فصل: ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إحْدَادِ الْمُعْتَدّةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إحْدَادِ الْمُعْتَدّةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا:

ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ: عَنْ حُمَيْد بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثّلَاثَةَ قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلَتْ عَلَى أُمّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ تُوُفّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ فَدَعَتْ أُمّ حَبِيبَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِطِيبِ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمّ مَسّتْ بِعَارِضَيْهَا ثُمّ قَالَتْ وَاَللّهِ مَالِي بِالطّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا يَحِلّ لِامْرَأَةِ تُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدّ عَلَى مَيّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا قَالَتْ زَيْنَبُ: ثُمّ دَخَلَتْ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبِ فَمَسّتْ مِنْهُ ثُمّ قَالَتْ وَاَللّهِ مَالِي بِالطّيّبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنّي سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا يَحِلّ لِامْرَأَةِ تُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدّ عَلَى مَيّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ وَعَشْرًا قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْت أُمّي أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَقُولُ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بِنْتِي تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا ثُمّ قَالَ إنّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنّ فِي الْجَاهِلِيّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتّى يَمُرّ بِهَا سَنَةٌ ثُمّ تُؤْتَى بِدَابّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَفْتَضّ بِهِ فَقَلّمَا تَفْتَضّ بِشَيْءِ إلّا مَاتَ ثُمّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةٌ فَتَرْمِي بِهَا ثُمّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ مَالِكٌ تَفْتَضّ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا. وَفِي الصّحِيحَيْنِ: عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهَا أَنّ امْرَأَةً تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَخَافُوا عَلَى عَيْنِهَا فَأَتَوْا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْكُحْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنّ تَكُونُ فِي شَرّ بَيْتِهَا أَوْ فِي شَرّ أَحْلَاسِهَا فِي بَيْتِهَا حَوْلًا فَإِذَا مَرّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةِ فَخَرَجَتْ أَفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا الصّحِيحَيْنِ عَنْ أَمّ عَطِيّةَ الْأَنْصَارِيّةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا تُحِدّ الْمَرْأَةُ عَلَى مَيّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلّا ثَوْبَ عَصَبٍ وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَمَسّ طِيبًا إلّا إذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثّيَابِ وَلَا الْمُمَشّقَةَ وَلَا الْحُلِيّ وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَخْتَضِبُ وَفِي سُنَنِهِ أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ الضّحّاكِ يَقُولُ أَخْبَرَتْنِي أُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ أَسِيدٍ عَنْ أُمّهَا أَنّ زَوْجَهَا تُوَفّي وَكَانَتْ تَشْتَكِي عَيْنَيْهَا فَتَكْتَحِلُ بِالْجَلَاءِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ رَحِمَهُ اللّهُ الصّوَابُ بِكُحْلِ الْجَلَاءِ فَأَرْسَلَتْ مُوَلّاةً لَهَا إلَى أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فَسَأَلَتْهَا عَنْ كُحْلِ الْجَلَاءِ فَقَالَتْ لَا تَكْتَحِلِي بِهِ إلّا مِنْ أَمْرٍ لَابُدّ مِنْهُ يَشْتَدّ عَلَيْك قَالَتْ عِنْدَ ذَلِكَ أُمّ سَلَمَةَ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ تُوُفّيَ أَبُو سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلَتْ عَلَى عَيْنَيّ صَبْرًا فَقَالَ مَا هَذَا يَا أُمّ سَلَمَةَ؟ فَقُلْت: إنّمَا هُوَ صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ. فَقَالَ إنّهُ يَشُبّ الْوَجْهَ فَلَا تَجْعَلِيهِ إلّا بِاللّيْلِ وَتَنْزِعِيهِ بِالنّهَارِ وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطّيبِ وَلَا بِالْحِنّاءِ فَإِنّهُ خِضَابٌ قَالَتْ قُلْت: بِأَيّ شَيْءٍ امْتَشِطُ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؟ قَالَ بِالسّدْرِ تُغَلّفِينَ بِهِ رَأْسَك.

.وُجُوبِ الْإِحْدَادِ وَجَوَازِهِ:

وَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ السّنّةُ أَحْكَامًا عَدِيدَةً:
أَحَدُهَا: أَنّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْدَادُ عَلَى مَيّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ إلّا الزّوْجَ وَحْدَهُ. وَتَضَمّنَ الْحَدِيثُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِحْدَادَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ وَالْجِوَازِ فَإِنّ الْإِحْدَادَ عَلَى الزّوْجِ وَاجِبٌ وَعَلَى غَيْرِهِ جَائِزٌ.

.مُدّةُ الْإِحْدَادِ:

الثّانِي: مِنْ مِقْدَارِ مُدّةِ الْإِحْدَادِ فَالْإِحْدَادُ عَلَى الزّوْجِ عَزِيمَةٌ وَعَلَى غَيْرِهِ رُخْصَةٌ وَأَجْمَعَتْ الْأُمّةُ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا إلّا مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ. أَمّا الْحَسَنُ فَرَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْد عَنْهُ أَنّ الْمُطَلّقَةَ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَكْتَحِلَانِ وَتَمْتَشِطَانِ وَتَتَطَيّبَانِ وَتَخْتَضِبَانِ وَتَنْتَقِلَانِ وَتَصْنَعَانِ مَا شَاءَتَا وَأَمّا الْحَكَمُ فَذَكَرَ عَنْهُ شُعْبَةُ: أَنّ الْمُتَوَفّى عَنْهَا لَا تُحِدّ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَاحْتَجّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ثُمّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ السّلَامِ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدّثْنَا شُعْبَةُ حَدّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شَدّادِ بْنِ الْهَادِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِامْرَأَةِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا كَانَ ثَلَاثَةُ أَيّامٍ فَالْبَسِي مَا شِئْت أَوْ إذَا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ شُعْبَةُ شَكّ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ حَدّثَنَا الْحَجّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شَدّادٍ أَنّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ اسْتَأْذَنَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَبْكِيَ عَلَى جَعْفَرٍ وَهِيَ امْرَأَتُهُ فَأَذِنَ لَهَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ ثُمّ بَعَثَ إلَيْهَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ أَنْ تَطَهّرِي وَاكْتَحِلِي قَالُوا: وَهَذَا نَاسِخٌ لِأَحَادِيثِ الْإِحْدَادِ لِأَنّهُ بَعْدَهَا فَإِنّ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهَا رَوَتْ حَدِيثَ الْإِحْدَادِ وَأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهَا بِهِ إثْرَ مَوْتِ أَبِي سلمَةَ وَلَا خِلَافَ أَنّ مَوْتَ أَبِي سَلَمَةَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا. وَأَجَابَ النّاسُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ فَإِنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ شَدّادِ بْنِ الْهَادِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا رَآهُ فَكَيْفَ يُقَدّمُ حَدِيثُهُ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ الْمُسْنَدَةِ الّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا؟ وَفِي الْحَدِيثِ الثّانِي: الْحَجّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَلَا يُعَارِضُ بِحَدِيثِهِ حَدِيثَ الْأَئِمّةِ الْأَثْبَاتِ الّذِينَ هُمْ فُرْسَانُ الْحَدِيثِ.

.فصل تَبَعِيّةُ الْإِحْدَادِ لِلْعِدّةِ:

الْحُكْمُ الثّانِي: إنّ الْإِحْدَادَ تَابِعٌ لِلْعِدّةِ بِالشّهُورِ أَمّا الْحَامِلُ فَإِذَا انْقَضَى حَمْلُهَا سَقَطَ وُجُوبُ الْإِحْدَاد عَنْهَا اتّفَاقًا فَإِنّ لَهَا أَنْ تَتَزَوّجَ وَتَتَجَمّلَ وَتَتَطَيّبَ لَزَوْجِهَا وَتَتَزَيّنَ لَهُ مَا شَاءَتْ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا زَادَتْ مُدّةُ الْحَمْلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَهَلْ يَسْقُطُ وُجُوبُ الْإِحْدَادِ أَمْ يَسْتَمِرّ إلَى حِينِ الْوَضْعِ؟ قِيلَ بَلْ يَسْتَمِرّ الْإِحْدَادُ إلَى حِينِ الْوَضَعِ فَإِنّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْعِدّةِ وَلِهَذَا قُيّدَ بِمُدّتِهَا وَهُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِدّةِ فَكَانَ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا.

