فصل: فتيا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (مسألة في الغيبة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **


  فتيا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ‏(‏مسألة في الغيبة‏)‏

هل تجوز على أناس معينين أو يعين شخص بعينه وما حكم ذلك أفتونا بجواب بسيط ليعلم ذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويستمد كل واحد بحسب قوته بالعلم والحكم‏.‏

الجواب‏:‏ الحمد لله رب العالمين أصل الكلام في هذا أن يعلم أن الغيبة هي كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما سئل عن الغيبة فقال ‏"‏ هي ذكرك أخاك بما يكره ‏"‏ قيل‏:‏ يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال ‏"‏ إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ‏"‏‏.‏

بين صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة والبهتان وأن الكذب عليه بهت له كما قال سبحانه ‏)‏لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم‏(‏ وقال تعالى ‏)‏ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن‏(‏ وفي الحديث الصحيح ‏"‏ أن اليهود قوم بهت ‏"‏‏.‏

فالكذب على الشخص حرام كله سواء كان الرجل مسلماً أو كافراً براً أو فاجراً لكن الافتراء على المؤمن أشد بل الكذب كله حرام‏.‏

ولكن يباح عند الحاجة الشرعية - المعاريض - وقد تسمى كذباً لأن الكلام يعني به المتكلم المحض وإن كان على ما يعنيه ولكن ليس على ما يفهمه المخاطب فهذه المعاريض وهي كذب باعتبار الإفهام وإن لم تكن كذباً باعتبار الغاية السائغة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله‏:‏ قوله لسارة أختي وقوله ‏)‏بل فعله كبيرهم هذا‏(‏ وقوله ‏)‏إني سقيم‏(‏ ‏"‏ وهذه الثلاثة معاريض وبها احتج العلماء على جوار التعريض للمظلوم وهو أن يعني بكلامه ما يحتمله اللفظ وإن لم يفهمه المخاطب ولهذا قال من قال من العلماء إن ما رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو من هذا كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ ليس بالكاذب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً أو ينمي خيراً ‏"‏ ولم يرخص فيما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاث في الإصلاح بين الناس وفي الحرب وفي الرجل يحدث امرأته‏.‏

قال فهذا كله من المعاريض خاصة ولهذا نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم اسم الكذب باعتبار القصد والغاية كما ثبت عنه أنه قال ‏"‏ الحرب خدعة ‏"‏ وأنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها‏.‏

ومن هذا الباب قول الصديق في سفر الهجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل يهديني السبيل ‏"‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم للكافر السائل له في غزوة بدر ‏"‏ نحن من ماء ‏"‏ وقوله للرجل الذي حلف على المسلم الذي أراد الكفار أسره ‏"‏ أنه أخي ‏"‏ وعنى أخوة الدين وفهموا منه أخوة النسب فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن كنت لأبرهم وأصدقهم المسلم أخو والمقصود هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الاغتياب وبين البهتان وأخبر أن المخبر بما يكره أخوه المؤمن عنه إذا كان صادقاً فهو المغتاب وفي قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ذكرك أخاك بما يكره ‏"‏ موافقة لقوله تعالى ‏)‏ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه‏(‏ فجعل جهة التحريم كونه أخاً أخو الإيمان ولذلك تغلظت الغيبة بحسب حال المؤمن فكلما كان أعظم إيماناً كان اغتيابه أشد‏.‏

ومن جنس الغيبة الهمز واللمز فإن كلاهما فيه عيب الناس والطعن عليهم كما في الغيبة لكن الهمز هو الطعن بشدة وعنف بخلاف اللمز فإنه قد يخلو من الشدة والعنف كما قال تعالى ‏)‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏(‏ أي يعيبك ويطعن عليك‏.‏

وقال تعالى ‏)‏ولا تلمزوا أنفسكم‏(‏ أي لا يلمز بعضكم بعضاً‏.‏

وقال ‏)‏هماز مشاء بنميم‏(‏ وقال ‏)‏ويل لكل همزة لمزة‏(‏‏.‏

إذا تبين هذا فنقول‏:‏ ذكر الناس بما يكرهون هو في الأصل على وجهين ‏)‏أحدهما‏(‏ ذكر النوع ‏)‏والثاني‏(‏ ذكر الشخص المعين الحي أو الميت‏.‏

أما الأول فكل صنف ذمه الله ورسله يجب ذمه وليس ذلك من الغيبة كما أن كل صنف مدحه الله ورسوله يجب مدحه وما لعنه الله ورسوله لعن كما أن من صلى الله عليه وملائكته يصلى عليه فالله تعالى ذم الكافر والفاجر والفاسق والظالم والغاوي والضال والحاسد والبخيل والساحر وآكل الربا وموكله والسارق والزاني والمختال والفخور والمتكبر الجبار وأمثال هؤلاء كما حمد المؤمن التقي والصادق والبار والعادل والمهتدي والراشد والكريم والمتصدق والرحيم وأمثال هؤلاء ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له ولعن من عمل عمل قوم لوط ولعن من أحد حدثاً أو آوى محدثاً ولعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها ولعن اليهود والنصارى حيث حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها ولعن الله الذي يكتمون ما أنزل الله من البينات من بعد ما بينه للناس وذكر لعنة الظالمين‏.‏

والله هو وملائكته يصلون على النبي ويصلون على الذين آمنوا والصابر المسترجع عليه صلاة من ربه ورحمة والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان والطير وأمر الله نبيه أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات‏.‏

