فصل: ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْعِ الْحَصَاةِ وَالْغَرَرِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْعِ الْحَصَاةِ وَالْغَرَرِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ:

فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ زَادَ مُسْلِمٌ أَمّا الْمُلَامَسَةُ فَأْنَ يَلْمِسَ كُلّ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمّلٍ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ الْآخَرِ. وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَلُبْسَتَيْنِ نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ.
وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الرّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللّيْلِ أَوْ بِالنّهَارِ وَلَا يَقْلِبُهُ إلّا بِذَلِكَ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرّجُلُ إلَى الرّجُلِ ثَوْبَهُ وَيَنْبِذُ الْآخَرُ ثَوْبَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا تَرَاضٍ.

.بَيْعُ الْحَصَاةِ:

أَمّا بَيْعُ الْحَصَاةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى نَوْعِهِ كَبَيْعِ الْخِيَارِ وَبَيْعِ النّسِيئَةِ وَنَحْوِهِمَا وَلَيْسَ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدّمِ. الْحَصَاةِ بِأَنْ يَقُولَ ارْمِ هَذِهِ الْحَصَاةَ فَعَلَى أَيّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ لَك بِدِرْهَمِ وَفُسّرَ بِأَنّ بَيْعَهُ مِنْ أَرْضِهِ قَدْرَ مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ رَمْيَةُ الْحَصَاةِ وَفُسّرَ بِأَنْ يَقْبِضَ عَلَى كَفّ مِنْ حَصَا وَيَقُولُ لِي بِعَدَدِ مَا خَرَجَ فِي الْقَبْضَةِ مِنْ الشّيْءِ الْمَبِيعِ أَوْ يَبِيعُهُ سِلْعَةً وَيَقْبِضُ عَلَى كَفّ مِنْ الْحَصَا وَيَقُولُ لِي بِكُلّ حَصَاةٍ دِرْهَمٌ وَفُسّرَ بِأَنْ يُمْسِكَ أَحَدُهُمَا حَصَاةً فِي يَدِهِ وَيَقُولُ أَيّ وَقْتٍ سَقَطَتْ الْحَصَاةُ وَجَبَ الْبَيْعُ وَفُسّرَ بِأَنْ يَتَبَايَعَا وَيَقُولَ أَحَدُهُمَا: إذَا نَبَذْت إلَيْك الْحَصَاةَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَفُسّرَ بِأَنْ يَعْتَرِضَ الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ فَيَأْخُذُ حَصَاةً وَيَقُولُ أَيّ شَاةٍ أَصَبْتهَا فَهِيَ لَك بِكَذَا وَهَذِهِ الصّوَرُ كُلّهَا فَاسِدَةٌ لِمَا تَتَضَمّنُهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمِنْ الْغَرَرِ وَالْخَطَرِ الّذِي هُوَ شَبِيهٌ بِالْقِمَارِ.

.فصل بَيْعُ الْغَرَرِ:

وَأَمّا بَيْعُ الْغَرَرِ فَمِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَالْغَرَرِ هُوَ الْمَبِيعُ نَفْسُهُ وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَغْرُورٌ بِهِ كَالْقَبْضِ وَالسّلْبِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ وَالْمَسْلُوبِ وَهَذَا كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ الّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَالْفَرَسِ الشّارِدِ وَالطّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَكَبَيْعِ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ وَمَا تَحْمِلُ شَجَرَتُهُ أَوْ نَاقَتُهُ أَوْ مَا يَرْضَى لَهُ بِهِ زَيْدٌ أَوْ يَهَبُهُ لَهُ أَوْ يُورِثُهُ إيّاهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا لَا يَعْلَمُ حُصُولُهُ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ أَوْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَمِقْدَارَهُ وَمِنْهُ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْهُ وَهُوَ نِتَاجُ النّتَاجِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَالثّانِي: أَنّهُ أَجَلٌ فَكَانُوا يَتَبَايَعُونَ إلَيْهِ هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكِلَاهُمَا غَرَرٌ وَالثّالِثُ أَنّهُ بَيْعُ حَمْلِ الْكَرَمِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَالَهُ الْمُبَرّدُ. قَالَ وَالْحَبَلَةُ الْكَرَمُ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَأَمّا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّه عَنْهُ فَإِنّهُ فَسّرَهُ بِأَنّهُ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ إلَيْهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ وَأَمّا أَبُو عُبَيْدَةَ فَفَسّرَهُ بِبَيْعِ نِتَاجِ النّتَاجِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَمِنْهُ بَيْعُ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْمَلَاقِيحُ مَا فِي الْبُطُونِ مِنْ الْأَجِنّةِ وَالْمَضَامِينُ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ وَكَانُوا يَبِيعُونَ الْجَنِينَ فِي بَطْنِ النّاقَةِ وَمَا يَضْرِبُهُ الْفَحْلُ فِي عَامٍ أَوْ أَعْوَامٍ وَأُنْشِدَ:
إنّ الْمَضَامِينَ الّتِي فِي الصّلْب ** مَاءُ الْفُحُولِ فِي الظّهُورِ الْحُدْب

وَمِنْهُ بَيْعُ الْمَجْرِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ الْمَجْرُ مَا فِي بَطْنِ النّاقَةِ وَالْمَجْرُ الرّبَا وَالْمَجْرُ الْقِمَارُ وَالْمَجْرُ الْمُحَاقَلَةُ وَالْمُزَابَنَةُ.

.بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ:

وَمِنْهُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُهُمَا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ أَمّا الْمُلَامَسَةُ فَأَنْ يَلْمِسَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمّلٍ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ نَهَانَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَلُبْسَتَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الرّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللّيْلِ أَوْ بِالنّهَارِ وَلَا يَقْلِبُهُ إلّا بِذَلِكَ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرّجُلُ إلَى الرّجُلِ ثَوْبَهُ وَيَنْبِذَ الْآخَرُ إلَيْهِ ثَوْبَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا تَرَاضٍ الْمُلَامَسَةُ بِأَنْ يَقُولَ بِعْتُك ثَوْبِي هَذَا عَلَى أَنّك مَتَى لَمَسْته فَهُوَ عَلَيْك بِكَذَا وَالْمُنَابَذَةُ بِأَنْ يَقُولَ أَيّ ثَوْبٍ نَبَذْته إلَيّ فَهُوَ عَلَيّ بِكَذَا وَهَذَا أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ وَالْغَرَرُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ الْعِلّةُ تَعْلِيقَ الْبَيْعِ شَرْطٌ بَلْ مَا تَضَمّنَهُ مِنْ الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ.

.فصل بَيْعُ الْمُغَيّبَاتِ:

وَلَيْسَ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ بَيْعُ الْمُغَيّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَاللّفْتِ وَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَالْقُلْقَاسِ وَالْبَصَلِ وَنَحْوِهَا فَإِنّهَا مَعْلُومَةٌ بِالْعَادَةِ يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهَا وَظَاهِرُهَا عُنْوَانُ بَاطِنِهَا فَهُوَ كَظَاهِرِ الصّبْرَةِ مَعَ بَاطِنِهَا وَلَوْ قُدّرَ أَنّ فِي ذَلِكَ غَرَرًا فَهُوَ غَرَرٌ يَسِيرٌ يُغْتَفَرُ فِي جَنْبِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامّةِ الّتِي لَابُدّ لِلنّاسِ مِنْهَا فَإِنّ ذَلِكَ غَرَرٌ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمَنْعِ فَإِنّ إجَارَةَ الْحَيَوَانِ وَالدّارِ وَالْحَانُوتِ مُسَانَاةٌ لَا تَخْلُو عَنْ غَرَرٍ لِأَنّهُ يَعْرِضُ فِيهِ مَوْتُ الْحَيَوَانِ وَانْهِدَامُ الدّارِ وَكَذَا دُخُولُ الْحَمّامِ وَكَذَا الشّرْبُ مِنْ فَمِ السّقَاءِ فَإِنّهُ غَيْرُ مُقَدّرٍ مَعَ اخْتِلَافِ النّاسِ فِي قَدْرِهِ وَكَذَا بُيُوعُ السّلَمِ وَكَذَا بَيْعُ الصّبْرَةِ الْعَظِيمَةِ الّتِي لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا وَكَذَا بَيْعُ الْبَيْضِ وَالرّمّانِ وَالْبِطّيخِ وَالْجَوْزِ وَاللّوْزِ وَالْفُسْتُقِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمّا لَا يَخْلُو مِنْ الْغَرَرِ فَلَيْسَ كُلّ غَرَرٍ سَبَبًا لِلتّحْرِيمِ وَالْغَرَرُ إذَا كَانَ يَسِيرًا أَوْ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ صِحّةِ الْعَقْدِ فَإِنّ الْغَرَرَ الْحَاصِلَ فِي أَسَاسَاتِ الْجُدَرَانِ وَدَاخِلِ بُطُونِ الْحَيَوَانِ أَوْ آخِرِ الثّمَارِ الّتِي بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَالْغَرَرُ الّذِي فِي دُخُولِ الْحَمّامِ وَالشّرْبِ مِنْ السّقَاءِ وَنَحْوِهِ غَرَرٌ يَسِيرٌ فَهَذَانِ النّوْعَانِ لَا يَمْنَعَانِ الْبَيْعَ بِخِلَافِ الْغَرَرِ الْكَثِيرِ الّذِي يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَهُوَ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا كَانَ مُسَاوِيًا لَهَا لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ صِحّةِ الْعَقْدِ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَبَيْعُ الْمُغَيّبَاتِ فِي الْأَرْضِ انْتَفَى عَنْهُ الْأَمْرَانِ فَإِنّ غَرَرَهُ يَسِيرٌ وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَإِنّ الْحُقُولَ الْكِبَارَ لَا يُمْكِنُ بَيْعُ مَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ إلّا وَهُوَ فِي الْأَرْضِ فَلَوْ شُرِطَ لِبَيْعِهِ إخْرَاجُهُ دَفْعَةً وَاحِدَةٌ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقّةِ وَفَسَادِ الْأَمْوَالِ مَا لَا يَأْتِي بِهِ شَرْعٌ وَإِنْ مَنَعَ بَيْعَهُ إلّا شَيْئًا فَشَيْئًا كُلّمَا أَخْرَجَ شَيْئًا بَاعَهُ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقّةِ وَتَعْطِيلِ مَصَالِحِ أَرْبَابِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ وَمَصَالِحِ الْمُشْتَرِي مَا لَا يَخْفَى وَذَلِكَ مِمّا لَا يُوجِبُهُ الشّارِعُ وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ النّاسِ بِذَلِكَ الْبَتّةَ حَتّى إنّ الّذِينَ يَمْنَعُونَ مِنْ بَيْعِهَا فِي الْأَرْضِ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَرَاجٌ كَذَلِكَ أَوْ كَانَ نَاظِرًا عَلَيْهِ لَمْ يَجِدْ بُدّا مِنْ بَيْعِهِ فِي الْأَرْضِ اضْطِرَارًا إلَى ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْغَرَرِ الّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا نَظِيرًا لِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْبُيُوعِ.

.فصل بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَتِهِ:

وَلَيْسَ مِنْهُ بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَتِهِ بَلْ هُوَ نَظِيرُ مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ كَالْجَوْزِ وَاللّوْزِ وَالْفُسْتُقِ وَجَوْزِ الْهِنْدِ فَإِنّ فَأْرَتَهُ وِعَاءٌ لَهُ تَصُونُهُ مِنْ الْآفَاتِ وَتَحْفَظُ عَلَيْهِ رُطُوبَته وَرَائِحَتَهُ وَبَقَاؤُهُ فِيهَا أَقْرَبُ إلَى صِيَانَتِهِ مِنْ الْغِشّ وَالتّغَيّرِ وَالْمِسْكُ الّذِي فِي الْفَأْرَةِ عِنْدَ النّاسِ خَيْرٌ مِنْ الْمَنْفُوضِ وَجَرَتْ عَادَةُ التّجّارِ بِبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ فِيهَا وَيَعْرِفُونَ قَدْرَهُ وَجِنْسَهُ مَعْرِفَةً لَا تَكَادُ تَخْتَلِف فَلَيْسَ مِنْ الْغَرَرِ فِي شَيْءٍ فَإِنّ الْغَرَرَ هُوَ مَا تَرَدّدَ بَيْنَ الْحُصُولِ وَالْفَوَاتِ وَعَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى: هُوَ مَا طُوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ وَجُهِلَتْ عَيْنُهُ وَأَمّا هَذَا وَنَحْوُهُ فَلَا يُسَمّى غَرَرًا لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا وَمَنْ حَرّمَ بَيْعَ شَيْءٍ وَادّعَى أَنّهُ غَرَرٌ طُولِبَ بِدُخُولِهِ فِي مُسَمّى الْغَرَرِ لُغَةً وَشَرْعًا وَجَوَازُ بَيْعِ الْمِسْكِ فِي الْفَأْرَةِ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشّافِعِيّ وَهُوَ الرّاجِحُ دَلِيلًا وَاَلّذِينَ مَنَعُوهُ جَعَلُوهُ مِثْلَ بَيْعِ النّوَى فِي التّمْرِ وَالْبَيْضِ فِي الدّجَاجِ وَاللّبَنِ فِي الضّرْعِ وَالسّمْنِ فِي الْوِعَاءُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ النّوْعَيْنِ ظَاهِرٌ. أَشْبَهُ بِهَذَا مِنْهُ بِالْأَوّلِ فَلَا هُوَ مِمّا نَهَى عَنْهُ الشّارِعُ وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَمْ يَشْمَلْهُ نَهْيُهُ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى.

.بَيْعُ السّمْنِ فِي الْوِعَاءِ:

وَأَمّا بَيْعُ السّمْنِ فِي الْوِعَاءِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فَإِنّهُ إنْ فَتَحَهُ وَرَأَى رَأْسَهُ بِحَيْثُ يَدُلّهُ عَلَى جِنْسِهِ وَوَصْفِهِ جَازَ بَيْعُهُ فِي السّقَاءِ لَكِنّهُ يَصِيرُ كَبَيْعِ الصّبْرَةِ الّتِي شَاهَدَ ظَاهِرَهَا وَإِنْ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِأَنّهُ غَرَرٌ فَإِنّهُ يَخْتَلِفُ جِنْسًا وَنَوْعًا وَوَصْفًا وَلَيْسَ مَخْلُوقًا فِي وِعَائِهِ كَالْبَيْضِ وَالْجَوْزِ وَاللّوْزِ وَالْمِسْكِ فِي أَوْعِيَتِهَا فَلَا يَصِحّ إلْحَاقُهُ بِهَا.

.بَيْعُ اللّبَنِ فِي الضّرْعِ:

وَأَمّا بَيْعُ اللّبَنِ فِي الضّرْعِ فَمَنَعَهُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَاَلّذِي يَجِبُ فِيهِ التّفْصِيلُ فَإِنْ بَاعَ الْمَوْجُودَ الْمُشَاهَدَ فِي الضّرْعِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ مُفْرَدًا وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْحَيَوَانِ لِأَنّهُ إذَا بِيعَ مُفْرَدًا تَعَذّرَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ بِعَيْنِهِ لِأَنّهُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ فَإِنّهُ وَإِنْ كَانَ مُشَاهَدًا كَاللّبَنِ فِي الظّرْفِ لَكِنّهُ إذَا حَلَبَهُ خَلّفَهُ مِثْلَهُ مِمّا لَمْ يَكُنْ فِي الضّرْعِ فَاخْتَلَطَ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيّزُ وَإِنْ صَحّ الْحَدِيثُ الّذِي رَوَاهُ الطّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى أَنْ يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ فَهَذَا إنْ شَاءَ اللّهُ مَحْمِلهُ وَأَمّا إنْ بَاعَهُ آصِعًا مَعْلُومَةً مِنْ اللّبَنِ يَأْخُذُهُ مِنْ هَذِهِ الشّاةِ أَوْ بَاعَهُ لَبَنَهَا بَاعَهُ لَبَنًا مُطْلَقًا مَوْصُوفًا فِي الذّمّةِ وَاشْتَرَطَ كَوْنَهُ مِنْ هَذِهِ الشّاةِ أَوْ الْبَقَرَةِ فَقَالَ شَيْخُنَا: هَذَا جَائِزٌ وَاحْتَجّ بِمَا فِي الْمُسْنَدِ مِنْ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم نَهَى أَنْ يُسْلَمَ فِي حَائِطٍ بِعَيْنِهِ إلّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ قَالَ فَإِذَا بَدَا صَلَاحُهُ وَقَالَ أَسْلَمْتُ إلَيْك فِي عَشَرَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرِ هَذَا الْحَائِطِ جَازَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ابْتَعْتُ مِنْك عَشَرَةَ أَوْسُقٍ مِنْ هَذِهِ الصّبْرَةِ وَلَكِنّ الثّمَنَ يَتَأَخّرُ قَبْضُهُ إلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ هَذَا لَفْظُهُ.

.فصل إجَارَةُ الْحَلُوبَةِ مُدّةً مَعْلُومَةً لِأَخْذِ لَبَنِهَا:

وَأَمّا إنْ أَجّرَهُ الشّاةَ أَوْ الْبَقَرَةَ أَوْ النّاقَةَ مُدّةً مَعْلُومَةً لِأَخْذِ لَبَنِهَا فِي تِلْكَ الْمُدّةِ فَهَذَا لَا يُجَوّزُهُ الْجُمْهُورُ وَاخْتَارَ شَيْخُنَا جَوَازَهُ وَحَكَاهُ قَوْلًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَهُ فِيهَا مُصَنّفٌ مُفْرَدٌ قَالَ إذَا اسْتَأْجَرَ غَنَمًا أَوْ بَقَرًا أَوْ نُوقًا أَيّامَ اللّبَنِ بِأُجْرَةٍ مُسَمّاةٍ وَعَلَفُهَا عَلَى الْمَالِكِ أَوْ بِأُجْرَةٍ مُسَمّاةٍ مَعَ عَلَفِهَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ اللّبَنَ جَازَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي الظّئْرِ.
قَالَ وَهَذَا يُشْبِهُ الْبَيْعَ وَيُشْبِهُ الْإِجَارَةَ وَلِهَذَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْبَيْعِ وَبَعْضُهُمْ فِي الْإِجَارَةِ لَكِنْ إذَا كَانَ اللّبَنُ يَحْصُل بِعَلَفِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقِيَامِهِ عَلَى الْغَنَمِ فَإِنّهُ يُشْبِهُ اسْتِئْجَارَ الشّجَرِ وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الّذِي يَعْلِفُهَا وَإِنّمَا يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي لَبَنًا مُقَدّرًا فَهَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُ اللّبَنَ مُطْلَقًا فَهُوَ بَيْعٌ أَيْضًا فَإِنّ صَاحِبَ اللّبَنِ يُوَفّيهِ اللّبَنَ بِخِلَافِ الظّئْرِ فَإِنّمَا هِيَ تَسْقِي الطّفْلَ وَلَيْسَ هَذَا دَاخِلًا فِيمَا نَهَى عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ لِأَنّ الْغَرَرَ تَرَدّدٌ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَنَهَى عَنْ بَيْعِهِ لِأَنّهُ مِنْ جِنْسِ الْقِمَارِ الّذِي هُوَ الْمَيْسِرُ وَاللّهُ حَرّمَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ مِنْ الظّلْمِ الّذِي حَرّمَهُ اللّهُ تَعَالَى وَهَذَا إنّمَا يَكُونُ قِمَارًا إذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَحْصُلُ لَهُ مَالٌ وَالْآخَرُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَهَذَا الّذِي لَا يَجُوزُ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشّارِدِ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ فَإِنّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ مَالَ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي قَدْ يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُ الْحَاصِلِ فَأَمّا إذَا كَانَ شَيْئًا مَعْرُوفًا بِالْعَادَةِ كَمَنَافِعِ الْأَعْيَانِ بِالْإِجَارَةِ مِثْلِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالدّابّةِ وَمِثْلِ لَبَنِ الظّئْرِ الْمُعْتَادِ وَلَبَنِ الْبَهَائِمِ الْمُعْتَادِ وَمِثْلِ الثّمَرِ وَالزّرْعِ الْمُعْتَادِ فَهَذَا كُلّهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهُوَ جَائِزٌ. ثُمّ إنْ حَصَلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَإِلّا حَطّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ وَهُوَ مِثْلُ وَضْعِ الْجَائِحَةِ فِي الْبَيْعِ وَمِثْلُ مَا إذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْلَ التّمَكّنِ مِنْ الْقَبْضِ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ.

.إيرَادٌ عَلَى جَوَازِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ:

فَإِنْ قِيلَ مَوْرِدُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ إنّمَا هُوَ الْمَنَافِعُ لَا الْأَعْيَانُ وَلِهَذَا لَا يَصِحّ اسْتِئْجَارُ الطّعَامِ لِيَأْكُلَهُ وَالْمَاءِ لِيَشْرَبَهُ وَأَمّا إجَارَةُ الظّئْرِ فَعَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ وَضْعُ الطّفْلِ فِي حِجْرِهَا وَإِلْقَامُهُ ثَدْيِهَا وَاللّبَنُ يَدْخُلُ ضِمْنًا وَتَبَعًا فَهُوَ كَنَقْعِ الْبِئْرِ فِي إجَارَةِ الدّارِ وَيُغْتَفَرُ فِيمَا دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأُصُولِ وَالْمَتْبُوعَاتِ.

.الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ:

قِيلَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ.

.ثُبُوتُ وُرُودِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ:

أَحَدُهَا: مَنْعُ كَوْنِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَرِدُ إلّا عَلَى مَنْفَعَةٍ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ وَلَا بِالسّنّةِ وَلَا بِالْإِجْمَاعِ بَلْ الثّابِتُ عَنْ الصّحَابَةِ خِلَافُهُ كَمَا صَحّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَبِلَ حَدِيقَةَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَخَذَ الْأُجْرَةَ فَقَضَى بِهَا دَيْنَهُ وَالْحَدِيقَةُ هِيَ النّخْلُ فَهَذِهِ إجَارَةُ الشّجَرِ لِأَخْذِ ثَمَرِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَا يُعْلَمُ لَهُ فِي الصّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا فَقَوْلُكُمْ إنّ مَوْرِدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَكُونُ إلّا مَنْفَعَةً غَيْرُ مُسَلّمٍ وَلَا ثَابِتٍ بِالدّلِيلِ وَغَايَةُ مَا مَعَكُمْ قِيَاسُ مَحَلّ النّزَاعِ عَلَى إجَارَةِ الْخُبْزِ لِلْأَكْلِ وَالْمَاءِ لِلشّرْبِ وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ فَإِنّ الْخُبْزَ تَذْهَبُ عَيْنُهُ وَلَا يُسْتَخْلَفُ مِثْلُهُ بِخِلَافِ اللّبَنِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ فَإِنّهُ لَمّا كَانَ يَسْتَخْلِفُ وَيُحَدّثُ شَيْئًا فَشَيْئًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ.