فصل: باب الصَّوم في السَّفر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب الصَّوم في السَّفر:

جاءت هذه الشريعة بالأحكام الميسرة السمحة تحقيقاً لقوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِّيْنِ مِنْ حَرَج} وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُم اليسر ولا يُريِدُ بِكُمُ العُسْرَ}.
فلما كان السفر- غالباً- فيه مشقة وصعوبة، وأنه قطعة من العذاب، خفف فيه.
ومن تلك التخفيفات، الرخصة في الفطر في نهار رمضان.
وهي رخصة مستحبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ».
وهى رخصة، تعم الذي يناله بالسفر مشقة، وغيره ممن تكون أسفارهم راحة ومتعة، لأن الحكم للغالب.
وبمثل هذه الأحكام اللطيفة نعلم مدى ما تراعيه هذه الشريعة الكريمة من تخفيف ورحمة وملاءمة للأوقات والظروف، بمطالبة الناس بقدر ما يستطيعون.
رضينا بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
الحديث الأول:
عَنْ عَائِشَةَ رَضْيَ الله عَنْهَا: أنَ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرو الأسلمي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
أأصُوْمُ في السًفَرِ (وكان كثير الصيام).
قال: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإنْ شِئْتَ فَأَفْطِر».
المعنى الإجمالي:
علم الصحابة رضي الله عنهم أن الشارع الرحيم، ما رخص في الفطر في السفر إلا رحمة بهم وإشفاقاً عليهم.
فكان حمزة الأسلمي عنده جَلَدٌ وقوة على الصيام، وكان محباً للخير، كثير الصيام رضي الله عنه.
فسأل رسول الله: أيصوم في السفر؟.
فخيَّره النبي صلى الله عليه وسلم بين الصيام والفطر، فقال: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر».
ما يؤخذ من الحديث:
1-الرخصة في الفطر في السفر، لأنه مظنة المشقة.
2- التخيير بين الصيام والفطر، لمن عنده قوة على الصيام. والمراد بذلك صوم رمضان، ويوضحه ما أخرجه أبو داود والحاكم من أن حمزة بن عمرو، قال: يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر وأكريه، وربما صادفني هذا الشهر- يعني رمضان- وأنا أجد القوة عليه وأجدني أن أصوم أهون على من أن أؤخره، فيكون ديناً على. فقال: «أي ذلك شئت يا حمزة».
الحديث الثاني:
عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عَنْهُ قال: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفطِرِ، وَلا الْمُفطِرُ عَلَى الصًائِمِ.
المعنى الإجمالي:
كان الصحابة يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فيفطر بعضهم، ويصوم بعضهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرهم على ذلك، لأن الصيام هو الأصل والفطر رخصة، والرخصة ليس في تركها إنكار، ولذا فإنه لا يعيب بعضهم على بعض في الصيام أو الفطر.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز الفطر في السفر.
2- إقرار النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه على الصيام والفطر في السفر، مما يدل على إباحة الأمرين.
الحديث الثالث:
عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رضيَ الله عَنْهُ قال:
خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في شَهْرِ رَمضَانَ في حَرِّ شَدِيدٍ، حَتَّى إنْ كَانَ أحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَه عَلَى رَأسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، ومَا فِيْنَا صَائِمٌ إلا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعبْدُ الله بْنُ رَوَاحَة.
المعنى الإجمالي:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في رمضان، في أيام شديدة الحر.
فمن شدة الحر، لم يصم منهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه.
فهما تحمَّلا الشدة وصاما، مما يدل على جواز الصيام في السفر وإن كان ذلك مع المشقة التي لا تصل إلى حَدِّ التهلكة.
الحديث الرابع:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَه رَضْيَ الله عَنْهُ قال: كانَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فرَأى زِحَاماً، ورَجُلاً قَدْ ظُلِّل عَلَيْهِ، فَقَالَ: «ما هذا؟» قالوا: صائم. قال: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصيامُ في السَّفَرِ».
وفي لفظٍ لمسلم: «عَلَيْكُم بِرُخْصَةِ الله الَّتي رَخَصَ لَكُمْ».
المعنى الإجمالي:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره، فرأى الناس متزاحمين ورجلا قد ظلل عليه، فسألهم عن أمره. قالوا: إنه صائم وبلغ به الظمأ هذا الحد.
فقال الرحيم الكريم صلى الله عليه وسلم: إن الصيام في السفر ليس من البر، ولكن عليكم برخصة الله التي رخص لكم.
فهو لم يرد منكم بعبادته تعذيب أنفسكم.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز الصيام في السفر. وجواز الأخذ بالرخصة بالفطر.
2- أن الصيام في السفر ليس براً، وإنما يجزئ ويسقط الواجب.
3- أن الأفضل إتيان رخص اللَه تعالى، التي خفف بها على عباده.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر.
فشدد بعض السلف، كالزهري، والنخعي: وذهبوا إلى أن صيام المسافر لا يجزئ عنه، وهو مروي عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وابن عمر، وهو مذهب الظاهرية.
وذهب جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة، إلى جواز الصيام والفطر.
واحتج الأولون بقوله تعالى: {فَمّنْ شَهِدَ مِنكُمُ الْشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيْضَاً أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَوَجْهُهُ: أن الله لم يفرض الصوم إلا على من شهده، وفرض على المريض والمسافر، في أيام أخر.
وما رواه مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: «أؤلئك العصاة، أؤلئك العصاة» فنسخ قوله: «أؤلئك العصاة» لصيامه.
وما رواه البخاري عن جابر: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ».
