فصل: حُجَجُ الْمَانِعِينَ مِنْ وُقُوعِ الثّلَاثِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.حُجَجُ الْمَانِعِينَ مِنْ وُقُوعِ الثّلَاثِ:

قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ وُقُوعِ الثّلَاثِ التّحَاكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا إلَى مَنْ أَقْسَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَصْدَقَ قَسَمٍ وَأَبَرّهُ أَنّا لَا نُؤْمِنُ حَتّى نُحَكّمَهُ شَجَرَ بَيْنَنَا ثُمّ نَرْضَى بِحُكْمِهِ وَلَا يَلْحَقُنَا فِيهِ حَرَجٌ وَنُسَلّمُ لَهُ تَسْلِيمًا لَا إلَى غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ اللّهُمّ إلّا أَنْ تُجْمِعَ أُمّتُهُ إجْمَاعًا مُتَيَقّنًا لَا نَشُكّ فِيهِ عَلَى حُكْمٍ فَهُوَ الْحَقّ الّذِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَيَأْبَى اللّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمّةُ عَلَى خِلَافِ سُنّةٍ ثَابِتَةٍ عَنْهُ أَبَدًا وَنَحْنُ قَدْ أَوَجَدْنَاكُمْ مِنْ الْأَدِلّةِ مَا تَثْبُتُ الْمَسْأَلَةُ بِهِ بَلْ وَبِدُونِهِ وَنَحْنُ نُنَاظِرُكُمْ فِيمَا طَعَنْتُمْ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَدِلّةِ وَفِيمَا عَارَضْتُمُونَا بِهِ عَلَى أَنّا لَا نَحْكُمُ عَلَى أَنْفُسِنَا إلّا نَصّا عَنْ اللّهِ أَوْ نَصّا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ إجْمَاعًا مُتَيَقّنًا لَا شَكّ فِيهِ وَمَا عَدَا هَذَا فَعُرْضَةٌ لِنِزَاعٍ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ سَائِغَ الِاتّبَاعِ لَا لَازِمَهُ فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْمُقَدّمَةُ سَلَفًا لَنَا عِنْدَكُمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ} [النّسَاءُ 59] فَقَدْ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدّهَا إلَى غَيْرِ اللّهِ وَرَسُولِهِ الْبَتّةَ وَسَيَأْتِي أَنّنَا أَحَقّ بِالصّحَابَةِ وَأَسْعَدُ بِهِمْ فِيهَا فَنَقُولُ أَمّا مَنْعُكُمْ لِتَحْرِيمِ جَمْعِ الثّلَاثِ فَلَا رَيْبَ أَنّهَا مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ وَلَكِنّ الْأَدِلّةَ الدّالّةَ عَلَى التّحْرِيمِ حُجّةٌ عَلَيْكُمْ. أَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الْقُرْآنَ دَلّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فَدَعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بَلْ بَاطِلَةٌ وَغَايَةُ مَا تَمَسّكْتُمْ بِهِ إطْلَاقُ الْقُرْآنِ لِلَفْظِ الطّلَاقِ وَذَلِكَ لَا يَعُمّ جَائِزَهُ وَمُحَرّمَهُ كَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ طَلَاقُ الْحَائِضِ وَطَلَاقُ الْمَوْطُوءَةِ فِي طُهْرِهَا وَمَا مَثَلُكُمْ فِي ذَلِكَ إلّا كَمَثَلِ مَنْ عَارَضَ السّنّةَ الصّحِيحَةَ فِي تَحْرِيمِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ بِهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ سَوَاءٌ وَمَعْلُومٌ أَنّ الْقُرْآنَ لَمْ يَدُلّ عَلَى جَوَازِ كُلّ طَلَاقٍ حَتّى تُحَمّلُوهُ مَا لَا يُطِيقُهُ وَإِنّمَا دَلّ عَلَى أَحْكَامِ الطّلَاقِ وَالْمُبَيّنُ عَنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ بَيّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَلَا رَيْبَ أَنّا أَسْعَدُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ كَمَا بَيّنّا فِي صَدْرِ الِاسْتِدْلَالِ وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشْرَعْ قَطّ طَلَاقًا بَائِنًا بِغَيْرِ عِوَضٍ لِمَدْخُولٍ بِهَا إلّا أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعِدَدِ وَهَذَا كِتَابُ اللّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَغَايَةُ مَا تَمَسّكْتُمْ بِهِ أَلْفَاظٌ مُطْلَقَةٌ قَيّدَتْهَا السّنّةُ وَبَيّنَتْ شُرُوطَهَا وَأَحْكَامَهَا. صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمَا أَصَحّهُ مِنْ حَدِيثٍ وَمَا أَبْعَدَهُ مِنْ اسْتِدْلَالِكُمْ عَلَى جَوَازِ الطّلَاقِ الثّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي نِكَاحٍ يُقْصَدُ بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ ثُمّ الْمُسْتَدِلّ بِهَذَا إنْ كَانَ مِمّنْ يَقُولُ إنّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ عَقِيبَ لِعَانِ الزّوْجِ وَحْدَهُ كَمَا يَقُولُهُ الشّافِعِيّ أَوْ عَقِيبَ لِعَانِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُفَرّقْ الْحَاكِمُ كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ بَاطِلٌ لِأَنّ الطّلَاقَ الثّلَاثَ حِينَئِذٍ لَغْوٌ لَمْ يَفِدْ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِمّنْ يُوَقّفُ الْفُرْقَةَ عَلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَمْ يَصِحّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا لِأَنّ هَذَا النّكَاحَ لَمْ يَبْقَ سَبِيلٌ إلَى بَقَائِهِ وَدَوَامِهِ بَلْ هُوَ وَاجِبُ الْإِزَالَةِ وَمُؤَبّدُ التّحْرِيمِ فَالطّلَاقُ الثّلَاثُ مُؤَكّدٌ لِمَقْصُودِ اللّعَانِ وَمُقَرّرٌ لَهُ فَإِنّ غَايَتَهُ أَنْ يُحَرّمَهَا عَلَيْهِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَفِرْقَةُ اللّعَانِ تُحَرّمُهَا عَلَيْهِ عَلَى الْأَبَدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نُفُوذِ الطّلَاقِ فِي نِكَاحٍ قَدْ صَارَ مُسْتَحِقّ التّحْرِيمِ عَلَى التّأْبِيدِ نُفُوذُهُ فِي نِكَاحٍ قَائِمٍ مَطْلُوبِ الْبَقَاءِ وَالدّوَامِ وَلِهَذَا لَوْ طَلّقَهَا فِي هَذَا الْحَالِ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا لِأَنّ هَذَا النّكَاحَ مَطْلُوبُ الْإِزَالَةِ مُؤَبّدُ التّحْرِيمِ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنّكُمْ مُتَمَسّكُونَ بِتَقْرِيرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى هَذَا الطّلَاقِ الْمَذْكُورِ وَلَا تَتَمَسّكُونَ بِإِنْكَارِهِ وَغَضَبِهِ لِلطّلَاقِ الثّلَاثِ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ وَتَسْمِيَتُهُ لَعِبًا بِكِتَابِ اللّهِ كَمَا تَقَدّمَ فَكَمْ بَيْنَ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهَذَا الْإِنْكَارِ؟ وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللّهِ قَائِلُونَ بِالْأَمْرَيْنِ مُقِرّونَ لِمَا أَقَرّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُنْكِرُونَ لِمَا أَنْكَرَهُ. وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ رَجُلًا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوّجَتْ فَسُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ تَحِلّ لِلْأَوّلِ؟ قَالَ لَا حَتّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ فَهَذَا لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ نَعَمْ هُوَ حُجّةٌ عَلَى مَنْ اكْتَفَى بِمُجَرّدِ عَقْدِ الثّانِي وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ طَلّقَ الثّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ بَلْ الْحَدِيثُ حُجّةٌ لَنَا فَإِنّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَقَالَ ثَلَاثًا إلّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرّةً بَعْدَ يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا وَسَلّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا. قَالُوا: وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَمِنْ الْعَجَبِ الْعُجَابِ فَإِنّكُمْ خَالَفْتُمُوهُ فِيمَا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا وَهُوَ سُقُوطُ النّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِلْبَائِنِ مَعَ صِحّتِهِ وَصَرَاحَتِهِ وَعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ مُقَاوِمًا لَهُ وَتَمَسّكْتُمْ بِهِ فِيمَا هُوَ مُجْمَلٌ بَلْ بَيَانُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مِمّا يُبْطِلُ تَعَلّقَكُمْ بِهِ فَإِنّ قَوْلَهُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي جَمْعِهَا بَلْ كَمَا تَقَدّمَ كَيْفَ وَفِي الصّحِيحِ فِي خَبَرِهَا نَفْسِهِ مِنْ رِوَايَةِ الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنّ زَوْجَهَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ طَلَاقِهَا. وَفِي لَفْظٍ فِي الصّحِيحِ: أَنّهُ طَلّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ مُتّصِلٌ مِثْلُ الشّمْسِ فَكَيْفَ سَاغَ لَكُمْ تَرْكُهُ إلَى التّمَسّكِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ وَهُوَ أَيْضًا حُجّةٌ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقَدّمَ؟. قَالُوا: وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ الّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ فَخَبَرٌ فِي غَايَةِ السّقُوطِ لِأَنّ فِي طَرِيقِهِ يَحْيَى بْنَ الْعَلَاءِ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَضَافِيّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ- ضَعِيفٌ عَنْ هَالِكٍ عَنْ مَجْهُولٍ ثُمّ الّذِي يَدُلّ عَلَى كَذِبِهِ وَبُطْلَانِهِ أَنّهُ لَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ صَحِيحِهَا وَلَا سَقِيمِهَا وَلَا مُتّصَلِهَا وَلَا مُنْقَطِعِهَا أَنّ وَالِدَ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ فَكَيْفَ بِجَدّهِ فَهَذَا مُحَالٌ بِلَا شَكّ وَأَمّا حَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَصْلُهُ صَحِيحٌ بِلَا شَكّ لَكِنّ هَذِهِ الزّيَادَةَ وَالْوَصْلَةَ الّتِي فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ طَلّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَتْ تَحِلّ لِي؟ إنّمَا جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ وَهُوَ الشّامِيّ وَبَعْضُهُمْ يَقْلِبُهُ فَيَقُولُ زُرَيْقُ بْنُ شُعَيْبٍ كَانَ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجّةٌ لِأَنّ قَوْلَهُ لَوْ طَلّقْتهَا ثَلَاثًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ سَلّمْت ثَلَاثًا أَوْ أَقْرَرْت ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَهُ مِمّا لَا يُعْقَلُ جَمْعُهُ. وَأَمّا حَدِيثُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ الّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَنّ رُكَانَةَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتّةَ فَأَحْلَفَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَرَادَ إلّا وَاحِدَةً فَمِنْ الْعَجَبِ تَقْدِيمُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ الْمَجْهُولِ الّذِي لَا يُعْرَفُ حَالُهُ الْبَتّةَ وَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ وَلَا مَا هُوَ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ طَاوُسٍ فِي قِصّةِ أَبِي الصّهْبَاءِ وَقَدْ شَهِدَ إمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُحَمّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيّ بِأَنّ فِيهِ اضْطِرَابًا هَكَذَا قَالَ التّرْمِذِيّ فِي الْجَامِعِ وَذَكَرَ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنّهُ مُضْطَرِبٌ. فَتَارَةً يَقُولُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا وَتَارَةً يَقُولُ وَاحِدَةً وَتَارَةً يَقُولُ الْبَتّةَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطُرُقُهُ كُلّهَا ضَعِيفَةٌ وَضَعّفَهُ أَيْضًا الْبُخَارِيّ حَكَاهُ الْمُنْذِرِيّ عَنْهُ. ثُمّ كَيْفَ يُقَدّمُ هَذَا الْحَدِيثُ الْمُضْطَرِبُ الْمَجْهُولُ رِوَايَةً عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ لِجَهَالَةِ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ هَذَا وَأَوْلَادُهُ تَابِعِيّونَ وَإِنْ كَانَ عُبَيْدُ اللّهِ أَشْهَرَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ مُتّهَمٌ بِالْكَذِبِ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمَنْ يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ أَوْ يَقُولُ رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ فَهَذَا حُجّةٌ عِنْدَهُ فَأَمّا أَنْ يُضَعّفَهُ وَيُقَدّمَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْجَهَالَةِ أَوْ أَشَدّ فَكَلّا فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تَتَسَاقَطَ رِوَايَتَا هَذَيْنِ الْمَجْهُولَيْنِ وَيُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِمَا وَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ نَظَرْنَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحَ الْإِسْنَادِ وَقَدْ زَالَتْ عِلّةُ تَدْلِيسِ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ بِقَوْلِهِ حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَقَدْ احْتَجّ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ صَحّحَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِهَذَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَدّ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ بِالنّكَاحِ الْأَوّلِ وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا. وَأَمّا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ فَلَمْ تَزَلْ الْأَئِمّةُ تَحْتَجّ بِهِ وَقَدْ احْتَجّوا بِهِ فِي حَدِيثِ الْعَرَايَا فِيمَا شَكّ فِيهِ وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ مِنْ تَقْدِيرِهَا بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَهَا مَعَ كَوْنِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَحَادِيثِ الّتِي نَهَى فِيهَا عَنْ بَيْعِ الرّطَبِ بِالتّمْرِ فَمَا ذَنْبُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِوَى رِوَايَةِ مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ وَإِنْ قَدَحْتُمْ فِي عِكْرِمَةَ- وَلَعَلّكُمْ فَاعِلُونَ- جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ مِنْ التّنَاقُضِ فِيمَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ أَنْتُمْ وَأَئِمّةُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَتِهِ وَارْتِضَاءِ الْبُخَارِيّ لِإِدْخَالِ حَدِيثِهِ فِي صَحِيحِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمّا تِلْكَ الْمَسَالِكُ الْوَعِرَةُ الّتِي سَلَكْتُمُوهَا فِي حَدِيثِ أَبِي الصّهْبَاءِ فَلَا يَصِحّ شَيْءٌ مِنْهَا.
أَمّا الْمَسْلَكُ الْأَوّلُ وَهُوَ انْفِرَادُ مُسْلِمٍ بِرِوَايَتِهِ وَإِعْرَاضُ الْبُخَارِيّ عَنْهُ فَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا وَمَا ضَرّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ انْفِرَادُ مُسْلِمٍ بِهِ شَيْئًا ثُمّ هَلْ تَقْبَلُونَ أَنْتُمْ أَوْ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي كُلّ حَدِيثٍ يَنْفَرِدُ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ الْبُخَارِيّ وَهَلْ قَالَ الْبُخَارِيّ قَطّ إنّ كُلّ حَدِيثٍ لَمْ أُدْخِلْهُ فِي كِتَابِيّ فَهُوَ بَاطِلٌ أَوْ لَيْسَ بِحُجّةٍ أَوْ ضَعِيفٌ وَكَمْ قَدْ احْتَجّ الْبُخَارِيّ بِأَحَادِيثَ خَارِجَ الصّحِيحِ لَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي صَحِيحِهِ وَكَمْ صَحّحَ مِنْ حَدِيثٍ خَارِجٍ عَنْ صَحِيحِهِ فَأَمّا مُخَالَفَةُ سَائِرِ الرّوَايَاتِ لَهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فَلَا رَيْبَ أَنّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رِوَايَتَيْنِ صَحِيحَتَيْنِ بِلَا شَكّ إحْدَاهُمَا: تُوَافِقُ هَذَا الْحَدِيثَ وَالْأُخْرَى: تُخَالِفُهُ فَإِنْ أَسْقَطْنَا رِوَايَةً سَلِمَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنّهُ بِحَمْدِ اللّهِ سَالِمٌ. وَلَوْ اتّفَقَتْ الرّوَايَاتُ عَنْهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ فَلَهُ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ وَلَيْسَ بِأَوّلِ حَدِيثٍ خَالَفَهُ رَاوِيهِ فَنَسْأَلُكُمْ هَلْ الْأَخْذُ بِمَا رَوَاهُ الصّحَابِيّ عِنْدَكُمْ أَوْ بِمَا رَآهُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ الْأَخْذُ بِرِوَايَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِكُمْ بَلْ جُمْهُورُ الْأُمّةِ عَلَى هَذَا كَفَيْتُمُونَا مَئُونَةَ الْجَوَابِ. وَإِنْ قُلْتُمْ الْأَخْذُ بِرَأْيِهِ أَرَيْنَاكُمْ مِنْ تُنَاقِضُكُمْ مَا لَا حِيلَةَ لَكُمْ فِي دَفْعِهِ وَلَا سِيّمَا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ نَفْسِهِ فَإِنّهُ رَوَى حَدِيثَ بَرِيرَةَ وَتَخْيِيرَهَا وَلَمْ يَكُنْ بَيْعُهَا طَلَاقًا وَرَأَى خِلَافَهُ وَأَنّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا فَأَخَذْتُمْ- وَأَصَبْتُمْ- بِرِوَايَتِهِ وَتَرَكْتُمْ رَأْيَهُ فَهَلّا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقُلْتُمْ الرّوَايَةُ مَعْصُومَةٌ وَقَوْلُ الصّحَابِيّ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَمُخَالَفَتُهُ لِمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَاتٍ عَدِيدَةً مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ تَأْوِيلٍ أَوْ اعْتِقَادٍ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فِي ظَنّهِ أَوْ اعْتِقَادٍ أَنّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مَخْصُوصٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ فَكَيْفَ يَسُوغُ تَرْكُ رِوَايَتِهِ مَعَ قِيَامِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ؟ وَهَلْ هَذَا إلّا تَرْكُ مَعْلُومٍ لِمَظْنُونٍ بَلْ مَجْهُولٍ؟ قَالُوا: وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حَدِيثَ التّسْبِيعِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ فَأَخَذْتُمْ بِرِوَايَتِهِ وَتَرَكْتُمْ فَتْوَاهُ. وَلَوْ تَتَبّعْنَا مَا أَخَذْتُمْ فِيهِ بِرِوَايَةِ الصّحَابِيّ دُونَ فَتْوَاهُ لَطَالَ. قَالُوا: وَأَمّا دَعْوَاكُمْ نَسْخَ الْحَدِيثِ فَمَوْقُوفَةٌ عَلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ مُقَاوِمٍ مُتَرَاخٍ فَأَيْنَ هَذَا؟ وَأَمّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فِي نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الطّلَاقِ الثّلَاثِ فَلَوْ صَحّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجّةٌ فَإِنّهُ إنّمَا فِيهِ أَنّ الرّجُلَ كَانَ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ وَيُرَاجِعُهَا بِغَيْرِ عَدَدٍ فَنُسِخَ ذَلِكَ وَقُصِرَ عَلَى ثَلَاثٍ فِيهَا تَنْقَطِعُ الرّجْعَةُ فَأَيْنَ فِي ذَلِكَ الْإِلْزَامُ بِالثّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ ثُمّ كَيْفَ يَسْتَمِرّ الْمَنْسُوخُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ لَا تَعْلَمُ بِهِ الْأَمَةُ وَهُوَ مِنْ أَهَمّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلّقَةِ بِحِلّ الْفُرُوجِ ثُمّ كَيْفَ يَقُولُ عُمَرُ إنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ وَهَلْ لِلْأَمَةِ أَنَاةٌ فِي الْمَنْسُوخِ بِوَجْهٍ مَا؟ ثُمّ كَيْفَ يُعَارَضُ الْحَدِيثُ الصّحِيحُ بِهَذَا الّذِي فِيهِ عَلِيّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ وَاقِدٍ وَضَعْفُهُ مَعْلُومٌ؟. وَأَمّا حَمْلُكُمْ الْحَدِيثَ عَلَى قَوْلِ الْمُطَلّقِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَمَقْصُودُهُ التّأْكِيدُ بِمَا بَعْدَ الْأَوّلِ فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ مِنْ أَوّلِهِ إلَى آخِرِهِ يَرُدّهُ فَإِنّ هَذَا الّذِي أَوّلْتُمْ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ لَا يَتَغَيّرُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى عَهْدِهِ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ وَهَلُمّ جَرّا إلَى آخِرِ الدّهْرِ وَمَنْ يَنْوِيهِ فِي قَصْدِ التّأْكِيدِ لَا يُفَرّقُ بَيْنَ بَرّ وَفَاجِرٍ وَصَادِقٍ وَكَاذِبٍ بَلْ يَرُدّهُ إلَى نِيّتِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَقْبَلُهُ فِي الْحُكْمِ لَا يَقْبَلُهُ مُطْلَقًا بَرّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا. وَأَيْضًا فَإِنّ قَوْلَهُ إنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا وَتَتَايَعُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَنّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِم إخْبَارٌ مِنْ عُمَرَ بِأَنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا مَا جَعَلَهُمْ اللّهُ فِي فُسْحَةٍ مِنْهُ وَشَرَعَهُ مُتَرَاخِيًا بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ رَحْمَةً بِهِمْ وَرِفْقًا وَأَنَاةً لَهُمْ لِئَلّا يَنْدَمَ مُطَلّقٌ فَيَذْهَبَ حَبِيبُهُ مِنْ يَدَيْهِ مِنْ أَوّلِ وَهْلَةٍ فَيَعِزّ عَلَيْهِ تَدَارُكُهُ فَجُعِلَ لَهُ أَنَاةً وَمُهْلَةً يَسْتَعْتِبُهُ فِيهَا وَيُرْضِيهِ وَيَزُولُ مَا أَحْدَثَهُ الْعَتَبُ الدّاعِي إلَى الْفِرَاقِ وَيُرَاجِعُ كُلّ مِنْهُمَا الّذِي عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ فَاسْتَعْجَلُوا فِيمَا جُعِلَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ وَمُهْلَةٌ وَأَوْقَعُوهُ بِفَمٍ وَاحِدٍ فَرَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ يَلْزَمُهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ عُقُوبَةً لَهُمْ فَإِذَا عَلِمَ الْمُطَلّقُ أَنّ زَوْجَتَهُ وَسَكَنَهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ أَوّلِ مَرّةٍ بِجَمْعِهِ الثّلَاثَ كَفّ عَنْهَا وَرَجَعَ إلَى الطّلَاقِ الْمَشْرُوعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَكَانَ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِ عُمَرَ لِرَعِيّتِهِ لَمّا أَكْثَرُوا مِنْ الطّلَاقِ الثّلَاثِ كَمَا سَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِهِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي إلْزَامِهِ بِالثّلَاثِ وَأَمّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ مَعْنَاهُ كَانَ وُقُوعَ الطّلَاقِ الثّلَاثِ الْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدَةً فَإِنّ حَقِيقَةَ هَذَا التّأْوِيلِ كَانَ النّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً وَعَلَى عَهْدِ عُمَرَ صَارُوا يُطَلّقُونَ ثَلَاثًا وَالتّأْوِيلُ إذَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدّ كَانَ مِنْ بَابِ الْإِلْغَازِ وَالتّحْرِيفِ لَا مِنْ بَابِ بَيَانِ الْمُرَادِ وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا فَإِنّ النّاسَ مَا زَالُوا يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا وَقَدْ طَلّقَ رِجَالٌ نِسَاءَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثًا فَمِنْهُمْ مَنْ رَدّهَا إلَى وَاحِدَةٍ كَمَا فِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَغَضِبَ وَجَعَلَهُ مُتَلَاعِبًا بِكِتَابِ اللّهِ وَلَمْ يُعْرَفْ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ مَنْ أَقَرّهُ لِتَأْكِيدِ التّحْرِيمِ الّذِي أَوْجَبَهُ اللّعَانُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْزَمَهُ بِالثّلَاثِ لِكَوْنِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الطّلَاقِ آخِرَ الثّلَاثِ فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ إنّ النّاسَ مَا زَالُوا يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً إلَى أَثْنَاءِ خِلَافَةِ عُمَرَ فَطَلّقُوا ثَلَاثًا وَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ إنّهُمْ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَنُمْضِيهِ عَلَيْهِمْ وَلَا يُلَائِمُ هَذَا الْكَلَامُ الْفَرْقَ بَيْنَ عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ عَهْدِهِ بِوَجْهٍ مَا فَإِنّهُ مَاضٍ مِنْكُمْ عَلَى عَهْدِهِ وَبَعْدَ عَهْدِهِ. ثُمّ إنّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الصّحِيحَةِ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّهُ مَنْ طَلّقَ ثَلَاثًا جُعِلَتْ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَفِي لَفْظٍ أَمَا عَلِمْتَ أَنّ الرّجُلَ كَانَ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَلَى كَانَ الرّجُلُ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ فَلَمّا رَأَى النّاسَ- يَعْنِي عُمَرَ- قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا قَالَ أَجِيزُوهُنّ عَلَيْهِم جَعَلَ الْأَدِلّةَ تَبَعًا لِلْمَذْهَبِ فَاعْتَقَدَ ثُمّ اسْتَدَلّ. وَأَمّا مَنْ جَعَلَ الْمَذْهَبَ تَبَعًا لِلدّلِيلِ وَاسْتَدَلّ ثُمّ اعْتَقَدَ لَمْ يُمْكِنْهُ هَذَا الْعَمَلُ. وَأَمّا قَوْلُ مَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ هُوَ الّذِي يَجْعَلُ ذَلِكَ وَلَا أَنّهُ عَلِمَ بِهِ وَأَقَرّهُ عَلَيْهِ فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ سُبْحَانَك هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ أَنْ يَسْتَمِرّ هَذَا الْجَعْلُ الْحَرَامُ الْمُتَضَمّنُ لِتَغْيِيرِ شَرْعِ اللّهِ وَدِينِهِ وَإِبَاحَةُ الْفَرْجِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ حَلَالٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ خَيْرِ الْخَلْقِ وَهُمْ يَفْعَلُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ هُوَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُقِرّهُمْ عَلَيْهِ فَهَبْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ وَكَانَ الصّحَابَةُ يَعْلَمُونَهُ وَيُبَدّلُونَ دِينَهُ وَشَرْعَهُ وَاللّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يُوحِيهِ إلَى رَسُولِهِ وَلَا يُعْلِمُهُ بِهِ ثُمّ يَتَوَفّى اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَسْتَمِرّ هَذَا الضّلَالُ الْعَظِيمُ وَالْخَطَأُ الْمُبِينُ عِنْدَكُمْ مُدّةَ خِلَافَةِ الصّدّيقِ كُلّهَا يُعْمَلُ بِهِ وَلَا يُغَيّرُ إلَى أَنْ فَارَقَ الصّدّيقُ الدّنْيَا وَاسْتَمَرّ الْخَطَأُ وَالضّلَالُ الْمُرَكّبُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ حَتّى رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ أَنْ يُلْزِمَ النّاسَ بِالصّوَابِ فَهَلْ فِي الْجَهْلِ بِالصّحَابَةِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَهْدِ نَبِيّهِمْ وَخُلَفَائِهِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَتَاللّهِ لَوْ كَانَ جَعْلُ الثّلَاثِ وَاحِدَةً خَطَأً مَحْضًا لَكَانَ أَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْخَطَأِ الّذِي ارْتَكَبْتُمُوهُ وَالتّأْوِيلِ الّذِي تَأَوّلْتُمُوهُ وَلَوْ تَرَكْتُمْ الْمَسْأَلَةَ بِهَيْئَتِهَا لَكَانَ أَقْوَى لِشَأْنِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَدِلّةِ وَالْأَجْوِبَةِ. قَالُوا: وَلَيْسَ التّحَاكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى مُقَلّدٍ مُتَعَصّبٍ وَلَا هَيّابٍ لِلْجُمْهُورِ وَلَا مُسْتَوْحِشٍ مِنْ التّفَرّدِ إذَا كَانَ الصّوَابُ فِي جَانِبِهِ وَإِنّمَا بِنَيْلِهِ ذِرَاعُهُ وَفَرّقَ بَيْنَ الشّبْهَةِ وَالدّلِيلِ وَتَلَقّى الْأَحْكَامَ مِنْ نَفْسِ مِشْكَاةِ الرّسُولِ وَعَرَفَ الْمَرَاتِبَ وَقَامَ فِيهَا بِالْوَاجِبِ وَبَاشَرَ قَلْبُهُ أَسْرَارَ الشّرِيعَةِ وَحِكَمَهَا الْبَاهِرَةَ وَمَا تَضَمّنَتْهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْبَاطِنَةِ وَالظّاهِرَةِ وَخَاضَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَضَايِقِ لُجَجَهَا وَاسْتَوْفَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ حُجَجَهَا وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ. قَالُوا: وَأَمّا قَوْلُكُمْ إذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْنَا الْأَحَادِيثُ نَظَرْنَا فِيمَا عَلَيْهِ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فَنَعَمْ وَاَللّهِ وَحَيّهَلَا بِيَرَكِ الْإِسْلَامِ وَعِصَابَةِ الْإِيمَانِ.
فَلَا تَطَلّبْ لِي الْأَعْوَاضَ بَعْدَهُم ** فَإِنّ قَلْبِي لَا يَرْضَى بِغَيْرِهِمْ

وَلَكِنْ لَا يَلِيقُ بِكُمْ أَنْ تَدْعُونَا إلَى شَيْءٍ وَتَكُونُوا أَوّلَ نَافِرٍ عَنْهُ وَمُخَالِفٍ لَهُ فَقَدْ تُوُفّيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ عَيْنٍ كُلّهُمْ قَدْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ فَهَلْ صَحّ لَكُمْ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلّهِمْ أَوْ عُشْرِهِمْ أَوْ عُشْرِ عُشْرِهِمْ أَوْ عُشْرِ عُشْرِ عُشْرِهِمْ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الثّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ؟ هَذَا وَلَوْ جَهَدْتُمْ كُلّ الْجَهْدِ لَمْ تُطِيقُوا نَقْلَهُ عَنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنْهُمْ أَبَدًا مَعَ اخْتِلَافٍ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَدَ صَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ الْقَوْلَانِ وَصَحّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ الْقَوْلُ بِاللّزُومِ وَصَحّ عَنْهُ التّوَقّفُ وَلَوْ كَاثَرْنَاكُمْ بِالصّحَابَةِ الّذِينَ كَانَ الثّلَاثُ عَلَى عَهْدِهِمْ وَاحِدَةً لَكَانُوا أَضْعَافَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ وَنَحْنُ نُكَاثِرُكُمْ بِكُلّ صَحَابِيّ مَاتَ إلَى صَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَيَكْفِينَا مُقَدّمُهُمْ وَخَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ بَلْ لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا وَلَصَدَقْنَا: إنّ هَذَا كَانَ إجْمَاعًا قَدِيمًا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ عَلَى عَهْدِ الصّدّيقِ اثْنَانِ وَلَكِنْ لَا يَنْقَرِضُ عَصْرُ الْمُجْمِعِينَ حَتّى حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فَلَمْ يَسْتَقِرّ الْإِجْمَاعُ الْأَوّلُ حَتّى صَارَ الصّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاسْتَمَرّ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمّةِ فِي ذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ ثُمّ نَقُولُ لَمْ يُخَالِفْ عُمَرُ إجْمَاعَ مَنْ تَقَدّمَهُ بَلْ رَأَى إلْزَامَهُمْ وَتَتَايَعُوا فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا سَائِغٌ لِلْأَئِمّةِ أَنْ يُلْزِمُوا النّاسَ بِمَا ضَيّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا فِيهِ رُخْصَةَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَتَسْهِيلَهُ بَلْ اخْتَارُوا الشّدّةَ وَالْعُسْرَ فَكَيْفَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَمَالِ نَظَرِهِ لِلْأُمّةِ وَتَأْدِيبِهِ لَهُمْ وَلَكِنّ الْعُقُوبَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ وَالتّمَكّنِ مِنْ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ وَخَفَائِهِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إنّ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْأُمّةِ يَكُفّهُمْ بَهْ عَنْ التّسَارُعِ إلَى إيقَاعِ الثّلَاثِ وَلِهَذَا قَالَ فَلَوْ أَنّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فَأَجِيزُوهُنّ عَلَيْهِمْ أَفَلَا يُرَى أَنّ هَذَا رَأْيٌ مِنْهُ رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ لَا إخْبَارٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمّا عَلِمَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ تِلْكَ الْأَنَاةَ وَالرّخْصَةَ نِعْمَةٌ مِنْ اللّهِ عَلَى الْمُطَلّقِ وَرَحْمَةٌ بِهِ وَإِحْسَانٌ إلَيْهِ وَأَنّهُ قَابَلَهَا بِضِدّهَا وَلَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللّهِ وَمَا جَعَلَهُ لَهُ مِنْ الْأَنَاةِ عَاقَبَهُ بِأَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَأَلْزَمَهُ مَا أَلْزَمَهُ مِنْ الشّدّةِ وَالِاسْتِعْجَالِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِحِكْمَةِ اللّهِ فِي خَلْقِهِ قَدَرًا وَشَرْعًا فَإِنّ النّاسَ إذَا تَعَدّوْا حُدُودَهُ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَهَا ضَيّقَ عَلَيْهِمْ مَا جَعَلَهُ لِمَنْ اتّقَاهُ مِنْ الْمَخْرَجِ وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَنْ قَالَ مِنْ الصّحَابَةِ لِلْمُطَلّقِ ثَلَاثًا: إنّك لَوْ اتّقَيْتَ اللّهَ لَجَعَلَ لَك مَخْرَجًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبّاسٍ. فَهَذَا نَظَرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ لَا أَنّهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ غَيّرَ أَحْكَامَ اللّهِ وَجَعَلَ حَلَالَهَا حَرَامًا فَهَذَا غَايَةُ التّوْفِيقِ بَيْنَ النّصُوصِ وَفِعْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُ وَأَنْتُمْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ ذَلِكَ إلّا بِإِلْغَاءِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَهَذَا نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الضّنْكِ وَالْمُعْتَرَكِ الصّعْبِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.