فصل: فصل صُلْحُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ قُرَيْشٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل حُكْمُ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَأَقَرّ بِهِ الْبَاقُونَ:

وَكَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ إذَا صَالَحَ قَوْمًا فَنَقَضَ بَعْضُهُمْ عَهْدَهُ وَصُلْحَهُ وَأَقَرّهُمْ الْبَاقُونَ وَرَضُوا بِهِ غَزَا الْجَمِيعَ وَجَعَلَهُمْ كُلّهُمْ نَاقِضِينَ كَمَا فَعَلَ بِقُرَيْظَةَ، وَالنّضِيرِ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَكَمَا فَعَلَ فِي أَهْلِ مَكّةَ، فَهَذِهِ سُنّتُهُ فِي أَهْلِ الْعَهْدِ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ الْحُكْمُ فِي أَهْلِ الذّمّةِ كَمَا صَرّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَخَالَفَهُمْ أَصْحَابُ الشّافِعِيّ، فَخَصّوا نَقْضَ الْعَهْدِ بِمَنْ نَقَضَهُ خَاصّةً دُونَ مَنْ رَضِيَ بِهِ وَأَقَرّ عَلَيْهِ وَفَرّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنّ عَقْدَ الذّمّةِ أَقْوَى وَآكَدُ وَلِهَذَا كَانَ مَوْضُوعًا عَلَى التّأْبِيدِ بِخِلَافِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ وَالصّلْحِ. وَالْأَوّلُونَ يَقُولُونَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَعَقْدُ الذّمّةِ لَمْ يُوضَعْ لِلتّأْبِيدِ بَلْ بِشَرْطِ اسْتِمْرَارِهِمْ وَدَوَامِهِمْ عَلَى الْتِزَامِ مَا فِيهِ فَهُوَ كَعَقْدِ الصّلْحِ الّذِي وُضِعَ لِلْهُدْنَةِ بِشَرْطِ الْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ قَالُوا: وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُوَقّتْ عَقْدَ الصّلْحِ وَالْهُدْنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ لَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، بَلْ أَطْلَقَهُ مَا دَامُوا كَافّينَ عَنْهُ غَيْرَ مُحَارِبِينَ لَهُ فَكَانَتْ تِلْكَ ذِمّتَهُمْ غَيْرَ أَنّ الْجِزْيَةَ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ فَرْضُهَا بَعْدُ فَلَمّا نَزَلَ فَرْضُهَا، ازْدَادَ ذَلِكَ إلَى الشّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْعَقْدِ وَلَمْ يُغَيّرْ حُكْمَهُ وَصَارَ نَقَضَ بَعْضُهُمْ الْعَهْدَ وَأَقَرّهُمْ الْبَاقُونَ وَرَضُوا بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْلِمُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ صَارُوا فِي ذَلِكَ كَنَقْضِ أَهْلِ الصّلْحِ وَأَهْلُ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَإِنْ افْتَرَقَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يُوَضّحُ هَذَا أَنّ الْمُقِرّ الرّاضِيَ السّاكِتَ إنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى عَهْدِهِ وَصُلْحِهِ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ وَلَا قَتْلُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَإِنْ كَانَ بِذَلِكَ خَارِجًا عَنْ عَهْدِهِ وَصُلْحِهِ رَاجِعًا إلَى حَالِهِ الْأُولَى قَبْلَ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ عَقْدِ الْهُدْنَةِ وَعَقْدِ الذّمّةِ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ عَائِدًا إلَى حَالِهِ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ. تَوْضِيحُهُ أَنّ تَجَدّدَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُ لَا يُوجِبُ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُوفِيًا بِعَهْدِهِ مَعَ رِضَاهُ وَمُمَالَأَتِهِ وَمُوَاطَأَتِهِ لِمَنْ نَقَضَ وَعَدَمُ الْجِزْيَةِ يُوجِبُ لَهُ أَنْ يَكُونَ نَاقِضًا غَادِرًا غَيْرَ مُوفٍ بِعَهْدِهِ هَذَا بَيّنُ الِامْتِنَاعِ. فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ النّقْضُ فِي الصّورَتَيْنِ وَهُوَ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ سُنّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْكُفّارِ وَعَدَمِ النّقْضِ فِي الصّورَتَيْنِ وَهُوَ أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ عَنْ السّنّةِ وَالتّفْرِيقُ بَيْنَ الصّورَتَيْنِ وَالْأُولَى أَصْوَبُهَا، وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ. وَبِهَذَا الْقَوْلِ أَفْتَيْنَا وَلِيّ الْأَمْرِ لَمّا أَحْرَقَتْ النّصَارَى أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالشّامِ وَدُورَهُمْ وَرَامُوا إحْرَاقَ جَامِعِهِمْ الْأَعْظَمِ حَتّى أَحْرَقُوا مَنَارَتَهُ وَكَادَ- لَوْلَا دَفْعُ اللّهِ- أَنْ يَحْتَرِقَ كُلّهُ وَعَلِمَ بِذَلِكَ مَنْ عَلِمَ مِنْ النّصَارَى، وَوَاطَئُوا عَلَيْهِ وَأَقَرّوهُ وَرَضُوا بِهِ وَلَمْ يُعْلِمُوا وَلِيّ الْأَمْرِ فَاسْتَفْتَى فِيهِمْ وَلِيّ الْأَمْرِ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَأَفْتَيْنَاهُ بِانْتِقَاضِ عَهْدِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَعَانَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَوْ رَضِيَ بِهِ وَأَقَرّ عَلَيْهِ وَأَنّ حَدّهُ الْقَتْلُ حَتْمًا، لَا تَخْيِيرَ لِلْإِمَامِ فِيهِ كَالْأَسِيرِ بَلْ صَارَ الْقَتْلُ لَهُ حَدّا، وَالْإِسْلَامُ لَا يُسْقِطُ الْقَتْلَ إذَا كَانَ حَدّا مِمّنْ هُوَ تَحْتَ الذّمّةِ مُلْتَزِمًا لِأَحْكَامِ اللّهِ بِخِلَافِ الْحَرْبِيّ إذَا أَسْلَمَ، فَإِنّ الْإِسْلَامَ يَعْصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ وَلَا يُقْتَلُ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَهَذَا لَهُ حُكْمٌ وَالذّمّيّ النّاقِضُ لِلْعَهْدِ إذَا أَسْلَمَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ وَهَذَا الّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الّذِي تَقْتَضِيهِ نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأُصُولُهُ وَنَصّ عَلَيْهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ وَأَفْتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

