فصل: فصل الْحَلْقُ وَالتّقْصِيرُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.بَيَانُ بُطْلَانِ قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ بِأَنّهُ لَا هَدْيَ عَلَى الْقَارِنِ:

وَأَجَابَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ عَنْهُ بِجَوَابٍ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ أَنّ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ مَعَهُنّ فِي ذَلِكَ فَإِنّهَا كَانَتْ قَارِنَةً وَهُنّ مُتَمَتّعَاتٌ وَعِنْدَهُ لَا هَدْيَ عَلَى الْقَارِنِ وَأَيّدَ قَوْلَهُ بِالْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجّةِ فَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلّ بِعُمْرَةٍ فَخَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا مَكّةَ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ لَمْ أَحِلّ مِنْ عُمْرَتِي، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ دَعِي عُمْرَتَك وَانْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلّي بِالْحَجّ. قَالَتْ فَفَعَلْتُ. فَلَمّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ وَقَدْ قَضَى اللّهُ حَجّنَا، أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْدَفَنِي، وَخَرَجَ إلَى التّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ فَقَضَى اللّهُ حَجّنَا وَعُمْرَتنَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صَوْمٌ ابْنُ حَزْم عَنْ النّاسِ. وَاَلّذِي عَلَيْهِ الصّحَابَةُ وَالتّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ كَمَا يَلْزَمُ الْمُتَمَتّعَ بَلْ هُوَ مُتَمَتّعٌ حَقِيقَةً فِي لِسَانِ الصّحَابَةِ كَمَا تَقَدّمَ وَأَمّا هَذَا الْحَدِيثُ فَالصّحِيحُ أَنّ هَذَا الْكَلَامَ الْأَخِيرَ مِنْ قَوْلِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، جَاءَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مُصَرّحًا بِهِ فَقَالَ حَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدّثَنَا وَكِيعٌ، حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا... فَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ. وَفِي آخِرِهِ قَالَ عُرْوَةُ فِي ذَلِكَ إنّهُ قَضَى اللّهُ حَجّهَا وَعُمْرَتَهَا. قَالَ هِشَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا صَدَقَةٌ. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ: إنْ كَانَ وَكِيعٌ جَعَلَ هَذَا الْكَلَامَ لِهِشَامٍ، فَابْنُ نُمَيْرٍ، وَعَبَدَةُ أَدْخَلَاهُ فِي كَلَامِ عَائِشَةَ، وَكُلّ مِنْهُمَا ثِقَةٌ فَوَكِيعٌ نَسَبَهُ إلَى هِشَامٍ، لِأَنّهُ سَمِعَ هِشَامًا يَقُولُهُ وَلَيْسَ قَوْلُ هِشَامٍ إيّاهُ بِدَافِعٍ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ قَالَتْهُ فَقَدْ يَرْوِي الْمَرْءُ حَدِيثًا يُسْنِدُهُ ثُمّ يُفْتِي بِهِ دُونَ أَنْ يُسْنِدَهُ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بِمُتَدَافِعٍ وَإِنّمَا يَتَعَلّلُ بِمِثْلِ هَذَا مَنْ لَا يُنْصِفُ وَمَنْ اتّبَعَ هَوَاهُ وَالصّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنّ كُلّ ثِقَةٍ فَمُصَدّقٌ فِيمَا نَقَلَ. فَإِذَا أَضَافَ عَبَدَةُ وَابْنُ نُمَيْرٍ الْقَوْلَ إلَى عَائِشَةَ، صُدّقَا لِعَدَالَتِهِمَا. وَإِذَا أَضَافَهُ وَكِيعٌ إلَى هِشَامٍ، صُدّقَ أَيْضًا لِعَدَالَتِهِ وَكُلّ صَحِيحٌ وَتَكُونُ عَائِشَةُ قَالَتْهُ وَهِشَامٌ قَالَهُ. قُلْت: هَذِهِ الطّرِيقَةُ هِيَ اللّائِقَةُ بِظَاهِرِيّتِهِ وَظَاهِرِيّةِ أَمْثَالِهِ مِمّنْ لَا فِقْهَ لَهُ فِي عِلَلِ الْأَحَادِيثِ كَفِقْهِ الْأَئِمّةِ النّقّادِ أَطِبّاءَ عِلَلِهِ وَأَهْلِ الْعِنَايَةِ بِهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ عَبَدَةَ وَابْنَ نُمَيْرٍ لَمْ يَقُولَا فِي هَذَا الْكَلَامِ قَالَتْ عَائِشَةُ، وَإِنّمَا أَدْرَجَاهُ فِي الْحَدِيثِ إدْرَاجًا، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهِمَا، أَوْ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ أَوْ مِنْ هِشَامٍ، فَجَاءَ وَكِيعٌ، فَفَصّلَ وَمَيّزَ وَمَنْ فَصّلَ وَمَيّزَ فَقَدْ حَفِظَ وَأَتْقَنَ مَا أَطْلَقَهُ غَيْرُهُ نَعَمْ لَوْ قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ وَعَبَدَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ، وَقَالَ وَكِيعٌ: قَالَ هِشَامٌ، لَسَاغَ مَا قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ وَكَانَ مَوْضِعَ نَظَرٍ وَتَرْجِيحٍ. وَأَمّا كَوْنُهُنّ تِسْعًا وَهِيَ بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ فَهَذَا قَدْ جَاءَ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ أَحَدُهَا أَنّهَا بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَهُنّ وَالثّانِي: أَنّهُ ضَحّى عَنْهُنّ يَوْمَئِذٍ بِالْبَقَرَةِ وَالثّالِثُ دَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ فَقِيلَ ذَبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي عَدَدِ مَنْ تُجْزِئُ عَنْهُمْ الْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ فَقِيلَ سَبْعَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقِيلَ عَشَرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ الْمَغَانِمَ فَعَدَلَ الْجَزُورَ بِعَشْرِ شِيَاهٍ وَثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ضَحّى عَنْ نِسَائِهِ وَهُنّ تِسْعٌ بِبَقَرَةٍ وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنّهُمْ نَحَرُوا الْبَدَنَةَ فِي حَجّهِمْ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ عَشَرَةٍ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ وَإِنّمَا أَخْرَجَ قَوْلَهُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُهِلّينَ بِالْحَجّ مَعَنَا النّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ فَلَمّا قَدِمْنَا مَكّةَ، طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلّ سَبْعَةٍ مِنّا فِي بَدَنَةٍ. الْمُسْنَدِ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ: كُنّا مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَ الْأَضْحَى، فَاشْتَرَكْنَا فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةً وَفِي الْجَزُورِ عَشَرَةً وَرَوَاهُ النّسَائِيّ وَالتّرْمِذِيّ، وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْهُ نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَقَالَ حُذَيْفَةُ: شَرّكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّتِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَقَرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُخَرّجُ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ إمّا أَنْ يُقَالَ أَحَادِيثُ السّبْعَةِ أَكْثَرُ وَأَصَحّ، وَإِمّا أَنْ يُقَالَ عَدْلُ الْبَعِيرِ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ تَقْوِيمٌ فِي الْغَنَائِمِ لِأَجْلِ تَعْدِيلِ الْقِسْمَةِ وَأَمّا كَوْنُهُ عَنْ سَبْعَةٍ فِي الْهَدَايَا، فَهُوَ تَقْدِيرٌ شَرْعِيّ، وَإِمّا أَنْ يُقَالَ إنّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ. وَالْأَمْكِنَةِ وَالْإِبِلِ فَفِي بَعْضِهَا كَانَ الْبَعِيرُ يَعْدِلُ عَشْرَ شِيَاهٍ فَجَعَلَهُ عَنْ عَشَرَةٍ وَفِي بَعْضِهَا يَعْدِلُ سَبْعَةً فَجَعَلَهُ عَنْ سَبْعَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ: إنّهُ ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً لِلْهَدْيِ وَضَحّى عَنْهُنّ بِبَقَرَةٍ وَضَحّى عَنْ نَفْسِهِ بِكَبْشَيْنِ وَنَحَرَ عَنْ نَفْسِهِ ثَلَاثًا وَسِتّينَ هَدْيًا، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَهْمِ وَلَمْ تَكُنْ بَقَرَةُ الضّحِيّةِ غَيْرَ بَقَرَةِ الْهَدْيِ بَلْ هِيَ هِيَ وَهَدْيُ الْحَاجّ بِمَنْزِلَةِ ضَحِيّةِ الْآفَاقِيّ.

.فصل مَكّةُ كُلّهَا مَنْحَرٌ وَمِنًى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ:

وَنَحَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَنْحَرِهِ بِمِنًى، وَأَعْلَمَهُمْ أَنّ مِنًى كُلّهَا مَنْحَرٌ وَأَنّ فِجَاجَ مَكّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ النّحْرَ لَا يَخْتَصّ بِمِنًى، بَلْ حَيْثُ نَحَرَ مِنْ فِجَاجِ مَكّةَ أَجْزَأَهُ كَمَا أَنّهُ لَمّا وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَالَ وَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلّهَا مَوْقِف وَوَقَفَ بِمُزْدَلِفَةَ، وَقَالَ وَقَفْتُ هَاهُنَا وَمُزْدَلِفَةُ كُلّهَا مَوْقِفٌ وَسُئِلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُبْنَى لَهُ بِمِنًى بِنَاءٌ يُظِلّهُ مِنْ الْحَرّ فَقَالَ لَا، مِنًى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْه وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، وَأَنّ مَنْ سَبَقَ إلَى مَكَانٍ مِنْهَا، فَهُوَ أَحَقّ بِهِ حَتّى يَرْتَحِلَ عَنْهُ وَلَا يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ.

.فصل الْحَلْقُ وَالتّقْصِيرُ:

فَلَمّا أَكْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْرَهُ اسْتَدْعَى بِالْحَلّاقِ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَقَال لِلْحَلّاقِ- وَهُوَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِالْمُوسَى وَنَظَرَ فِي وَجْهِهِ- وَقَالَ يَا مَعْمَرُ أَمْكَنَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَفِي يَدِكَ الْمُوسَى فَقَالَ مَعْمَرٌ أَمَا وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ ذَلِكَ لَمِنْ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَيّ وَمَنّهِ. قَالَ أَجَلْ إذًا أَقَرّ لَكَ ذَكَرَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحِهِ وَزَعَمُوا أَنّ الّذِي حَلَقَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَوْفٍ انْتَهَى. فَقَالَ لِلْحَلّاقِ خُذْ وَأَشَارَ إلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْهُ قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ ثُمّ أَشَارَ إلَى الْحَلّاقِ فَحَلَقَ جَانِبَهُ الْأَيْسَرَ ثُمّ قَالَ هَاهُنَا أَبُو طَلْحَةَ؟ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ هَكَذَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ: عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ، لِجِوَازِ أَنْ يُصِيبَ أَبَا طَلْحَةَ مِنْ الشّقّ الْأَيْمَنِ مِثْلُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُ وَيَخْتَصّ بِالشّقّ الْأَيْسَرِ لَكِنْ قَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، قَالَ لَمّا رَمَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَلّاقَ شِقّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ ثُمّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيّ، فَأَعْطَاهُ إيّاهُ ثُمّ نَاوَلَهُ الشّقّ الْأَيْسَرَ فَقَالَ احْلِقْ. فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ اقْسِمْهُ بَيْنَ النّاسِ. فَفِي هَذِهِ الرّوَايَةِ كَمَا تَرَى أَنّ نَصِيبَ أَبِي طَلْحَةَ كَانَ الشّقّ الْأَيْمَنَ وَفِي الْأُولَى: أَنّهُ كَانَ الْأَيْسَرَ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيّ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسّانٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَفَعَ إلَى أَبِي طَلْحَةَ شَعْرَ شِقّهِ الْأَيْسَرِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسّانٍ، أَنّهُ دَفَعَ إلَى أَبِي طَلْحَةَ شَعْرَ شِقّهِ الْأَيْمَنِ. قَالَ وَرِوَايَةُ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَرَاهَا تُقَوّي رِوَايَةَ سُفْيَانَ وَاللّهُ أَعْلَمُ. قُلْت: يُرِيدُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيّ، وَجَعْلَ الّذِي سَبَقَ إلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ، هُوَ الشّقّ الّذِي اخْتَصّ بِهِ. وَاللّهُ أَعْلَمُ. وَاَلّذِي يَقْوَى أَنّ نَصِيبَ أَبِي طَلْحَةَ الّذِي اخْتَصّ بِهِ كَانَ الشّقّ الْأَيْسَرَ وَأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّ ثُمّ خَصّ وَهَذِهِ كَانَتْ سُنّتَهُ فِي عَطَائِهِ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الرّوَايَاتِ فَإِنّ فِي بَعْضِهَا أَنّهُ قَالَ لِلْحَلّاقِ خُذْ وَأَشَارَ إلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، فَقَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ ثُمّ أَشَارَ إلَى الْحَلّاقِ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أُمّ سُلَيْمٍ وَلَا يُعَارِضُ هَذَا دَفْعُهُ إلَى أَبِي طَلْحَةَ، فَإِنّهَا امْرَأَتُهُ. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فَبَدَأَ بِالشّقّ الْأَيْمَنِ فَوَزّعَهُ الشّعْرَةَ وَالشّعْرَتَيْنِ بَيْنَ النّاسِ ثُمّ قَالَ بِالْأَيْسَرِ فَصَنَعَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمّ قَالَ هَاهُنَا أَبُو طَلْحَةَ؟ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ ثَالِثٍ دَفَعَ إلَى أَبِي طَلْحَةَ شَعْرَ شِقّ رَأْسِهِ الْأَيْسَرِ ثُمّ قَلّمَ أَظْفَارَهُ وَقَسَمَهَا بَيْنَ النّاسِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ أَنّهُ شَهِدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ الْمَنْحَرِ وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ يَقْسِمُ أَضَاحِيّ فَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ وَلَا صَاحِبَهُ فَحَلَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ فَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ وَقَلّمَ أَظْفَارَهُ فَأَعْطَاهُ صَاحِبَهُ قَالَ فَإِنّهُ عِنْدَنَا مَخْضُوبٌ بِالْحِنّاءِ وَالْكَتَمِ يَعْنِي شَعْرَهُ وَدَعَا لِلْمُحَلّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصّرِينَ مَرّةً وَحَلَقَ كَثِيرٌ مِنْ الصّحَابَةِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ وَقَصّرَ بَعْضُهُمْ وَهَذَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ} [الْفَتْحُ 27] وَمَعَ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا، طَيّبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِإِحْلَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَحِل.

.فصل تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ بِأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَطُفْ غَيْرَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ إفَاضَتِهِ إلَى مَكّةَ:

ثُمّ أَفَاضَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَكّةَ قَبْلَ الظّهْرِ رَاكِبًا، فَطَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ طَوَافُ الزّيَارَةِ وَهُوَ طَوَافُ الصّدَرِ وَلَمْ يَطُفْ غَيْرَهُ وَلَمْ يَسْعَ مَعَهُ هَذَا هُوَ الصّوَابُ وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ طَوَائِفَ طَائِفَةٌ زَعَمَتْ أَنّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ طَوَافًا لِلْقُدُومِ سِوَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ثُمّ طَافَ لِلْإِفَاضَةِ وَطَائِفَةٌ زَعَمَتْ أَنّهُ سَعَى مَعَ هَذَا الطّوَافِ لِكَوْنِهِ كَانَ قَارِنًا، وَطَائِفَةٌ زَعَمَتْ أَنّهُ لَمْ يَطُفْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنّمَا أَخّرَ طَوَافَ الزّيَارَةِ إلَى اللّيْلِ فَنَذْكُرُ الصّوَابَ فِي ذَلِكَ وَنُبَيّنُ مَنْشَأَ الْغَلَطِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ. قَالَ الْأَثْرَمُ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ فَإِذَا رَجَعَ أَعْنِي الْمُتَمَتّعَ كَمْ يَطُوفُ وَيَسْعَى؟ قَالَ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِحَجّهِ وَيَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِلزّيَارَةِ عَاوَدْنَاهُ فِي هَذَا غَيْرَ مَرّةٍ فَثَبَتَ عَلَيْهِ. قَالَ الشّيْخُ أَبُو مُحَمّدٍ الْمَقْدِسِيّ فِي الْمُغْنِي: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ إذَا لَمْ يَكُونَا أَتَيَا مَكّةَ قَبْلَ يَوْمِ النّحْرِ وَلَا طَافَا لِلْقُدُومِ فَإِنّهُمَا يَبْدَآنِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ قَبْلَ طَوَافِ الزّيَارَةِ نَصّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ وَاحْتَجّ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ فَطَافَ الّذِينَ أَهَلّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمّ حَلّوا، ثُمّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ جَمَعُوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا، فَحَمَلَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ قَوْلَ عَائِشَةَ، عَلَى أَنّ طَوَافَهُمْ لِحَجّهِمْ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ، قَالَ وَلِأَنّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنّ طَوَافَ الْقُدُومِ مَشْرُوعٌ فَلَمْ يَكُنْ طَوَافُ الزّيَارَةِ مُسْقِطًا لَهُ كَتَحِيّةِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ دُخُولِهِ قَبْلَ التّلَبّسِ بِالصّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. وَقَالَ الْخِرَقِيّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَمَتّعًا، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَبِالصّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا كَمَا فَعَلَ لِلْعُمْرَةِ ثُمّ يَعُودُ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ {وَلْيَطّوّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الْحَجّ: 29] فَمَنْ قَالَ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ مُتَمَتّعًا كَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ عِنْدَهُمْ هَكَذَا فَعَلَ وَالشّيْخُ أَبُو مُحَمّدٍ عِنْدَهُ أَنّهُ كَانَ مُتَمَتّعًا التّمَتّعَ الْخَاصّ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا، قَالَ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عَلَى هَذَا الطّوَافِ الّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيّ، بَلْ الْمَشْرُوعُ طَوَافٌ وَاحِدٌ لِلزّيَارَةِ كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصّلَاةُ فَإِنّهُ يَكْتَفِي بِهَا عَنْ تَحِيّةِ الْمَسْجِدِ وَلِأَنّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا أَصْحَابِهِ الّذِينَ تَمَتّعُوا مَعَهُ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ وَلَا أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِ أَحَدًا، قَالَ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا، فَإِنّهَا قَالَتْ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجّهِمْ وَهَذَا هُوَ طَوَافُ الزّيَارَةِ وَلَمْ تَذْكُرْ طَوَافًا آخَرَ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الّذِي ذَكَرَتْهُ طَوَافَ الْقُدُومِ، لَكَانَتْ قَدْ أَخَلّتْ بِذِكْرِ طَوَافِ الزّيَارَةِ الّذِي هُوَ رُكْنُ الْحَجّ الّذِي لَا يَتِمّ إلّا بِهِ وَذَكَرَتْ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَعَلَى كُلّ حَالٍ فَمَا ذَكَرَتْ إلّا طَوَافًا وَاحِدًا، فَمِنْ أَيْنَ يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى طَوَافَيْنِ؟ وَأَيْضًا، فَإِنّهَا لَمّا حَاضَتْ فَقَرَنَتْ الْحَجّ إلَى الْعُمْرَةِ بِأَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ لِلْقُدُومِ لَمْ تَطُفْ لِلْقُدُومِ وَلَا أَمَرَهَا بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلِأَنّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ بِالطّوَافِ الْوَاجِبِ لَشُرِعَ فِي حَقّ الْمُعْتَمِرِ طَوَافُ الْقُدُومِ مَعَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ لِأَنّهُ أَوّلُ قُدُومِهِ إلَى الْبَيْتِ، فَهُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْمُتَمَتّعِ الّذِي يَعُودُ إلَى الْبَيْتِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَطَوَافِهِ بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قُلْت: لَمْ يَرْفَعْ كَلَامُ أَبِي مُحَمّدٍ الْإِشْكَالَ وَإِنْ كَانَ الّذِي أَنْكَرَهُ هُوَ الْحَقّ كَمَا أَنْكَرَهُ وَالصّوَابُ فِي إنْكَارِهِ فَإِنّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ إنّ الصّحَابَةَ لَمّا رَجَعُوا مِنْ عَرَفَةَ، طَافُوا لِلْقُدُومِ وَسَعَوْا، ثُمّ طَافُوا لِلْإِفَاضَةِ بَعْدَهُ وَلَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا لَمْ يَقَعْ قَطْعًا، وَلَكِنْ كَانَ مَنْشَأُ الْإِشْكَالِ أَنّ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فَرّقَتْ بَيْنَ الْمُتَمَتّعِ وَالْقَارِنِ فَأَخْبَرَتْ أَنّ الْقَارِنِينَ طَافُوا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى طَوَافًا وَاحِدًا، وَأَنّ الّذِينَ أَهَلّوا بِالْعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجّهِمْ وَهَذَا غَيْرُ طَوَافِ الزّيَارَةِ قَطْعًا، فَإِنّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتّعُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَلَكِنّ الشّيْخَ أَبَا، لَمّا رَأَى قَوْلَهَا فِي الْمُتَمَتّعِينَ إنّهُمْ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، قَالَ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُمْ طَافُوا طَوَافَيْنِ وَاَلّذِي قَالَهُ حَقّ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْفَعْ الْإِشْكَالَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هَذِهِ الزّيَادَةُ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ أَوْ ابْنِهِ هِشَامٍ، أُدْرِجَتْ فِي الْحَدِيثِ وَهَذَا لَا يَتَبَيّنُ وَلَوْ كَانَ فَغَايَتُهُ أَنّهُ مُرْسَلٌ وَلَمْ يَرْتَفِعْ الْإِشْكَالُ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ. فَالصّوَابُ أَنّ الطّوَافَ الّذِي أَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ، وَفَرّقَتْ بِهِ بَيْنَ الْمُتَمَتّعِ وَالْقَارِنِ هُوَ الطّوَافُ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ، لَا الطّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَزَالَ الْإِشْكَالُ جُمْلَةً فَأَخْبَرَتْ عَنْ الْقَارِنِينَ أَنّهُمْ اكْتَفَوْا بِطَوَافٍ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا، لَمْ يُضِيفُوا إلَيْهِ طَوَافًا آخَرَ يَوْمَ النّحْرِ وَهَذَا هُوَ الْحَقّ، وَأَخْبَرَتْ عَنْ الْمُتَمَتّعِينَ أَنّهُمْ طَافُوا بَيْنَهُمَا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ الرّجُوعِ مِنْ مِنًى لِلْحَجّ وَذَلِك الْأَوّلُ كَانَ لِلْعُمْرَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَتَنْزِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِهَا الْآخَرَ وَهُوَ قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسَعُكِ طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ لِحَجّكِ وَعُمْرَتِكِ، وَكَانَتْ قَارِنَةً يُوَافِقُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ لِحَجّكِ وَعُمْرَتِكِ وَكَانَتْ قَارِنَةً يُوَافِقُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ. وَلَكِنْ يَشْكُلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ الّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ لَمْ يَطُفْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ إلّا طَوَافًا وَاحِدًا، طَوَافَهُ الْأَوّلَ. هَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ يَكْفِي الْمُتَمَتّعَ سَعْيٌ وَاحِدٌ كَمَا هُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ نَصّ عَلَيْهَا فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللّهِ وَغَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا، فَيُقَالُ عَائِشَةُ أَثْبَتَتْ وَجَابِرٌ نَفَى، وَالْمُثْبِتُ مُقَدّمٌ عَلَى النّافِي. أَوْ يُقَالُ مُرَادُ جَابِرٍ مَنْ قَرَنَ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَاقَ الْهَدْيَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَطَلْحَةَ وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَذَوِي الْيَسَارِ فَإِنّهُمْ إنّمَا سَعَوْا سَعْيًا وَاحِدًا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ عُمُومَ الصّحَابَةِ أَوْ يُعَلّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ، بِأَنّ تِلْكَ الزّيَادَةَ فِيهِ مُدْرَجَةٌ مِنْ قَوْلِ هِشَامٍ وَهَذِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ لِلنّاسِ فِي حَدِيثِهَا وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.رَدّ الْقَوْلِ بِالطّوَافِ وَالسّعْيِ لِلْقُدُومِ بَعْدَ إحْرَامِ الْمُتَمَتّعِ بِالْحَجّ مِنْ مَكّةَ:

وَأَمّا مَنْ قَالَ الْمُتَمَتّعُ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْقُدُومِ بَعْدَ إحْرَامِهِ بِالْحَجّ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى مِنًى، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ، وَلَا أَدْرِي أَهُوَ مَنْصُوصٌ عَنْهُ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ أَلْبَتّةَ وَلَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَلَا نَقَلَهُ أَحَدٌ، قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ لَا أَرَى لِأَهْلِ مَكّةَ أَنْ يَطُوفُوا، وَلَا أَنْ يَسْعَوْا بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ بَعْدَ إحْرَامِهِمْ بِالْحَجّ حَتّى يَرْجِعُوا مِنْ مِنًى. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ. وَاَلّذِينَ اسْتَحَبّوهُ قَالُوا: لَمّا أَحْرَمَ بِالْحَجّ صَارَ كَالْقَادِمِ فَيَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْقُدُومِ. قَالُوا: وَلِأَنّ الطّوَافَ الْأَوّلَ وَقَعَ عَنْ الْعُمْرَةِ فَيَبْقَى طَوَافُ الْقُدُومِ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَاسْتُحِبّ لَهُ فِعْلُهُ عَقِيبَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجّ وَهَاتَانِ الْحُجّتَانِ وَاهِيَتَانِ فَإِنّهُ إنّمَا كَانَ قَارِنًا لَمّا طَافَ لِلْعُمْرَةِ فَكَانَ طَوَافُهُ لِلْعُمْرَةِ مُغْنِيًا عَنْ طَوَافِ الْقُدُومِ، كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى الصّلَاةَ قَائِمَةً فَدَخَلَ فِيهَا، فَقَامَتْ مَقَامَ تَحِيّةِ الْمَسْجِدِ وَأَغْنَتْهُ عَنْهَا. وَأَيْضًا فَإِنّ الصّحَابَةَ لَمّا أَحْرَمُوا بِالْحَجّ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَطُوفُوا عَقِيبَهُ وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ مُتَمَتّعًا. وَرَوَى مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنّهُ إنْ أَحْرَمَ يَوْمَ التّرْوِيَةِ قَبْلَ الزّوَالِ طَافَ وَسَعَى لِلْقُدُومِ وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ الزّوَالِ لَمْ يَطُفْ وَفَرّقَ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ بِأَنّهُ بَعْدَ الزّوَالِ يَخْرُجُ مِنْ فَوْرِهِ إلَى مِنًى، فَلَا يَشْتَغِلُ عَنْ الْخُرُوجِ ابْنِ عَبّاسٍ وَالْجُمْهُورِ هُوَ الصّحِيحُ الْمُوَافِقُ لِعَمَلِ الصّحَابَةِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.