فصل: باب المواقيت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب المواقيت:

المواقيت: جمع ميقات. وهي زمانية ومكانية.
فالزمانية، أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. والمكانية: ما ذكرت في هذين الحديثين.
وجعلت هذه المواقيت تعظيماً للبيت الحرام، وتكريماً، ليأتي إليه الحجاج والزوار من هذه الحدود، معظمين خاضعين خاشعين.
ولذا حرم ما حوله من الصيد، وقطع الشجر، لأن في ذلك استخفافاً بحرمته، وحطاً من كرامته.
والله سبحانه وتعالى، جعله مثابة للناس وأمناً، ورزق أهله من الثمرات، لعلهم يشكرون.
الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ الله بْن عَبَّاس رَضي اللّه عَنْهُمَا:
أنَ رَسُولَ اللّه وَقَّتَ لأهْلِ الْمَدِينةِ ذا الْحُلَيْفَةِ، ولأهلِ الشام الجُحْفَة ولأهلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، ولأهل الْيَمَن يَلَمْلَمَ وقال: «هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أتَي عَلَيْهِنَ مِنْ غَيْرِ أهْلِهِنَّ لِمَن أرَادَ الحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ وَمَنْ كَان دُوْنَ ذلِكَ فمِنْ حَيْثُ أنْشَأ، حَتَى أهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ».
الحديث الثاني:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضْيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُهِلُّ أهْلُ المدِيِنَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَة وأهْلُ الشام مِنَالجُحْفَةِ وأهْلُ نجدٍ مِنْ قَرْن الْمَنَازِلِ».
قال عبد الله: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَيُهِلُّ أهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَم».
المواقيت المكانية:
ذو الحليفة: بضم الحاء وفتح اللام تصغير الحلفاء نبت معروف ينبت بتلك المنطقة. وتسمى الآن- آبار علي- ويكاد عمران المدينة المنورة- الآن- يصل إليها وتبلغ المسافة من ضفة وادي الحليفة إلى المسجد النبوي ثلاثة عشر كيلاً. ومن تلك الضفة إلى مكة المكرمة عن طريق- وادي الجموم- أربعمائة وثمانية وعشرين كيلاً والحليفة ميقات أهل المدينة ومن أتى عن طريقهم.
الجحفة: بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الفاء بعدها هاء قرية بينها وبين البحر الأحمر عشرة أكيال. وهي الآن خراب ويحرم الناس من:
رابغ: مدينة كبيرة فيها الدوائر والمرافق والمدارس الحكومية وتبعد عن مكة المكرمة عن طريق وادي الجموم- مائة وستة ثمانين كيلاً. ويحرم من رابغ أهل لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر والسودان وحكومات المغرب الأربع وبلدان أفريقيا وبعض المنطقة الشمالية في المملكة العربية السعودية.
يلملم: بفتح الياء المثناة التحتية فلام فميم فلام أخرى بعدها ميم أخرى ويقال ألملم- وسكان تلك المنطقة الآن يقولون لملم ولما سفلتت حكومتنا الطريق الآتي من ساحل المملكة العربية الجنوبي إلى مكة المكرمة والمار بوادي يلملم من غير مكان الإحرام القديم المسمى- السعدية- كنت أحد أعضاء لجنة شكلت لمعرفة مكان الإحرام مع الطريق الجديد فذهبنا إليه ومعنا أهل الخبرة والعارفون بالمسيات واجتمعنا بأعيان وكبار السن من سكان تلك المنطقة وسألناهم عن مسمى يلملم هل هو جبل أم واد فقالوا إن يلملم هو هذا الوادي الذي أمامكم وإننا لا نعرف جبلاً يسمى بهذا الاسم وإنما الاسم خاص بهذا الوادي، وسيوله تنزل من جبال السداة ثم تمده الأودية في جانبيه وهو يعظم حتى صار هذا الوادي الفحل الذي تشاهدونه وإن مجراه ممتد من الشرق إلى الغرب حتى يصب في البحر الأحمر عند مكان في الساحل يسمى- المجيرمة.
وإنه من سفوح جبال السداة حتى مصبه في البحر الأحمر يقدر بنحو مائة وخمسين كيلاً ونحن الاَن في السعدية في نحو نصف مجراه وبعد التجول في المنطقة والمشاهدة وتطبيق كلام العلماء وسؤال أهل الخبرة والسكان تقرر لدينا أن مسمى يلملم الوارد في الحديث الشريف ميقاتاً لأهل اليمن ومن أتى عن طريقهم هو كل هذا الوادي المعترض لجميع طرق اليمن الساحلي وساحل المملكة العربية السعودية وأن الاسم عليه من فروعه في سفوح جبال السداة إلى مصبه في البحر الأحمر وأنه لا يحل لمن أراد نسكاً ومرَّ به أن يتجاوزه بلا إحرام من أي جهة من جهاته وطريق من طرقه.
وقد كان الطريق يمر بالسعدية وهي قرية فيها بئر السعدية وفيها إمارة ومدرسة ومسجد قديم جدد الآن ينسب إلى معاذ بن جبل. والسعدية تبعد عن مكة المكرمة اثنين وتسعين كيلاً. أما الطريق الذي سفلتته حكومتنا فهو يقع عن السعدية غرباً بنحو عشرين كيلاً يمر على وادي يلملم وعند ممره إلى يلملم يكون وادي يلملم عن مكة مائة وعشرين كيلاً.
ونحن بينا للمسئولين جواز الإحرام من الطريق القديم والطريق الجديد وغيرهما مما يمر في هذا وذلك حج عام 1401هـ وأنا الآن اكتب هذه الأسطر في ربيع ثاني من عام 1402هـ فلا أدري هل يعاد الطريق من السعدية حيث الممر الأول أو يبقى هذا الطريق الجديد ويعد على ضفة الوادي أمكنة للإحرام، ودورات مياه للمحرمين.
ويحرم من يلملم اليمن الساحلي وسواحل المملكة السعودية وإندونيسيا وماليزيا والصين والهند وغيرهم من حجاج جنوب آسيا والآَن أصبح الحج غالبه عن طريق الطائرات أو البواخر التي لا ترسو إلا على مواني جدة.
قرن المنازل: بفتح القاف وسكون الراء وقد يقال قرن الثعالب لوجود أربع روابي صغار تسكنها الثعالب وقد أزيلت إحدى تلك الروابي لتوسعة طريق مكة- الطائف، وبقي الآن منها ثلاث أما الثعالب فمع توسع العمران هربت عن المنطقة. والقرن هو الجبل الصغير.
وهذا الميقات اشتهر اسمه الآن بالسيل الكبير ومسافته من بطن الوادي إلى مكة المكرمة ثمانية وسبعون كيلاً ومن المقاهي والأمكنة التي اعتاد الناس أن يحرموا منها خمسة وسبعون كيلاً- والسيل الكبير الآن قرية كبيرة فيها محكمة وإمارة وجميع الدوائر والمرافق والخدمات والمدارس المنوعة.
ويحرم من قرن المنازل- أهل نجد وحاج الشرق كله من أهل الخليج والعراق وإيران وغيرهم.
وادي محرم: هذا هو أعلى قرن المنازل وهو قرية عامرة فيها مدرسة وكان لا يحرم منه إلا قلة حتى فتحت حكومتنا طريق الطائف- مكة المار بالهدا وجبل الكرى فصار محرماً هاماً مزدحماً فبنت فيه الحكومة مسجداً كبيراً جداً له طرقه المسفلتة الداخلة والخارجة ومواقف السيارات ومكان الراحة وأمكنة الاغتسال ودورات المياه بأحدث تصميم وبناء لهذا المحرم الهام.
وهو لا يعتبر ميقاتاً مستقلاً من حيث الاسم لأنه فرع قرن المنازل ويبعد عن مكة بخمسة وسبعين كيلاً. ولولا كثرة تعرجات جبل كرا لكان عن مكة نحو ستين كيلاً فقط.
ويحرم منه من يحرم من الميقات الذي في أسفله ويزيد بحجاج الطائف وحجاج جنوب المملكة الحجازي وحجاج اليمن الحجازي.
تكميل:
ذات عرق: بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف سمي بذلك لأن فيه عرقاً وهو الجبل الصغير.
ويسمى الآن- الضريبة- قال ياقوت: الضريبة وادي حجازي يدفع سيله في- ذات عرق- والضريبة بفتح الضاد المعجمة بعدها راء مكسورة ثم ياء مثناة تحتية ثم باء موحدة تحتية ثم هاء واحدة الضراب وهى الجبال الصغار وهذا الميقات لم يرد في حديث الصحيحين ولكن ورد في بعض السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. وقد ضعف بعض أهل العلم هذا الحديث.
قال في فتح الباري. والذي في البخاري عن ابن عمر قال لما فتحت الكوفة والبصرة أتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله حدَّ لأهل نجد قرناً وهو جور عن طريقنا قال: فانظروا حذوها في طريقكم فحدَّ لهم- ذات عرق- قال الشافعي: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حد ذات عرق وإنما أجمع عليه الناس وهذا يدل على أن ذات عرق ليس منصوصاً عليه وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند والنووي في شرح مسلم وكذا وقع في المدونة لمالك.
وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية أنه منصوص وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه. وقد وقع في حديث عائشة وحديث الحارس السهمي كلاهما عند أحمد وأبي داود والنسائي وهذا يدل على أن للحديث أصلاً فلعل من قال إنه غير منصوص عليه لم يبلغه أو رأى ضعف الحديث اهـ ملخصاً من فتح الباري. قلت: وعلى كل فقد صح توقيته عن عمر رضي الله عنه فإن كان منصوصاً عليه وجهله فهو من موافقاته المعروفة وإن لم يكن نُصَّ عليه فقد قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي». وقد أجمع المسلمون على أنه أحد مواقيت الحج ولله الحمد.