.فصل مَنْ دَخَلَ فِي عَقْد الْمُصَالَحِينَ ثُمّ حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ:

وَكَانَ هَدْيُهُ وَسُنّتُهُ إذَا صَالَحَ قَوْمًا وَعَاهَدَهُمْ فَانْضَافَ إلَيْهِمْ عَدُوّ لَهُ سِوَاهُمْ فَدَخَلُوا مَعَهُمْ فِي عَقْدِهِمْ وَانْضَافَ إلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي عَقْدِهِ صَارَ حُكْمُ مَنْ حَارَبَ مَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي عَقْدِهِ مِنْ الْكُفّارِ حُكْمَ مَنْ حَارَبَهُ وَبِهَذَا السّبَبِ غَزَا أَهْلَ مَكّةَ، فَإِنّهُ لَمّا صَالَحَهُمْ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَشْرَ سِنِينَ تَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَدَخَلَتْ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، وَعَقْدِهَا، وَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ، فَدَخَلَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَقْدِهِ ثُمّ عَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ فَبَيّتَتْهُمْ وَقَتَلَتْ مِنْهُمْ وَأَعَانَتْهُمْ قُرَيْشٌ فِي الْبَاطِنِ بِالسّلَاحِ فَعَدّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُرَيْشًا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ بِذَلِكَ وَاسْتَجَازَ غَزْوَ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ لِتَعَدّيهِمْ عَلَى حُلَفَائِهِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْقِصّةِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى. وَبِهَذَا أَفْتَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ بِغَزْوِ نَصَارَى الْمَشْرِقِ لَمّا أَعَانُوا عَدُوّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ فَأَمَدّوهُمْ بِالْمَالِ وَالسّلَاحِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَغْزُونَا وَلَمْ يُحَارِبُونَا، وَرَآهُمْ بِذَلِكَ نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ كَمَا نَقَضَتْ قُرَيْشٌ عَهْدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِعَانَتِهِمْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَلَى حَرْبِ حُلَفَائِهِ فَكَيْفَ إذَا أَعَانَ أَهْلُ الذّمّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ. وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل رُسُلُ الْأَعْدَاءِ لَا يُتَعَرّضْ لَهَا:

وَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ رُسُلُ أَعْدَائِهِ وَهُمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ فَلَا يُهِيجُهُمْ وَلَا يَقْتُلُهُمْ وَلَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ: وَهُمَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ النّوّاحَةِ وَابْنُ أَثَالٍ، قَالَ لَهُمَا: فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا؟ قَالَا: نَقُولُ كَمَا قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْلَا أَنّ الرّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا فَجَرَتْ سُنّتُهُ أَلّا يُقْتَلَ رَسُولٌ. وَكَانَ هَدْيُهُ أَيْضًا أَلّا يَحْبِسَ الرّسُولَ عِنْدَهُ إذَا اخْتَارَ دِينَهُ فَلَا يَمْنَعْهُ مِنْ اللّحَاقِ بِقَوْمِهِ بَلْ يَرُدّهُ إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ أَبُو رَافِعٍ بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا أَتَيْتُهُ وَقَعَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ لَا أَرْجِعُ إلَيْهِمْ. فَقَالَ إنّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الّذِي فِيهِ الْآنَ فَارْجِعْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَانَ هَذَا فِي الْمُدّةِ الّتِي شَرَطَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَأَمّا الْيَوْمَ فَلَا يَصْلُحُ هَذَا انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ لَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ إشْعَارٌ بِأَنّ هَذَا حُكْمٌ يَخْتَصّ بِالرّسُلِ مُطْلَقًا، وَأَمّا رَدّهُ لِمَنْ جَاءَ إلَيْهِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، فَهَذَا إنّمَا يَكُونُ مَعَ الشّرْطِ كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَأَمّا الرّسُلُ فَلَهُمْ حُكْمٌ آخَرُ أَلَا تَرَاهُ لَمْ يَتَعَرّضْ لِرَسُولَيْ مُسَيْلِمَةَ وَقَدْ قَالَا لَهُ فِي وَجْهِهِ نَشْهَدُ أَنّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللّهِ. وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ أَنّ أَعْدَاءَهُ إذَا عَاهَدُوا وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى عَهْدٍ لَا يَضُرّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ أَمْضَاهُ لَهُمْ كَمَا عَاهَدُوا حُذَيْفَةَ وَأَبَاهُ الْحُسَيْلَ أَنْ لَا يُقَاتِلَاهُمْ مَعَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُمَا: انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللّهَ عَلَيْهِمْ.

.فصل صُلْحُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ قُرَيْشٍ:

وَصَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ عَلَى أَنّ مَنْ جَاءَهُ رَدّهُ إلَيْهِمْ وَمَنْ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ لَا يَرُدّونَهُ إلَيْهِ وَكَانَ اللّفْظُ عَامّا فِي الرّجَالِ وَالنّسَاءِ فَنَسَخَ اللّهُ ذَلِكَ فِي حَقّ النّسَاءِ وَأَبْقَاهُ فِي حَقّ الرّجَالِ وَأَمَرَ اللّهُ نَبِيّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْتَحِنُوا مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ النّسَاءِ فَإِنْ عَلِمُوهَا مُؤْمِنَةً لَمْ يَرُدّوهَا إلَى الْكُفّارِ وَأَمَرَهُمْ بِرَدّ مَهْرِهَا إلَيْهِمْ لِمَا فَاتَ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ مَنْفَعَةِ بُضْعِهَا، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدّوا عَلَى مَنْ ارْتَدّتْ امْرَأَتُهُ إلَيْهِمْ مَهْرَهَا إذَا عَاقَبُوا، بِأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمْ رَدّ مَهْرِ الْمُهَاجِرَةِ فَيَرُدّونَهُ إلَى مَنْ ارْتَدّتْ امْرَأَتُهُ وَلَا يَرُدّونَهَا إلَى زَوْجِهَا الْمُشْرِكِ فَهَذَا هُوَ الْعِقَابُ وَلَيْسَ مِنْ الْعَذَابِ فِي شَيْءٍ وَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزّوْجِ مُتَقَوّمٌ، وَأَنّهُ مُتَقَوّمٌ بِالْمُسَمّى الّذِي هُوَ مَا أَنْفَقَ الزّوْجُ لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَأَنّ أَنْكِحَةَ الْكُفّارِ لَهَا حُكْمُ الصّحّةِ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِالْبُطْلَانِ وَأَنّهُ لَا يَجُوزُ رَدّ الْمُسْلِمَةِ الْمُهَاجِرَةِ إلَى الْكُفّارِ وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ وَأَنّ الْمُسْلِمَةَ لَا يَحِلّ لَهَا نِكَاحُ الْكَافِرِ وَأَنّ الْمُسْلِمَ لَهُ أَنْ يَتَزَوّجَ الْمَرْأَةَ الْمُهَاجِرَةَ إذَا انْقَضَتْ عِدّتُهَا، وَآتَاهَا مَهْرَهَا، وَفِي هَذَا أَبْيَنُ دَلَالَةٍ عَلَى خُرُوجِ بُضْعِهَا مِنْ مِلْكِ الزّوْجِ وَانْفِسَاخِ نِكَاحِهَا مِنْهُ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِسْلَامِ.

.تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ:

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَمَا حُرّمَ نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْكَافِرِ. وَهَذِهِ أَحْكَامٌ اُسْتُفِيدَتْ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَبَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ ادّعَى نَسْخَهَا حُجّةٌ أَلْبَتّةَ فَإِنّ الشّرْطَ الّذِي وَقَعَ بَيْنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ الْكُفّارِ فِي رَدّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا إلَيْهِمْ إنْ كَانَ مُخْتَصّا بِالرّجَالِ لَمْ تَدْخُلْ النّسَاءُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ عَامّا لِلرّجَالِ وَالنّسَاءِ فَاللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصّصَ مِنْهُ رَدّ النّسَاءِ وَنَهَاهُمْ عَنْ رَدّهِنّ وَأَمَرَهُمْ بِرَدّ مُهُورِهِنّ وَأَنْ يَرُدّوا مِنْهَا عَلَى مَنْ ارْتَدّتْ امْرَأَتُهُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمَهْرَ الّذِي أَعْطَاهَا، ثُمّ أَخْبَرَ أَنّ ذَلِكَ حُكْمُهُ الّذِي يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَنّهُ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ مَا يُنَافِي هَذَا الْحُكْمَ وَيَكُونُ بَعْدَهُ حَتّى يَكُونَ نَاسِخًا. وَلَمّا صَالَحَهُمْ عَلَى رَدّ الرّجَالِ كَانَ يُمَكّنُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مَنْ أَتَى إلَيْهِ مِنْهُمْ وَلَا يُكْرِهُهُ عَلَى الْعَوْدِ وَلَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَكَانَ إذَا قَتَلَ مِنْهُمْ أَوْ أَخَذَ مَالًا، وَقَدْ فَصَلَ عَنْ يَدِهِ وَلَمّا يَلْحَقْ بِهِمْ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَضْمَنْهُ لَهُمْ لِأَنّهُ لَيْسَ تَحْتَ قَهْرِهِ وَلَا فِي قَبْضَتِهِ وَلَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَقْتَضِ عَقْدُ الصّلْحِ الْأَمَانَ عَلَى النّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إلّا عَمّنْ هُوَ تَحْتَ قَهْرِهِ وَفِي قَبْضَتِهِ كَمَا ضَمِنَ لِبَنِي جُذَيْمَةَ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَنْكَرَهُ وَتَبَرّأَ مِنْهُ. وَلَمّا كَانَ إصَابَتُهُ لَهُمْ عَنْ نَوْعِ شُبْهَةٍ إذْ لَمْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، وَإِنّمَا قَالُوا: صَبَأْنَا، فَلَمْ يَكُنْ إسْلَامًا صَرِيحًا، ضَمِنَهُمْ بِنِصْفِ دِيَاتِهِمْ لِأَجْلِ التّأْوِيلِ وَالشّبْهَةِ وَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ مَجْرَى أَهْلِ الْكِتَابِ الّذِينَ قَدْ عَصَمُوا نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِعَقْدِ الذّمّةِ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقْتَضِ عَهْدُ الصّلْحِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى مَنْ حَارَبَهُمْ مِمّنْ لَيْسَ فِي قَبْضَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَحْتَ قَهْرِهِ فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْمُعَاهَدِينَ إذَا غَزَاهُمْ قَوْمٌ لَيْسُوا تَحْتَ قَهْرِ الْإِمَامِ وَفِي يَدِهِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ رَدّهُمْ عَنْهُمْ وَلَا مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَيْهِمْ. وَأَخْذُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلّقَةِ بِالْحَرْبِ وَمَصَالِحِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَأَمْرِهِ وَأُمُورِ السّيَاسَاتِ الشّرْعِيّةِ مِنْ سِيَرِهِ وَمَغَازِيهِ أَوْلَى مِنْ أَخْذِهَا مِنْ آرَاءِ الرّجَالِ فَهَذَا لَوْنٌ وَتِلْكَ لَوْنٌ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.