فإذا كان المقصود الأمر بالخير والترغيب فيه والنهي عن الشر والتحذير منه فلا بد من ذكر ذلك ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه أن أحداً فعل ما ينهي عنه يقول ‏"‏ ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ‏"‏ ‏"‏ ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده ‏"‏ ‏"‏ ما بال رجال يقول أحدهم‏:‏ أما أنا فأصوم ولا أفطر ويقول الآخر أما أنا فأقوم ولا أنام ويقول الآخر‏:‏ لا أتزوج النساء‏.‏

ويقول الآخر‏:‏ لا آكل اللحم لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنا وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني ‏"‏‏.‏

وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة والصلاة واللعن بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك مثل أسماء القبائل والمدائن والمذاهب والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ ونحو ذلك مما يراد به التعريف كما قال تعالى ‏)‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏(‏ وقال تعالى ‏)‏ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون‏(‏ وقال ‏)‏تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً‏(‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن آل أبي فلان ليسوا ليس بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ‏"‏ وقال ‏"‏ إلا أن أوليائي المتقون حيث كانوا ومن كانوا ‏"‏ وقال ‏"‏ إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء‏.‏

الناس رجلان‏:‏ مؤمن تقي وفاجر شقي الناس من آدم وآدم من تراب ‏"‏ وقال ‏"‏ أنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ‏"‏‏.‏

فذكر الأزمان والعدل بأسماء الإيثار والولاء والبلد والانتساب إلى عالم أو شيخ إنما يقصد بها التعريف به ليتميز عن غيره فأما الحمد والذم والحب والبعض والموالاة والمعاداة فإنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه وسلطانه كتابه فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان قال تعالى ‏)‏إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون‏(‏ وقال تعالى ‏)‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض‏(‏ وقال تعالى ‏)‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏(‏ وقال تعالى ‏)‏لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏(‏ وقال تعالى ‏)‏أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا‏(‏ وقال تعالى ‏)‏لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه‏(‏‏.‏

ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطى من الموالاة بحسب إيمانه ومن البغض بحسب فجوره ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي كما يقوله الخوارج والمعتزلة ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة قال الله تعالى ‏)‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين - إلى قوله - إنما المؤمنون أخوة‏(‏ فجعلهم أخوة مع وجود الاقتتال والبغي وقال تعالى ‏)‏أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار‏(‏ وقد قال تعالى ‏)‏ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر‏(‏ فهذا الكلام في الأنواع‏.‏

وأما الشخص المعين فيذكر ما فيه من الشر في مواضع ‏)‏منها‏(‏ المظلوم له إن يذكر ظالمه بما فيه إما على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقه كما قالت هند‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي‏.‏

فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ‏"‏ كما قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ‏"‏ وقال وكيع‏:‏ عرضه شكايته وعقوبته حبسه وقال تعالى ‏)‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم‏(‏ وقد روى‏:‏ إنها نزلت في رجل نزل بقوم فلم يقروه‏.‏

فإذا كان هذا فيمن ظلم بترك قراه الذي تنازع الناس في وجوبه وإن كان الصحيح أنه واجب فكيف بمن ظلم بمنع حقه الذي اتفق المسلمون على استحقاقه إياه أو يذكر ظالمه على وجه القصاص من غير عدوان ولا دخول في كذب ولا ظلم الغير وترك ذلك أفضل‏.‏

ومنها أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم من الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبي صلى الله عليه وسلم من تنكج وقالت‏:‏ أنه خطبني معاوية وأبو جهم فقال ‏"‏ أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء ‏"‏ وروي ‏"‏ لا يضع عصاه عن عاتقه ‏"‏ فبين لها أن هذا فقير قد يعجز عن حقك وهذا يؤذيك بالضرب‏.‏

وكان هذا نصحاً لها - وإن تضمن ذكر عيب الخاطب‏.‏

وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله ومن يوكله ويوصي إليه ومن يستشهده بل ومن يتحاكم إليه‏.‏

وأمثال ذلك وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين من الأمراء والحكام والشهود والعمال أهل الديوان وغيرها فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الدين النصيحة الدين النصيحة ‏"‏ قالوا لمن يا رسول الله قال ‏"‏ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ‏"‏‏.‏

وقد قالوا لعمر بن الخطاب‏:‏ في أهل الشورى أمر فلاناً وفلاناً فجعل يذكر في حق كل واحد من الستة - وهم أفضل الأمة - أمراً جعله مانعاً له من تعيينه‏.‏

وإذا كان النصح واجباً في المصالح الدينية الخاصة والعامة مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد‏:‏ سألت مالكاً والثوري والليث بن سعد - أظنه - والأوزاعي وقال بعضهم لأحمد بن حنبل‏:‏ أنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا فقال‏:‏ إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم‏.‏

ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل‏:‏ الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع فقال‏:‏ إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل‏.‏

فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله إذ تطهير سبل الله ودينه ومناهجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ‏"‏ وذلك أن الله يقول في كتابه ‏)‏لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب‏(‏ فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم بالقسط وأنه أنزل الحديد كما ذكر‏.‏

فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر ‏)‏وكفى بربك هادياً ونصيرا‏(‏‏.‏

والكتاب هو الأصل ولهذا أول ما بعث الله رسوله أنزل عليه الكتاب ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوان على الجهاد‏.‏

وأعداء الدين نوعان‏:‏ الكفار والمنافقون وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله ‏)‏جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم‏(‏ في آيتين من القرآن‏.‏

فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعاً تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبدل الدين كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله‏.‏

وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوهم قولهم حقاً وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاء إلى بدع المنافقين كما قال تعالى ‏)‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم‏(‏ فلا بد أيضاً من بيان حال هؤلاء بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم‏.‏

وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم يكن كذلك لوجب بيان حالها‏.‏

ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة وإن كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه وهو مأجور على اجتهاده فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله‏.‏

ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له فإن الله غفر له خطاه بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك وإن علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن أبي وذويه وكما علم المسلمون نفاق الرافضة عبد الله بن سبأ وأمثاله مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب فهذا يذكر بالنفاق وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقاً أو مؤمناً مخطئاً ذكر بما يعلم منه فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصداً بذلك وجه الله تعالى وأن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثماً وكذلك القاضي والشاهد والمفتي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار وقاض في الجنة‏:‏ رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق فقضى بخلاف ذلك فهو في النار ‏"‏ وقد قاتل تعالى ‏)‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى إن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا‏(‏ واللي هو الكذب والإعراض كتمان الحق ومثله ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذاب وكتما محقت بركة بيعهما ‏"‏‏.‏

ثم القائل في ذلك بعلم لا بد له من حسن النية فلو تكلم بحق لقصد العلو في الأرض أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حمية ورياء‏.‏

وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصاً له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرسل وليس هذا الباب مخالفاً لقوله ‏"‏ الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ‏"‏ فإن الأخ هو المؤمن وأخا المؤمن إن كان صادقاً في إيمانه لم يكره ما قلته من هذا الحق الذي يحبه الله ورسوله وإن كان فيه شهادة عليه وعلى ذويه بل عليه أن يقوم بالقسط ويكون شاهداً لله ولو على نفسه أو والديه أو أقربيه ومتى كره هذا الحق كان ناقصاً في إيمانه ينقص من أخوته بقدر ما نقص من إيمانه فلم يعتبر كراهته من الجهة التي نقص منها إيمانه إذ كراهته لما يحبه الله ورسوله توجب تقديم محبة الله ورسوله كما قال تعالى ‏)‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏(‏‏.‏

ثم قد يقال‏:‏ هذا لم يدخل في حديث الغيبة لفظاً ومعنى وقد يقال دخل في ذلك الذين خص منه كما يخص العموم اللفظي والعموم المعنوي وسواء زال الحكم لزوال سببه أو لوجود مانعه فالحكم واحد والنزاع في ذلك يؤول إلى اللفظ إذ العلة قد يعني بها التامة وقد يعني بها المقتضي والله أعلم وأحكم‏.‏

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل مجموع من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره وما حققه في مواضع من كتبه ومؤلفاته بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين سؤال ورد على الشيخ تقي الدين بن تيمية رضي الله عنه من الديار المصري في شوال سنة أربع عشرة وسبعمائة في حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام وهل يخلق لعلة أو لغير علة فإن قيل لا لعلة فهو عبث تعالى الله عنه وإن قيل لعلة فإن قلتم أنها لم تزل لزم أن يكون المعلول لم يزل وإن قلتم أنها محدثة لزم أن يكون لها علة والتسلسل محال‏.‏

‏)‏الجواب‏(‏ الحمد لله رب العالمين‏.‏

هذه المسئلة من أجل المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس وأعظمها شعباً وفروعاً وأكثرها شبهاً ومحارات‏.‏

فإن لها تعلقاً بصفات الله تعالى وبأسمائه وأفعاله وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد وهي داخلة في خلقه وأمره فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسئلة فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق سبحانه وكذلك الشرائع كلها‏:‏ الأمر والنهي والوعد والوعيد متعلقة بها وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر ومسائل الصفات والأفعال وهذه جوامع علوم الناس فعلم الفقه هو الأمر والنهي‏.‏

وقد تكلم الناس في تعليل الأحكام الشرعية والأمر والنهي كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل والصلاة والزكاة والصيام والحج والنهي عن الشرك والكذب والظلم والفواحش هل أمر بذلك لحكمة ومصلحة وعلة اقتضت ذلك أم ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة وهل علل الشرع بمعنى الداعي والباعث أو بمعنى الإمارة والعلامة وهل يسوغ في الحكمة أن ينهى الله عن التوحيد والصدق والعدل ويأمر بالشرك والكذب والظلم أم لا‏.‏

وتكلم الناس في تنزيه الله تعالى عن الظلم هل هو منزه عنه مع قدرته عليه أم الظلم ممتنع لنفسه لا يمكن وقوعه‏.‏

وتكلموا في محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه هل هو بمعنى إرادته وهو الثواب والعقاب المخلوق أم هذه صفات أخص من الإرادة‏.‏

وتنازعوا فيما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان هل يريده ويحبه ويرضاه كما يريد ويحب سائر ما يحدث أم هو واقع بدون قدرته ومشيئته وهو لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً أم هو واقع بقدرته ومشيئته ولا يكون في ملكه ما لا يريد وله في جميع خلقه حكمة بالغة وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه وإن أراده الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه وفروع هذه المسئلة كثيرة‏.‏

ولأجل تجاذب الأصل ووقوع الاشتباه فيه صار الناس فيه إلى التقديرات الثلاثة المذكورة في سؤال السائل وكل تقدير قال به طواف بني آدم من المسلمين وغير المسلمين‏.‏