.فصل تَسْتَوِي الزّوْجَاتُ بِالْإِحْدَادِ حَتّى الْكَافِرَةُ وَالْأَمَةُ وَالصّغِيرَةُ:

الْحُكْمُ الثّالِثُ أَنّ الْإِحْدَادَ تَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الزّوْجَاتِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكَافِرَةِ وَالْحُرّةِ وَالْأَمَةِ الصّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ وَمَالِكٍ. إلّا أَنّ أَشْهَبَ وَابْنَ نَافِعٍ قَالَا لَا إحْدَادَ عَلَى الذّمّيّةِ رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا إحْدَادَ عِنْدَهُ عَلَى الصّغِيرَةِ. وَاحْتَجّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعَلَ الْإِحْدَادَ مِنْ أَحْكَامِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْكَافِرَةُ وَلِأَنّهَا غَيْرُ مُكَلّفَةٍ بِأَحْكَامِ الْفُرُوعِ. قَالُوا: وَعُدُولُهُ عَنْ اللّفْظِ الْعَامّ الْمُطْلَقِ إلَى الْخَاصّ الْمُقَيّدِ بِالْإِيمَانِ يَقْتَضِي أَنّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ وَوَاجِبَاتِهِ فَكَأَنّهُ قَالَ مَنْ الْتَزَمَ الْإِيمَانَ فَهَذَا مِنْ شَرَائِعِهِ وَوَاجِبَاتِهِ. وَالتّحْقِيقُ أَنّ نَفْيَ حِلّ الْفِعْلِ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ حُكْمِهِ عَنْ الْكُفّارِ وَلَا إثْبَاتَ لَهُمْ أَيْضًا وَإِنّمَا يَقْتَضِي أَنّ مَنْ الْتَزَمَ الْإِيمَانَ وَشَرَائِعَهُ فَهَذَا لَا يَحِلّ لَهُ وَيَجِبُ عَلَى كُلّ حَالٍ أَنْ يَلْزَمَ الْإِيمَانَ وَشَرَائِعَهُ وَلَكِنْ لَا يُلْزِمُهُ الشّارِعُ شَرَائِعَ الْإِيمَانِ إلّا بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ وَهَذَا كَمَا لَوْ قِيلَ لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتْرُكَ الصّلَاةَ وَالْحَجّ وَالزّكَاةَ فَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنّ ذَلِكَ حِلّ لِلْكَافِرِ وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتّقِينَ فَلَا يَدُلّ أَنّهُ يَنْبَغِي لِغَيْرِهِمْ. وَكَذَا قَوْلُهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ لَعّانًا وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ أَنّ شَرَائِعَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْإِيجَابِ إنّمَا شُرِعَتْ لِمَنْ الْتَزَمَ أَصْلَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَخُلّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِينِهِ فَإِنّهُ يُخَلّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِهِ مَا لَمْ يُحَاكِمْ إلَيْنَا وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ عُذْرُ الّذِينَ أَوْجَبُوا الْإِحْدَادَ عَلَى الذّمّيّةِ أَنّهُ يَتَعَلّقُ بِهِ حَقّ الزّوْجِ الْمُسْلِمِ وَكَانَ مِنْهُ إلْزَامُهَا بِهِ كَأَصْلِ الْعُدّةِ وَلِهَذَا لَا يُلْزِمُونَهَا بِهِ فِي عِدّتِهَا مِنْ الذّمّيّ وَلَا يُتَعَرّضُ لَهَا فِيهَا فَصَارَ هَذَا كَعُقُودِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّهُمْ يُلْزِمُونَ فِيهَا بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَرّضْ لِعُقُودِهِمْ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَمَنْ يُنَازِعُهُمْ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ الْإِحْدَادُ حَقّ لِلّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَوْ اتّفَقَتْ هِيَ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْمُتَوَفّى عَلَى سُقُوطِهِ بِأَنْ أَوْصَاهَا بِتَرْكِهِ لَمْ يَسْقُطْ وَلَزِمَهَا الْإِتْيَانُ بِهِ فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الْعِبَادَاتِ وَلَيْسَتْ الذّمّيّةُ مِنْ أَهْلِهَا فَهَذَا سِرّ الْمَسْأَلَةِ.