.فصل الصّلْحُ مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ:

.قِصّةُ حُيَيّ فِي تَغْيِيبِهِ الْمَسْكَ وَالْحُلِيّ:

وَكَذَلِكَ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ لَمّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ وَلِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ وَهِيَ السّلَاحُ. وَاشْتَرَطَ فِي عَقْدِ الصّلْحِ أَلّا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا، فَلَا ذِمّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ فَغَيّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ وَحُلِيّ لِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إلَى خَيْبَرَ حِينَ أُجْلِيَتْ النّضِيرُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَمّ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ، وَاسْمُهُ سَعْيَةُ مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيّ الّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ النّضِيرِ؟ فَقَالَ أَذْهَبَتْهُ النّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ فَقَالَ الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ حُيَيّ قُتِلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمّا دَخَلَ مَعَهُمْ فَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّهُ إلَى الزّبَيْرِ لِيَسْتَقِرّهُ فَمَسّهُ بِعَذَابٍ فَقَالَ قَدْ رَأَيْتُ حُيَيّا يَطُوفُ فِي خَرِبَةٍ هَاهُنَا، فَذَهَبُوا فَطَافُوا، فَوَجَدُوا الْمَسْكَ فِي الْخَرِبَةِ فَقَتَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنَيْ أَبِي الْحَقِيقِ وَأَحَدُهُمَا زَوْجُ صَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ وَقَسَمَ أَمْوَالَهُمْ بِالنّكْثِ الّذِي نَكَثُوا، وَأَرَادَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالُوا: دَعْنَا نَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ عَلَيْهَا، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا لِأَصْحَابِهِ غِلْمَانٌ يَكْفُونَهُمْ مُؤْنَتَهَا، فَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ عَلَى أَنّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الشّطْرَ مِنْ كُلّ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ وَلَهُمْ الشّطْرُ وَعَلَى أَنْ يُقِرّهُمْ فِيهَا مَا شَاءَ. وَلَمْ يَعُمّهُمْ بِالْقَتْلِ كَمَا عَمّ قُرَيْظَةَ لِاشْتِرَاكِ أُولَئِكَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ وَأَمّا هَؤُلَاءِ فَاَلّذِينَ عَلِمُوا بِالْمَسْكِ وَغَيّبُوهُ وَشَرَطُوا لَهُ إنْ ظَهَرَ فَلَا ذِمّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ فَإِنّهُ قَتَلَهُمْ بِشَرْطِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَتَعَدّ ذَلِكَ إلَى سَائِرِ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَإِنّهُ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَنّ جَمِيعَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِمَسْكِ حُيَيّ وَأَنّهُ مَدْفُونٌ فِي خَرِبَةٍ فَهَذَا نَظِيرُ الذّمّيّ وَالْمُعَاهَدِ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَمْ يُمَالِئْهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَإِنّ حُكْمَ النّقْضِ مُخْتَصّ بِهِ.

.جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ:

ثُمّ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِمْ الْأَرْضَ عَلَى النّصْفِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَكَوْنُ الشّجَرِ نَخْلًا لَا أَثَرَ لَهُ أَلْبَتّةَ فَحُكْمُ الشّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ فَبَلَدٌ شَجَرُهُمْ الْأَعْنَابُ وَالتّينُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الثّمَارِ فِي الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ بَلَدٍ شَجَرُهُمْ النّخْلُ سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَالَحَهُمْ عَنْ الشّطْرِ وَلَمْ يُعْطِهِمْ بَذْرًا أَلْبَتّةَ وَلَا كَانَ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ بِبَذْرٍ وَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ سِيرَتِهِ حَتّى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنّهُ لَوْ قِيلَ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مِنْ الْعَامِلِ لَكَانَ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ لِمُوَافَقَتِهِ لِسُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَهْلِ خَيْبَرَ. وَالصّحِيحُ أَنّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَخْتَصّ بِهِ أَحَدُهُمَا، وَاَلّذِينَ شَرَطُوهُ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجّةٌ أَصْلًا أَكْثَرَ مِنْ قِيَاسِهِمْ الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ قَالُوا: كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ الْمَالِكِ وَالْعَمَلُ مِنْ الْمُضَارِبِ فَهَكَذَا فِي الْمُزَارَعَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ يَكُونُ الشّجَرُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا مِنْ الْآخَرِ وَهَذَا الْقِيَاسُ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجّةً عَلَيْهِمْ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجّةً لَهُمْ فَإِنّ فِي الْمُضَارَبَةِ يَعُودُ رَأْسُ الْمَالِ إلَى الْمَالِكِ وَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ فَسَدَتْ عِنْدَهُمْ فَلَمْ يُجْرُوا الْبَذْرَ مَجْرَى رَأْسِ الْمَالِ بَلْ أَجْرَوْهُ مَجْرَى سَائِرِ الْبَقْلِ فَبَطَلَ إلْحَاقُ الْمُزَارَعَةِ بِالْمُضَارَبَةِ عَلَى أَصْلِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنّ الْبَذْرَ جَارٍ مَجْرَى الْمَاءِ وَمَجْرَى الْمَنَافِعِ فَإِنّ الزّرْعَ لَا يَتَكَوّنُ وَيَنْمُو بِهِ وَحْدَهُ بَلْ لَابُدّ مِنْ السّقْيِ وَالْعَمَلِ وَالْبَذْرُ يَمُوتُ فِي الْأَرْضِ وَيُنْشِئُ اللّهُ الزّرْعَ مِنْ أَجْزَاءٍ أُخَرَ تَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ وَالرّيحِ وَالشّمْسِ وَالتّرَابِ وَالْعَمَلِ فَحُكْمُ الْبَذْرِ حُكْمُ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنّ الْأَرْضَ نَظِيرُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ وَقَدْ دَفَعَهَا مَالِكُهَا إلَى الْمُزَارِعِ وَبَذْرُهَا وَحَرْثُهَا وَسَقْيُهَا نَظِيرُ عَمَلِ الْمُضَارِبِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُزَارِعُ أَوْلَى بِالْبَذْرِ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمُضَارِبِ فَاَلّذِي جَاءَتْ بِهِ السّنّةُ هُوَ الصّوَابُ الْمُوَافِقُ لِقِيَاسِ الشّرْعِ وَأُصُولِهِ.