‏)‏فالتقدير الأول‏(‏ هو قول من يقول خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعة ولا لداع ولا باعث بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة وهذا قول كثير ممن يثبت القدر وينتسب إلى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم‏.‏

وقد قال بهذا طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول الأشعري وأصحابه وقول كثير من نفاة القياس الظاهرية كابن حزم وأمثاله‏.‏

ومن حجة هؤلاء أنه لو خلق لعلة لكان ناقصاً بدونها مستكملاً بها فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء أو يكون وجودها أولى به‏.‏

فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به فيكون مستكملاً بها فيكون قبلها ناقصاً‏.‏

ومن حجتهم ما ذكره السائل من أن العلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلوم لأن العلة الغائية وإن كانت متقدمة على المعلوم في العلم والقصد كما يقال‏:‏ أول الفكرة آخر العمل وأول البغية آخر الدرك‏.‏

ويقال أن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلاً فلا ريب أنها متأخرة في الوجود عن العمل فمن فعل فعلاً لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب بعد الفعل فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديماً كان الفعل قديماً بطريق الأولى‏.‏

فلو قيل أنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة وإن قيل أنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران ‏)‏أحدهما‏(‏ أن يكون محلاً للحوادث فإن العلة إذا كانت منفصلة عنه فإن لم يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها وإذا قدر أنه عاد إليه منها حكم كان ذلك حادثاً فتقوم به الحوادث‏.‏

‏)‏والمحذور الثاني‏(‏ أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين ‏)‏أحدهما‏(‏ أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضاً مما يحدثه الله تعالى بقدرته ومشيئته فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها فإذا كان كل ما أحدثه لعلة والعلة مما أحدثه لزم تسلسل الحوادث ‏)‏الثاني‏(‏ أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه وإن كانت مرادة لغيرها فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل‏.‏

وهذا نحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه‏.‏

والتقدير الثاني قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية قديمة كما يقول ذلك طوائف من المسلمين كما سيأتي بيانه كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة القائلين بقدم العالم‏.‏

وهؤلاء أصل قولهم أن للمبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها لا يجوز أن يتأخر عنها معلولها‏.‏

وأعظم حججهم قولهم أن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما يستلزم المعلول فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة وإن لم تكن العلة التامة التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضى التام لوجود الفعل وهيجميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل وإن لم يكن جميعها في الأزل فلا بد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم التسلسل‏.‏

قالوا فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح‏.‏

ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلة ولكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية ويقولون مع هذا ليس له إرادة بل هو موجب بالذات فال فاعل بالاختيار‏.‏

وقولهم باطل من وجوه كثيرة‏:‏ منها أن يقال هذا القول يستلزم أن لا يحدث شيء وإن كل ما حدث حدث بغير إحداث محدث‏.‏

ومعلوم أن بطلان هذا أبين من بطلان التسلسل وبطلان الترجيح بلا مرجح وذلك أن العلة التامة المستلزمة لمعلولها يقترن بها معلولها ولا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها فكل ما حدث من الحوادث لا يجوز أن يحدث عن هذه العلة التامة وليس هناك ما يصدر عنه الممكنات سوى الواجب بنفسه الذي سماه هؤلاء علة تامة فإذا امتنع صدور الحوادث عنه وليس هناك ما يحدثها غيره لزم أن يحدث بلا محدث‏.‏

وأيضاً فلو قدر أن غيره أحدثها فإن كان واجباً بنفسه كان القول فيه كالقول في الواجب الأول‏.‏

وأصل قولهم أن الواجب بنفسه علة تامة تستلزم مقارنة معلوله له فلا يجوز أن يصدر على قولهم عن العلة التامة حادث لا بواسطة ولا بغير واسطة لأن تلك الواسطة إن كانت من لوازم وجوده كانت قديمة معه فامتنع صدور الحوادث عنها وإن كانت حادثة كان القول فيها كالقول في غيرها‏.‏

وإن قدر أن المحدث للحوادث غير واجب بنفسه كان ممكناً مفتقراً إلى موجب يوجب به‏.‏

ثم إن قيل أنه محدث كان من الحوادث وإن قيل أنه قديم كان له علة تامة مستلزمة له وامتنع حينئذ حدوث الحوادث عنه فإن الممكن لا يوجد هو ولا شيء من صفاته وأفعاله إلا عن الواجب بنفسه‏.‏

فإذا قدر حدوث الحوادث عن ممكن قديم معلول لعلة قديمة قيل هل حدث فيه سبب يقتضي الحدوث أم لا فإن قيل لم يحدث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن قيل حدث سبب لزم التسلسل كما تقدم‏.‏

الوجه الثاني الذي يبين بطلان قولهم أن يقال‏:‏ مضمون الحجة أنه إذا لم يكن ثم علة قديمة لزم التسلسل أو الترجيح بلا مرجح والتسلسل عندكم جائز‏.‏

فإن أصل قولهم أن هذه الحوادث متسلسلة شيئاً بعد شيء وإن حركات الفلك توجب استعداد القوابل لأن تفيض عليها الصور الحادثة من العلة القديمة سواء قلتم هي العقل الفعال أو هي الواجب الذي يصدر عنه بتوسط العقول أو غير ذلك من الوسائط وإذا كان التسلسل جائزاً عندكم لم يمتنع حدوث الحوادث من غير علة موجبة للمعلول وإن لزم التسلسل بل هذا خير في الشرع والعقل من قولكم وذلك أن الشرع أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وهذا مما اتفق عليه الملل‏:‏ المسلمون واليهود والنصارى‏.‏

فإن قيل بأنه خلقها بسبب حادث قبل ذلك كان خيراً من قولهم أنها قديمة أزلية معه في الشرع وكان أولى في العقل لأن العقل ليس فيه ما يدل على قدم هذه الأفلاك حتى يعارض الشرع وهذه الحجة العقلية إنما تقتضي أنه لا يحدث شيء إلا بسبب حادث فإذا قيل أن السموات والأرض خلقها الله تعالى بما حدث قبل ذلك لم يكن في حجتكم العقلية ما يبطل هذا‏.‏

الوجه الثالث أن يقال حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية إما أن يكون ممكناً في العقل أو ممتنعاً فإن كان ممتنعاً في العقل لزم أن الحوادث جميعها لها أول كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك وإن كان محدثاً أمكن أن يكون حدوث ما أحدثه الله تعالى كالسموات والأرض موقوفاً على حوادث قبل ذلك كما تقولون أنتم فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك فيلزم فساد حجتكم على التقديرين‏.‏

ثم يقال‏:‏ إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية مطلوبة وإما لا تثبتوا فإن لم تثبتوا بطل قولكم بإثبات العلة الغائية وبطل ما تذكرونه من حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات وأيضاً فالوجود يبطل هذا القول فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوق العد والإحصاء كإحداثه سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته وقت حاجة الخلق إليه كإحداث المطر وقت الشتاء بقدر الحاجة وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه وإن أثبتم له حكمة مطلوبة - وهي باصطلاحكم العلة الغائية - لزمكم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة فإن القول بأن الفاعل فعل كذا لحكمة كذا بدون كونه مريداً لتلك الحكمة المطلوب جمع بين النقيضين وهؤلاء المتفلسفة من أكثر الناس تناقضاً ولهذا يجعلون العلم هو العالم والعلم هو الإرادة والإرادة هي القدرة وأمثال ذلك‏.‏

وأما التقدير الثالث وهو أنه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة فهذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرامية والمرجئة وغيرهم وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وأكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم كأبي البركات وأمثاله لكن هؤلاء على أقوال‏:‏ منهم من قال أن الحكمة المطلوبة مخلوقة منفصلة عنه أيضاً كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم وقالوا الحكمة في ذلك إحسانه إلى الخلق والحكمة في الأمر تعريض المكلفين للثواب وقالوا إن فعل الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل‏.‏

فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم ولا قام به فعل ولا نعت فقال لهم الناس أنتم متناقضون في هذا القول لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله أما لتكميل نفسه بذلك وإما لقصده الحمد والثواب بذلك وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بذلك الإحسان الألم وإما للتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه بل مثل هذا يعد عبثاً في عقول العقلاء وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة كان عبثاً ولم يكن محموداً على هذا وأنتم عللتم أفعاله فراراً من العبث فوقعتم في العبث فإن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من العقلاء أحداً بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل لا يستحسن من الآمر‏.‏

ونشأ من هذا الكلام نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في مسئلة التحسين والتقبيح العقلي فأثبت ذلك المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث وغيرهم وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه ونفى ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم واتفق الفريقان على أن الحسن والقبح إذا فسرا بكون الفعل نافعاً للفاعل ملائماً له وكونه ضاراً للفاعل منافراً له أنه يمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا وهذا ليس كذلك بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له والذم والعقاب المرتب على معصيته ضار للفاعل ومفسدة له والمعتزلة أثبتت الحسن في أفعال الله تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله‏.‏

ومنازعوهم لما اعتقدوا أن لا حسن ولا قبح إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك وقالوا القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته وكل ما يقدر ممكننا من الأفعال فهو حسن إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول وأولئك أثبتوا حسناً وقبحاً لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته إذ عندهم لا يقوم بذاته وصف ولا فعل ولا غير ذلك وإن كانوا قد يتناقضون‏.‏

ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح فجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته فلا يثبتون له مشيئة عامة ولا قدرة تامة فلا يجعلونه ‏)‏على كل شيء قدير‏(‏ ولا يقولون ‏"‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ‏"‏ ولا يقرون بأنه خالق كل شيء‏.‏

ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه سبحانه فإنه قال ‏)‏ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً‏(‏ أي لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته‏.‏

وقال تعالى ‏)‏ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد‏(‏ وقال صلى الله عليه وسلم في حديث البطاقة الذي رواه الترمذي وغيره ‏"‏ يجاء برجل من أمتي يوم القيامة فتنشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر فيقال له‏:‏ هل تنكر من هذا شيئاً فيقول‏:‏ لا يا رب فيقال له لا ظلم عليك اليوم ويؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ‏"‏ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلم بل يثاب على ما أتى به من التوحيد كما قال تعالى ‏)‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏(‏‏.‏

وجمهور هؤلاء الذين يسمون أنفسهم عدلية يقولون من فعل كبيرة واحداً أحطبت جميع حسناته وخلد في نار جهنم فهذا الذي سماه الله ورسوله ظلماً يصفون الله به مع دعواهم تنزيهه عن الظلم ويسمون تخصيصه من يشاء برحمته وفضله وخلقه ما خلقه لما له فيه من الحكمة البالغة ظلماً‏.‏

والكلام في هذه الأمور مبسوطفي غير هذا الموضع ‏)‏وإنما‏(‏ نبهنا على مجامع أصول الناس في هذا المقام‏.‏

وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه ومذهبهم أنه لا يقدر أن يفعل مع مخلوق من المصلحة الدينية غير ما فعل ولا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً‏.‏

وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام وغيرهم والمتفلسفة أيضاً فلا يوافقونهم على هذا بل يقولون أنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وهو يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك‏.‏

والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرسال محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كما قال تعالى ‏)‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏(‏ فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى ‏)‏لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة‏(‏ وقال تعالى ‏)‏وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين‏(‏ وقال تعالى ‏)‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً‏(‏ قالوا هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

فإذا قال قائل فقد تضرر برسالته طائفة من الناس كالذين كذبوه من المشركين وأهل الكتاب أحدهما أنه نفعهم بحسب الإمكان فإنه أضعف شرهم الذي كانوا يفعلونه لولا الرسالة بإظهار الحجج والآيات التي زلزلت ما في قلوبهم وبالجهاد والجزية التي أخافتهم وأذلتهم حتى قل شرهم ومن قتله منهم مات قبل أن يطول عمره في الكفر فيعظم كفره وكان ذلك تقليلاً لشره والرسل صلوات الله عليهم بعثوا لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان‏.‏

والجواب الثاني أن ما حصل من الضرر أمر مغمور في جنب ما حصل من النفع كالمطر الذي عم نفعه إذا خرب به بعض البيوت أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقاصرين ونحوهم وما كان نفعه ومصلحته عامة كان خيراً مقصوداً ورحمة محبوبة وإن تضرر به بعض الناس‏.‏

وهذا الجواب أجاب به طوائف من المسلمين وأهل الكلام والفقه وغيرهم من الحنفية والحنبلية وغيرهم ومن الكرامية والصوفية وهو جواب كثير من المتفلسفة‏.‏

وقال هؤلاء جميع ما يحدث في الوجود من الضرر فلا بد فيه من حكمة قال تعالى ‏)‏صنع الله الذي أتقن كل شيء‏(‏ وقال ‏)‏الذي أحسن كل شيء خلقه‏(‏ والضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شراً مطلقاً وإن كان شراً بالنسبة إلى من تضرر به‏.‏

ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله بل لا يذكر الشر إلا على أحد وجوه ثلاثة إما أن يدخل في عموم المخلوقات فإنه إذا دخل في العموم أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تعلق بالعموم وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل وإما أن يحذف فاعله‏.‏

فالأول كقوله تعالى ‏)‏الله خالق كل شيء‏(‏ ونحو ذلك ومن هذا الباب أسماء الله المقترنة كالمعطي المانع والضار النافع المعز والمذل الخافض الرافع فلا يفرد الاسم المانع عن قرينه ولا الضار عن قرينه لأن اقترانها يدل على العموم وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله تعالى وما في الوجود من غير ذلك فمن عدله فكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع ‏"‏ فأخبر أن يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع فخفضه ورفعه من عدله وإحسانه إلى خلقه من فضله‏.‏

وأما حذف الفاعل فمثل قول الجن ‏)‏وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً‏(‏ وقوله تعالى ‏)‏صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏(‏ ونحو ذلك‏.‏

وإضافته إلى السبب كقوله ‏)‏من شر ما خلق‏(‏ وقوله ‏)‏فأردت أن أعيبها‏(‏ مع قوله ‏)‏فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما‏(‏ وقوله تعالى ‏)‏ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏(‏ وقوله ‏)‏ربنا ظلمنا أنفسنا‏(‏ وقوله تعالى ‏)‏أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم‏(‏ وأمثال ذلك‏.‏

ولهذا ليس في أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر وإنما يذكر الشر في مفعولاته كقوله ‏)‏نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم‏(‏ وقوله ‏)‏إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم‏(‏ وقوله ‏)‏اعلموا أن الله شديد العقاب‏(‏ الآية وقوله ‏)‏إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود‏(‏ فبين سبحانه أن بطشه شديد وأنه هو الغفور الودود‏.‏

واسم المنتقم ليس من أسماء الله الحسن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جاء في القرآن مقيداً كقوله تعالى ‏)‏إنا من المجرمين منتقمون‏(‏ وقوله ‏)‏إن الله عزيز ذو انتقام‏(‏ والحديث الذي في عدد الأسماء الحسنى الذي يذكر فيه المنتقم وذكر في سياقه ‏"‏ البر التواب المنتقم العفو الرؤوف ‏"‏ ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن بعض شيوخه ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المشهورة إلا الترمذي رواه من طريق الوليد بن مسلم بسياق ورواه غيره باختلاف في الأسماء وفي ترتيبها يبين أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وسائر من روى هذا الحديث عن أبي هريرة ثم عن الأعرج ثم عن أبي الزناد لم يذكروا أعيان الأسماء بل ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة ‏"‏ وهكذا أخرجه أهل الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهما ولكن روي عدد الأسماء من طريق أخرى من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة ورواه ابن ماجه وإسناده ضعيف يعلم أهل الحديث أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وليس في عدد الأسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذان الحديثان كلاهما مروي من طريق أبي هريرة وهذا مبسوط في موضعه‏.‏

والمقصود هنا التنبيه على أصول تنفع في معرفة هذه المسئلة فإن نفوس بني آدم لا يزال يجول فيها من هذه المسئلة أمر عظيم‏.‏

وإذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا ثم كلما ازداد علماً وإيماناً ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله ويتبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال ‏)‏سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق‏(‏ فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح ‏"‏ لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها ‏"‏ وفي الصحيحين عنه أنه قال ‏"‏ إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق حتى أن الدابة لترفع حافرها عن ولدها من تلك الرحمة واحتبس عنده تسعاً وتسعين رحمة ثم هؤلاء الجمهور من المسلمين وغيرهم كأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والعلماء الذين يثبتون حكمة فلا ينفونها كما نفاها الأشعرية ونحوهم الذين يثبتون إرادة بلا حكمة ومشيئة بلا رحمة ولا محبة ولا رضى وجعلوا جميع المخلوقات بالنسبة غليه سواء لا يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضى بل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان قالوا إنه يحبه ويرضاه كما يريده وإذا قالوا لا يحبه ولا يرضاه ديناً قالوا أنه لا يريده ديناً وما لم يقع من الإيمان والتقوى فإنه لا يحبه ولا يرضاه عندهم كما لا يريده‏.‏

وقد قال تعالى ‏)‏إذ يبيتون ما لا يرضى من القول‏(‏ فأخبر أنه لا يرضاه مع أنه قدره وقضاه ولا يوافقون المعتزلة على إنكار قدر الله تعالى وعموم خلقه ومشيئته وقدرته ولا يشبهونه بخلقه فيما يوجب ويحرم كما فعل هؤلاء ولا يسلبونه ما وصف به نفسه من صفاته وأفعاله بل أثبتوا له ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال ونزهوه عما نزه عنه نفسه من الصفات والأفعال وقالوا إن الله خالق كل شيء ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وهو يحب المحسنين والمتقين ويرضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولا يرضى لعباده الكفر ولا يرضى بالقول المخالف لأمر الله ورسوله وقالوا مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين المخلوقات أعيانها وأفعالها كما قال تعالى ‏)‏أفنجعل المسلمين كالمجرمين‏(‏ وكما قال ‏)‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون‏(‏ وقال تعالى ‏)‏أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار‏(‏ وقال ‏)‏وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏(‏ وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد كما قال تعالى ‏)‏هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏(‏ وقال تعالى ‏)‏فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة‏(‏ وقال تعالى ‏)‏يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما‏(‏ وقال تعالى ‏)‏ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون‏(‏ ونظائر هذا في القرآن كثير‏.‏

وينبغي أن يعلم أن هذا المقام زل فيه طوائف من أهل الكلام والتصوف وصاروا فيه إلى ما هو شر من قول المعتزلة ونحوهم من القدرية فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لكن ضلوا في القدر واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقاً متناولاً لكل شيء لزم من ذلك القدح أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقاً متناولاً لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته فقابل هؤلاء قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه خالق كل شيء وهذا حسن وصواب‏.‏

لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد وأفرطوا حتى غلا بهم إلى الإلحاد فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا ‏)‏لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء‏(‏ فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث أنهم أثبتوا فاعلاً لما اعتقدوه شراً غير الله سبحانه فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا ‏)‏لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء‏(‏ فالمشركون شر من المجوس فإن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين وذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية وجمهور العلماء على أن مشركي العربي لا يقرون بالجزية وإن أقرت المجوس فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من المشركين بل قال ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ‏"‏‏.‏

والمقصود هنا أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يثبت القدر وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل من جميع الخلق فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات ولم يفرق بين المأمور والمحظور والمؤمن والكافر وأهل الطاعة وأهل المعصية لم يؤمن بأحد من الرسل ولا بشيء من الكتب وكان عنده آدم وإبليس سواء ونوح وقومه سواء وموسى وفرعون سواء والسابقون الأولون والكافرون سواء‏.‏

وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة لا سيما إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة والبغض والرضى والسخط الذين يقولون التوحيد هو توحيد الربوبية والآلهية عندهم هي القدرة على الاختراع ولا يعرفون توحيد الآلهية ولا يعلمون أن الإله هو المألوه المعبود وأن مجرد الإقرار بأن الله رب كل شيء لا يكون توحيداً حتى تشهد أن لا إله إلا الله كما قال تعالى ‏)‏وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون‏(‏‏.‏

قال عكرمة‏:‏ تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم يعبدون غيره وهؤلاء يدعون التوحيد والفناء في التوحيد ويقولون أن هذا نهاية المعرفة وأن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشامل‏.‏

وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وهؤلاء غاية توحيدهم هو توحيد المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام الذين قال الله عنهم ‏)‏قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون‏(‏ وقال تعالى ‏)‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون‏(‏ وقال ‏)‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون‏(‏ وقال تعالى ‏)‏قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله‏.‏

فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون‏(‏ وقال تعالى ‏)‏أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‏(‏ فإن هؤلاء المشركين كانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم وبيده ملكوت كل شيء وكانوا مقرين بالقدر فإن العرب كانوا يثبتون القدر في الجاهلية وهو معروف عنهم في النظم والنثر ومع هذا فلم يكونوا يعبدون الله وحده لا شريك له بل عبدوا غيره فكانوا مشركين شراً من اليهود والنصارى فمن كان غاية توحيده وتحقيقه هو هذا التوحيد كان غاية توحيده توحيد المشركين‏.‏