.فصل لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَى الْأَمَةِ وَلَا أُمّ الْوَلَدِ:

الْحُكْمُ الرّابِعُ أَنّ الْإِحْدَادَ لَا يَجِبُ عَلَى الْأُمّةِ وَلَا أُمّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ سَيّدُهُمَا لِأَنّهُمَا لَيْسَا بِزَوْجَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ لَهُمَا أَنْ تُحِدّا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ؟ قِيلَ نَعَمْ لَهُمَا ذَلِكَ فَإِنّ النّصّ إنّمَا حَرّمَ الْإِحْدَادَ فَوْقَ الثّلَاثِ عَلَى غَيْرِ الزّوْجِ وَأَوْجَبَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا عَلَى الزّوْجِ فَدَخَلَتْ الْأَمَةُ وَأُمّ الْوَلَدِ فِيمَنْ يَحِلّ لَهُنّ الْإِحْدَادُ لَا فِيمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِنّ وَلَا فِيمَنْ يَجِبُ.

.لَا إحْدَادَ عَلَى غَيْرِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا:

فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدّةِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًى أَوْ اسْتِبْرَاءِ إحْدَادٍ؟ قُلْنَا: هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْخَامِسُ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ أَنّهُ لَا إحْدَادَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لِأَنّ السّنّةَ أَثْبَتَتْ وَنَفَتْ فَخَصّتْ بِالْإِحْدَادِ الْوَاجِبِ الزّوْجَاتِ وَبِالْجَائِزِ غَيْرَهُنّ عَلَى الْأَمْوَاتِ خَاصّةً وَمَا عَدَاهُمَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ التّحْرِيمِ عَلَى الْأَمْوَاتِ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ دُخُولُهُ فِي الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُطَلّقَةِ الْبَائِنِ؟ وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا الْخِرَقِيّ إنّ الْبَائِنَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ وَهُوَ الْقِيَاسِ لِأَنّهَا مُعْتَدّةٌ بَائِنٌ مِنْ نِكَاحٍ فَلَزِمَهَا الْإِحْدَادُ كَالْمُتَوَفّى عَنْهَا لِأَنّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْعِدّةِ وَاخْتَلَفَا فِي سَبَبِهَا وَلِأَنّ الْعِدّةَ تُحَرّمُ النّكَاحَ فَحَرُمَتْ دَوَاعِيَهُ. قَالُوا: وَلَا رَيْبَ أَنّ الْإِحْدَادَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنّ إظْهَارَ الزّينَةِ وَالطّيبِ وَالْحُلِيّ مِمّا يَدْعُو الْمَرْأَةَ إلَى الرّجَالِ وَيَدْعُو الرّجَالُ إلَيْهَا: فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَكْذِبَ فِي انْقِضَاءِ عِدّتِهَا اسْتِعْجَالًا لِذَلِكَ فَمُنِعَتْ مِنْ دَوَاعِي ذَلِكَ وَسَدّتْ إلَيْهِ الذّرِيعَةَ هَذَا مَعَ أَنّ الْكَذِبَ فِي عِدّةِ الْوَفَاةِ يَتَعَذّرُ غَالِبًا بِظُهُورِ مَوْتِ الزّوْجِ وَكَوْنِ الْعِدّةِ أَيّامًا مَعْدُودَةً بِخِلَافِ عِدّةِ الطّلَاقِ فَإِنّهَا بِالْأَقْرَاءِ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إلّا مِنْ جِهَتِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ لَهَا أَوْلَى. قِيلَ قَدْ أَنْكَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَنْ حَرّمَ زِينَتَهُ الّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ مِنْ الرّزْقِ. وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرّمَ مِنْ الزّينَةِ إلّا مَا حَرّمَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَاللّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ حَرّمَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زِينَةَ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا مُدّةَ الْعِدّةِ وَأَبَاحَ رَسُولُهُ الْإِحْدَادَ بِتَرْكِهَا عَلَى غَيْرِ الزّوْجِ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمٌ غَيْرَ مَا حَرّمَهُ بَلْ هُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ الْإِحْدَادُ مِنْ لَوَازِمِ الْعِدّةِ وَلَا تَوَابِعِهَا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةِ وَلَا الْمَزْنِيّ بِهَا وَلَا الْمُسْتَبْرَأَةِ وَلَا الرّجْعِيّةِ اتّفَاقًا وَهَذَا الْقِيَاسُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا لِمَا بَيْنَ الْعِدّتَيْنِ مِنْ الْقُرُوءِ قَدَرًا أَوْ سَبَبًا وَحُكْمًا فَإِلْحَاقُ عِدّةِ الْأَقْرَاءِ بِالْأَقْرَاءِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِ عِدّةِ الْأَقْرَاءِ بِعِدّةِ الْوَفَاةِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِحْدَادِ عَلَى الزّوْجِ الْمَيّتِ مُجَرّدَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ طَلَبِ الِاسْتِعْجَالِ فَإِنّ الْعُدّةَ فِيهِ لَمْ تَكُنْ لِمُجَرّدِ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرّحِمِ وَلِهَذَا تَجِبُ قَبْلَ الدّخُولِ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ تَعْظِيمِ هَذَا الْعَقْدِ وَإِظْهَارِ خَطَرِهِ وَشَرَفِهِ وَأَنّهُ عِنْدَ اللّهِ بِمَكَانِ فَجُعِلَتْ الْعُدّةُ حَرِيمًا لَهُ وَجُعِلَ الْإِحْدَادُ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْمَقْصُودِ وَتَأَكّدِهِ وَمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ حَتّى جُعِلَتْ الزّوْجَةُ أَوْلَى بِفِعْلِهِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ أَبِيهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَسَائِرِ أَقَارِبِهَا وَهَذَا مِنْ تَعْظِيمِ هَذَا الْعَقْدِ وَتَشْرِيفِهِ وَتَأَكّدِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السّفَاحِ مِنْ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَلِهَذَا شُرِعَ فِي ابْتِدَائِهِ إعْلَانُهُ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَالضّرْبُ بِالدّفّ لِتَحَقّقِ الْمُضَادّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السّفَاحِ وَشَرَعَ فِي الْعِدّةِ وَالْإِحْدَادِ مَا لَمْ يُشَرّعْ فِي غَيْرِهِ.

.فصل الْخِصَالُ الّتِي تَجْتَنِبُهَا الْحَادّةُ:

الْحُكْمُ السّادِسُ فِي الْخِصَالِ الّتِي تَجْتَنِبُهَا الْحَادّةُ وَهِيَ الّتِي دَلّ عَلَيْهَا النّصّ دُونَ الْآرَاءِ وَالْأَقْوَالِ الّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الطّيبُ أَحَدُهَا: الطّيبُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ لَا تَمَسّ طِيبًا وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ الْإِحْدَادَ وَلِهَذَا لَمّا خَرَجَتْ أُمّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا مِنْ إحْدَادِهَا عَلَى أَبِيهَا أَبِي سُفْيَانَ دَعَتْ بِطِيبِ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمّ مَسّتْ بِعَارِضَيْهَا ثُمّ ذَكَرَتْ الْحَدِيثَ وَيَدْخُلُ فِي الطّيبِ الْمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ وَالْكَافُورُ وَالنّدّ وَالْغَالِيَةُ وَالزّبَاد وَالذّرِيرَةُ وَالْبُخُورُ وَالْأَدْهَانُ الْمُطَيّبَةُ كَدُهْنِ الْبَانِ وَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْمِيَاهِ الْمُعْتَصِرَةِ مِنْ الْأَدْهَانِ الطّيّبَةِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَمَاءِ الْقُرُنْفُلِ وَمَاءِ زَهْرِ النّارِنْجِ فَهَذَا كُلّهُ طِيبٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الزّيْتُ وَلَا الشّيْرَجُ وَلَا السّمْنُ وَلَا تُمْنَعُ مِنْ الْأَدْهَانِ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ.

.فصل تَجْتَنِبُ الْحَادّةُ الزّينَةَ فِي بَدَنِهَا:

