنْهَا الْإِشْكَالُ وَالِاخْتِلَافُ.

.فصل غَلَطُ النّاسِ فِي عُمَرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

غَلِطَ فِي عُمَرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَمْسُ طَوَائِفَ. إحْدَاهَا: مَنْ قَالَ إنّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنّ عُمَرَهُ مَضْبُوطَةٌ مَحْفُوظَةٌ لَمْ يَخْرُجْ فِي رَجَبٍ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا أَلْبَتّةَ.
الثّانِيةُ مَنْ قَالَ إنّهُ اعْتَمَرَ فِي شَوّال وَهَذَا أَيْضًا وَهْمٌ وَالظّاهِرُ- وَاللّهُ أَعْلَمُ- أَنّ بَعْضَ الرّوَاةِ غَلِطَ فِي هَذَا، وَأَنّهُ اعْتَكَفَ فِي شَوّالٍ فَقَالَ اعْتَمَرَ فِي شَوّالٍ، لَكِنّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ وَقَوْلَهُ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَ عُمَرٍ عُمْرَةً فِي شَوّالٍ وَعُمْرَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ يَدُلّ عَلَى أَنّ عَائِشَةَ أَوْ مَنْ دُونَهَا، إنّمَا قَصَدَ الْعُمْرَةَ.
الثّالِثَةُ مَنْ قَالَ إنّهُ اعْتَمَرَ مِنْ التّنْعِيمِ بَعْدَ حَجّهِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنّمَا يَظُنّهُ الْعَوَامّ، وَمَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالسّنّةِ.
الرّابِعَةُ مَنْ قَالَ إنّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي حَجّتِهِ أَصْلًا، وَالسّنّةُ الصّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ الّتِي لَا يُمْكِنُ رَدّهَا تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ.
الْخَامِسَةُ مَنْ قَالَ إنّهُ اعْتَمَرَ عُمْرَةً حَلّ مِنْهَا، ثُمّ أَحْرَمَ بَعْدَهَا بِالْحَجّ مِنْ مَكّةَ، وَالْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ وَتَرُدّهُ.

.فصل غَلَطُ النّاسِ فِي حَجّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

وَوَهِمَ فِي حَجّهِ خَمْسُ طَوَائِفَ. الطّائِفَةُ الْأُولَى: الّتِي قَالَتْ حَجّ حَجّا مُفْرَدًا لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ.
الثّانِيةُ مَنْ قَالَ حَجّ مُتَمَتّعًا تَمَتّعًا حَلّ مِنْهُ ثُمّ أَحْرَمَ بَعْدَهُ بِالْحَجّ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ.
الثّالِثَةُ مَنْ قَالَ حَجّ مُتَمَتّعًا تَمَتّعًا لَمْ يَحِلّ مِنْهُ لِأَجْلِ سَوْقِ الْهَدْيِ وَلَمْ يَكُنْ قَارِنًا، كَمَا قَالَهُ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ قُدَامَةَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرُهُ.
الرّابِعَةُ مَنْ قَالَ حَجّ قَارِنًا قِرَانًا طَافَ لَهُ طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُ سَعْيَيْنِ.
الْخَامِسَةُ مَنْ قَالَ حَجّ حَجّا مُفْرَدًا، وَاعْتَمَرَ بَعْدَهُ مِنْ التّنْعِيمِ.

.فصل غَلَطُ النّاسِ فِي إحْرَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

