فصل: فصل عَقْدُ الذّمّةِ وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.جَوَازُ عَقْدِ الْهُدْنَةِ:

وَفِي الْقِصّةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ بَلْ مَا شَاءَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَنْسَخُ هَذَا الْحُكْمَ أَلْبَتّةَ فَالصّوَابُ جَوَازُهُ وَصِحّتُهُ وَقَدْ نَصّ عَلَيْهِ الشّافِعِيّ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيّ، وَنَصّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمّةِ وَلَكِنْ لَا يَنْهَضُ إلَيْهِمْ وَيُحَارِبُهُمْ حَتّى يُعْلِمَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ لِيَسْتَوُوا هُمْ وَهُوَ فِي الْعِلْمِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ.

.جَوَازُ تَعْزِيرِ الْمُتّهَمِ:

وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْزِيرِ الْمُتّهَمِ بِالْعُقُوبَةِ وَأَنّ ذَلِكَ مِنْ السّيَاسَاتِ الشّرْعِيّةِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَدُلّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَوْضِعِ الْكَنْزِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَسُنّ لِلْأُمّةِ عُقُوبَةَ الْمُتّهَمِينَ وَيُوَسّعَ لَهُمْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ رَحْمَةً بِهِمْ وَتَيْسِيرًا لَهُمْ.

.جَوَازُ الْأَخْذِ بِالْقَرَائِنِ:

وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى الْأَخْذِ بِالْقَرَائِنِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحّةِ الدّعْوَى وَفَسَادِهَا، لِقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَعْيَةَ لَمّا ادّعَى نَفَادَ الْمَالِ الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.

.اعْتِبَارُ الْقَرَائِنِ:

وَكَذَلِكَ فَعَلَ نَبِيّ اللّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِالْقَرِينَةِ عَلَى تَعْيِينِ أُمّ الطّفْلِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ الذّئْبُ وَادّعَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ أَنّهُ ابْنُهَا، وَاخْتَصَمَتَا فِي الْآخَرِ فَقَضَى بِهِ دَاوُدُ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا إلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ بِمَ قَضَى بَيْنَكُمَا نَبِيّ اللّهِ، فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسّكّينِ أَشُقّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتْ الصّغْرَى: لَا تَفْعَلْ رَحِمَك اللّهُ هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصّغْرَى فَاسْتَدَلّ بِقَرِينَةِ الرّحْمَةِ وَالرّأْفَةِ الّتِي فِي قَلْبِهَا، وَعَدَمِ سَمَاحَتِهَا بِقَتْلِهِ وَسَمَاحَةِ الْأُخْرَى بِذَلِكَ لِتَصِيرَ أُسْوَتُهَا فِي فَقْدِ الْوَلَدِ عَلَى أَنّهُ ابْنُ الصّغْرَى. فَلَوْ اتّفَقَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْقَضِيّةِ فِي شَرِيعَتِنَا، لَقَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمْ اللّهُ عَمِلَ فِيهَا بِالْقَافَةِ وَجَعَلُوا الْقَافَةَ سَبَبًا لِتَرْجِيحِ الْمُدّعِي لِلنّسَبِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْ مُسْلِمَةٌ وَكَافِرَةٌ وَلَدَيْنِ وَادّعَتْ الْكَافِرَةُ وَلَدَ الْمُسْلِمَةِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا أَحْمَدُ، فَتَوَقّفَ فِيهَا. فَقِيلَ لَهُ تَرَى الْقَافَةَ؟ فَقَالَ مَا أَحْسَنَهَا، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قَافَةٌ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا حَاكِمٌ بِمِثْلِ حُكْمِ سُلَيْمَان، لَكَانَ صَوَابًا، وَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْقُرْعَةِ فَإِنّ الْقُرْعَةَ إنّمَا يُصَارُ إلَيْهَا إذَا تَسَاوَى الْمُدّعِيَانِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ وَلَمْ يَتَرَجّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَوْ تَرَجّحَ بِيَدٍ أَوْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ قَرِينَةٍ ظَاهِرَةٍ مِنْ لَوْثٍ أَوْ نُكُولِ خَصْمِهِ عَنْ الْيَمِينِ أَوْ مُوَافَقَةِ شَاهِدِ الْحَالِ لِصِدْقِهِ كَدَعْوَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الزّوْجَيْنِ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ قُمَاشِ الْبَيْتِ وَالْآنِيَةِ وَدَعْوَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الصّانِعِينَ آلَاتِ صَنْعَتِهِ وَدَعْوَى حَاسِرِ الرّأْسِ عَنْ الْعِمَامَةِ عِمَامَةَ مَنْ بِيَدِهِ عِمَامَةٌ وَهُوَ يَشْتَدّ عَدْوًا، وَعَلَى رَأْسِهِ أُخْرَى، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ قُدّمَ ذَلِكَ كُلّهُ عَلَى الْقُرْعَةِ. وَمِنْ تَرَاجِمِ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ النّسَائِيّ عَلَى قِصّةِ سُلَيْمَانَ (هَذَا بَابُ الْحُكْمُ يُوهِمُ خِلَافَ الْحَقّ لِيَسْتَعْلِمَ بِهِ الْحَقّ) وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَقُصّ عَلَيْنَا هَذِهِ الْقِصّةَ لِنَتّخِذَهَا سَمَرًا، بَلْ لِنَعْتَبِرَ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ بَلْ الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ وَتَقْدِيمِ أَيْمَانِ مُدّعِي الْقَتْلِ هُوَ مِنْ هَذَا اسْتِنَادًا إلَى الْقَرَائِنِ الظّاهِرَةِ بَلْ وَمِنْ هَذَا رَجْمُ الْمُلَاعَنَةِ إذَا الْتَعَنَ الزّوْجُ وَنَكَلَتْ عَنْ الِالْتِعَانِ. فَالشّافِعِيّ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللّهُ يَقْتُلَانِهَا بِمُجَرّدِ الْتِعَانِ الزّوْجِ وَنُكُولِهَا اسْتِنَادًا إلَى اللّوْثِ الظّاهِرِ الّذِي حَصَلَ بِالْتِعَانِهِ وَنُكُولِهَا.

.قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيّةِ فِي السّفَرِ:

وَمِنْ هَذَا مَا شَرَعَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنَا مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيّةِ فِي السّفَرِ وَأَنّ وَلِيّيْ الْمَيّتِ إذَا اطّلَعَا عَلَى خِيَانَةٍ جَازَ لَهُمَا أَنْ يَحْلِفَا وَيَسْتَحِقّا مَا حَلَفَا عَلَيْهِ وَهَذَا لَوْثٌ فِي وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْهُ وَعَلَى هَذَا إذَا اطّلَعَ الرّجُلُ الْمَسْرُوقُ مَالُهُ عَلَى بَعْضِهِ فِي يَدِ خَائِنٍ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتَبَيّنْ أَنّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنّ بَقِيّةَ مَالِهِ عِنْدَهُ وَأَنّهُ صَاحِبُ السّرِقَةِ اسْتِنَادًا إلَى اللّوْثِ الظّاهِرِ وَالْقَرَائِنِ الّتِي تَكْشِفُ الْأَمْرَ وَتُوَضّحُهُ وَهُوَ نَظِيرُ حَلِفِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فِي الْقَسَامَةِ أَنّ فُلَانًا قَتَلَهُ سَوَاءٌ بَلْ أَمْرُ الْأَمْوَالِ أَسْهَلُ وَأَخَفّ وَلِذَلِكَ ثَبَتَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَدَعْوَى وَنُكُولٍ بِخِلَافِ الدّمَاءِ. فَإِذَا جَازَ إثْبَاتُهَا بِاللّوْثِ فَإِثْبَاتُ الْأَمْوَالِ بِهِ بِالطّرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَالْقُرْآنُ وَالسّنّةُ يَدُلّانِ عَلَى هَذَا وَهَذَا، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ ادّعَى نَسْخَ مَا دَلّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ ذَلِكَ حُجّةٌ أَصَلًا، فَإِنّ هَذَا الْحُكْمَ فِي (سُورَةِ الْمَائِدَةِ)، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ حَكَمَ بِمُوجِبِهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَهُ كَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأَقَرّهُ الصّحَابَةُ.

