فصل: فصل طَوَافُ الْقُدُومِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل الْعَوْدَةُ إلَى سِيَاقِ حَجّتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ نُزُولِهِ بِذِي طُوَى:

عُدْنَا إلَى سِيَاقِ حَجّتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. ثُمّ نَهَضَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَنْ نَزَلَ بِذِي طُوَى، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ الْآنَ بِآبَارِ الزّاهِرِ، فَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجّةِ وَصَلّى بِهَا الصّبْحَ ثُمّ اغْتَسَلَ مِنْ يَوْمِهِ وَنَهَضَ إلَى مَكّةَ، فَدَخَلَهَا نَهَارًا مِنْ أَعْلَاهَا مِنْ الثّنِيّةِ الْعُلْيَا الّتِي تُشْرِفُ عَلَى الْحَجُونِ، وَكَانَ فِي الْعُمْرَةِ يَدْخُلُ مِنْ أَسْفَلِهَا، وَفِي الْحَجّ دَخَلَ مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا، ثُمّ سَارَ حَتّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَذَلِك ضُحَى. وَذَكَرَ الطّبَرَانِيّ، أَنّهُ دَخَلَهُ مِنْ بَابِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ الّذِي يُسَمّيهِ النّاسُ الْيَوْمَ بَابَ بَنِي شَيْبَةَ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَنّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ مَكَانًا مِنْ دَارِ يَعْلَى، اسْتَقَلّ الْبَيْتَ فَدَعَا. وَذَكَرَ الطّبَرَانِيّ: أَنّهُ كَانَ إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَالَ اللّهُمّ زِدْ بَيْتَكَ هَذَا تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيُكَبّرُ وَيَقُولُ اللّهُمّ أَنْتَ السّلَامُ وَمِنْك السّلَامُ حَيّنَا رَبّنَا بِالسّلَامِ اللّهُمّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَزِدْ مَنْ حَجّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَبِرّا وَهُوَ مُرْسَلٌ وَلَكِنْ سَمِعَ هَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُهُ. دَخَلَ الْمَسْجِدَ عَمَدَ إلَى الْبَيْتِ وَلَمْ يَرْكَعْ تَحِيّةَ الْمَسْجِدِ فَإِنّ تَحِيّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطّوَافُ فَلَمّا حَاذَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، اسْتَلَمَهُ وَلَمْ يُزَاحِمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَقَدّمْ عَنْهُ إلَى جِهَةِ الرّكْنِ الْيَمَانِيّ، وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ نَوَيْتُ بِطَوَافِي هَذَا الْأُسْبُوعَ كَذَا وَكَذَا، وَلَا افْتَتَحَهُ بِالتّكْبِيرِ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بَلْ هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا حَاذَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ ثُمّ انْفَتَلَ عَنْهُ وَجَعَلَهُ عَلَى شِقّهِ بَلْ اسْتَقْبَلَهُ وَاسْتَلَمَهُ ثُمّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ وَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَلَمْ يَدْعُ عِنْدَ الْبَابِ بِدُعَاءٍ وَلَا تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَلَا عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وَأَرْكَانِهَا، وَلَا وَقّتَ لِلطّوَافِ ذِكْرًا مُعَيّنًا، لَا بِفِعْلِهِ وَلَا بِتَعْلِيمِهِ بَلْ حُفِظَ عَنْهُ بَيْنَ الرّكْنَيْنِ {رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ} وَرَمَلَ فِي طَوَافِهِ هَذَا الثّلَاثَةَ الْأَشْوَاطَ الْأُوَلَ وَكَانَ يُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ وَيُقَارِبُ بَيْنَ خُطَاهُ وَاضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ فَجَعَلَ طَرَفَيْهِ عَلَى أَحَدِ كَتِفَيْهِ وَأَبْدَى كَتِفَهُ الْأُخْرَى وَمَنْكِبَهُ وَكُلّمَا حَاذَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، أَشَارَ إلَيْهِ أَوْ اسْتَلَمَهُ بِمِحْجَنِهِ وَقَبّلَ الْمِحْجَنَ وَالْمِحْجَنُ عَصَا مَحْنِيّةُ الرّأْسِ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ اسْتَلَمَ الرّكْنَ الْيَمَانِيّ. وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنّهُ قَبّلَهُ وَلَا قَبّلَ يَدَهُ عِنْدَ اسْتِلَامِهِ وَقَدْ رَوَى الدّارَقُطْنِيّ: عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُقَبّلُ الرّكْنَ الْيَمَانِيّ، وَيَضَعُ خَدّهُ عَلَيْهِ وَفِيهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: صَالِحُ الْحَدِيثِ وَضَعّفَهُ غَيْرُهُ. وَلَكِنّ الْمُرَادَ بِالرّكْنِ الْيَمَانِيّ هَاهُنَا، الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، فَإِنّهُ يُسَمّى الرّكْنَ الْيَمَانِيّ وَيُقَالُ لَهُ مَعَ الرّكْنِ الْآخَرِ الْيَمَانِيّانِ وَيُقَالُ لَهُ مَعَ الرّكْنِ الّذِي يَلِي الْحَجَرَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَابِ الْعِرَاقِيّانِ؟ وَيُقَالُ لِلرّكْنَيْنِ اللّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ: الشّامِيّانِ. وَيُقَالُ لِلرّكْنِ الْيَمَانِيّ وَاَلّذِي يَلِي الْحَجَرَ مِنْ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ: الْغَرْبِيّانِ وَلَكِنْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَبّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ. وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ثُمّ قَبّلَهَا، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ اسْتَلَمَهُ بِمِحْجَنٍ فَهَذِهِ ثَلَاثُ صِفَاتٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا، أَنّهُ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ طَوِيلًا يَبْكِي. وَذَكَرَ الطّبَرَانِيّ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ جَيّدٍ أَنّهُ كَانَ إذَا اسْتَلَمَ الرّكْنَ الْيَمَانِيّ، قَالَ بِسْمِ اللّهِ وَاللّهُ أَكْبَرُ. وَكَانَ كُلّمَا أَتَى عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ قَالَ اللّهُ أَكْبَرُ. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ الطّيَالِسِيّ، وَأَبُو عَاصِمٍ النّبِيلُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ رَأَيْتُ مُحَمّدَ بْنَ عَبّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَبّلَ الْحَجَرَ وَسَجَدَ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ عَبّاسٍ يُقَبّلُهُ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَبّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ. ثُمّ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ هَكَذَا فَفَعَلْتُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: أَنّهُ قَبّلَ الرّكْنَ الْيَمَانِيّ، ثُمّ سَجَدَ عَلَيْهِ ثُمّ قَبّلَهُ ثُمّ سَجَدَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَجَدَ عَلَى الْحَجَرِ. يَسْتَلِمْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَمَسّ مِنْ الْأَرْكَانِ إلّا الْيَمَانِيّيْنِ فَقَطْ. قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَلَمْ يَدَعْ أَحَدٌ اسْتِلَامَهُمَا هِجْرَةً لِبَيْتِ اللّهِ وَلَكِنْ اسْتَلَمَ مَا اسْتَلَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمْسَكَ عَمّا أَمْسَكَ عَنْهُ.