وهذا المقام مقام وأي مقام زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وبدل فيه دين المسلمين والتبس فيه أهل التوحيد بعباد الأصنام على كثير ممن يدعون نهاية التوحيد والتحقيق والمعرفة والكلام‏.‏

ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة القدرية المثبتين للأمر والنهي والوعد والوعيد خير ممن يسوي بين المؤمن والكافر والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبي الكاذب وأولياء الله وأعدائه الذين ذمهم السلف بل هم أحق بالذم من المعتزلة كما قال الخلال في كتاب ‏)‏السنة والرد على القدرية‏(‏ وقولهم أن الله أجبر العباد على المعاصي‏:‏ وذكر المروذي قال قلت لأبي عبد الله‏:‏ رجل يقول أن الله أجبر العباد فقال‏:‏ هكذا لا نقول وأنكر ذلك وقال ‏)‏يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء‏(‏ وذكر عن المروذي أن رجلاً قال أن الله لم يجبر العباد على المعاصي فرد عليه آخر فقال أن الله جبر العباد أراد بذلك إثبات القدر فسألوا عن ذلك أحمد بن حنبل فأنكر عليهما جميعاً حتى قال - أو أمر أن يقال - ‏)‏يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء‏(‏‏.‏

وذكر عن عبد الرحمن بن معدي قال أنكر سفيان الثوري ‏"‏ جبر ‏"‏ وقال أن الله جبل العباد‏.‏

قال المروذي أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لأشج عبد القيس ‏"‏ يعني قوله ‏"‏ أن فيك لخلتين يحبهما الله‏:‏ الحلم والأناءة ‏"‏ فقال‏:‏ أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال ‏"‏ بل خلقين جبلت عليهما ‏"‏ فقال‏:‏ الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما‏.‏

وذكر عن أبي إسحاق الفزاري قال قال الأوزاعي‏:‏ أتاني رجلان فسألاني عن القدر فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما‏:‏ قلت رحمك الله أنت أولى بالجواب قال‏:‏ فأتاني الأوزاعي ومعه الرجلان فقال تكلما فقالا‏:‏ قدم علينا ناس من أهل القدر فنازعونا في القدر ونازعناهم فيه حتى بلغ بنا وبهم إلى أن قلنا أن الله جبرنا على ما نهانا عنه وحال بيننا وبين ما أمرنا به ورزقنا ما حرم علينا فقلت‏:‏ يا هؤلاء إن الذين أتوكم بما أتوكم به قد ابتدعوا بدعة وأحدثوا حدثاً وإني أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه‏.‏

فقال‏:‏ أصبت وذكر عن بقية بن الوليد قال سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر فقال الزبيدي أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب وقال الأوزاعي‏:‏ ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل فهذا يعرف في القرآن والحديث‏.‏

وقال مطرف بن الشخير‏:‏ لم نوكل إلى القدر وإليه نصير‏.‏

وقال ضمرة بن ربيعة لم نؤمر أن نتوكل على القدر وإليه نصير‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار ‏"‏ قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب فقال ‏"‏ لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له ‏"‏ وهذا باب واسع‏.‏

والمقصود هنا أن الخلال وغيره أدخلوا القائلين بالجبر في مسمى القدرية وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصي فكيف بمن يحتج به على المعاصي ومعلوم أنه يدخل في ذم من ذم الله من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له فإن ضلال هذا أعظم‏.‏

ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة في كلام غير واحد من السلف وروي في ذلك حديث مرفوع لأن كلاً من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي والوعد والوعيد‏.‏

فالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد ويهون أمر الفرائض والمحارم والقدري إن احتج به كان عوناً للمرجئ وإن كذب به كان هو والمرجئ قد تقابلا هذا يبالغ في التشديد حتى لا يجعل العبد يستعين بالله على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وهذا يبالغ في الناحية الأخرى‏.‏

ومن المعلوم أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لتصديق الرسل فيما أخبرت وتطاع فيما أمرت كما قال تعالى ‏)‏وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله‏(‏ وقال تعالى ‏)‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏(‏ والإيمان بالقدر من تمام ذلك‏.‏

فمن أثبت القدر وجعل ذلك معارضاً للأمر فقد أذهب الأصل‏.‏

ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى بل هؤلاء قولهم متناقض لا يمكن أحداً منهم أن يعيش به ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق ولا يتعاشر عليه اثنان فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد وإلا فليس حجة لأحد‏.‏

فإذا قدر أن الرجل ظلمه ظالم أو شتمه شاتم أو أخذ ماله أو أفسد أهله أو غير ذلك فمتى لامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر‏.‏

ومن ادعى أن العارف إذا شهد الإرادة سقط عنه الأمر كان هذا الكلام من الفكر الذي لا يرضاه اليهود ولا النصارى بل ذلك ممتنع في العقل محال في الشرع فإن الجائع يفرق بين الخبز والتراب والعطشان يفرق بين الماء والسراب فيحب ما يشبعه ويرويه دون ما لا ينفعه والجميع مخلوق لله تعالى فالحي وإن كان من كان لا بد وأن يفرق بين ما ينفعه وينعمه ويسره وبين ما يضره ويشقيه ويؤلمه‏.‏

هذه حقيقة الأمر فإن الله تعالى أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم‏.‏