.اسْتِدْلَالُ الشّاهِدِ فِي قِصّةِ يُوسُفَ بِقَرِينَةِ قَدّ الْقَمِيصِ:

وَمِنْ هَذَا أَيْضًا مَا حَكَاهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي قِصّةِ يُوسُفَ مِنْ اسْتِدْلَالِ الشّاهِدِ بِقَرِينَةِ قَدّ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ عَلَى صِدْقِهِ وَكَذِبِ الْمَرْأَةِ وَأَنّهُ كَانَ هَارِبًا مُولِيًا، فَأَدْرَكَتْهُ الْمَرْأَةُ مِنْ وَرَائِهِ فَجَبَذَتْهُ فَقَدّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ فَعَلِمَ بَعْلُهَا وَالْحَاضِرُونَ صِدْقَهُ وَقَبِلُوا هَذَا الْحُكْمَ وَجَعَلُوا الذّنْبَ ذَنْبَهَا، وَأَمَرُوهَا بِالتّوْبَةِ وَحَكَاهُ اللّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حِكَايَةَ مُقَرّرٍ لَهُ غَيْرِ مُنْكِرٍ وَالتّأَسّي بِذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ فِي إقْرَارِ اللّهِ لَهُ وَعَدَمِ إنْكَارِهِ لَا فِي مُجَرّدِ حِكَايَتِهِ فَإِنّهُ إذَا أَخْبَرَ بِهِ مُقِرّا عَلَيْهِ وَمُثْنِيًا عَلَى فَاعِلِهِ وَمَادِحًا لَهُ دَلّ عَلَى رِضَاهُ بِهِ وَأَنّهُ مُوَافِقٌ لِحُكْمِهِ وَمَرْضَاتِهِ فَلْيُتَدَبّرْ هَذَا الْمَوْضِعُ فَإِنّهُ نَافِعٌ جِدّا، وَلَوْ تَتَبّعْنَا مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسّنّةِ وَعَمَلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ ذَلِكَ لَطَالَ وَعَسَى أَنْ نُفْرِدَ فِيهِ مُصَنّفًا شَافِيًا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ التّنْبِيهُ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتِبَاسُ الْأَحْكَامِ مِنْ سِيرَتِهِ وَمَغَازِيهِ وَوَقَائِعِهِ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. وَلَمّا أَقَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ فِي الْأَرْضِ كَانَ يَبْعَثُ كُلّ عَامٍ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ الثّمَارَ فَيَنْظُرُ كَمْ يُجْنَى مِنْهَا، فَيُضَمّنُهُمْ نَصِيبَ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَصَرّفُونَ فِيهَا.

.جَوَازُ خَرْصِ الثّمَارِ الْبَادِي صَلَاحُهَا:

وَكَانَ يَكْتَفِي بِخَارِصٍ وَاحِدٍ. فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ خَرْصِ الثّمَارِ الْبَادِي صَلَاحُهَا كَثَمَرِ النّخْلِ وَعَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الثّمَارِ خَرْصًا عَلَى رُءُوسِ النّخْلِ وَيَصِيرُ نَصِيبُ أَحَدِ الشّرِيكَيْنِ مَعْلُومًا وَإِنْ لَمْ يَتَمَيّزْ بَعْدُ لِمَصْلَحَةِ النّمَاءِ وَعَلَى أَنّ الْقِسْمَةَ إفْرَازٌ لَا بَيْعٌ وَعَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِخَارِصٍ وَاحِدٍ وَقَاسِمٍ وَاحِدٍ وَعَلَى أَنّ لِمَنْ الثّمَارُ فِي يَدِهِ أَنْ يَتَصَرّفَ فِيهَا بَعْدَ الْخَرْصِ وَيَضْمَنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ الّذِي خَرَصَ عَلَيْهِ. فَلَمّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، ذَهَبَ عَبْدُ اللّهِ ابْنُهُ إلَى مَالِهِ بِخَيْبَرَ، فَعَدَوْا عَلَيْهِ فَأَلْقَوْهُ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ فَفَكّوا يَدَهُ فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ مِنْهَا إلَى الشّامِ، وَقَسَمَهَا بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ.

.فصل عَقْدُ الذّمّةِ وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ:

وَأَمّا هَدْيُهُ فِي عَقْدِ الذّمّةِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ فَإِنّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْكُفّارِ جِزْيَةً إلّا بَعْدَ نُزُولِ (سُورَةِ بَرَاءَةٌ) فِي السّنَةِ الثّامِنَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَلَمّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ أَخَذَهَا مِنْ الْمَجُوسِ، وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَخَذَهَا مِنْ النّصَارَى، وَبَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى الْيَمَنِ، فَعَقَدَ لِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ يَهُودِهَا الذّمّةَ وَضَرَبَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَلَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ، فَظَنّ بَعْضُ الْغَالِطِينَ الْمُخْطِئِينَ أَنّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصّ بِأَهْلِ خَيْبَرَ، وَأَنّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَإِنْ أُخِذَتْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا مِنْ عَدَمِ فِقْهِهِ فِي السّيَرِ وَالْمَغَازِي، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَاتَلَهُمْ وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يُقِرّهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا شَاءَ وَلَمْ تَكُنْ الْجِزْيَةُ نَزَلَتْ بَعْدُ فَسَبَقَ عَقْدُ صُلْحِهِمْ وَإِقْرَارُهُمْ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ نُزُولَ الْجِزْيَةِ ثُمّ أَمَرَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا يَهُودُ خَيْبَرَ إذْ ذَاكَ لِأَنّ الْعَقْدَ كَانَ قَدِيمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى إقْرَارِهِمْ وَأَنْ يَكُونُوا عُمّالًا فِي الْأَرْضِ بِالشّطْرِ فَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ وَطَالَبَ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمّنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَقْدٌ كَعَقْدِهِمْ بِالْجِزْيَةِ كَنَصَارَى نَجْرَانَ، وَيَهُودِ الْيَمَنِ، وَغَيْرِهِمْ فَلَمّا أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إلَى الشّامِ، تَغَيّرَ ذَلِكَ الْعَقْدُ الّذِي تَضَمّنَ إقْرَارَهُمْ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ، وَصَارَ لَهُمْ حُكْمُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

.بَيَانُ تَزْوِيرِ طَائِفَةٍ مِنْ الْيَهُودِ كِتَابًا فِيهِ إسْقَاطُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجِزْيَة:

وَلَمّا كَانَ فِي بَعْضِ الدّوَلِ الّتِي خَفِيَتْ فِيهَا السّنّةُ وَأَعْلَامُهَا، أَظْهَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كِتَابًا قَدْ عَتّقُوهُ وَزَوّرُوهُ وَفِيهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَسْقَطَ عَنْ يَهُودِ خَيْبَرَ الْجِزْيَةَ وَفِيهِ شَهَادَةُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فَرَاجَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ جَهِلَ سُنّةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَغَازِيَهُ وَسِيَرَهُ وَتَوَهّمُوا، بَلْ ظَنّوا صِحّتَهُ فَجَرَوْا عَلَى حُكْمِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُزَوّرِ حَتّى أُلْقِيَ إلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ- قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ- وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُعِينَ عَلَى تَنْفِيذِهِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ فَبَصَقَ عَلَيْهِ وَاسْتَدَلّ عَلَى كَذِبِهِ بِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ مِنْهَا: أَنّ فِيهِ شَهَادَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَسَعْدٌ تُوُفّيَ قَبْلَ خَيْبَرَ قَطْعًا. وَمِنْهَا: أَنّ فِي الْكِتَابِ أَنّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ الْجِزْيَةَ وَالْجِزْيَةُ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ بَعْدُ وَلَا يَعْرِفُهَا الصّحَابَةُ حِينَئِذٍ فَإِنّ نُزُولَهَا كَانَ عَامَ تَبُوكَ بَعْدَ خَيْبَرَ بِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ. وَمِنْهَا: أَنّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ الْكُلَفَ وَالسّخَرَ وَهَذَا مُحَالٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ كُلَفٌ وَلَا سُخَرٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَقَدْ أَعَاذَهُ اللّهُ وَأَعَاذَ أَصْحَابَهُ مِنْ أَخْذِ الْكُلَفِ وَالسّخَرِ وَإِنّمَا هِيَ مِنْ وَضْعِ الْمُلُوكِ الظّلَمَةِ وَاسْتَمَرّ الْأَمْرُ عَلَيْهَا. وَمِنْهَا: أَنّ هَذَا الْكِتَابَ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ فَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسّيَرِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسّنّةِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْإِفْتَاءِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التّفْسِيرِ وَلَا أَظْهَرُوهُ فِي زَمَانِ السّلَفِ لِعِلْمِهِمْ أَنّهُمْ إنْ زَوّرُوا مِثْلَ ذَلِكَ عَرَفُوا كَذِبَهُ وَبُطْلَانَهُ فَلَمّا اسْتَخَفّوا بَعْضَ الدّوَلِ فِي وَقْتِ فِتْنَةٍ وَخَفَاءِ بَعْضِ السّنّةِ زَوّرُوا ذَلِكَ وَعَتّقُوهُ وَأَظْهَرُوهُ وَسَاعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَمَعُ بَعْضِ الْخَائِنِينَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَمْ يَسْتَمِرّ لَهُمْ ذَلِكَ حَتّى كَشَفَ اللّهُ أَمْرَهُ وَبَيّنَ خُلَفَاءُ الرّسُلِ بُطْلَانَهُ وَكَذِبَهُ.

.فصل هَلْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَالنّصَارَى:

فَلَمّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ أَخَذَهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ ثَلَاثِ طَوَائِفَ مِنْ الْمَجُوسِ، وَالْيَهُودِ، وَالنّصَارَى، وَلَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ عُبّادِ الْأَصْنَامِ. فَقِيلَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْ كَافِرٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ اقْتِدَاءً بِأَخْذِهِ وَتَرْكِهِ. وَقِيلَ بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفّارِ كَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ الْعَجَمِ دُونَ الْعَرَبِ، وَالْأَوّلُ قَوْلُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَأَحْمَدَ، فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ.
وَالثّانِي: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللّهُ فِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الثّانِي: يَقُولُونَ إنّمَا لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ؛ لِأَنّهَا إنّمَا نَزَلَ فَرْضُهَا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتْ دَارَةُ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مُشْرِكٌ فَإِنّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكّةَ، وَدُخُولِ الْعَرَبِ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا، فَلَمْ يَبْقَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُشْرِكٌ وَلِهَذَا غَزَا بَعْدَ الْفَتْحِ تَبُوكَ، وَكَانُوا نَصَارَى، وَلَوْ كَانَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُشْرِكُونَ لَكَانُوا يَلُونَهُ وَكَانُوا أَوْلَى بِالْغَزْوِ مِنْ الْأَبْعَدِينَ. وَمَنْ تَأَمّلَ السّيَرَ وَأَيّامَ الْإِسْلَامِ عَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَلَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ لِعَدَمِ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ لَا لِأَنّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، قَالُوا: وَقَدْ أَخَذَهَا مِنْ الْمَجُوسِ، وَلَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ وَلَا يَصِحّ أَنّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ وَرُفِع وَهُوَ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ وَلَا يَصِحّ سَنَدُهُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عُبّادِ النّارِ وَعُبّادِ الْأَصْنَامِ بَلْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ أَقْرَبُ حَالًا مِنْ عُبّادِ النّارِ وَكَانَ فِيهِمْ مِنْ التّمَسّكِ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عُبّادِ النّارِ بَلْ عُبّادُ النّارِ أَعْدَاءُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، فَإِذَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ فَأَخْذُهَا مِنْ عُبّادِ الْأَصْنَامِ أَوْلَى، وَعَلَى ذَلِكَ تَدُلّ سُنّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّهُ قَالَ إذَا لَقِيتَ عَدُوّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى خِلَالٍ ثَلَاثٍ فَأَيّتُهُنّ أَجَابُوكَ إلَيْهَا، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفّ عَنْهُمْ. ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ الْجِزْيَةِ أَوْ يُقَاتِلَهُمْ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِعَامِلِ كِسْرَى: أَمَرَنَا نَبِيّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتّى تَعْبُدُوا اللّهَ، أَوْ تُؤَدّوا الْجِزْيَةَ وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقُرَيْشٍ: هَلْ لَكُمْ فِي كَلِمَةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدّي الْعَجَمُ إلَيْكُمْ بِهَا الْجِزْيَةَ. قَالُوا: مَا هِيَ؟ قَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ.
فَصْلٌ:
وَلَمّا كَانَ فِي مَرْجِعِهِ مِنْ تَبُوكَ، أَخَذَتْ خَيْلُهُ أُكَيْدِرَ دُومَةَ، فَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ وَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ.

.صُلْحُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ أَهْلِ نَجْرَانَ:

وَصَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ مِنْ النّصَارَى عَلَى أَلْفَيْ حُلّةٍ. النّصْف فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَارِيّةٍ ثَلَاثِينَ دِرْعًا، وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتّى يَرُدّوهَا عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ بِالْيَمَنِ كَيْدٌ أَوْ غَدْرَةٌ عَلَى أَلّا تُهْدَمَ لَهُمْ بِيعَةٌ وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسّ وَلَا يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يَأْكُلُوا الرّبَا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِقَاضِ عَهْدِ الذّمّةِ بِإِحْدَاثِ الْحَدَثِ وَأَكْلِ الرّبَا إذَا كَانَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ. وَلَمّا وَجّهَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلّ مُحْتَلِمٍ دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِيّ وَهِيَ ثِيَابٌ تَكُونُ بِالْيَمَنِ.

.الْجِزْيَةُ تُقَدّرُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ:

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْجِزْيَةَ غَيْرُ مُقَدّرَةِ الْجِنْسِ وَلَا الْقَدْرِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثِيَابًا وَذَهَبًا وَحُلَلًا، وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتِمَالِ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ وَحَالِهِ فِي الْمَيْسَرَةِ وَمَا عِنْدَهُ مِنْ الْمَالِ.

.تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ بِغَيْرِ اعْتِبَارٍ لِآبَائِهِمْ:

وَلَمْ يُفَرّقْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ فِي الْجِزْيَةِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، بَلْ أَخَذَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَأَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرٍ، وَكَانُوا عَرَبًا، فَإِنّ الْعَرَبَ أُمّةٌ لِي لَهَا فِي الْأَصْلِ كِتَابٌ وَكَانَتْ كُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَدِينُ بِدِينِ مَنْ جَاوَرَهَا مِنْ الْأُمَمِ فَكَانَتْ عَرَبُ الْبَحْرَيْنِ مَجُوسًا لِمُجَاوَرَتِهَا فَارِسَ، وَتَنُوخَ، وَبُهْرَةَ، وَبَنُو تَغْلِبَ نَصَارَى لِمُجَاوَرَتِهِمْ لِلرّومِ وَكَانَتْ قَبَائِلُ مِنْ الْيَمَنِ يَهُودَ لِمُجَاوَرَتِهِمْ لِيَهُودِ الْيَمَنِ، فَأَجْرَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْكَامَ الْجِزْيَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ آبَاءَهُمْ وَلَا مَتَى دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ هَلْ كَانَ دُخُولُهُمْ قَبْلَ النّسْخِ وَالتّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ وَمِنْ أَيْنَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَكَيْفَ يَنْضَبِطُ وَمَا الّذِي دَلّ عَلَيْهِ؟ وَقَدْ ثَبَتَ فِي السّيَرِ وَالْمَغَازِي، أَنّ مِنْ الْأَنْصَارِ مَنْ تَهَوّدَ أَبْنَاؤُهُمْ بَعْدَ النّسْخِ بِشَرِيعَةِ عِيسَى، وَأَرَادَ آبَاؤُهُمْ إكْرَاهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدّينِ} [الْبَقَرَةُ 256] وَفِي قَوْلِهِ لِمُعَاذٍ: خُذْ مِنْ كُلّ حَالِمٍ دِينَارًا دَلِيلٌ عَلَى أَنّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ صَبِيّ وَلَا امْرَأَةٍ. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي مُصَنّفِهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْيَمَنِ الْجِزْيَةَ مِنْ كُلّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ: عَبْدًا أَوْ أَمَةً دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِيّ فَهَذَا فِيهِ أَخْذُهَا مِنْ الرّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْحُرّ وَالرّقِيقِ؟ قِيلَ الزّيَادَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، لَمْ يَذْكُرْهَا سَائِرُ الرّوَاةِ وَلَعَلّهَا مِنْ تَفْسِيرِ بَعْضِ الرّوَاةِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتّرْمِذِيّ، وَالنّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ فَاقْتَصَرُوا عَلَى قَوْلِهِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَالِمٍ دِينَارًا وَلَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الزّيَادَةَ وَأَكْثَرُ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجِزْيَةَ الْعَرَبُ مِنْ النّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَالْمَجُوسِ، وَلَمْ يَكْشِفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَتَى دَخَلَ فِي دِينِهِ وَكَانَ يَعْتَبِرُهُمْ بِأَدْيَانِهِمْ لَا بِآبَائِهِمْ.