.فصل صَلَاتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَلْفَ الْمَقَامِ:

فَلَمّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ جَاءَ إلَى خَلْفِ الْمَقَامِ فَقَرَأَ {وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} [الْبَقَرَةُ 125]، فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَالْمَقَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَرَأَ فِيهِمَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ وَقِرَاءَتُهُ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ بَيَانٌ مِنْهُ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمُرَادُ اللّهِ مِنْهُ بِفِعْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَقْبَلَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَاسْتَلَمَهُ ثُمّ خَرَجَ إلَى الصّفَا مِنْ الْبَابِ الّذِي يُقَابِلُهُ فَلَمّا قَرُبَ مِنْهُ. قَرَأَ {إِنّ الصّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ} [الْبَقَرَةُ 159] ابْدَأْ بِمَا بَدَأَ اللّهُ بِهِ وَفِي رِوَايَةِ النّسَائِيّ: ابْدَءُوا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. ثُمّ رَقِيَ عَلَيْهِ حَتّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحّدَ اللّهَ وَكَبّرَهُ وَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ثُمّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ وَقَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرّاتٍ. وَقَامَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى الصّدْعِ، وَهُوَ الشّقّ الّذِي فِي الصّفَا. فَقِيلَ لَهُ هَاهُنَا يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ؟ قَالَ هَذَا وَاَلّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ. ثُمّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ يَمْشِي، فَلَمّا انْصَبّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي، سَعَى حَتّى إذَا جَاوَزَ الْوَادِيَ وَأَصْعَدَ مَشَى هَذَا- الّذِي صَحّ عَنْهُ وَذَلِك الْيَوْمُ قَبْلَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ فِي أَوّلِ الْمَسْعَى وَآخِرِهِ. وَالظّاهِرُ أَنّ الْوَادِيَ لَمْ يَتَغَيّرْ عَنْ وَضْعِهِ هَكَذَا قَالَ جَابِرٌ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَظَاهِرُ هَذَا: أَنّهُ كَانَ مَاشِيًا، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ طَافَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيَرَاهُ النّاسُ وَلِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ فَإِنّ النّاسَ قَدْ غَشّوْهُ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: لَمْ يَطُفْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ إلّا طَوَافًا وَاحِدًا طَوَافَهُ الْأَوّلَ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنّ الرّاكِبَ إذَا انْصَبّ بِهِ بَعِيرُهُ فَقَدْ انْصَبّ كُلّهُ وَانْصَبّتْ قَدَمَاهُ أَيْضًا مَعَ سَائِرِ جَسَدِهِ. وَعِنْدِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ آخَرُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنّهُ سَعَى مَاشِيًا أَوّلًا، ثُمّ أَتَمّ سَعْيَهُ رَاكِبًا، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرّحًا بِهِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي الطّفَيْلِ، قَالَ قُلْت لِابْنِ عَبّاسٍ: أَخْبَرَنِي عَنْ الطّوَافِ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا، أَسُنّةٌ هُوَ؟ فَإِنّ قَوْمَك يَزْعُمُونَ أَنّهُ سُنّةٌ. قَالَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا قَالَ قُلْتُ مَا قَوْلُك: صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَثُرَ عَلَيْهِ النّاسُ يَقُولُونَ هَذَا مُحَمّدٌ هَذَا مُحَمّدٌ حَتَى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنْ الْبُيُوتِ. قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُضْرَبُ النّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ فَلَمّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ وَالْمَشْيُ وَالسّعْيُ أَفْضَلُ.

.فصل طَوَافُ الْقُدُومِ:

وَأَمّا طَوَافُهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ قُدُومِهِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ كَانَ عَلَى قَدَمَيْهِ أَوْ كَانَ رَاكِبًا؟ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ طَافَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَلَى بَعِيرِهِ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُضْرَبَ عَنْهُ النّاسُ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ قَدِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ وَهُوَ يَشْتَكِي، فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ كُلّمَا أَتَى عَلَى الرّكْنِ اسْتَلَمَهُ بِمِحْجَنٍ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنَاخَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ قَالَ أَبُو الطّفَيْلِ: رَأَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَطُوفُ حَوْلَ الْبَيْتِ عَلَى بَعِيرِهِ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ ثُمّ يُقَبّلُهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ دُونَ ذِكْرِ الْبَعِيرِ. وَهُوَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ، بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ بِذِكْرِ الْبَعِيرِ. وَهَذَا وَاللّهُ أَعْلَمُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لَا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، فَإِنّ جَابِرًا حَكَى عَنْهُ الرّمَلَ فِي الثّلَاثَةِ الْأُوَلِ وَذَلِك لَا يَكُونُ إلّا مَعَ الْمَشْيِ. قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ أَمّا سَبْعُهُ الّذِي طَافَهُ لِمَقْدَمِهِ فَعَلَى قَدَمَيْهِ لِأَنّ جَابِرًا حَكَى عَنْهُ فِيهِ أَنّهُ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَابِرٌ يَحْكِي عَنْهُ الطّوَافَ مَاشِيًا وَرَاكِبًا فِي سَبْعٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ حُفِظَ أَنّ سَبْعَهُ الّذِي رَكِبَ فِيهِ فِي طَوَافِهِ يَوْمَ النّحْرِ. ثُمّ ذَكَرَ الشّافِعِيّ: عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُهَجّرُوا بِالْإِفَاضَةِ، وَأَفَاضَ فِي نِسَائِهِ لَيْلًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ بِمِحْجَنِهِ أَحْسِبُهُ قَالَ فَيُقَبّلُ طَرَفَ الْمِحْجَنِ. جَابِرٌ عَنْهُ فِي الصّحِيحِ أَنّهُ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النّحْرِ نَهَارًا، وَكَذَلِكَ رَوَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ، كَمَا سَيَأْتِي. وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدِمَ مَكّةَ وَهُوَ يَشْتَكِي، فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ كُلّمَا أَتَى الرّكْنَ اسْتَلَمَهُ. هَذَا إنْ كَانَ مَحْفُوظًا، فَهُوَ فِي إحْدَى عُمَرِهِ وَإِلّا فَقَدْ صَحّ عَنْهُ الرّمَلُ فِي الثّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ، إلّا أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي السّعْيِ إنّهُ رَمَلَ عَلَى بَعِيرِهِ فَإِنّ مَنْ رَمَلَ عَلَى بَعِيرِهِ فَقَدْ رَمَلَ لَكِنْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ أَنّهُ كَانَ رَاكِبًا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ. وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل غَلَطُ ابْنِ حَزْمٍ وَبَيَانُ أَنّهُ لَمْ يَحُجّ:

وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَطَافَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْضًا سَبْعًا، رَاكِبًا عَلَى بَعِيرِهِ يَخُبّ ثَلَاثًا، وَيَمْشِي أَرْبَعًا، وَهَذَا مِنْ أَوْهَامِهِ وَغَلَطِهِ رَحِمَهُ اللّهُ فَإِنّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ هَذَا قَطّ غَيْرَهُ وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلْبَتّةَ. وَهَذَا إنّمَا هُوَ فِي الطّوَافِ بِالْبَيْتِ فَغَلِطَ أَبُو مُحَمّدٍ وَنَقَلَهُ إلَى الطّوَافِ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُهُ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَافَ حِينَ قَدِمَ مَكّةَ وَاسْتَلَمَ الرّكْنَ أَوّلَ شَيْءٍ ثُمّ خَبّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ وَصَلّى عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ سَلّمَ فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصّفَا، فَطَافَ بِالصّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ.. وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ. قَالَ وَلَمْ نَجِدْ عَدَدَ الرّمَلِ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ مَنْصُوصًا، وَلَكِنّهُ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ. هَذَا لَفْظُهُ. قُلْت: الْمُتّفَقُ عَلَيْهِ السّعْيُ فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي الْأَشْوَاطِ كُلّهَا. وَأَمّا الرّمَلُ فِي الثّلَاثَةِ الْأُوَلِ خَاصّةً فَلَمْ يَقُلْهُ وَلَا نَقَلَهُ فِيمَا نَعْلَمُ غَيْرَهُ. وَسَأَلْت شَيْخَنَا عَنْهُ فَقَالَ هَذَا مِنْ أَغْلَاطِهِ وَهُوَ لَمْ يَحُجّ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى. وَيُشْبِهُ هَذَا الْغَلَطَ غَلَطُ مَنْ قَالَ إنّهُ سَعَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرّةً وَكَانَ يَحْتَسِبُ وَاحِدَةً. وَهَذَا غَلَطٌ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَنْقُلْهُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمّةِ الّذِينَ اُشْتُهِرَتْ أَقْوَالُهُمْ وَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخّرِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَئِمّةِ. وَمِمّا يُبَيّنُ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا خِلَافَ عَنْهُ أَنّهُ خَتَمَ سَعْيَهُ بِالْمَرْوَةِ وَلَوْ كَانَ الذّهَابُ وَالرّجُوعُ مَرّةً وَاحِدَةً لَكَانَ خَتْمُهُ إنّمَا يَقَعُ عَلَى الصّفَا.

.مُتَابَعَةُ سِيَاقِ الْحَجّ:

وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا وَصَلَ إلَى الْمَرْوَةِ، رَقِيَ عَلَيْهَا، وَاسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ وَكَبّرَ اللّهَ وَوَحّدَهُ وَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصّفَا، فَلَمّا أَكْمَلَ سَعْيَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، أَمَرَ كُلّ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَحِلّ حَتْمًا وَلَابُدّ قَارِنًا كَانَ أَوْ مُفْرِدًا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلّوا الْحِلّ كُلّهُ مِنْ وَطْءِ النّسَاءِ وَالطّيبِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَأَنْ يَبْقَوْا كَذَلِكَ إلَى يَوْمِ التّرْوِيَةِ وَلَمْ يَحِلّ هُوَ مِنْ أَجْلِ هَدْيِهِ. وَهُنَاكَ قَالَ لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ أَحَلّ هُوَ أَيْضًا، وَهُوَ غَلَطٌ قَطْعًا، قَدْ بَيّنّاهُ فِيمَا تَقَدّمَ. وَهُنَاكَ دَعَا لِلْمُحَلّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصّرِينَ مَرّةً وَهُنَاكَ سَأَلَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَقِيبَ أَمْرِهِ لَهُمْ بِالْفَسْخِ وَالْإِحْلَالِ هَلْ ذَلِكَ لِعَامِهِمْ خَاصّةً أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ بَلْ لِلْأَبَدِ. وَلَمْ يَحِلّ أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ، وَلَا عَلِيّ وَلَا طَلْحَةُ، وَلَا الزّبَيْرُ مِنْ أَجْلِ الْهَدْيِ. وَأَمّا نِسَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَحْلَلْنَ وَكُنّ قَارِنَاتٍ إلّا عَائِشَةَ فَإِنّهَا لَمْ تَحِلّ مِنْ أَجْلِ تَعَذّرِ الْحِلّ عَلَيْهَا لِحَيْضِهَا، وَفَاطِمَةُ حَلّتْ لِأَنّهَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا هَدْيٌ وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمْ يَحِلّ مِنْ أَجْلِ هَدْيِهِ وَأَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَهَلّ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِهِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إحْرَامِهِ إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَأَنْ يَحِلّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ.

.خُطْبَةُ الْوَدَاعِ:

وَكَانَ يُصَلّي مُدّةَ مُقَامِهِ بِمَكّةَ إلَى يَوْمِ التّرْوِيَةِ بِمَنْزِلِهِ الّذِي هُوَ نَازِلٌ فِيهِ مَكّةَُ فَأَقَامَ بِظَاهِرِ مَكّةَ أَرْبَعَةَ أَيّامٍ يَقْصِرُ الصّلَاةَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ضُحًىُ تَوَجّهَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى مِنًىُ فَأَحْرَمَ بِالْحَجّ مَنْ كَانَ أَحَلّ مِنْهُمْ مِنْ رِحَالِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا إلَى الْمَسْجِدِ فَأَحْرَمُوا مِنْهُ بَلْ أَحْرَمُوا وَمَكّةُ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ فَلَمّا وَصَلَ إلَى مِنًى نَزَلَ بِهَاُ وَصَلّى بِهَا الظّهْرَ وَالْعَصْرَ وَبَاتَ بِهَاُ وَكَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَمّا طَلَعَتْ الشّمْسُ سَارَ مِنْهَا إلَى عَرَفَةَُ وَأَخَذَ عَلَى طَرِيقِ ضَبّ عَلَى يَمِينِ طَرِيقِ النّاسِ الْيَوْمَ.
وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُلَبّيُ وَمِنْهُمْ الْمُكَبّرُ وَهُوَ يَسْمَعُ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَلَا عَلَى هَؤُلَاءِ فَوَجَدَ الْقُبّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ بِأَمْرِهِ وَهِيَ قَرْيَةٌ شَرْقِيّ عَرَفَاتٍُ وَهِيَ خَرَابٌ الْيَوْمَ فَنَزَلَ بِهَاُ حَتّى إذَا زَالَتْ الشّمْسُ أَمَرَ بِنَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ.
ثُمّ سَارَ حَتّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي مِنْ أَرْضِ عُرَنَةَُ فَخَطَبَ النّاسَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ خُطْبَةً عَظِيمَةً قَرّرَ فِيهَا قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَهَدَمَ فِيهَا قَوَاعِدَ الشّرْكِ وَالْجَاهِلِيّةِ وَقَرّرَ فِيهَا تَحْرِيمَ الْمُحَرّمَاتِ الّتِي اتّفَقَتْ الْمِلَلُ عَلَى تَحْرِيمِهَاُ وَهِيَ الدّمَاءُ وَالْأَمْوَالُ وَالْأَعْرَاضُ وَوَضَعَ فِيهَا أُمُورَ الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ وَوَضَعَ فِيهَا رِبَا الْجَاهِلِيّةِ كُلّهُ وَأَبْطَلَهُ وَأَوْصَاهُمْ بِالنّسَاءِ خَيْرًاُ وَذَكَرَ الْحَقّ الّذِي لَهُنّ وَاَلّذِي عَلَيْهِنّ وَأَنّ الْوَاجِبَ لَهُنّ الرّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يُقَدّرْ ذَلِكَ بِتَقْدِيرٍ وَأَبَاحَ لِلْأَزْوَاجِ ضَرْبَهُنّ إذَا أَدْخَلْنَ إلَى بُيُوتِهِنّ مَنْ يَكْرَهُهُ أَزْوَاجُهُنّ وَأَوْصَى الْأُمّةَ فِيهَا بِالِاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللّهِ وَأَخْبَرَ أَنّهُمْ لَنْ يَضِلّوا مَا دَامُوا مُعْتَصِمِينَ بِهِ.
ثُمّ أَخْبَرَهُمْ أَنّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْهُ وَاسْتَنْطَقَهُمْ بِمَاذَا يَقُولُونَ وَبِمَاذَا يَشْهَدُونَ فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنّك قَدْ بَلّغْتَ وَأَدّيْتَ وَنَصَحْتَ فَرَفَعَ أُصْبُعَهُ إلَى السّمَاءِ وَاسْتَشْهَدَ اللّهَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَ مَرّاتٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلّغَ شَاهِدُهُمْ غَائِبَهُمْ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ أُمّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيّةُ وَهِيَ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبَهُ أَمَامَ النّاسِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمّا أَتَمّ الْخُطْبَةَ أَمَرَ بَلَالًا فَأَقَامَ الصّلَاةَ وَهَذَا مِنْ وَهْمِهِ رَحِمَهُ اللّهُ فَإِنّ قِصّةَ شُرْبِهِ اللّبَنَ إنّمَا كَانَتْ بَعْدَ هَذَا حِينَ سَارَ إلَى عَرَفَةَُ وَوَقَفَ بِهَا هَكَذَا جَاءَ فِي الصّحِيحَيْنِ مُصَرّحًا بِهِ عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنّ النّاسَ شَكّوا فِي صِيَامِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ عَرَفَةَُ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ بِحِلَابٍ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْمَوْقِفِ فَشَرِبَ مِنْهُ وَالنّاسُ يَنْظُرُونَ. وَفِي لَفْظٍ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ.