واحتج الجمهور بحجج قوية، منها أحاديث الباب.
الأول: حديث حمزة الأسلمى: «إن شِئْتَ فَصُم، وَإنْ شِئْتَ فَأفْطِر».
الثاني: حديث أنس: ثم كُنًا نُسَافِر مَعَ رَسُول الله فَلَمْ يَعِبِ الصَّائمُ عَلَى الُمُفطِرِ ولا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّاِئمِ.
الثالث: حديث أبي الدر داء، فيه صيام رسول الله، وعبد الله بن رواحة.
وأجابوا عن أدلة الأولين بما يأتي:
أما الآية: فالذي أُنْزِلَتْ عليه، صام بعد نزولها، وهو أعلم الخلق بمعناها فيتحتم أن معناها غير ما ذكرتم.
وأكثر العلماء ذكروا أن فيها مُقَدَّراً تقديره: فأَفْطَرَ.
أما قول: «أولئك العصاة» فهي واقعة عين لأناس شقَّ عليهم الصيام، فأفطر هو عليه الصلاة والسلام ليقتدوا به، فلم يفعلوا فقال: «أولئك العصاة» لعدم اقتدائهم به عليه الصلاة والسلام.
وأما حديث: «ليس من البر الصيام في السفر» فمعناه أن الصيام في السفر ليس من البر الذي يتسابق إليه ويتنافس فيه.
فقد يكون الفطر أفضل منه، إذا كان هناك مشقة، أو كان الفطر يساعد على الجهاد، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتي معاصيه.
والجمهور الذين يرون جواز الصيام في السفر، اختلفوا، أيهما أفضل، الصيام أم الفطر؟.
فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي،: إلى أن الصوم أفضل لمن لا يلحقه مشقة.
وذهب الإمام أحمد إلى أن الفطر في رمضان أفضل ولو لم يلحق الصائم مشقة.
ويقول باستحباب الفطر أيضاً، سعيد بن المسيب، والأوزاعي وإسحاق.
استدل الأئمة الثلاثة بأحاديث:
منها ما رواه أبو داود عن سلمة بن المحبق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له حُمُوْلَةٌ يأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه»
«والحمولة» بالضم: الأحمال التي يسافر بها صاحبها.
أما أدلة الحنابلة، فمنها حديث: «ليس من البر الصيام في السفر» متفق عليه.
وحديث: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه».
فائدة:
أما مقدار السفر الذي يباح فيه الفطر وقصر الصلاة، فقد اختلف العلماء في تحديده.
والصحيح أنه لا يفيد بهذه التحديدات التي ذكروها، لأنه لم يرد فيه شيء عن الشارع.
فالمشرع أطلق السفر، فنطلقه كما أطلقه.
فما عُدَّ سفراً، أبيح فيه الرخص السفرية، وتقدم بأبسط من هذا في صلاة أهل الأعذار.
الحديث الخامس:
عَن أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضْي الله عَنْهُ قال: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في سَفر،
فمِنَا الصَّائِمُ وَمِنَا الْمُفْطِرُ.
قال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً في يَوْمٍ حَارٍّ وَأكْثَرُنَا ظِلاَّ صَاحِبُ الكساء وَمِنًا مَنْ يَتقى الشَّمْسَ بِيَدِه.
قال: فَسَقَطَ الصُّوَّمُ وَقَامَ الْمُفْطِرُون، فَضَرَبوُا الأَبْنَيَة وَسَقُوا الركابَ.
فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ذَهَبَ المفْطِرُون اليوْمَ بالأجر»
المعنى الإجمالي:
كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره، فبعضهم مفطر، وبعضهم صائم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقر كلا منهم على حاله.
فنزلوا في يوم حار ليستريحوا من عناء السفر وحر الهاجرة.
وكانوا- رضي الله عنهم- متقشفين، لا يجد أكثرهم ما يظله عن الشمس إلا أن يضع يده على رأسه أو أن يضع كساء فوق عود أو شجرة فيستظل به.
فلما نزلوا في هذه الهاجرة، سقط الصائمون من الحر والظمأ فلم يستطيعوا العمل.
وقام المفطرون، فضربوا الأبنية بنصب الخيام والأخبية، وسقوا الإبل، وخدموا إخوانهم الصائمين.
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم وما قاموا به من خدمة الجيش شجعهم، وبين فضلهم وقال: «ذهب المفطرون اليم بالأجر»
ما يؤخذ من الحديث:
1-جواز الإفطار والصيام في السفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر كلاً على ما هو عليه.
2-ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من رقة الحال في الدنيا، ومع ذلك لم تمنعهم رقة الحال من ارتكاب الصعاب في الجهاد في سبيل الله تعالى.
3-فضل خدمة الإخوان والأهل، وأنها من الدين ومن الرجولة التي سبقنا فيها صفوة هذه الأمة، خلافاً لفعل كثير من المترفعين المتكبرين.
4-أن الفطر في السفر أفضل لاسيما إذا اقترن بذلك مصلحة من التقوي على الأعداء ونحوه. فإن فائدة الصوم تلزم صاحبها، أما فائدة الإفطار في مثل ذلك اليوم فإنها تتعدى المفطر إلى غيره. ومن هنا كان الإفطار أولى.
5-حث الإسلام على العمل وترك الكسل، فقد جعل للعامل نصيباً كبيراً من الأجر، وفضله على المنقطع للعبادة.
وأين هذه من الناعقين الذين يرونه ديناً عائقاً عن العمل والتقدم والرقي؟ قبحهم الله، فإنهم يهرفون بما لا يعرفون.
الحديث السادس:
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: كانَ يَكُونُ عَلَيَّ الْصَّوْمُ في رَمَضَان فَمَا أسْتَطِيعُ أَنْ أقْضِيَ إلا في شَعْبَانَ.
المعنى الإجمالي:
تذكر عائشة رَضيَ اللَه عنها أنه يكون عليها الصوم قضاءً من رمضان.
ولمحبة النبي لها وحسن أدبها في مراعاته ومعاشرته، تؤخر صيامها إلى شعبان، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر الصيام فيه، فيعلم ذلك ويقرها عليه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان مع العذر.
2- أن الأفضل التعجيل مع غير العذر. فعائشة رضي الله عنها قد بيَّنت عذرها في ذلك.
3- أنه لا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان التالي.
واختلف العلماء في وجوب الكفارة مع التأخير إلى دخول رمضان الآخر.
ومذهب الحنابلة أن عليه الكفارة إذَا أخر لغير عذر.
4- حسن عشرة عائشة رضي الله عنها. رزق الله نساءنا القدوة بها.
الحديث السابع:
عَنْ عَاِئشَةَ رضي الله عَنْهَا: أنَّ رَسُوْلَ الله قال:
«مَنَ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام صَامَ عَنْه وَلِيُّه».
وأخرجه أبو داود وقال: هذَا في النًذْر خاصَّة، وهو قول أحمد بن حنبل.
المعنى الإجمالي:
الديون التي على الأموات يجب قضاؤها، سواء أكانت لله تعالى كالزكاة والصيام، أم للآدميين، كالديون المالية.
وأولى من يتولى ذلك، ورثتهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه».
ما يؤخذ من الحديث:
1- ظاهر الحديث وجوب قضاء الصيام عن الميت سواء أكان نذراً، أم واجباً بأصل الشرع، خلافاً لتقييد أبي داود. وذكر ابن دقيق العيد أن إلحاق غير الصوم به هو من باب القياس وليس في هذا الحديث نص عليه.
2- أن الذي يتولى الصيام، هو وليُّه والمراد به الوارث الذي انتفع بمخلفاته.
فمن مقتضى القيام بواجبه قضاء ديون الله عنه.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء فيمن مات وعليه صوم هل يقضى عنه؟ على ثلاثة أقوال أحدها: لا يقضى عنه بحال، لا في النذر ولا في الواجب بأصل الشرع.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي في الجديد.
الثاني: يصام عنه النذر دون الواجب بأصل الشرع.
وهذا مذهب الإمام أحمد، وأبي عبيد، والليث، وإسحاق، ونصره ابن القيم.
الثالث: أنه يصام عن الميت النذر والواجب بأصل الشرع.
وهو قول أبي ثور وأصحاب الحديث، ونصره ابن حزم، ورد قول من خالفه، وجماعة من محدثي الشافعية، وهو قول الشافعي في القديم، وعلق القول به على صحة الحديث.
قال البيهقي: ولو وقف الشافعي على جميع طرق الأحاديث وتظاهرها لم يخالفها إن شاء الله.
واختار هذا القول شيخنا عبد الرحمن السعدي وقال: إنه اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في جميع الديون التي على الميت لله، أو للآدميين، أوجبها على نفسه، أو وجبت بأصل الشرع.
استدل المانعون- مطلقاً- بأدلة.
منها:- قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى}.
وبما روي عن ابن عباس: لا يُصَلِّ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد.
وروي عن عائشة، نحو ما روي عن ابن عباس، وهما راويان لِحدِيثَي الصيام عن الميت، وخالفاها، فاتبع رأيهما لا روايتهما، لأنهما أعلم بمعنى الحديث.
واستدل المجيزون للقضاء- مطلقاً- بحديث الباب، فإنه عام في الواجب بأصل الشرع والواجب بالنذر، وبحديث ابن عباس الآتي بعد هذا الحديث وهو: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟. «فقال:، لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟» قال نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى».
قال ابن حجر: إن أحمد ومن معه حملوا العموم في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس، وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة منفصلة يسأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة.
أما المفصلون وهم الذين يرون القضاء في النذر دون الواجب بأصل الشرع، فيرون أن حديث الباب، وحديث ابن عباس الذي بعده، مقيدان بالرواية الثانية عن ابن عباس المذكورة في هذا الباب.
ونصر ابن القيم هذا القول في كتابه إعلام الموقعين , وتهذيب السنن وقال: إنه أعدل الأقوال، وعليه يدل كلام الصحابة.
وقال: وتعليل حديث ابن عباس الذي قال فيه: لا يصوم أحد عن أحد ويطعم عنه مراده في الفرض الأصلي.
وأما النذر فيصام عنه، وما روي عن عائشة في إفتائها في التي ماتت وعليها صوم: أنه يطعم عنها، إنما هو في الفرض لا في النذر.
وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأن النذر ليس واجباً بأصل الشرع. وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّيْنِ الذي استدانه.
ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدَّيْنِ في حديث ابن عباس.
ثم قال أيضاً: وسر الفرق أن النذر التزام المكلف لما شغل به ذمته لا أن الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخف حكماً مما جعله الشارع حقاً له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه، والمعجوز عنه.
بخلاف واجبات الشرع فإنها على قدر طاقة البدن. اهـ ملخصاً منه.
فائدة:
قضاء وَلِيِّه عنه من باب الاستحباب عند جماهير العلماء ماعدا الظاهرية فقد أوجبوه.
وقالت الحنابلة: إن كان الميت خلف تركة، وجب القضاء، وإلا استحب وقالوا: إن صام غير الوارث أجزأه.
الحديث الثامن:
عَنْ عَبْدِ الله بِنِ عَبَّاس رَضْيَ الله عَنْهُمَا قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أمي مَاتَت وَعَلَنهَا صَوْمُ شَهْرٍ: أفأَقضِيهِ عَنْهَا؟ قال: «لَوْ كانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْن أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟».قال: نعم: قال: «فَدَيْنُ الله أحَقُّ أنْ يُقْضَى».
وفي رواية: جَاءَتْ امْرَأة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذرٍ، أَفَأَصُوْمُ عَنْهَا؟ قال: «أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتيِهِ، أَكَانَ يُؤَدَّى ذَلِكَ عَنْهَا؟» قالت: نعم. قال: «فَصُومِي عَنْ أُمِّك».
المعنى الإجمالي:
وقع في هذا الحديث روايتان، والظاهر من السياق، أنهما واقعتان لا واقعة واحدة.
فالأولى:- أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن أمه ماتت وعليها صوم شهر فهل يقضيه عنها.
والرواية الثانية: أن امرأة جاءت إليه صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن أمها ماتت وعليها صوم نذر: فهل تصوم عنها؟
فأفتاهما جميعاً بقضاء ما على والديهما من الصوم، ثم ضرب لهما مثلاً يقرب لهما المعنى؛ ويزيد في التوضيح.
وهو: أنه لو كان على والديهما دين لآدمي، فهل يقضيانه عنهما؟ فقالا: نعم.
فأخبرهما أن هذا الصوم دين لله على أبويهما، فإذا كان دين الآدمي يقضى، فدين الله أحق بالقضاء.
ما يؤخذ من الحديث:
1- عموم الرواية الأولى تفيد أن الصيام يقضى عن الميت، سواء أكان نذراً. أم واجباً أصلياً.
2- الرواية الثانية تدل على قضاء الصيام المنذور عن الميت.
3- الظاهر أنهما واقعتان لرجل وامرأة، فتبقى كل منهما على مدلولها، ولا تقيد الأولى بالثانية، بل تبقى على عمومها.
4- عموم التعليل الذي في الحديث يشمل الديون التي لله، والتي للخلق، والواجبة بنذر، والواجبة بأصل الشرع، بأنها كلها تقضى عن الميت، وهذا ما حكاه شيخنا عبد الرحمن آل سعدي عن تقي الدين ابن تيمية رحمهما الله تعالى.
5- فيه إثبات القياس، الذي هو أحد أصول الجمهور في الاستدلال. وقد ضرب لهما النبي عليه الصلاة والسلام المثل بما هو معهود لهما، ليكون الفهم أبلغ، وليقربه من أذهانهما، فإن تشبيه البعيد بالقريب، يسهل إدراكه وفهمه.
6- قوله: «فدين الله أحق بالقضاء» فيه دليل على تقديم الزكاة وحقوق الله المالية إذا تزاحمت حقوقه وحقوق الآدميين في تركة المتوفى. وبعضهم قال بالمساواة ببن الحقوق.
الحديث التاسع:
عَنْ سَهْلِ بِنْ سَعْدٍ السَّاعِدِي رَضْيَ الله عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَزَالُ النَّاسُ بَخَيْر مَا عَجَّلُوْا الفِطْرَ وَأَخَّرُّوا السُّحُوْر».
المعنى الإجمالي:
الشارع الحكيم يحث على تمييز العبادة ووقتها عن غيره، ليتبين النظام والطاعة، في امتثال أوامره، والوقوف بها عند حدودها.
ولذا فإنه لما جعل غروب الشمس هو وقت إفطار الصائم، حثَّه على مبادرة الفطر عند أول ذلك الوقت، وأخبر: أن الناس لا يزالون بخير، ما عجلوا الفطر، لأنهم- بذلك- يحافظون على السنة.
فإذا أخروا الفطر فهو دليل على زوال الخير عنهم لأنهم تركوا السنة التي تعود عليهم بالنفع الديني وهو المتابعة، والدنيوي الذي هو حفظ أجسامهم وتقويتها بالطعام والشراب، اللذين تتوق أنفسهم إليهما.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس برؤية، أو خبر ثقة.
2- أن تعجيل الفطر، دليل على بقاء الخير عند من عجله، وزوال الخير عمن أجله.
3- الخير المشار إليه في الحديث، هو اتباع السنة، مع أنه من محبوبات النفوس.
4- الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.
فاٍن تأخير الإفطار عمل به الشيعة، الذين هم إحدى الفرق الضالة.
وليس لهم قدوة في ذلك إلا اليهود، الذين لا يفطرون إلا عند ظهور النجم.
الحديث العاشر:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَابِ رَضْيَ الله عَنْهُ قال:
قال رَسُولُ الله: «إذَا أَقْبَلَ الْلَيْلُ مِنْ هاهُنَا، وَأَدْبَرَ الْنَّهَارُ مِنْ هَهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ».
المعنى الإجمالي:
تقدم أن وقت الصيام الشرعي، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ولذا فقد أفاد النبي صلى الله عليه وسلم أمته: أنه إذا أقبل الليل من قبل المشرق، وأدبر النهار من قبل المغرب- بغروب الشمس- فقد دخل الصائم في وقت الإفطار الذي لا ينبغي له تأخيره عنه، بل يعاب بذلك، امتثالاً لأمر الشارع، وتحقيقاً للطاعة، وتمييزاً لوقت العبادة عن غيره، وإعطاء للنفس حقها، من مُتَعِ الحياة المباحة.
ما يؤخذ من الحديث:
1-استحباب تعجيل الفطر، إذا تحقق غروب الشمس.
2-أنه لابد من وجود إقبال الليل الذي يقارنه إدبار النهار للإفطار.
فإن مجرد الظُلمة من قبل المشرق مع وجود الشمس، ليس معناه إقبال الليل.
فاٍن إقبال الليل حقيقة، مقارن لإدبار النهار، فهما متلازمان.
3-قوله: «فقد أفطر الصائم» يحتمل معنيين:
أ- إما أنه أفطر حكماً بدخول الإفطار ولو لم يتناول مفطراً، ويكون الحث على تعجيل الفطر في بعض الأحاديث معناه الحث على فعل الإفطار حساً ليوافق المعنى الشرعي.
ب- وإما أن يكون دخل في وقت الإفطار، كما تقول: أنْجَدَ، لمن دخل نجد وأتهمَ لمن دخل تهامة ويكون الحث على تعجيل الفطر على بابه وهذا أولى. ويؤيده رواية البخاري فقد حلَّ الإفطار.
4-ينبني على هذين المعنيين حكم الوصال.
فإن قلنا: معنى فقد أفطر الصائم أفطر حكماً، فالوصال باطل، لأنه لا يمكن وإن قلنا: معناه فقد دخل في وقت الفطر، فيكره مع اقترانه بالنَّهي عن الوصال.

.باب أفضَل الصِّيامِ وَغَيرِه:

الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا قال: نَهَى رَسُولُ الله عَن الْوِصَالِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله إنَكَ تُوَاصِلُ.
قال: «إنِّي لَسْتُ كهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى».
ورواه أبو هريرة، وعائشة، وأنس بن مالك رضي الله عنهم.
ولـ مسلم عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ رضي الله عَنْهُ: «فأَيُّكُمْ أرادَ أَنْ يُواصِلَ فَلْيُوَاصِل إلَى السَّحَرِ»
المعنى الإجمالي:
الشريعة الإسلامية سمحة مُيَسَّرة لا عَنَتَ فيها ولا مشقة.
ومشرعها الحكيم، يكره الغٌلُوُّ والتعمق، لأن في ذلك تعذيباً للنفس وإرهاقاً لها، واللَه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
ولأن التيسر والتسهيل أبقى للعمل وأسلم من السأم والملل، وفيه العدل الذي وضعه الله في الأرض، وهو إعطاء الله ما طلبه من العبادة، وإعطاء النفس حاجتها من مقوماتها.
لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصيام، وهو ترك ما يفطر بالنهار عمداً، في ليالي الصيام.
وكان صلى الله عليه وسلم- لما أعطاه الله ما لم يعطه غيره- يواصل الصيام.
فقال الصحابة: إنك تواصل، ولنا فيك قدوة. وذلك قبل أن يعلمهم بميزته عليهم.
فقال: إني لست مثلكم، لأني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، وليس لكم هذا، فتقوون على الوصال.
وما دمتم راغبين في الوصال، فمن وجد من نفسه قوة عليه، ورغبة فيه فَلْيُوَاصِلْ إلى السحر، لأنه تأخير لعشائه، فيكون طعامه في ليالي الصيام وجْبَة واحدة، ومن حِكَمْ الصيام، التخفف من الطعام.
اختلاف العلماء:
اختلفوا في الطعام والشراب المذكورين على قولين:
أحدهما:- أنه طعام وشراب حسِّيٌ تمسُّكاً باللفظ.
والثاني:- أنه ما يفيض على قلبه من لذيذ المناجاة والمعارف، فإنَّ توارد هذه المعاني الجليلة على القلب، يشغله عن الطعام والشراب فيستغني عنهما.
ولو كان طعاماً حسِياً لم يكن مواصلاً، ولم يقل: «لست كهيئتكم» وقد بسط القول فيه ابن القيم في الهدي.
واختلفوا في حكم الوصال على ثلاثة أقوال: محرم، ومكروه، وجائز مع القدرة.
فذهب إلى جوازه مع القدرة، عبد الله بن الزبير وبعض السلف كعبد الرحمن بن أبي نعم، وإبراهيم بن زيد التيمي وأبي الجوزاء.
وذهب إلى تحريمه، الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي.
وذهب إلى التفصيل في ذلك، الإمام أحمد، وإسحاق. وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية، فهو عندهم جائز إلى السحر، مع أن الأولى تركه تحقيقاً لتعجيل الإفطار، ومكروه بأكثر من يوم وليلة.
استدل المجيزون بأنه صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه يومين، فهو تقرير لهم عليه، ولو كان حراماً، لم يقرهم، وبأن عائشة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة بهم.
فنهيهم عنه كنهيهم عن قيام الليل، خشية أن يفرض عليهم، ولم ينكر على من بلغه أنه فعله، ممن لم يشق عليه.
فإذا كان المواصل لم يرد التشبه بأهل الكتاب، ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال.
واستدل المحرمون بنهيه صلى الله عليه وسلم، والنَّهْيُ يقتضي التحريم.
وأما مواصلته بهم، فلم يقصد به التقرير، وإنما قصد به التنكيل، كما هو مبين في بعض ألفاظ الحديث.
فحين نهاهم فلم ينتهوا بل ألحُّوا في الطلب، واصل بهم لتأكيد النَّهي والزجر، وبيان الحكمة في نهيهم، وظهور المفسدة التي نهاهم لأجلها، فبعد بيان هذا يحصل منهم الإقلاع عنه، وهو المطلوب.
وأما قول عائشة: نهى عن الوصال رحمة بهم فلا يمنع أن يكون النهي للتحريم، بل يؤكده، فإن من رحمته بهم أن حرمه عليهم، وكل الأوامر والنواهي الشرعية مبنية على الرحمة والشفقة.
وأما التفصيل الذي اختاره أحمد فذكر ابن القيم أنه أعدل الأقوال، لحديث أبي سعيد: «لا تواصلوا، وأيكم أراد أن يواصل، فلْيُوَاصِل إلى السحر» رواه البخاري.
فهو أعدل الوصال وأسهله، لأنه- في الحقيقة- أخَّر عشاءه.
والصائم له- في اليوم والليلة- أكلة، ولكن الأحسن والأولى ترك الوصال مطلقاً، ولو لم يكن فيه إلا ترك تعجيل الإفطار المرغب فيه لكفى.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم الوصال.
2- جوازه للقادر عليه إلى السحر، وتركه أولى.
3- رحمة الشارع الحكيم الرحيم بالأمة، إذ حرَّم عليهم ما يضرهم.
4- النهي عن الغلو في الدين، فإن هذه الشريعة سمحة مقسطة، تعطي الربَّ حقه، والبدن حقه. فإن الواجبات الشرعية وجبت لمصالح تعود إلى العبد في دينه ودنياه، وإن ملاحظة الشارع لتلك المصلحة هي السبب في الإيجاب على العبد.
5- أن الوصال من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الذي يقدر عليه وحده، ولا يلحقه أحد في هذا المقام.
6- أن معنى الطعام والشراب بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، هو لذة المناجاة وسرور النفس الكبيرة بلقاء محبوبها، وله شواهد في الناس، وهذا المعنى الذي يحصل لخليل الرحمن وحبيبه، محمد صلوات الله وسلامه عليه لا يلحقه فيه أحد.
7- أن غروب الشمس وقت للإفطار، ولا يحصل به الإفطار- كما تقدم- وإلا لما كان للوصال معنى إذا صار مفطراً بغروب الشمس.
8- فيه ثبوت الخصائص للنبي صلى الله عليه وسلم، وتكون مخصصة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
الحديث الثاني:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاص رَضْيَ الله عَنْهُمَا قال: أُخْبِرَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم أنِّي أقُوْلُ والله لأَصُوْمَنَّ النًهَارَ ولأَقُوْمَنَّ اللَيْلَ مَا عِشْتُ. فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ؟» فقلت لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أنْتَ وَأُمِي. قال: «فَإنَكَ لا تَسْتَطِيْعُ ذلِكَ فَصُمْ وأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشًهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فإنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَهْرِ». قُلْتُ: إنِّي لأُطِيْقُ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قال: «فَصُمْ يَوْماً وَافطِرْ يَوْمَيْن» قُلْتُ: إنِّي لأُطِيْق أفْضَلَ مِن ذلِكَ. قَالَ: «فَصُمْ يَؤماً وَأفْطِر يَؤماً فَذلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ علَيْه السَّلامُ، وَهُوَ أفضَلُ الصِّيَامِ».فَقُلْت: إنِّي لأُطِيْقُ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ. فقال: «لا أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ».وفي رواية قال: «لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أخِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ شَطْرِ الدَّهْرِ فصُمْ يوماً وَأفطِر يَوْمَاً».
المعنى الإجمالي:
مجمل معنى هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ أن عبد الله بن عمرو أقسم على أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام كل عمره، فسأله: هل قال ذلك؟ فقال: نعم.
فقال: إن هذا يشق عليك ولا تحتمله، وأرشده إلى الطريق المثلى وهو أن يصوم بعض الأيام، ويفطر بعضها، ويقوم بعض الليل، وينام بعضه، وأن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ليكون كمن صام الدهر.
فأخبره أنه يطيق أكثر من ذلك، وما زال يطلب الزيادة من الصيام حتى انتهى إلى أفضل الصيام، وهو صيام داود عليه السلام، وذلك أن يصوم يوماً، ويفطر يوماً.
فطلب المزيد لرغبته في الخير رضي الله عنه. فقال. لا صوم أفضل من ذلك.
ما يؤخذ من الحديث:
1- رغبة عبد الله بن عمرو بن العاص في الخير وقوتِهِ فيه، إذ أقسم على صيام الدهر وقيام كل الليل.
2- معرفة النبي صلى الله عليه وسلم مَدَى القدرة على العمل وعاقبته، إذ أخبره أنه لا يستطيع ذلك، بمعنى أنه سيشق عليه، وقد كان.
فإن عبد الله تمنى في آخر أيامه أنه لو قام مع النبي صلى الله عليه وسلم على عمل يديمه ويقدر عليه.
3- تقدير النبي صلى الله عليه وسلم العمل بقدرة صاحبه، إذ قصر عبد الله أولاً على ثلاثة أيام من كل شهر، فلما طلب المزيد ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه الرغبة والقدرة، قال: «فصم يوماَ وأفطر يومين».
فلما أظهر الرغبة في طلب الزيادة، أرشده إلى أفضل الصيام فقال: «فصم يوماً وأفطر يوماً».
4- أن آخر حد للصيام الفاضل، هو صيام يوم، وفطر يوم، وهو صيام داود عليه السلام.
5- كراهة صيام الدهر، لأنه مخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام: «فصم وأفطر» ولحديث: «لا صام من صام الأبد»
6- سماحة هذه الشريعة، حيث يكره فيها التعمق والتنطع، ويطلب فيها السهولة واليسر، لأنه أنشط على العمل، وأدوم عليه.
الحديث الثالث:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْن العَاصْ رَضْيَ الله عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَ أحَبَّ الصِّيَامِ إلى الله صِيَامُ دَاوُدَ، وَأحَبَّ الصَّلاةِ إلَى الله صلاةَ دَاوُدَ، كانَ يَنَامُ نِصْفَ الْلَيْلِ وَيَقوُمُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وكانَ يَصُومُ يَوْماً ويُفطِرُ يَؤماً».
المعنى الإجمالي:
تقدم ذكر سماحة هذه الشريعة ويسرها، فإن الذي خلق الثقلين لعبادته أحب أن يعبدوه بما يسهل عليهم بلا كُلفَةٍ ولا مشقة.
فإن أحب الصيام إليه والصلاة، ما كان النبي داود عليه الصلاة والسلام يتعبد بهما، وذلك أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام النصف الأول من الليل، ليقوم نشيطاً خفيفاً على العبادة، فيصلي ثلثه، ثم ينام سدسه الأخير ليكون نشيطا لعبادة أول النهار، وهذه الكيفية هي التي رغبها المشرع الحكيم.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن صيام يوم وفطر يوم، هو أفضل الصيام بما فيه صيام الدهر.
2- أن نوم النصف الأول من الليل، وقيام ثلثه، ثم نوم سدسه، أفضل القيام، لما فيه من أخذ النفس حاجتها من الراحة أولا، ثم القيام وقت النزول الإلهي، ثم نوم السدس الأخير ليكون أنشط لصلاة الصبح وأذكاره.
3- أن العبادة قسط وعدل، فلا يغفل عن عبادته، لا يغلو فيها؛لأن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرع جاء بالعدل في كل شيء والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع، وأمر بالاقتصاد في العبادات، ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، ونهى عن الوصال، فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشرع، والأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل والاقتصاد والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها.
4- أن الله تبارك وتعالى يتعبدك بأنواع كثيرة من العبادات.
فإذا أوغلت في نوع منها، تركت الباقي، فينبغي إبقاء شيء من القوة لسائر العبادات.
كما أن العبادات التي على الإنسان من معاشرة أهله، وزيارة أصدقائه، وطلبه الرزق في الدنيا، ومحادثة أولاده ونومه، إذا نوى بذلك الأجر وأداء الحقوق، كانت هذه العادات عبادات. ففضل الله واسع، وبِرِّه كبير.
الحديث الرابع:
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ قَالَ:
أوْصَانِي خليلي بثلاث صيام ثلاثة أَيَّام مِنْ كُل شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وَأن أوْتِرَ قَبْلَ أن أنَامَ.
المعنى الإجمالي:
اشتمل هذا الحديث الشريف على ثلاث وصايا نبوية كريمة:
الأولى: الحث على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فيصير صيام ثلاثة الأيام كصيام الشهر كله.
والأفضل أن تكون الثلاثة، الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر.
كما ورد في بعض الأحاديث، وفي تخصيصها بهذه الأيام فوائد طبية.
الثانية: أن يصلي الضحى، وأقلها ركعتان، لاسيما في حق من لا يصلي من الليل، كأبي هريرة الذي اشتغل بدراسة العلم أول الليل.
وأفضل وقتهما، ارتفاع الضحى حين ترمض الفصال كما جاء في حديث آخر.
الثالثة: أن من لا يقوم آخر الليل، فليوتر قبل أن ينام، كيلا يفوت وقته وكانت هذه الوصية في حق أبي هريرة وأمثاله، ممن ينامون عن الوتر آخر الليل.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. والأولى أن تكون الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. وقد ورد في تعيينها حديث قتادة بن ملحان الذي أخرجه أهل السنن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم أيام البيض ثالث عشرة ورابع عشرة وخامس عشرة، وقال: هي كهيئة الدهر.
2- استحباب صلاة الضحى والمواظبة عليها لمن لم يقم لصلاة الليل، لئلا تفوته صلاة الليل والنهار.
3- الوتر قبل النوم في حق من يغلب على ظنه أنه لا يقوم آخر الليل. آما من غلب على ظنه القيام، فيؤخره إليه، وإن فاته بنوم أو نسيان، فالمستحب أن يقضيه.
4- أن هذه الأحكام الثلاثة المذكورة، من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الغالية، التي ينبغي أن يعتنى بها ويحرص عليها، لأنها عظيمة النفع، جليلة القدر.
الحديث الخامس:
عَنْ محمَّد بْنِ عبَّاد بن جَعْفَر قال:
سَألتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله: أنَهَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عن صَوْم الجُمُعَةِ؟ قال: نَعَمْ.
وزاد مسلم (وَرَبِّ الْكَعْبَة).
الحديث السادس:
عَنْ أبي هُريرة رَضْيَ الله عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُول: «لا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إلاَّ أنْ يَصُومَ يَوْماً قَبْلَهُ أو يَوْمَاً بَعْدَهُ».
المعنى الإجمالي:
لما كان يوم الجمعة عيد الأسبوع، كما أن عيد الفطر وعيد الأضحى، عيد السنة والعيد فيه الفرح وإظهار السرور، وفيه إعلان شكر الله على نعمه، وطلب المزيد، كان الأولى في هذا اليوم أن يكون الإنسان مفطرا، ليقوى على أدائها.
فشرع إفطار يوم الجمعة، ولكن يبيحه، ويزيل كراهة صومه، أن يقرن به صوم يوم قبله أو بعده، أو يكون ضمن صوم معتاد، لئلا يظن العامة أيضاً تخصيص يوم الجمعة بزيادة عبادة على غيره، فيعتقدوها- لفضل ذلك اليوم- واجبة.
ما يؤخذ من الحديثين:
1- النهى عن صوم يوم الجمعة.
2- جواز صومه إذا قرن بصيامٍ قبله أو بعده، أو كان في صوم معتاد.
3- يحمل النهي في صومه على التنزيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه في جملة صومه الذي يصوم.
ورخص بصومه إذا قرن بغيره، ولو كان حراماً ما صيم، كعيد الفطر والنحر.
الحديث السابع:
عَنْ أبي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أزْهَرَ، وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبيْدِ، قَال:
شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْن الْخطَّابِ رَضْيَ الله عَنْهُ فَقَالَ: هذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْم فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَاليَوْم الآخَرُ اَّلذي تَأكُلُوْنَ فِيهِ مِنْ نسُكِكُمْ.
المعنى الإجمالي:
عيد الفطر وعيد النحر، هما العيدان الإسلاميان، اللذان جعلهما الشارع الحكيم الكريم يوْمَيْ فرح وسرور، وبهجة وحبور، يأتي فيهما المسلمون أنواع المتع المباحة من الأكل والشراب واللباس والزينة وغيرهما.
وقد حرم صومهما، لأن الفطر هو تحليل الصيام، كالسلام للصلاة، ولأن الأضحى يوم الأكل من الضحايا والهدايا، التي أمر الله تعالى بالأكل منهما.
فالخلق في هذين اليومين أضياف الله، فلْيقبلوا ضيافته، وليفطروا فيهما.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم صوم يَوْمَيْ الفطر والأضحى.
2- أن الصوم فيهما لا ينعقد، فلا يصح، سواء كان لقضاء أو نفل أو نذر.
3- حكمة النهي عن صومهما، ما أشار إليه في الحديث، من أن عيد الفطر هو اليوم الذي انتهى بدخوله شهر رمضان، فلتميز ولتعرف حدود الصوم الواجب بالفطر.
كما نهى عن صيام يوم أو يومين قبله، تمييزاً له عن غيره.
وأما الأضحى، فلأنه يوم النسك الذي أمر بالأكل منه، فليبادر إلى امتثال أمره، بالتناول من طيبات رزقه، فليس من الأدب واللياقة، الإعراض عن ضيافة الكريم.
4- أنه يستحب للخطيب أن يذكر في خطبته ما يتعلق بوقته من الأحكام ويتحرى المناسبات.
الحديث الثامن:
عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضيَ الله عَنْه قَالَ:
نَهَى رَسُولُ الله عَنْ صَوم يوْمَيْن: النَّحْرِ، والْفِطْرِ وَعَن اشْتِمَالِ الصَّمَّاء وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ في الْثَّوْبِ الوَاحِدِ وَعَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ والْعَصْرِ.
أخرجه مسلم بتمامه، وأخرج البخاري الصوم فقط.
الغريب:
الاحتباء: هو أن يقعد الرجل على إليتيه وينصب ساقيه يدير عليهما ثوباً واحداً.
الصماء: هو أن يرد الرجل الكساء من قبل ميمنته على يده اليسرى، وعاتقه الأيسر ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعاً بثوب ليس له منافذ.
المعنى الإجمالي:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، عن صيام يومين، وعن لبستين، وعن صلاتين.
فأما اليومان المحرم صومهما، فيوم الفطر، ويوم النحر وتقدم شيء منْ حكمة تحريم الصيام فيهما.
وأما اللبستان، فاشتمال الثوب الأصم، الذي ليس له منافذ، فإن لبسه يضر بالصحة، لعدم المنافذ المهوية فيه، ولأنه عنوان الكسل والبطالة، فلبسه يشل الحركة والعمل المطلوبين.
وأما الاحتباء بثوب واحد، فلأنه يخشى معه انكشاف العورة.
وأما الصلاتان، فالصلاة بعد صلاة الصبح، والصلاة بعد صلاة العصر.
فإن الوقتين اللذين بعدهما، وقتا عبادة المشركين، وقد تقدم الكلام عليهما.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهي عن هذه الأشياء المعدودة في الحديث.
2- النهي عن صيام العيدين، وعن الصلاة بعد الصبح والعصر، من باب التحريم.
والنهي عن اللبستين، للكراهة، ما لم يغلب على الظن انكشاف العورة، فيحرم.
3- مراعاة الشارع مصالح العباد في كل شيء.
الحديث التاسع:
عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضْيَ الله عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«مَنْ صَامَ يَوْماً في سبيل اللّه بَعَّدَ اللّه وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً».
المعنى الإجمالي:
الصيام من العبادات البدنية الشاقة، والجهاد من العبادات المالية والبدنية الصعبة.
فمن قوي عليهما جميعأ، فقام بهما في آن واحد، فهذا من الذين تركوا راحة الحياة والتلذذ بنعيمها، رغبة فيما عند اللَه تعالى من النعيم، وهرباً من عذابه الأليم، فجزاؤه عند الله تعالى أن يبعده بصوم اليوم الواحد في سبيل اللَه عن النار سبعين سنة.
وإبعاده عن النار، يقتضي تقريبه من الجنة، إذ ليس هناك إلا طريق للجنة وطريق للسعير.
ما يؤخذ من الحديث:
1- فضل الصيام إبَّانَ الجهاد في سبيل الله تعالى، وما يترتب عليه من الثواب العظيم.
2- يقيد استحباب الصيام في سبيل الله بعدم الإضعاف عن الجهاد.
فإن أضعفه فالمستحب له تركه، لأن الجهاد من المصالح العامة، والصوم مصلحة مقصورة على الصائم، وكلما عمت مصلحة العبادة، كانت أولى.