فصل: فصل الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ قَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِالرّوحِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ مَنَامًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.هَلْ رَأَى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَبّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ:

رَأَى رَبّهُ تِلْكَ اللّيْلَةَ أَمْ لَا؟ فَصَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ رَأَى رَبّهُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ رَآهُ بِفُؤَادِهِ وَصَحّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ إنْكَارُ ذَلِكَ وَقَالَا: إنّ قَوْلَهُ {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النّجْمُ 13] إنّمَا هُوَ جِبْرِيلُ. وَصَحّ عَنْ أَبِي ذَرّ أَنّهُ سَأَلَهُ هَلْ رَأَيْتَ رَبّك؟ فَقَالَ نُورٌ أَنّى أَرَاهُ أَيْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ النّورُ كَمَا قَالَ فِي لَفْظٍ آخَرَ رَأَيْتُ نُورًا وَقَدْ حَكَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيّ اتّفَاقَ الصّحَابَةِ عَلَى أَنّهُ لَمْ يَرَهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ وَلَيْسَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: إنّهُ رَآهُ مُنَاقِضًا لِهَذَا وَلَا قَوْلُهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ وَقَدْ صَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ رَأَيْتُ رَبّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْإِسْرَاءِ وَلَكِنْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ لَمّا اُحْتُبِسَ عَنْهُمْ فِي صَلَاةِ الصّبْحِ ثُمّ أَخْبَرَهُمْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي مَنَامِهِ وَعَلَى هَذَا بَنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى وَقَالَ نَعَمْ رَآهُ حَقّا فَإِنّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقّ وَلَابُدّ وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى: إنّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ يَقَظَةً وَمَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ وَهِمَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ قَالَ مَرّةً رَآهُ وَمَرّةً قَالَ رَآهُ بِفُؤَادِهِ فَحُكِيَتْ عَنْهُ رِوَايَتَانِ وَحُكِيَتْ عَنْهُ الثّالِثَةُ مِنْ تَصَرّفِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَهَذِهِ نُصُوصُ أَحْمَدَ مَوْجُودَةٌ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ. وَأَمّا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: أَنّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ اسْتِنَادُهُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النّجْمُ 11] ثُمّ قَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النّجْمُ 13] وَالظّاهِرُ أَنّهُ مُسْتَنَدُهُ فَقَدْ صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ هَذَا الْمَرْئِيّ جِبْرِيلُ رَآهُ مَرّتَيْنِ فِي صُورَتِهِ الّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ هَذَا هُوَ مُسْتَنَدُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ رَآهُ بِفُؤَادِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ. وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النّجْمِ {ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى} [النّجْمُ 8] فَهُوَ غَيْرُ الدّنُوّ وَالتّدَلّي فِي قِصّةِ الْإِسْرَاءِ فَإِنّ الّذِي فِي سُورَةِ (النّجْمِ) هُوَ دُنُوّ جِبْرِيلَ وَتَدَلّيهِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالسّيَاقُ يَدُلّ عَلَيْهِ فَإِنّهُ قَالَ: {عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النّجْمُ 5] وَهُوَ جِبْرِيل {ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى} [النّجْمُ 6- 8] فَالضّمَائِرُ كُلّهَا رَاجِعَةٌ إلَى هَذَا الْمُعَلّمِ الشّدِيدِ الْقُوَى وَهُوَ ذُو الْمِرّةِ أَيْ الْقُوّةُ وَهُوَ الّذِي اسْتَوَى بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَهُوَ الّذِي دَنَى فَتَدَلّى فَكَانَ مِنْ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْرَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَمّا الدّنُوّ وَالتّدَلّي الّذِي فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنّهُ دُنُوّ الرّبّ تَبَارَكَ وَتَدَلّيهِ وَلَا تَعَرّضَ فِي سُورَةِ (النّجْمِ) لِذَلِكَ بَلْ فِيهَا أَنّهُ رَآهُ نَزْلَةً سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهَذَا هُوَ جِبْرِيلُ رَآهُ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى صُورَتِهِ مَرّتَيْنِ مَرّةً فِي الْأَرْضِ وَمَرّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل إخْبَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقُرَيْشٍ بِالْإِسْرَاءِ:

فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَوْمِهِ أَخْبَرَهُمْ بِمَا أَرَاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى فَاشْتَدّ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ وَأَذَاهُمْ وَضَرَاوَتُهُمْ عَلَيْهِ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَصِفَ لَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَجَلّاهُ اللّهُ لَهُ حَتّى عَايَنَهُ فَطَفِقَ يُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدّوا عَلَيْهِ شَيْئًا. وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ عِيرِهِمْ فِي مَسْرَاهُ وَرُجُوعِهِ وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ وَقْتِ قُدُومِهَا وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ الْبَعِيرِ الّذِي يَقْدُمُهَا وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إلّا نُفُورًا وَأَبَى الظّالِمُونَ إلّا كُفُورًا.

.فصل الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ قَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِالرّوحِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ مَنَامًا:

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنّهُمَا قَالَا: إنّمَا كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ وَلَمْ يَفْقِدْ جَسَدَهُ وَنُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ نَحْوُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ مَنَامًا وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ كَانَ بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ وَعَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ لَمْ يَقُولَا: كَانَ مَنَامًا وَإِنّمَا قَالَا: أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَلَمْ يَفْقِدْ جَسَدَهُ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنّ مَا يَرَاهُ النّائِمُ قَدْ يَكُونُ أَمْثَالًا مَضْرُوبَةً لِلْمَعْلُومِ فِي الصّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ فَيَرَى كَأَنّهُ قَدْ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ أَوْ ذُهِبَ بِهِ إلَى مَكّةَ وَأَقْطَارِ الْأَرْضِ وَرُوحُهُ لَمْ تَصْعَدْ وَلَمْ تَذْهَبْ وَإِنّمَا مَلَكُ الرّؤْيَا ضَرَبَ لَهُ الْمِثَالَ وَاَلّذِينَ قَالُوا: عُرِجَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَائِفَتَانِ طَائِفَةٌ قَالَتْ عُرِجَ بِرُوحِهِ وَبَدَنِهِ وَطَائِفَةٌ قَالَتْ عُرِجَ بِرُوحِهِ وَلَمْ يَفْقِدْ بَدَنَهُ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُرِيدُوا أَنّ الْمِعْرَاجَ كَانَ مَنَامًا وَإِنّمَا أَرَادُوا أَنّ الرّوحَ ذَاتَهَا أُسْرِيَ بِهَا وَعُرِجَ بِهَا حَقِيقَةً وَبَاشَرَتْ مِنْ جِنْسِ مَا تُبَاشِرُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ وَكَانَ حَالُهَا فِي ذَلِكَ كَحَالِهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ فِي صُعُودِهَا إلَى السّمَاوَاتِ سَمَاءً سَمَاءً حَتّى يُنْتَهَى بِهَا إلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ فَتَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَيَأْمُرُ فِيهَا بِمَا يَشَاءُ ثُمّ تَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ وَاَلّذِي كَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَكْمَلُ مِمّا يَحْصُلُ لِلرّوحِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا أَمْرٌ فَوْقَ مَا يَرَاهُ النّائِمُ لَكِنْ لَمّا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَقَامِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ حَتّى شُقّ بَطْنُهُ وَهُوَ حَيّ لَا يَتَأَلّمُ بِذَلِكَ عُرِجَ بِذَاتِ رُوحِهِ الْمُقَدّسَةِ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ إمَاتَةٍ وَمَنْ سِوَاهُ لَا يَنَالُ بِذَاتِ رُوحِهِ الصّعُودَ إلَى السّمَاءِ إلّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمُفَارَقَةِ فَالْأَنْبِيَاءُ إنّمَا اسْتَقَرّتْ أَرْوَاحُهُمْ هُنَاكَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأَبَدَانِ وَرَوْحُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ حَالِ الْحَيَاةِ ثُمّ عَادَتْ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ اسْتَقَرّتْ فِي الرّفِيقِ الْأَعْلَى مَعَ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمْ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ- وَمَعَ هَذَا فَلَهَا إشْرَافٌ عَلَى الْبَدَنِ وَإِشْرَاقٌ وَتَعَلّقٌ بِهِ بِحَيْثُ يَرُدّ السّلَامَ عَلَى مَنْ سَلّمَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا التّعَلّقِ رَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلّي فِي قَبْرِهِ وَرَآهُ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنّهُ لَمْ يُعْرَجْ بِمُوسَى مِنْ قَبْرِهِ ثُمّ رُدّ إلَيْهِ وَإِنّمَا ذَلِكَ مَقَامُ رُوحِهِ وَاسْتِقْرَارِهَا وَقَبْرُهُ مَقَامُ بَدَنِهِ وَاسْتِقْرَارُهُ إلَى يَوْمِ مَعَادِ الْأَرْوَاحِ إلَى أَجْسَادِهَا فَرَآهُ يُصَلّي فِي قَبْرِهِ وَرَآهُ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ كَمَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَرْفَعِ مَكَانٍ فِي الرّفِيقِ الْأَعْلَى مُسْتَقَرّا هُنَاكَ وَبَدَنُهُ فِي ضَرِيحِهِ غَيْرُ مَفْقُودٍ وَإِذَا سَلّمَ عَلَيْهِ الْمُسَلّمُ رَدّ اللّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتّى يَرُدّ عَلَيْهِ السّلَامَ وَلَمْ يُفَارِقْ الْمَلَأُ الْأَعْلَى وَمَنْ كَثُفَ إدْرَاكُهُ وَغَلُظَتْ طِبَاعُهُ عَنْ إدْرَاكِ هَذَا فَلْيُنْظَرْ إلَى الشّمْسِ فِي عُلُوّ مَحِلّهَا وَتَعَلّقِهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَرْضِ وَحَيَاةِ النّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بِهَا هَذَا وَشَأْنُ الرّوحِ فَوْقَ هَذَا فَلَهَا شَأْنٌ وَلِلْأَبْدَانِ شَأْنٌ وَهَذِهِ النّارُ تَكُونُ فِي مَحِلّهَا وَحَرَارَتُهَا تُؤَثّرُ فِي الْجِسْمِ الْبَعِيدِ عَنْهَا مَعَ أَنّ الِارْتِبَاطَ وَالتّعَلّقَ الّذِي بَيْنَ الرّوحِ وَالْبَدَنِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَتَمّ فَشَأْنُ الرّوحِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَلْطَفُ.
فَقُلْ لِلْعُيُونِ الرّمْدِ إيّاكِ أَنْ تَرِي ** سَنَا الشّمْسِ فَاسْتَغْشِي ظَلَامَ اللّيَالِيَا

.فصل الصّحِيحُ أَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَرّةً:

قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ الزّهْرِيّ: عُرِجَ بِرُوحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى السّمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ وَغَيْرُهُ كَانَ بَيْنَ الْإِسْرَاءِ وَالْهِجْرَةِ سَنَةٌ وَشَهْرَانِ انْتَهَى. وَكَانَ الْإِسْرَاءُ مَرّةً وَاحِدَةً. وَقِيلَ مَرّتَيْنِ مَرّةً يَقَظَةً وَمَرّةً مَنَامًا وَأَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ كَأَنّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ حَدِيثِ شَرِيكٍ سَائِرِ الرّوَايَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ كَانَ هَذَا مَرّتَيْنِ مَرّةً قَبْلَ الْوَحْيِ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ وَمَرّةً بَعْدَ الْوَحْي كَمَا دَلّتْ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ. مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ ثَلَاثُ مَرّاتٍ مَرّةً قَبْلَ الْوَحْيِ وَمَرّتَيْنِ بَعْدَهُ وَكُلّ هَذَا خَبْطٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ضُعَفَاءِ الظّاهِرِيّةِ مِنْ أَرْبَابِ النّقْلِ الّذِينَ إذَا رَأَوْا فِي الْقِصّةِ لَفْظَةً تُخَالِفُ سِيَاقَ بَعْضِ الرّوَايَاتِ جَعَلُوهُ مَرّةً أُخْرَى فَكُلّمَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمْ الرّوَايَاتُ عَدّدُوا الْوَقَائِعَ وَالصّوَابُ الّذِي عَلَيْهِ أَئِمّةُ النّقْلِ أَنّ الْإِسْرَاءِ كَانَ مَرّةً وَاحِدَةً بِمَكّةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ. وَيَا عَجَبًا لِهَؤُلَاءِ الّذِينَ زَعَمُوا أَنّهُ مِرَارًا كَيْفَ سَاغَ لَهُمْ أَنْ يَظُنّوا أَنّهُ فِي كُلّ مَرّةٍ تُفْرَضُ عَلَيْهِ الصّلَاةُ خَمْسِينَ ثُمّ يَتَرَدّدُ بَيْنَ رَبّهِ وَبَيْنَ مُوسَى حَتّى تَصِيرَ خَمْسًا ثُمّ يَقُولُ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفّفْتُ عَنْ عِبَادِي ثُمّ يُعِيدُهَا فِي الْمَرّةِ الثّانِيَةِ إلَى خَمْسِينَ ثُمّ يَحُطّهَا عَشْرًا عَشْرًا وَقَدْ غَلّطَ الْحُفّاظُ شَرِيكًا فِي أَلْفَاظٍ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَمُسْلِمٌ أَوْرَدَ الْمُسْنَدَ مِنْهُ ثُمّ قَالَ فَقَدّمَ وَأَخّرَ وَزَادَ وَنَقّصَ وَلَمْ يَسْرُدْ الْحَدِيثَ فَأَجَادَ رَحِمَهُ اللّهُ.

.فَصْلٌ فِي مَبْدَأِ الْهِجْرَةِ الّتِي فَرّقَ اللّهُ فِيهَا بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَجَعَلَهَا مَبْدَأً لِإِعْزَازِ دِينِهِ وَنَصْرِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ:

.دَعْوَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقَبَائِلَ:

قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مِنْ أَوّلِ نُبُوّتِهِ مُسْتَخْفِيًا ثُمّ أَعْلَنَ فِي الرّابِعَةِ فَدَعَا النّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ عَشْرَ سِنِينَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلّ عَامٍ يَتّبِعُ الْحَاجّ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِي الْمَوَاسِمِ بِعُكَاظٍ وَمَجَنّةَ وَذِي الْمَجَازِ يَدْعُوهُمْ إلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ حَتّى يُبَلّغْ رِسَالَاتِ رَبّهِ وَلَهُمْ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُجِيبُهُ حَتّى إنّهُ لَيَسْأَلُ عَنْ الْقَبَائِلِ وَمَنَازِلِهَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً وَيَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا: لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ وَأَبُو لَهَبٍ وَرَاءَهُ يَقُولُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنّهُ صَابِئٌ كَذّابٌ فَيَرُدّونَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَقْبَحَ الرّدّ وَيُؤْذُونَهُ وَيَقُولُونَ أُسْرَتُك وَعَشِيرَتُكَ أَعْلَمُ بِكَ حَيْثُ لَمْ يَتّبِعُوك وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَيَقُولُ اللّهُمّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هَكَذَا قَالَ وَكَانَ مِمّنْ يُسَمّى لَنَا مِنْ الْقَبَائِلِ الّذِينَ أَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَعَاهُمْ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَة وَمُحَارِبُ بْنُ حصفة وَفَزَارَةُ وَغَسّانُ وَمُرّةُ وَحَنِيفَةُ وَسُلَيْمٌ وَعَبْسُ وَبَنُو النّضْرِ وَبَنُو الْبَكّاءِ وَكِنْدَةُ وَكَلْبٌ وَالْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ وَعُذْرَةُ وَالْحَضَارِمَةُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.

.فصل لُقْيَاهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ:

وَكَانَ مِمّا صَنَعَ اللّهُ لِرَسُولِهِ أَنّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ أَنّ نَبِيّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَبْعُوثٌ عَادٍ وَإِرَمٍ وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ يَحُجّونَ الْبَيْتَ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجّهُ دُونَ الْيَهُودِ فَلَمّا رَأَى الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدْعُو النّاسَ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَتَأَمّلُوا أَحْوَالَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعْلَمُونَ وَاَللّهِ يَا قَوْمِ أَنّ هَذَا الّذِي تَوَعّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ فَلَا يَسْبِقُنّكُمْ إلَيْهِ. وَكَانَ سُوِيدُ بْنُ الصّامِتِ مِنْ الْأَوْسِ قَدْ قَدِمَ مَكّةَ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يُبْعِدْ وَلَمْ يُجِبْ حَتّى قَدِمَ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ أَبُو الحيسر فِي فِتْيَةٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَطْلُبُونَ الْحِلْفَ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ وَكَانَ شَابّا حَدَثًا: يَا قَوْمِ هَذَا وَاَللّهِ خَيْرٌ مِمّا جِئْنَا لَهُ فَضَرَبَهُ أَبُو الحيسر وَانْتَهَرَهُ فَسَكَتَ ثُمّ لَمْ يَتِمّ لَهُمْ الْحِلْفَ فَانْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ.

.فَصْلٌ لَقِيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِتّةَ نَفَرٍ مِنْ الْخَزْرَجِ:

ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقِيَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ فِي الْمَوْسِمِ سِتّةَ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ كُلّهُمْ مِنْ الْخَزْرَجِ وَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِئَابٍ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا.

.بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الْأُولَى:

ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَدَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَفَشَا الْإِسْلَامُ فِيهَا حَتَى لَمْ يَبْقَ دَارٌ إلّا وَقَدْ دَخَلَهَا الْإِسْلَامُ فَلَمّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ جَاءَ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا السّتّةُ الْأُوَلُ خَلَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَمَعَهُمْ مُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ أَخُو عَوْفٍ الْمُتَقَدّمِ وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ وَقَدْ أَقَامَ ذَكْوَانُ بِمَكّةَ حَتّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ فَيُقَالُ إنّهُ مُهَاجِرِيّ أَنْصَارِيّ وَعُبَادَة بْنُ الصّامِتِ وَيَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيْهَانِ وَعُوَيْمِرُ بْنُ مَالِكٍ هُمْ اثْنَا عَشَرَ. وَقَالَ أَبُو الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَبِثَ بِمَكّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتّبِعُ النّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ وَمَجَنّةَ وَعُكَاظَ يَقُولُ مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي؟ حَتَى أُبَلّغَ رِسَالَاتِ رَبّي وَلَهُ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُؤْوِيهِ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مُضَرَ أَوْ الْيَمَنِ إلَى ذِي رَحِمِهِ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ لَهُ احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنْك وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَهُمْ يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ حَتّى بَعَثَنَا اللّهُ مِنْ يَثْرِبَ فَيَأْتِيهِ الرّجُلُ مِنّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ حَتّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَبَعَثَنَا اللّهُ إلَيْهِ فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا وَقُلْنَا: حَتّى مَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُطَرّدُ فِي جِبَالِ مَكّةَ وَيَخَافُ فَرَحَلْنَا حَتّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ فَوَاعَدَنَا بَيْعَةَ الْعُقْبَةِ فَقَالَ لَهُ عَمّهُ الْعَبّاسُ يَا ابْنَ أَخِي مَا أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الّذِينَ جَاءُوك إنّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ فَاجْتَمَعْنَا عَنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ فَلَمّا نَظَرَ الْعَبّاسُ فِي وُجُوهِنَا قَالَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا نَعْرِفُهُمْ هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ تُبَايِعُونِي عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فِي النّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى النّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنّةُ فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السّبْعِينَ فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ إنّا لَمْ نَضْرِبْ إلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيّ إلّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَإِنّ إخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضّكُمْ السّيُوفُ فَإِمّا أَنْتُمْ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللّهِ وَإِمّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ فَقَالُوا: يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنّا يَدَك فَوَاَللّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا فَقُمْنَا إلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا فَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ يُعْطِينَا بِذَلِكَ الْجَنّةَ ثُمّ انْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ وَبَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرَو بْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ يُعَلّمَانِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْقُرْآنَ وَيَدْعُوَانِ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَنَزَلَا عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَكَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَؤُمّهُمْ وَجَمَعَ بِهِمْ لَمّا بَلَغُوا أَرْبَعِينَ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِمَا بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أُسَيْد بْنُ الْحُضَيْرِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِمَا يَوْمئِذٍ جَمِيعُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ الرّجَالُ وَالنّسَاءُ إلّا أُصَيْرِم عَمْرَو بْنَ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ فَإِنّهُ تَأَخّرَ إسْلَامُهُ إلَى يَوْمِ أُحُدٍ وَأَسْلَمَ حِينَئِذٍ وَقَاتَلَ فَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ لِلّهِ سَجْدَةً فَأُخْبِرَ عَنْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا.

.بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الثّانِيَةُ:

بِالْمَدِينَةِ وَظَهَرَ ثُمّ رَجَعَ مُصْعَبُ إلَى مَكّةَ وَوَافَى الْمَوْسِمَ ذَلِكَ الْعَامَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَزَعِيمُ الْقَوْمِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ فَلَمّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْعَقَبَةِ الثّلُثُ الْأَوّلُ مِنْ اللّيْلِ تَسَلّلَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ فَبَايَعُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خِفْيَةً مِنْ قَوْمِهِمْ وَمِنْ كُفّارِ مَكّةَ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَأُزُرَهُمْ فَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَايَعَهُ لَيْلَتئِذٍ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ وَكَانَتْ لَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ إذْ أَكّدَ الْعِقْدَ وَبَادَرَ إلَيْهِ وَحَضَرَ الْعَبّاسُ عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُؤَكّدًا لِبَيْعَتِهِ كَمَا تَقَدّمَ وَكَانَ إذْ ذَاكَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ وَاخْتَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَة وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرٍ وَكَانَ إسْلَامُهُ تِلْكَ اللّيْلَةَ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو وَعُبَادَة بْنُ الصّامِتِ فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ مِنْ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَوْسِ: أُسَيْد بْنُ الْحُضَيْرِ وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ. وَقِيلَ بَلْ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيْهَانِ مَكَانَهُ. وَأَمّا الْمَرْأَتَانِ فَأُمّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو وَهِيَ الّتِي قَتَلَ مُسَيْلِمَةُ ابْنَهَا حَبِيبَ بْنَ زَيْدٍ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ. فَلَمّا تَمّتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَمِيلُوا عَلَى أَهْلِ الْعَقَبَةِ بِأَسْيَافِهِمْ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَصَرَخَ الشّيْطَانُ عَلَى الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سُمِعَ يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ هَلْ لَكَمَ فِي مُذَمّمٍ وَالصّبَاةُ مَعَهُ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ؟ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا أَزَبّ الْعَقَبَةِ هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ أَمَا وَاَللّهِ يَا عَدُوّ اللّهِ لَأَتَفَرّغَنّ لَكَ ثُمّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَنْفَضّوا إلَى رِحَالِهِمْ فَلَمّا أَصْبَحَ الْقَوْمُ غَدَتْ عَلَيْهِمْ جِلّةُ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافُهُمْ حَتّى دَخَلُوا شِعْبَ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إنّهُ بَلَغَنَا أَنّكُمْ لَقِيتُمْ صَاحِبَنَا الْبَارِحَةَ وَوَاعَدْتُمُوهُ أَنْ تُبَايِعُوهُ عَلَى حَرْبِنَا وَاَيْمُ اللّهِ مَا حَيّ مِنْ الْعَرَبِ أَبْغَضَ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يَنْشَبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ الْحَرْبُ مِنْكُمْ فَانْبَعَثَ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ الْخَزْرَجِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاَللّهِ مَا كَانَ هَذَا وَمَا عَلِمْنَا وَجَعَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ يَقُولُ هَذَا بَاطِلٌ وَمَا كَانَ هَذَا وَمَا كَانَ قَوْمِي لِيَفْتَاتُوا عَلَيّ مِثْلَ هَذَا لَوْ كُنْتُ بِيَثْرِبَ مَا صَنَعَ قَوْمِي هَذَا حَتّى يُؤَامِرُونِي فَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ مِنْ عِنْدَهُمْ وَرَحَلَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ فَتَقَدّمَ إلَى بَطْنِ يَأْجَج وَتَلَاحَقَ أَصْحَابُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَطَلّبَتْهُمْ قُرَيْشٌ فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ بِنِسْعِ رَحْلِهِ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَجُرّونَهُ وَيَجْذِبُونَهُ بِجُمّتِهِ حَتّى أَدْخَلُوهُ مَكّةَ فَجَاءَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ وَالْحَارِثُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ فَخَلّصَاهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَتَشَاوَرَتْ الْأَنْصَارُ حِينَ فَقَدُوهُ أَنْ يَكِرّوا إلَيْهِ فَإِذَا سَعْدٌ قَدْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ فَوَصَلَ الْقَوْمُ جَمِيعًا إلَى الْمَدِينَةِ.