الْحُكْمُ السّابِعُ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: الزّينَةُ فِي بُدْنِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا الْخِضَابُ وَالنّقْشُ وَالتّطْرِيفُ وَالْحُمْرَةُ والاسفيداج فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَصّ عَلَى الْخِضَابِ مُنَبّهًا بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الّتِي هِيَ أَكْثَرُ زِينَةً مِنْهُ وَأَعْظَمُ فِتْنَةً وَأَشَدّ مُضَادّةً لِمَقْصُودِ الْإِحْدَادِ وَمِنْهَا: الْكُحْلُ وَالنّهْيُ عَنْهُ ثَابِتٌ بِالنّصّ بِالصّرِيحِ الصّحِيحِ. ثُمّ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمّدِ بْنِ حَزْمٍ: لَا تَكْتَحِلُ وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهَا لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَيُسَاعِدُ قَوْلَهُمْ حَدِيثُ أُمّ سَلَمَةَ الْمُتّفَقُ عَلَيْهِ أَنّ امْرَأَةً تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَخَافُوا عَلَى عَيْنِهَا فَأَتَوْا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْكُحْلِ فَمَا أَذِنَ فِيهِ بَلْ قَالَ لَا مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمّ ذَكَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ الْإِحْدَادِ الْبَلِيغِ سَنَةً وَيَصْبِرْنَ عَلَى ذَلِكَ أَفَلَا وَلَا رَيْبَ أَنّ الْكُحْلَ مِنْ أَبْلَغِ الزّينَةِ فَهُوَ كَالطّيبِ أَوْ أَشَدّ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشّافِعِيّةِ: لِلسّوْدَاءِ أَنْ تَكْتَحِلَ وَهَذَا تَصَرّفٌ مُخَالِفٌ لِلنّصّ وَالْمَعْنَى وَأَحْكَامُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تُفَرّقُ بَيْنَ السّودِ وَالْبِيضِ كَمَا لَا تُفَرّقُ بَيْنَ الطّوّالِ وَالْقِصَارِ وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ بِالرّأْيِ الْفَاسِدِ الّذِي اشْتَدّ نَكِيرُ السّلَفِ لَهُ وَذَمّهُمْ إيّاهُ. وَأَمّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشّافِعِيّ وَأَصْحَابِهِمْ فَقَالُوا: إنْ اُضْطُرّتْ إلَى الْكُحْلِ بِالْإِثْمِدِ تَدَاوَيَا لَا زِينَةَ فَلَهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِهِ لَيْلًا وَتَمْسَحَهُ نَهَارًا وَحُجّتُهُمْ حَدِيثُ أُمّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدّمُ رَضِيَ اللّه عَنْهَا فَإِنّهَا قَالَتْ فِي كُحْلِ الْجَلَاءِ لَا تَكْتَحِلُ إلّا لِمَا لَابُدّ مِنْهُ يَشْتَدّ عَلَيْكِ فَتَكْتَحِلِينَ بِاللّيْلِ وَتَغْسِلِينَهُ بِالنّهَارِ وَمِنْ حُجّتِهِمْ حَدِيثُ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا الْآخَرُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَقَدْ جَعَلَتْ عَلَيْهَا صَبْرًا فَقَالَ مَا هَذَا يَا أُمّ سَلَمَةَ؟ فَقُلْت: صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ فَقَالَ إنّهُ يُشِبّ الْوَجْهَ فَقَالَ لَا تَجْعَلِيهِ إلّا بِاللّيْلِ وَتَنْزِعِيهِ بِالنّهَارِ وَهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فَرّقَهُ الرّوَاةُ وَأَدْخَلَ مَالِكٌ هَذَا الْقَدْرَ مِنْهُ فِي مُوَطّئِهِ بَلَاغًا وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِي التّمْهِيدِ لَهُ طُرُقًا يَشُدّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَكْفِي احْتِجَاجُ مَالِكٍ بِهِ وَأَدْخَلَهُ أَهْلُ السّنَنِ فِي كُتُبِهِمْ وَاحْتَجّ بِهِ الْأَئِمّةُ وَأَقَلّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا وَلَكِنْ حَدِيثُهَا هَذَا مُخَالِفٌ فِي الظّاهِرِ لِحَدِيثِهَا الْمُسْنَدِ الْمُتّفَقِ عَلَيْهِ فَإِنّهُ يَدُلّ عَلَى الْمُتَوَفّى عَنْهَا لَا تَكْتَحِلُ بِحَالِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَأْذَنْ لِلْمُشْتَكِيَةِ عَيْنَهَا فِي الْكُحْلِ لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَلَا مِنْ ضَرُورَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَقَالَ لَا مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَلَمْ يَقُلْ إلّا أَنْ تُضْطَرّ. وَقَدْ ذَكَرَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ صَفِيّةَ ابْنَةِ عُبَيْدٍ أَنّهَا اشْتَكَتْ عَيْنَهَا وَهِيَ حَادّ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ فَلَمْ تَكْتَحِلْ حَتّى كَادَتْ عَيْنَاهَا تَرْمَصَان