.أَهْلُ مَكّةَ يُقَصّرُونَ وَيَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ:

وَمَوْضِعُ خُطْبَتِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَوْقِفِ فَإِنّهُ خَطَبَ بِعُرَنَةَُ وَلَيْسَتْ مِنْ الْمَوْقِفِ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَزَلَ بِنَمِرَةَُ وَخَطَبَ بِعُرَنَةَُ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَُ وَخَطَبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً وَلَمْ تَكُنْ خُطْبَتَيْنِ جَلَسَ بَيْنَهُمَاُ فَلَمّا أَتَمّهَاُ أَمَرَ بَلَالًا فَأَذّنَ ثُمّ أَقَامَ الصّلَاةَ فَصَلّى الظّهْرَ رَكْعَتَيْنِ أَسَرّ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَلّ عَلَى أَنّ الْمُسَافِرَ لَا يُصَلّي جُمُعَةً ثُمّ أَقَامَ فَصَلّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ أَيْضًا وَمَعَهُ أَهْلُ مَكّةَ وَصَلّوْا بِصَلَاتِهِ قَصْرًا وَجَمْعًا بِلَا رَيْبٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِتْمَامِ وَلَا بِتَرْكِ الْجَمْعِ وَمَنْ قَالَ إنّهُ قَالَ لَهُمْ أَتِمّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنّا قَوْمٌ سَفْرٌ فَقَدْ غَلِطَ فِيهِ غَلَطًا بَيّنًاُ وَوَهِمَ وَهْمًا قَبِيحًا. وَإِنّمَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي غَزَاةِ الْفَتْحِ بِجَوْفِ مَكّةَُ حَيْثُ كَانُوا فِي دِيَارِهِمْ مُقِيمِينَ. وَلِهَذَا كَانَ أَصَحّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ إنّ أَهْلَ مَكّةَ يَقْصُرُونَ وَيَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ كَمَا فَعَلُوا مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي هَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنّ سَفَرَ جَعَلَهُ اللّهُ سَبَبًا وَهُوَ السّفَرُ هَذَا مُقْتَضَى السّنّةِ وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَدّدُونَ.