فصل: شِرَاءُ الصّدّيقِ لِلْعَبِيدِ الْمُعَذّبِينَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.ذِكْرُ الِابْتِلَاءِ فِي أَوّلِ الدّعْوَةِ:

فَلْيَتَأَمّلْ الْعَبْدُ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا تَضَمّنَتْهُ مِنْ الْعِبَرِ وَكُنُوزِ الْحِكَمِ فَإِنّ النّاسَ إذَا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ الرّسُلُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ آمَنّا وَإِمّا أَلّا يَقُولَ ذَلِكَ بَلْ يَسْتَمِرّ عَلَى السّيّئَاتِ وَالْكُفْرِ فَمَنْ قَالَ آمَنّا امْتَحَنَهُ رَبّهُ وَابْتَلَاهُ وَفَتَنَهُ وَالْفِتْنَةُ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ لِيَتَبَيّنَ الصّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ آمَنّا فَلَا يَحْسِبْ أَنّهُ يُعْجِزُ اللّهَ وَيَفُوتُهُ وَيَسْبِقُهُ فَإِنّهُ إنّمَا يَطْوِي الْمَرَاحِلَ فِي يَدَيْهِ. وَكَيْفَ يَفِرّ الْمَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ إذَا كَانَ تُطْوَى فِي يَدَيْهِ الْمَرَاحِلُ فَمَنْ آمَنَ بِالرّسُلِ وَأَطَاعَهُمْ عَادَاهُ أَعْدَاؤُهُمْ وَآذَوْهُ فَابْتُلِيَ بِمَا يُؤْلِمُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يُطِعْهُمْ عُوقِبَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَحَصَلَ لَهُ مَا يُؤْلِمُهُ وَكَانَ هَذَا الْمُؤْلِمُ لَهُ أَعْظَمَ أَلَمًا وَأَدُومَ مِنْ أَلَمِ اتّبَاعِهِمْ فَلَا بُدّ مِنْ حُصُولِ الْأَلَمِ لِكُلّ نَفْسٍ آمَنَتْ أَوْ رَغِبَتْ عَنْ الْإِيمَانِ لَكِنّ الْمُؤْمِنَ يَحْصُلُ لَهُ الْأَلَمُ فِي الدّنْيَا ابْتِدَاءً ثُمّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمُعْرِضُ عَنْ الْإِيمَانِ تَحْصُلُ لَهُ اللّذّةُ ابْتِدَاءً ثُمّ يَصِيرُ إلَى الْأَلَمِ الدّائِمِ. وَسُئِلَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ أَيّمَا أَفْضَلُ لِلرّجُلِ أَنْ يُمَكّنَ أَوْ يُبْتَلَى؟ فَقَالَ لَا يُمَكّنُ حَتّى يُبْتَلَى وَاللّهُ تَعَالَى ابْتَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ فَلَمّا صَبَرُوا مَكّنَهُمْ فَلَا يَظُنّ أَحَدٌ أَنّهُ يَخْلُصُ مِنْ الْأَلَمِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْآلَامِ فِي الْعُقُولِ فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلَمًا مُسْتَمِرّا عَظِيمًا بِأَلَمٍ مُنْقَطِعٍ يَسِيرٍ وَأَشْقَاهُمْ مَنْ بَاعَ الْأَلَمَ الْمُنْقَطِعَ الْيَسِيرَ بِالْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرّ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَخْتَارُ الْعَاقِلُ هَذَا؟ قِيلَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النّقْدُ وَالنّسِيئَةُ. وَالنّفْسُ مُوَكّلَةٌ بِحُبّ الْعَاجِلِ.

.مَنْ أَرْضَى النّاسَ بِسَخَطِ اللّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللّهِ شَيْئًا:

{كَلّا بَلْ تُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [الْقِيَامَةُ 20] {إِنّ هَؤُلَاءِ يُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الدّهْرُ 27] وَهَذَا يَحْصُلُ لِكُلّ أَحَدٍ فَإِنّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيّ بِالطّبْعِ لَابُدّ لَهُ أَنْ يَعِيشَ مَعَ النّاسِ وَالنّاسُ لَهُمْ إرَادَاتٌ وَتَصَوّرَاتٌ فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ آذَوْهُ وَعَذّبُوهُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الْأَذَى وَالْعَذَابُ تَارَةً مِنْهُمْ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَنْ عِنْدَهُ دِينٌ وَتُقًى حَلّ بَيْنَ قَوْمٍ فُجّارٍ ظَلَمَةٍ وَلَا يَتَمَكّنُونَ مِنْ فُجُورِهِمْ وَظُلْمِهِمْ إلّا بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ أَوْ سُكُوتِهِ عَنْهُمْ فَإِنْ وَافَقَهُمْ أَوْ سَكَتَ عَنْهُمْ سَلِمَ مِنْ شَرّهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمّ يَتَسَلّطُونَ عَلَيْهِ بِالْإِهَانَةِ وَالْأَذَى أَضْعَافَ مَا كَانَ يَخَافُهُ ابْتِدَاءً لَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَخَالَفَهُمْ وَإِنْ سَلِمَ مِنْهُمْ فَلَا بُدّ أَنْ يُهَانَ وَيُعَاقَبَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِمْ فَالْحَزْمُ كُلّ الْحَزْمِ فِي الْأَخْذِ بِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ لِمُعَاوِيَةَ: مَنْ أَرْضَى اللّهَ بِسَخَطِ النّاسِ كَفَاهُ اللّهُ مُؤْنَةَ النّاسِ وَمَنْ أَرْضَى النّاسَ بِسَخَطِ اللّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللّهِ شَيْئًا وَمَنْ تَأَمّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ رَأَى هَذَا كَثِيرًا فِيمَنْ يُعِينُ الرّؤَسَاءَ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَفِيمَنْ يُعِينُ أَهْلَ الْبِدَعِ عَلَى بِدَعِهِمْ هَرَبًا مِنْ عُقُوبَتِهِمْ فَمَنْ هَدَاهُ اللّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ وَوَقَاهُ شَرّ نَفْسِهِ امْتَنَعَ مِنْ الْمُوَافَقَةِ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرّمِ وَصَبَرَ عَلَى عِدْوَانِهِمْ ثُمّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا كَانَتْ لِلرّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَصَالِحِي الْوُلَاةِ وَالتّجّارِ وَغَيْرِهِمْ.

.تَعْزِيَةُ اللّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ الْحَيَاةَ الدّنْيَا قَصِيرَةٌ:

وَلَمّا كَانَ الْأَلَمُ لَا مَحِيصَ مِنْهُ الْبَتّةَ عَزّى اللّهُ- سُبْحَانَهُ- مَنْ اخْتَارَ الْأَلَمَ الْيَسِيرَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى الْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرّ بِقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الْعَنْكَبُوتُ 5] فَضَرَبَ لِمُدّةِ هَذَا الْأَلَمِ أَجَلًا لَابُدّ أَنْ يَأْتِيَ وَهُوَ يَوْمُ لِقَائِهِ فَيَلْتَذّ الْعَبْدُ أَعْظَمَ اللّذّةِ بِمَا تَحَمّلَ أَجْلِهِ وَفِي مَرْضَاتِهِ وَتَكُونُ لَذّتُهُ وَسُرُورُهُ وَابْتِهَاجُهُ بِقَدْرِ مَا تَحَمّلَ مِنْ الْأَلَمِ فِي اللّهِ وَلِلّهِ وَأَكّدَ هَذَا الْعَزَاءَ وَالتّسْلِيَةَ بِرَجَاءِ لِقَائِهِ لِيَحْمِلَ الْعَبْدُ اشْتِيَاقَهُ إلَى لِقَاءِ رَبّهِ وَوَلِيّهِ عَلَى تَحَمّلِ مَشَقّةِ الْأَلَمِ الْعَاجِلِ بَلْ رُبّمَا غَيّبَهُ الشّوْقُ إلَى لِقَائِهِ عَنْ شُهُودِ الْأَلَمِ وَالْإِحْسَاسِ بِهِ وَلِهَذَا سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَبّهُ الشّوْقَ إلَى لِقَائِهِ فَقَالَ فِي الدّعَاءِ الّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبّانَ: اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي إذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقّ فِي الْغَضَبِ وَالرّضَى وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُكَ قُرّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُكَ لَذّةَ النّظَرِ إلَى وَجْهِك وَأَسْأَلُكَ الشّوْقَ إلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرّاءَ مُضِرّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلّةٍ اللّهُمّ زَيّنّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ فَالشّوْقُ يَحْمِلُ الْمُشْتَاقَ عَلَى الْجِدّ فِي السّيْرِ إلَى مَحْبُوبِهِ وَيُقَرّبُ عَلَيْهِ الطّرِيقَ وَيَطْوِي لَهُ الْبَعِيدَ وَيُهَوّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ وَالْمَشَاقّ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللّهُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ وَلَكِنْ لِهَذِهِ النّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ هُمَا السّبَبُ الّذِي تُنَالُ بِهِ وَاللّهُ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ لِتِلْكَ الْأَقْوَالِ عَلِيمٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذِهِ النّعْمَةِ وَيَشْكُرُهَا وَيَعْرِفُ قَدْرَهَا وَيُحِبّ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} [الْأَنْعَامُ 53] فَإِذَا فَاتَتْ الْعَبْدَ نَعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ رَبّهِ فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ: {أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ}

.{مَنْ جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}:

ثُمّ عَزّاهُمْ تَعَالَى بِعَزَاءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنّ جِهَادَهُمْ فِيهِ إنّمَا هُوَ لِأَنْفُسِهِمْ وَثَمَرَتُهُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَأَنّهُ غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَمَصْلَحَةُ هَذَا الْجِهَادِ تَرْجِعُ إلَيْهِمْ لَا إلَيْهِ سُبْحَانَهُ ثُمّ أَخْبَرَ أَنّهُ يُدْخِلُهُمْ بِجِهَادِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ فِي زُمْرَةِ الصّالِحِينَ.

.مَعْنَى فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ:

ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الدّاخِلِ فِي الْإِيمَانِ بِلَا بَصِيرَةٍ وَأَنّهُ إذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ لَهُ كَعَذَابِ اللّهِ وَهِيَ أَذَاهُمْ لَهُ وَنَيْلُهُمْ إيّاهُ بِالْمَكْرُوهِ وَالْأَلَمِ الّذِي لَابُدّ أَنْ يَنَالَهُ الرّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِمّنْ خَالَفَهُمْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي فِرَارِهِ مِنْهُمْ وَتَرْكِهِ السّبَبَ الّذِي نَالَهُ كَعَذَابِ اللّهِ الّذِي فَرّ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْإِيمَانِ فَالْمُؤْمِنُونَ لِكَمَالِ بَصِيرَتِهِمْ فَرّوا مِنْ أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ إلَى الْإِيمَانِ وَتَحَمّلُوا مَا فِيهِ مِنْ الْأَلَمِ الزّائِلِ الْمُفَارِقِ عَنْ قَرِيبٍ وَهَذَا لِضَعْفِ بَصِيرَتِهِ فَرّ مِنْ أَلَمِ عَذَابِ أَعْدَاءِ الرّسُلِ إلَى مُوَافَقَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ فَفَرّ مِنْ أَلَمِ عَذَابِهِمْ إلَى أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ فَجَعَلَ أَلَمَ فِتْنَةِ النّاسِ فِي الْفِرَارِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ وَغُبِنَ كُلّ الْغَبْنِ إذْ اسْتَجَارَ مِنْ الرّمْضَاءِ بِالنّارِ وَفَرّ مِنْ أَلَمِ سَاعَةٍ إلَى أَلَمِ الْأَبَدِ وَإِذَا نَصَرَ اللّهُ جُنْدَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ قَالَ إنّي كُنْتُ مَعَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ صَدْرُهُ مِنْ النّفَاقِ. وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنّهُ لَابُدّ أَنْ يَمْتَحِنَ النّفُوسَ وَيَبْتَلِيَهَا فَيُظْهِرُ بِالِامْتِحَانِ طَيّبَهَا مِنْ خَبِيثِهَا وَمَنْ يَصْلُحُ لِمُوَالَاتِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ وَلْيُمَحّصْ النّفُوسَ الّتِي تَصْلُحُ لَهُ وَيُخَلّصُهَا بِكِيرِ الِامْتِحَانِ كَالذّهَبِ الّذِي لَا يَخْلُصُ وَلَا يَصْفُو مِنْ غِشّهِ إلّا بِالِامْتِحَانِ إذْ النّفْسُ فِي الْأَصْلِ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ وَقَدْ حَصَلَ لَهَا بِالْجَهْلِ وَالظّلْمِ مِنْ الْخُبْثِ مَا يَحْتَاجُ خُرُوجُهُ إلَى السّبْكِ وَالتّصْفِيَةِ فَإِنْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الدّارِ وَإِلّا فَفِي كِيرِ جَهَنّمَ فَإِذَا هُذّبَ الْعَبْدُ وَنُقّيَ أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنّةِ.

.فصل ذِكْرُ السّابِقِينَ إلَى الْإِسْلَامِ:

.أبوبكر الصديق:

وَلَمّا دَعَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ اسْتَجَابَ لَهُ عِبَادُ اللّهِ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَكَانَ حَائِزَ قَصَبِ سَبْقِهِمْ صِدّيقُ الْأُمّةِ وَأَسْبَقَهَا إلَى الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَآزَرَهُ فِي دِينِ اللّهِ وَدَعَا مَعَهُ إلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَاسْتَجَابَ لِأَبِي بَكْرٍ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ.

.خديجة الكبرى:

وَبَادَرَ إلَى الِاسْتِجَابَةِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صِدّيقَةُ النّسَاءِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَقَامَتْ بِأَعْبَاءِ الصّدّيقِيّةِ وَقَالَ لَهَا: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ لَهُ أَبْشِرْ فَوَاَللّهِ لَا يُخْزِيكَ اللّهُ أَبَدًا ثُمّ اسْتَدَلّتْ بِمَا فِيهِ مِنْ الصّفَاتِ الْفَاضِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالشّيَمِ عَلَى أَنّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يُخْزَى أَبَدًا فَعَلِمَتْ بِكَمَالِ عَقْلِهَا وَفِطْرَتِهَا أَنّ الْأَعْمَالَ الصّالِحَةَ وَالْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ وَالشّيَمَ الشّرِيفَةَ تُنَاسِبُ أَشْكَالَهَا مِنْ كَرَامَةِ اللّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَإِحْسَانِهِ وَلَا تُنَاسِبُ الْخِزْيَ وَالْخِذْلَانَ وَإِنّمَا يُنَاسِبُهُ أَضْدَادُهَا فَمَنْ رَكّبَهُ اللّهُ عَلَى أَحْسَنِ الصّفَاتِ وَأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ إنّمَا يَلِيقُ بِهِ كَرَامَتُهُ وَإِتْمَامُ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَمَنْ رَكّبَهُ عَلَى أَقْبَحِ الصّفَاتِ وَأَسْوَإِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ إنّمَا يَلِيقُ بِهِ مَا يُنَاسِبُهَا وَبِهَذَا الْعَقْلِ وَالصّدّيقِيّة اسْتَحَقّتْ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهَا رَبّهَا بِالسّلَامِ مِنْهُ مَعَ رَسُولَيْهِ جِبْرِيلَ وَمُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.

.فصل من السابقين إلى الإسلام علي وزيد:

وَبَادَرَ إلَى الْإِسْلَامِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَ وَقِيلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ فِي كَفَالَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَهُ مِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ إعَانَةً لَهُ فِي سَنَةِ مَحْلٍ. وَبَادَرَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حِبّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ غُلَامًا لِخَدِيجَةَ فَوَهَبَتْهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا تَزَوّجَهَا وَقَدِمَ أَبُوهُ وَعَمّهُ فِي فِدَائِهِ فَسَأَلَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقِيلَ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَقَالَا: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ يَا ابْنَ هَاشِمٍ يَا ابْنَ سَيّدِ قَوْمِهِ أَنْتُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللّه وَجِيرَانِهِ تَفُكّونَ الْعَانِيَ وَتُطْعِمُونَ الْأَسِيرَ جِئْنَاكَ فِي ابْنِنَا عِنْدَك فَامْنُنْ عَلَيْنَا وَأَحْسِنْ إلَيْنَا فِي فِدَائِهِ قَالَ وَمَنْ هُوَ؟ قَالُوا: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَلّا غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ أَدْعُوهُ فَأُخَيّرُهُ فَإِنْ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ وَإِنْ اخْتَارَنِي فَوَاَللّهِ مَا أَنَا بِاَلّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنْ اخْتَارَنِي أَحَدًا قَالَا: قَدْ رَدَدْتَنَا عَلَى النّصَفِ وَأَحْسَنْت فَدَعَاهُ فَقَالَ هَلْ تَعْرِفُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا أَبِي وَهَذَا عَمّي قَالَ فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ وَرَأَيْت وَعَرَفْتَ صُحْبَتِي لَك فَاخْتَرْنِي أَوْ اخْتَرْهُمَا قَالَ مَا أَنَا بِاَلّذِي أَخْتَارُ عَلَيْك أَحَدًا أَبَدًا أَنْتَ مِنّي مَكَانُ الْأَبِ وَالْعَمّ فَقَالَا: وَيْحُكَ يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيّةَ عَلَى الْحُرّيّةِ وَعَلَى أَبِيك وَعَمّك وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِك؟ قَالَ نَعَمْ قَدْ رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرّجُلِ شَيْئًا مَا أَنَا بِاَلّذِي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا أَبَدًا فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ إلَى الْحِجْرِ فَقَالَ أُشْهِدُكُمْ أَنّ زَيْدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ أَبُوهُ وَعَمّهُ طَابَتْ نَفُوسُهُمَا فَانْصَرَفَا وَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ مُحَمّدٍ حَتّى جَاءَ اللّهُ بِالْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الْأَحْزَابُ 5] زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ. قَالَ مَعْمَرٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ الزّهْرِيّ: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَسْلَمَ قَبْلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَهُوَ الّذِي أَخْبَرَ اللّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ أَنّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ رَسُولُهُ وَسَمّاهُ بِاسْمِهِ.

.وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:

وَأَسْلَمَ الْقَسّ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَتَمَنّى أَنْ يَكُونَ جَذَعًا إذْ يُخْرِجُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمُهُ وَفِي جَامِعِ التّرْمِذِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ رَآهُ فِي ثِيَابِ بَيَاضٍ. وَدَخَلَ النّاسُ فِي الدّينِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَقُرَيْشٌ لَا تُنْكِرُ ذَلِكَ حَتّى بَادَأَهُمْ بِعَيْبِ دِينِهِمْ وَسَبّ آلِهَتَهُمْ وَأَنّهَا لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَعُ فَحِينَئِذٍ شَمّرُوا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ عَنْ سَاقِ الْعَدَاوَةِ فَحَمَى اللّهُ رَسُولَهُ بِعَمّهِ أَبِي طَالِبٍ لِأَنّهُ كَانَ شَرِيفًا مُعَظّمًا فِي قُرَيْشٍ مُطَاعًا فِي أَهْلِهِ وَأَهْلُ مَكّةَ لَا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَذَى. وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ بَقَاؤُهُ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الّتِي تَبْدُو لِمَنْ تَأَمّلَهَا. وَأَمّا أَصْحَابُهُ فَمَنْ كَانَ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ امْتَنَعَ بِعَشِيرَتِهِ وَسَائِرُهُمْ تَصَدّوْا لَهُ بِالْأَذَى وَالْعَذَابِ مِنْهُمْ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَأُمّهُ سُمَيّةُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ عُذّبُوا فِي اللّهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا مَرّ بِهِمْ وَهُمْ يُعَذّبُونَ يَقُولُ صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ فَإِنّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنّةُ وَمِنْهُمْ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ فَإِنّهُ عُذّبَ فِي اللّهِ أَشَدّ الْعَذَابِ فَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللّهِ وَكَانَ كُلّمَا اشْتَدّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ فَيَمُرّ بِهِ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ. فَيَقُولُ إي وَاَللّهِ يَا بِلَالُ أَحَدٌ أَحَدٌ أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَأَتّخِذَنّهُ حَنَانًا.
فَصْلٌ:
وَلَمّا اشْتَدّ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَفُتِنَ مِنْهُمْ مَنْ فُتِنَ حَتّى يَقُولُوا لِأَحَدِهِمْ اللّاتُ وَالْعُزّى إلَهُكَ مِنْ دُونِ اللّهِ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ وَحَتّى إنّ الْجُعَلَ لَيَمُرّ بِهِمْ فَيَقُولُونَ وَهَذَا إلَهُكَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَقُولُ نَعَمْ وَمَرّ عَدُوّ اللّهِ أَبُو جَهْلٍ بِسُمَيّةَ أُمّ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَهِيَ تُعَذّبُ وَزَوْجُهَا وَابْنُهَا فَطَعَنَهَا بِحَرْبَةٍ فِي فَرْجِهَا حَتّى قَتَلَهَا.

.شِرَاءُ الصّدّيقِ لِلْعَبِيدِ الْمُعَذّبِينَ:

كَان الصّدّيقُ إذَا مَرّ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَبِيدِ يُعَذّبُ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ وَأَعْتَقَهُ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَأُمّ عُبَيْسٍ وزنيرة وَالنّهْدِيّة وَابْنَتُهَا وَجَارِيَةٌ لِبَنِي عَدِيّ كَانَ عُمَرُ يُعَذّبُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ إسْلَامِهِ وَقَالَ لَهُ أَبُوهُ يَا بُنَيّ أَرَاك تَعْتِقُ رِقَابًا ضِعَافًا فَلَوْ أَنّك إذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أَعْتَقْتَ قَوْمًا جِلْدًا يَمْنَعُونَك فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إنّي أُرِيدُ مَا أُرِيدُ.

.الْهِجْرَةُ الْأُولَى إلَى الْحَبَشَةِ:

.هَلْ قَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَكّةَ مِنْ الْهِجْرَةِ الْأُولَى إلَى الْحَبَشَةِ:

فَلَمّا اشْتَدّ الْبَلَاءُ أَذِنَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ الْأُولَى إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ أَوّلَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ رُقَيّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَهْلُ هَذِهِ الْهِجْرَةِ الْأُولَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ عُثْمَانُ وَامْرَأَتُه وَأَبُو حُذَيْفَةَ وَامْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ وَأَبُو سَلَمَةَ وَامْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ هِنْدُ بِنْت أَبِي أُمّيّةَ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَامْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرٍو وَسُهَيْلُ بْنُ وَهْبٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَخَرَجُوا مُتَسَلّلِينَ سِرّا فَوَفّقَ اللّهُ لَهُمْ سَاعَةَ وُصُولِهِمْ إلَى السّاحِلِ سَفِينَتَيْنِ لِلتّجّارِ فَحَمَلُوهُمْ فِيهِمَا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ مَخْرَجُهُمْ فِي رَجَبٍ فِي السّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ الْمَبْعَثِ وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي آثَارِهِمْ حَتّى جَاءُوا الْبَحْرَ فَلَمْ يُدْرِكُوا مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمّ بَلَغَهُمْ أَنّ قُرَيْشًا قَدْ كَفّوا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَجَعُوا فَلَمّا كَانُوا دُونَ مَكّةَ بِسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ بَلَغَهُمْ أَنّ قُرَيْشًا أَشَدّ مَا كَانُوا عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَخَلَ مَنْ دَخَلَ بِجِوَارٍ وَفِي تِلْكَ الْمَرّةِ دَخَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَسَلّمَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ فِي الصّلَاةِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حَتّى قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؟ إنّ اللّهَ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا تَكَلّمُوا فِي الصّلَاةِ هَذَا هُوَ الصّوَابُ وَزَعَمَ ابْنُ سَعْدٍ وَجَمَاعَةٌ أَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَدْخُلْ وَأَنّهُ رَجَعَ إلَى الْحَبَشَةِ الثّانِيَةِ إلَى الْمَدِينَةِ مَعَ مَنْ قَدِمَ وَرَدّ هَذَا بِأَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا وَأَجْهَزَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْهِجْرَةِ إنّمَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ بَعْدَ بَدْرٍ بِأَرْبَعِ سِنِينَ أَوْ خَمْسٍ. قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ بَلْ هَذَا الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ يُوَافِقُ قَوْلَ زَيْدِ بْن أَرْقَمَ: كُنّا نَتَكَلّمُ فِي الصّلَاةِ يُكَلّمُ الرّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ فِي الصّلَاةِ حَتّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ} [الْبَقَرَةُ 238] فَأُمِرْنَا بِالسّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالسّورَةُ مَدَنِيّةٌ وَحِينَئِذٍ فَابْنُ مَسْعُودٍ سَلّمَ عَلَيْهِ لَمّا قَدِمَ وَهُوَ فِي الصّلَاةِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ حَتّى سَلّمَ وَأَعْلَمَهُ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فَاتّفَقَ حَدِيثُهُ وَحَدِيثُ ابْنِ أَرْقَمَ. قِيلَ يُبْطِلُ هَذَا شُهُودُ ابْنِ مَسْعُودٍ بَدْرًا وَأَهْلُ الْهِجْرَةِ الثّانِيَةِ إنّمَا قَدِمُوا عَامَ خَيْبَرَ مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ وَلَوْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِمّنْ قَدِمَ قَبْلَ بَدْرٍ لَكَانَ لِقُدُومِهِ ذِكْرٌ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ قُدُومَ مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ إلّا فِي الْقَدْمَةِ الْأَوْلَى بِمَكّةَ وَالثّانِيَةُ عَامَ خَيْبَرَ مَعَ جَعْفَرٍ فَمَتَى قَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْمَرّتَيْنِ وَمَعَ مَنْ؟ وَبِنَحْوِ قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ قَالَ وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِينَ خَرَجُوا إلَى الْحَبَشَةِ إسْلَامُ أَهْلِ مَكّةَ فَأَقْبَلُوا لَمّا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ مَكّةَ بَلَغَهُمْ أَنّ إسْلَامَ أَهْلِ مَكّةَ كَانَ بَاطِلًا فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِجِوَارٍ أَوْ مُسْتَخْفِيًا. فَكَانَ مِمّنْ قَدِمَ مِنْهُمْ فَأَقَامَ بِهَا حَتّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ فَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا فَذَكَرَ مِنْهُمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ؟ قِيلَ قَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النّهْيُ عَنْهُ قَدْ ثَبَتَ بِمَكّةَ ثُمّ أُذِنَ فِيهِ بِالْمَدِينَةِ ثُمّ نُهِيَ عَنْهُ.
وَالثّانِي: أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ كَانَ مِنْ صِغَارِ الصّحَابَةِ وَكَانَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ يَتَكَلّمُونَ فِي الصّلَاةِ عَلَى عَادَتِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ النّهْيُ فَلَمّا بَلَغَهُمْ انْتَهَوْا وَزَيْدٌ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كُلّهِمْ بِأَنّهُمْ كَانُوا يَتَكَلّمُونَ فِي الصّلَاةِ إلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ قُدّرَ أَنّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لَكَانَ وَهْمًا مِنْهُ.