قَالَ أَبُو عُمَرَ وَهَذَا عِنْدِي وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُخَالِفًا لِحَدِيثِهَا الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبَاحَتِهِ بِاللّيْلِ وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَا مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنّ تَرْتِيبَ الْحَدِيثَيْنِ وَاللّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنّ الشّكَاةَ الّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا لَمْ تَبْلُغْ- وَاللّهُ أَعْلَمُ- مِنْهَا مَبْلَغًا لَابُدّ لَهَا فِيهِ مِنْ الْكُحْلِ فَلِذَلِكَ نَهَاهَا وَلَوْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً مُضْطَرّةً تَخَافُ ذَهَابَ بَصَرِهَا لَأَبَاحَ لَهَا ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ بِاَلّتِي قَالَ لَهَا: اجْعَلِيهِ بِاللّيْلِ وَامْسَحِيهِ بِالنّهَارِ وَالنّظَرُ يَشْهَدُ لِهَذَا التّأْوِيلِ لِأَنّ الضّرُورَاتِ تَنْقُلُ الْمَحْظُورَاتِ إلَى حَالِ الْمُبَاحِ فِي الْأُصُولِ وَلِهَذَا جَعَلَ مَالِكٌ فَتْوَى أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَفْسِيرًا لِلْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ فِي الْكُحْلِ لِأَنّ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا رَوَتْهُ وَمَا كَانَتْ لِتُخَالِفَهُ إذَا صَحّ عِنْدَهَا وَهِيَ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَالنّظَرُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ لِأَنّ الْمُضْطَرّ إلَى شَيْءٍ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْمُرَفّهِ الْمُتَزَيّنِ بِالزّينَةِ وَلَيْسَ الدّوَاءُ وَالتّدَاوِي مِنْ الزّينَةِ فِي شَيْءٍ وَإِنّمَا نُهِيَتْ الْحَادّةُ عَنْ الزّينَةِ لَا عَنْ التّدَاوِي وَأُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَعْلَمُ بِمَا رَوَتْ مَعَ صِحّتِهِ فِي النّظَرِ وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْفِقْهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ ذَكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ فِي مُوَطّئِهِ أَنّهُ بَلَغَهُ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَرْأَةِ يُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا: إنّهَا إذَا خَشِيَتْ عَلَى بَصَرِهَا مِنْ رَمَدٍ بِعَيْنَيْهَا أَوْ شَكْوَى أَصَابَتْهَا أَنّهَا تَكْتَحِلُ وَتَتَدَاوَى بِالْكُحْلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ لِأَنّ الْقَصْدَ إلَى التّدَاوِي لَا إلَى التّطَيّبِ وَالْأَعْمَالِ بِالنّيّاتِ. وَقَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ الصّبْرُ يُصَفّرُ فَيَكُونُ زِينَةً وَلَيْسَ بِطِيبِ وَهُوَ كُحْلُ الْجَلَاءِ فَأَذِنَتْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا لِلْمَرْأَةِ بِاللّيْلِ حَيْثُ لَا تَرَى وَتَمْسَحُهُ بِالنّهَارِ حَيْثُ يَرَى وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ. وَقَالَ أَبُو مُحَمّدِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَإِنّمَا تُمْنَعُ الْحَادّةُ مِنْ الْكُحْلِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنّهُ لَا زِينَةَ فِيهِ بَلْ يُقَبّحُ الْعَيْنَ وَيَزِيدُهَا مَرّهَا. قَالَ وَلَا تُمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الصّبِرِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا مِنْ بَدَنِهَا لِأَنّهُ إنّمَا مُنِعَ مِنْهُ فِي الْوَجْهِ لِأَنّهُ يُصَفّرُهُ فَيُشْبِهُ الْخِضَابَ فَلِهَذَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ يُشِبّ الْوَجْهَ قَالَ وَلَا تُمْنَعُ مِنْ تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَحَلْقِ الشّعْرِ الْمَنْدُوبِ إلَى حَلْقِهِ وَلَا مِنْ الِاغْتِسَالِ بِالسّدْرِ وَالِامْتِشَاطِ بِهِ لِحَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَلِأَنّهُ يُرَادُ لِلتّنْظِيفِ لَا لِلتّطَيّبِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ النّيْسَابُورِيّ فِي مَسَائِلِهِ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا تَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ إذَا أَرَادَتْ اكْتَحَلَتْ بِالصّبِرِ إذَا خَافَتْ عَلَى عَيْنِهَا وَاشْتَكَتْ شَكْوَى شَدِيدَةً.