وَغَلِطَ فِي إحْرَامِهِ خَمْسُ طَوَائِفَ. إحْدَاهَا: مَنْ قَالَ لَبّى بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا، وَاسْتَمَرّ عَلَيْهَا.
الثّانِيةُ مَنْ قَالَ لَبّى بِالْحَجّ وَحْدَهُ، وَاسْتَمَرّ عَلَيْه.
الثّالِثَةُ مَنْ قَالَ لَبّى بِالْحَجّ مُفْرَدًا، ثُمّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ وَزَعَمَ أَنّ ذَلِكَ خَاصّ بِهِ.
الرّابِعَةُ مَنْ قَالَ لَبّى بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا، ثُمّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجّ فِي ثَانِي الْحَالِ.
الْخَامِسَةُ مَنْ قَالَ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا لَمْ يُعَيّنْ فِيهِ نُسُكًا، ثُمّ عَيّنَهُ بَعْدَ إحْرَامِهِ. أَحْرَمَ بِالْحَجّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا مِنْ حِينِ أَنْشَأَ الْإِحْرَامَ وَلَمْ يَحِلّ حَتّى حَلّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا. وَسَاقَ الْهَدْيَ كَمَا دَلّتْ عَلَيْهِ النّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ الّتِي تَوَاتَرَتْ تَوَاتُرًا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ. وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي أَعْذَارِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ وَبَيَانِ مَنْشَأِ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ:

عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَجَبٍ:
أَمّا عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، فَحَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا، أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ غَلّطَتْهُ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا، كَمَا فِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسًا إلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَإِذَا نَاسٌ يُصَلّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَاةَ الضّحَى، قَالَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ. فَقَالَ بِدْعَةٌ. ثُمّ قُلْنَا لَهُ كَمْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؟ قَالَ أَرْبَعًا. إحْدَاهُنّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدّ عَلَيْهِ قَالَ وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُجْرَةِ فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا أُمّهُ أَوْ يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ؟ قَالَتْ مَا يَقُولُ؟ قَالَ يَقُولُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، إحْدَاهُنّ فِي رَجَبٍ. قَالَتْ يَرْحَمُ اللّهُ أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً قَطّ إلّا وَهُوَ شَاهِدٌ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطّ وَكَذَلِكَ قَالَ أَنَسٌ، وَابْنُ عَبّاسٍ: إنّ عُمَرَهُ كُلّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ.

.فصل عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي شَوّالٍ:

وَأَمّا مَنْ قَالَ: اعْتَمَرَ فِي شَوّالٍ، فَعُذْرُهُ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطّأِ، عَنْ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ إلّا ثَلَاثًا، إحْدَاهُنّ فِي شَوّالٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَلَكِنّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ وَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا، إمّا مِنْ هِشَامٍ وَإِمّا مِنْ عُرْوَةَ أَصَابَهُ فِيهِ مَا أَصَابَ ابْنَ عُمَرَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا لَا يَصِحّ رَفْعُهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ: وَلَيْسَ رِوَايَتُهُ مُسْنَدًا مِمّا يُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ فِي صِحّةِ النّقْلِ. قُلْت: وَيَدُلّ عَلَى بُطْلَانِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبّاسٍ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالُوا: لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ فَإِنّ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةَ الْقَضِيّةِ، كَانَتَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةَ الْقِرَانِ إنّمَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ أَيْضًا كَانَتْ فِي أَوّلِ ذِي الْقَعْدَةِ وَإِنّمَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ أَنّهُ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ فِي شَوّالٍ لِلِقَاءِ الْعَدُوّ وَفَرَغَ مِنْ عَدُوّهِ وَقَسَمَ غَنَائِمَهُمْ وَدَخَلَ مَكّةَ لَيْلًا مُعْتَمِرًا مِنْ الْجِعْرَانَةِ، وَخَرَجَ مِنْهَا لَيْلًا، فَخَفِيَتْ عُمْرَتُهُ هَذِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النّاسِ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَرّشٌ الْكَعْبِيّ. وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

مِنْ التّنْعِيمِ بَعْدَ الْحَجّ:
وَأَمّا مَنْ ظَنّ أَنّهُ اعْتَمَرَ مِنْ التّنْعِيمِ بَعْدَ الْحَجّ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ عُذْرًا، فَإِنّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَفِيضِ مِنْ حَجّتِهِ وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ قَطّ، وَلَا قَالَهُ إمَامٌ وَلَعَلّ ظَانّ هَذَا سَمِعَ أَنّهُ أَفْرَدَ الْحَجّ، وَرَأَى أَنّ كُلّ مَنْ أَفْرَدَ الْحَجّ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ لَابُدّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَهُ إلَى التّنْعِيمِ، فَنَزّلَ حَجّةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا عَيْنُ الْغَلَطِ.

.فصل عُذْرُ مَنْ قَالَ لَمْ يَعْتَمِرْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّتِهِ:

وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي حَجّتِهِ أَصْلًا، فَعُذْرُهُ أَنّهُ لَمّا سَمِعَ أَنّهُ أَفْرَدَ الْحَجّ، وَعَلِمَ يَقِينًا أَنّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ حَجّتِهِ قَالَ إنّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ الْحَجّةِ اكْتِفَاءً مِنْهُ بِالْعُمْرَةِ الْمُتَقَدّمَةِ وَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ الصّحِيحَةُ تَرُدّ قَوْلَهُ كَمَا تَقَدّمَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا، وَقَدْ قَالَ هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا وَقَالَتْ حَفْصَةُ: مَا شَأْنُ النّاسِ حَلّوا وَلَمْ تَحِلّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك؟ وَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ: تَمَتّعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَابْنُ عَبّاسٍ وَصَرّحَ أَنَسٌ، وَابْنُ عَبّاسٍ وَعَائِشَةُ أَنّهُ اعْتَمَرَ فِي حَجّتِهِ وَهِيَ إحْدَى عُمَرِهِ الْأَرْبَعِ.

.فصل عُذْرُ مَنْ قَالَ اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمْرَةً حَلّ مِنْهَا:

وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ اعْتَمَرَ عُمْرَةً حَلّ مِنْهَا، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَمَنْ وَافَقَهُ فَعُذْرُهُمْ مَا صَحّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَغَيْرِهِمْ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَمَتّعَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنّهُ تَمَتّعٌ حَلّ مِنْهُ وَيَحْتَمِلُ أَنّهُ لَمْ يَحِلّ فَلَمّا أَخْبَرَ مُعَاوِيَةُ أَنّهُ قَصّرَ عَنْ رَأْسِهِ بِمِشْقَصٍ عَلَى الْمَرْوَةِ، وَحَدِيثُهُ فِي الصّحِيحَيْنِ دَلّ عَلَى أَنّهُ حَلّ مِنْ إحْرَامِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي غَيْرِ حَجّةِ الْوَدَاعِ لِأَنّ مُعَاوِيَةَ إنّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ زَمَنَ الْفَتْحِ مُحْرِمًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الصّحِيحِ وَذَلِكَ فِي حَجّتِهِ.
وَالثّانِي: أَنّ فِي رِوَايَةِ النّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَذَلِكَ فِي أَيّامِ الْعَشْر وَهَذَا إنّمَا كَانَ فِي حَجّتِهِ وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ لَهُ خَاصّةً طَائِفَةً مِنْهُمْ خُصّوا بِالتّحْلِيلِ مِنْ الْإِحْرَامِ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ دُونَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الصّحَابَةِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ مِنْهُمْ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبّاسِ. وَقَالُوا: مَنْ تَأَمّلَ الْأَحَادِيثَ الْمُسْتَفِيضَةَ الصّحِيحَةَ تَبَيّنَ لَهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَحِلّ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِمّنْ سَاقَ الْهَدْيَ.

.فَصْلٌ فِي أَعْذَارِ الّذِينَ وَهِمُوا فِي صِفَةِ حَجّتِهِ:

عُذْرُ مَنْ قَالَ حَجّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُفْرِدًا وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِيهِ:
أَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ حَجّ حَجّا مُفْرَدًا، لَمْ يَعْتَمِرْ فِيهِ فَعُذْرُهُ مَا فِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ حَجّةِ الْوَدَاعِ فَمِنّا مَنْ أَهَلّ بِعُمْرَةٍ وَمِنّا مَنْ أَهَلّ بِحَجّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنّا مَنْ أَهَلّ بِحَجّ وَأَهَلّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحَجّ. وَقَالُوا: هَذَا التّقْسِيمُ وَالتّنْوِيعُ صَرِيحٌ فِي إهْلَالِهِ بِالْحَجّ وَحْدَهُ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، أَهَلّ بِالْحَجّ مُفْرَدًا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَبّى بِالْحَجّ وَحْدَهُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهَلّ بِالْحَجّ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْرَدَ الْحَجّ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا نَنْوِي إلّا الْحَجّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ. صَحِيحِ الْبُخَارِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ قَالَ حَجّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أنَ أَوّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكّةَ، أَنّهُ تَوَضّأَ ثُمّ طَافَ بِالْبَيْتِ [ثُمّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ]، ثُمّ حَجّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَكَانَ أَوّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمّ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ ثُمّ حَجّ عُثْمَانُ فَرَأَيْتُهُ أَوّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطّوَافُ بالبَيْتَ ثُمّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ، فَكَانَ أَوّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمّ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ثُمّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلَا يَسْأَلُونَهُ وَلَا أَحَدٌ مِمّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ أَوّلَ مِنْ الطّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمّ لَا يَحِلّونَ وَقَدْ رَأَيْت أُمّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْدَآنِ بِشَيْءٍ أَوّلَ مِنْ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمّ إنّهُمَا لَا تَحِلّانِ وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمّي أَنّهَا أَهَلّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ فَلَمّا مَسَحُوا الرّكْنَ حَلّوا وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: حَدّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ووُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجّةِ فَلَمّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَالَ مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلّ بِحَجّ فَلْيُهِلّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلّ بِعُمْرَةٍ ثُمّ انْفَرَدَ وُهَيْبٌ فِي حَدِيثِهِ بِأَنْ قَالَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّي لَوْلَا أَنّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ وَأَمّا أَنَا فَأُهِلّ بِالْحَجّ فَصَحّ بِمَجْمُوعِ الرّوَايَتَيْنِ أَنّهُ أَهَلّ بِالْحَجّ مُفْرَدًا فَأَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ عُذْرُهُمْ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى، وَلَكِنْ مَا عُذْرُهُمْ فِي حُكْمِهِ وَخَبَرِهِ الّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْت، وَخَبَرُ مَنْ هُوَ تَحْتَ بَطْنِ نَاقَتِهِ وَأَقْرَبُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ أَصْدَقِ النّاسِ يَسْمَعُهُ لَبّيْكَ بِحَجّةٍ وَعُمْرَةٍ وَخَبَرُ مَنْ هُوَ مِنْ أَعْلَمِ النّاسِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِينَ يُخْبِرُ أَنّهُ أَهَلّ بِهِمَا جَمِيعًا، وَلَبّى بِهِمَا جَمِيعًا، وَخَبَرُ زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ فِي تَقْرِيرِهِ لَهَا عَلَى أَنّهُ مُعْتَمِرٌ بِعُمْرَةٍ لَمْ يَحِلّ مِنْهَا، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، بَلْ صَدّقَهَا، وَأَجَابَهَا بِأَنّهُ مَعَ ذَلِكَ حَاجّ، وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُقِرّ عَلَى بَاطِلٍ يَسْمَعُهُ أَصْلًا، بَلْ يُنْكِرُهُ. وَمَا عُذْرُهُمْ عَنْ خَبَرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْوَحْيِ الّذِي جَاءَهُ مِنْ رَبّهِ يَأْمُرُهُ فِيهِ أَنْ يُهِلّ بِحَجّةٍ فِي عُمْرَةٍ وَمَا عُذْرُهُمْ عَنْ خَبَرِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنّهُ قَرَنَ لِأَنّهُ عَلِمَ أَنّهُ لَا يَحُجّ بَعْدَهَا، وَخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجّتِهِ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ قَالَ إنّهُ أَفْرَدَ الْحَجّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَلْبَتّةَ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْهُ إنّي أَفْرَدْت، وَلَا أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبّي يَأْمُرُنِي بِالْإِفْرَادِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ: مَا بَالُ النّاسِ حَلّوا، وَلَمْ تَحِلّ مِنْ حَجّتِك، كَمَا حَلّوا هُمْ بِعُمْرَةٍ وَلَا قَالَ أَحَدٌ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ لَبّيْكَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ أَلْبَتّةَ وَلَا بِحَجّ مُفْرَدٍ وَلَا قَالَ أَحَدٌ: إنّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ الرّابِعَةَ بَعْدَ حَجّتِهِ وَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ أَنّهُمْ سَمِعُوهُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنّهُ قَارِنٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ إلّا بِأَنْ يُقَالَ لَمْ يَسْمَعُوهُ. وَمَعْلُوم قَطْعًا أَنّ تَطَرّقَ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ إلَى مَنْ أَخْبَرَ عَمّا فَهِمَهُ هُوَ مِنْ فِعْلِهِ يَظُنّهُ كَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَطَرّقِ التّكْذِيبِ إلَى مَنْ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا وَإِنّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ فَإِنّ هَذَا لَا يَتَطَرّقُ إلَيْهِ إلّا التّكْذِيبُ بِخِلَافِ خَبَرِ مَنْ أَخْبَرَ عَمّا ظَنّهُ مِنْ فِعْلِهِ وَكَانَ وَاهِمًا، فَإِنّهُ لَا يُنْسَبُ إلَى الْكَذِبِ وَلَقَدْ نَزّهَ اللّهُ عَلِيّا، وَأَنَسًا، وَالْبَرَاءَ وَحَفْصَةَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَاهُ يَقُولُ كَذَا وَلَمْ يَسْمَعُوهُ وَنَزّهَهُ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِ أَنْ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلْهُ هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ وَأَبْطَلِ الْبَاطِلِ فَكَيْفَ وَاَلّذِينَ ذَكَرُوا الْإِفْرَادَ عَنْهُ لَمْ يُخَالِفُوا هَؤُلَاءِ فِي مَقْصُودِهِمْ وَلَا نَاقَضُوهُمْ وَإِنّمَا أَرَادُوا إفْرَادَ الْأَعْمَالِ وَاقْتِصَارَهُ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرَدِ فَإِنّهُ لَيْسَ فِي عَمَلِهِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرَدِ. وَمَنْ رَوَى عَنْهُمْ مَا يُوهِمُ خِلَافَ هَذَا، فَإِنّهُ عَبّرَ بِحَسَبِ مَا فَهِمَهُ كَمَا سَمِعَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: أَفْرَدَ الْحَجّ، فَقَالَ لَبّى بِالْحَجّ وَحْدَه فَحَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى. وَقَالَ سَالِمٌ ابْنُهُ عَنْهُ وَنَافِعٌ مَوْلَاهُ. إنّهُ تَمَتّعَ فَبَدَأَ فَأَهَلّ بِالْعُمْرَةِ ثُمّ أَهَلّ، فَهَذَا سَالِمٌ يُخْبِرُ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ بَكْرٌ وَلَا يَصِحّ تَأْوِيلُ هَذَا عَنْهُ بِأَنّهُ أُمِرَ بِهِ فَإِنّهُ فَسّرَهُ بِقَوْلِهِ وَبَدَأَ فَأَهَلّ بِالْعُمْرَةِ ثُمّ أَهَلّ بِالْحَجّ، وَكَذَا الّذِينَ رَوَوْا الْإِفْرَادَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا، فَهُمَا: عُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ وَرَوَى الْقِرَانَ عَنْهَا عُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْأَسْوَدِ يَرْوِي عَنْ عُرْوَةَ الْإِفْرَادَ، وَالزّهْرِيّ يَرْوِي عَنْهُ الْقِرَانَ. فَإِنْ قَدّرْنَا تَسَاقُطَ الرّوَايَتَيْنِ سَلِمَتْ رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ، وَإِنْ حُمِلَتْ رِوَايَةُ الْإِفْرَادِ عَلَى أَنّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجّ تَصَادَقَتْ الرّوَايَاتُ وَصَدّقَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا رَيْبَ أَنّ قَوْلَ عَائِشَةَ وَابْنَ عُمَرَ أَفْرَدَ الْحَج، مُحْتَمِلٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: الْإِهْلَالُ بِهِ مُفْرَدًا.
الثّانِي: إفْرَادُ أَعْمَالِهِ.
الثّالِثُ أَنّهُ حَجّ حَجّةً وَاحِدَةً لَمْ يَحُجّ مَعَهَا غَيْرَهَا، بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَإِنّهَا كَانَتْ أَرْبَعَ مَرّاتٍ. وَأَمّا قَوْلُهُمَا: تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجّ وَبَدَأَ فَأَهَلّ بِالْعُمْرَةِ ثُمّ أَهَلّ بِالْحَجّ، فَحَكَيَا فِعْلَهُ فَهَذَا صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنًى وَاحِدٍ فَلَا يَجُوزُ رَدّهُ بِالْمُجْمَلِ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهُ أَهَلّ بِالْحَجّ مَا يُنَاقِضُ رِوَايَةَ مُجَاهِدٍ وَعُرْوَةَ عَنْهَا أَنّهُ قَرَنَ فَإِنّ الْقَارِنَ حَاجّ مُهِلّ بِالْحَجّ قَطْعًا، وَعُمْرَتُهُ جُزْءٌ مِنْ حَجّتِهِ فَمَنْ أَخْبَرَ عَنْهَا أَنّهُ أَهَلّ بِالْحَجّ، فَهُوَ غَيْرُ صَادِقٍ. فَإِنْ ضُمّتْ رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ إلَى رِوَايَةِ عَمْرَةَ وَالْأَسْوَدِ ثُمّ ضُمّتَا إلَى رِوَايَةِ عُرْوَةَ تَبَيّنَ مِنْ مَجْمُوعِ الرّوَايَاتِ أَنّهُ كَانَ قَارِنًا، وَصَدّقَ بَعْضُهَا بَعْضًا، حَتّى لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ إلّا مَعْنَى الْإِهْلَالِ بِهِ مُفْرَدًا، لَوَجَبَ قَطْعًا أَنْ يَكُونَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ وَقَوْلِ عَائِشَةَ أَوْ عُرْوَةَ إنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ فِي شَوّال، إلّا أَنّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ الصّحِيحَةَ الصّرِيحَةَ لَا سَبِيلَ أَصْلًا إلَى تَكْذِيبِ رُوَاتِهَا، وَلَا تَأْوِيلِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى غَيْرِ مَا دَلّتْ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَقْدِيمِ هَذِهِ الرّوَايَةِ الْمُجْمَلَةِ الّتِي قَدْ اضْطَرَبَتْ عَلَى رُوَاتِهَا، وَاخْتُلِفَ عَنْهُمْ فِيهَا، وَعَارَضَهُمْ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُمْ أَوْ مِثْلُهُمْ عَلَيْهَا. أَفْرَدَ الْحَجّ، فَالصّرِيحُ مِنْ حَدِيثِهِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَإِنّمَا فِيهِ إخْبَارُهُ عَنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ لَا يَنْوُونَ إلّا الْحَجّ فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَبّى بِالْحَجّ مُفْرَدًا. وَأَمّا حَدِيثُهُ الْآخَرُ الّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْرَدَ الْحَجّ، فَلَهُ ثَلَاثُ طُرُقٍ أَجْوَدُهَا: طَرِيقُ الدّرَاوَرْدِيّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ أَبِيهِ وَهَذَا يَقِينًا مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِهِ الطّوِيلِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ وَمَرْوِيّ بِالْمَعْنَى، وَالنّاسُ خَالَفُوا الدّرَاوَرْدِيّ فِي ذَلِكَ. وَقَالُوا: أَهَلّ بِالْحَجّ، وَأَهَلّ بِالتّوْحِيدِ. وَالطّرِيقُ الثّانِي: فِيهَا مُطَرّفُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَعْفَرٍ وَمُطَرّفٍ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ هُوَ مَجْهُولٌ قُلْتُ لَيْسَ هُوَ بِمَجْهُولٍ وَلَكِنّهُ ابْنُ أُخْتِ مَالِكٍ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيّ، وَبِشْرُ بْنُ مُوسَى، وَجَمَاعَةٌ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَدُوقٌ مُضْطَرَبُ الْحَدِيثِ هُوَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَقَالَ ابْنُ عَدِيّ: يَأْتِي بِمَنَاكِيرَ وَكَأَنّ أَبَا مُحَمّدِ بْنَ حَزْمٍ رَأَى فِي النّسْخَةِ مُطَرّفَ بْنَ مُصْعَبٍ فَجَهِلَهُ وَإِنّمَا هُوَ مُطَرّفُ أَبُو مُصْعَبٍ وَهُوَ مُطَرّفُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُطّرِفِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ. وَمِمّنْ غَلِطَ فِي هَذَا أَيْضًا، مُحَمّدُ بْنُ عُثْمَانَ الذّهَبِيّ فِي كِتَابِهِ الضّعَفَاءِ فَقَالَ: مُطَرّفُ بْنُ مُصْعَبٍ الْمَدَنِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قُلْتُ وَالرّاوِي عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَالدّرَاوَرْدِيّ، وَمَالِكٍ هُوَ مُطَرّفُ أَبُو مُصْعَبٍ الْمَدَنِيّ، وَلَيْسَ بِمُنْكَرِ الْحَدِيثِ وَإِنّمَا غَرّهُ قَوْلُ ابْنِ عَدِيّ يَأْتِي بِمَنَاكِيرَ ثُمّ سَاقَ لَهُ مِنْهَا ابْنُ عَدِيّ جُمْلَةً لَكِنْ هِيَ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ عَنْهُ كَذّبَهُ الدّارَقُطْنِيّ، وَالْبَلَاءُ فِيهَا مِنْهُ. وَالطّرِيقُ الثّالِثُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِيهَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهّابِ يُنْظَرُ فِيهِ مَنْ هُوَ وَمَا حَالُهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمٍ إنْ كَانَ الطّائِفِيّ فَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ ابْنِ مَعِينٍ، ضَعِيفٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ سَاقِطٌ أَلْبَتّةَ وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَقَدْ اسْتَشْهَدَ بِهِ مُسْلِمٌ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ؟ قُلْت: لَيْسَ بِغَيْرِهِ بَلْ هُوَ الطّائِفِيّ يَقِينًا. وَبِكُلّ حَالٍ فَلَوْ صَحّ هَذَا عَنْ جَابِرٍ لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَرْوِيّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَسَائِرِ الرّوَاةِ الثّقَاتِ إنّمَا قَالُوا: أَهَلّ بِالْحَجّ فَلَعَلّ هَؤُلَاءِ حَمَلُوهُ عَلَى الْمَعْنَى، وَقَالُوا: أَفْرَدَ الْحَج وَمَعْلُومٌ أَنّ الْعُمْرَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْحَجّ فَمَنْ قَالَ: أَهَلّ بِالْحَج لَا يُنَاقِضُ مَنْ قَالَ أَهَلّ بِهِمَا، بَلْ هَذَا فَصّلَ وَذَاكَ أَجْمَلَ. وَمَنْ قَالَ أَفْرَدَ الْحَج يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ الثّلَاثَةِ وَلَكِنْ هَلْ قَالَ أَحَدٌ قَطّ عَنْهُ إنّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ لَبّيْكَ بِحَجّةٍ مُفْرَدَةٍ، هَذَا مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ حَتّى لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ لَمْ يُقَدّمْ عَلَى تِلْكَ الْأَسَاطِينِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا وَاَلّتِي لَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهَا أَلْبَتّةَ وَكَانَ تَغْلِيطُ هَذَا أَوْ حَمْلُهُ عَلَى أَوّلِ الْإِحْرَامِ وَأَنّهُ صَارَ قَارِنًا فِي أَثْنَائِهِ مُتَعَيّنًا، فَكَيْفَ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَقَدْ قَدّمْنَا عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرَنَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ. رَوَاهُ زَكَرِيّا السّاجِيّ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ الْقَطْوَانِيّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ سُفْيَانَ. وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَهَلّ بِالْحَجّ، وَأَفْرَدَ بِالْحَجّ وَلَبّى بِالْحَجّ كَمَا تَقَدّمَ.