وقد قمت بشهر محرم في عام 1402 هـ من مكة المكرمة إلى هذا الميقات ومعي الشريف: محمد بن فوزان الحارثي وهو من العارفين بتلك المنطقة ومن المطلعين على التاريخ وقصدي بحث طريق الحج من الضريبة إلى مكة على الإبل فوجدت الميقات المذكور شعباً بين هضاب طوله من الشرق إلى الغرب ثلاثة أكيال وعرضه من الجنوب إلى الشمال نصف كيلاً ويحده من جانبيه الشمالي والجنوبي هضابه ويحده من الشرق- ريع انخل- ويحده من الغرب وادي الضريبة الذي يصب في وادي مرّ ويعتبر هذا الميقات من الحجاز فلا هو من نجد ولا من تهامة ولكنه حجاز منخفض يكاد يكون حرة فليس فيه جبال عالية. ويقع عنه شرقاً بنحو عشرة أكيال وادي العقيق ثم يلي العقيق شرقاً- صحراء ركبة- الواسعة حيث تبتدئ بلاد نجد. ويحرم من العقيق- الشيعة- مخالفة لعمر رضي الله عنه الذي جعل ذات عرق ميقاتاً.
والمسافة من ميقات ذات عرق حتى مكة مائة كيلاً. وأشهر الأمكنة التي يمر بها الطريق- مكة الرقة- وفيها آثار وبِرْكَة عظيمة قديمة من آثار بني العباس ثمَّ وادي نخلة الشامية- ثم المضيق- ثم البرود ثم شرائع المجاهدية ثم العدل وهذا الميقات مهجور الآن فلا يحرم منه أحد لأن الطرق المسفلتة في نجد وفي الشرق لا تمر عليه وإنما تمر على الطائف والسيل الكبير- قرن المنازل.
ملاحظة: جميع مواقيت الإحرام أودية عظام ولذا فإن الاحتياط أن يحرم الحاج أو المعتمر من الضفة التي لا تلي مكة من الوادي لئلا يعتبر متجاوزاً للميقات.
فائدة:
جاء في قرار مجلس كبار العلماء رقم 5730 تاريخ /1399 هـ وهو ما خلاصته: بعث الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر إلى الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود رسالة تتضمن جواز جعل جدة ميقاتاً لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية. وقد أحيلت إلى المجلس فاستعرض تلك الفتوى وأصدر ما يلي: أن المجلس بعد دراسة الأمور التي وردت في الرسالة يرى أن المسوغات التي استند إليها مردودة بالنصوص الشرعية وإجماع سلف الأمة وأنه بعد الرجوع إلى الأدلة وما ذكر أهل العلم عن المواقيت المكانية ومناقشة الموضوع من جميع جوانبه فإن المجلس يقرر بالإجماع ما يلي:
أولاً: أن الفتوى الصادرة من فضيلة الشيخ عبد اللّه بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر الخاصة بجواز جعل جدة ميقاتاً لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية فتوى باطلة لعدم استنادها إلى نص من كتاب الله أو سنة رسوله وإجماع سلف الأمة ولم يسبقه إليها أحد من علماء المسلمين الذين يعتد بأقوالهم.
ثانياً: لا يجوز لمن مر بميقات من المواقيت المكانية أو حاذى واحداً منها جواً أو بحراً أن يتجاوزه من غير إحرام كما تشهد لذلك الأدلة وكما قرره أهل العلم رحمهم اللّه تعالى هذا وباللّه التوفيق وصلى الله على نبينا محمد. اهـ الخلاصة من القرار وبهذا انتهى بحثي عن المواقيت المكانية وهو بحث قل أن تجده في غير هذا الكتاب لأنه كتب عن مشاهدة وتطبيق وتحديد على الطبيعة ونسأل الله تعالى التوفيق والعصمة وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المعنى الإجمالي:
لهذا البيت الحرام، التكريم، والتعظيم، والتقديس، والإجلال.
ومن ذلك أن جُعِل له حدود، لا يتجاوزها قاصده، بحج، أو عمرة إلا وقد أحرم وأتى في حال خشوع وخضوع، وتقديس وإجلال، عبادة لله واحتراماً لهذا البيت المطهر.
ومن رحمة الله بخلقه، أنه لم يجعل لهم ميقاتاً واحداً في إحدى جهاته، بل جعل لكل جهة محرماً وميقاتاً، لئلا تلحقهم المشقة بقصدهم ميقاتاً ليس في طريقهم، حتى جعل ميقات مَنْ داره دون المواقيت مكانه الذي هو فيه، حتى أهل مكة يحرمون بالحج من مكة، فلا يلزمهم الخروج إلى الحل كفعلهم بالعمرة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جعل هذه الأمكنة المذكورة مواقيت، لا يحل لمن أراد نسكاً تجاوزها بدون إحرام.
2- أن ميقات من دون المواقيت من مكانه الذي هو ساكن فيه.
3- أن ميقات أهل مكة منها، وهذا في الحج.
أما العمرة، فلابد من الخروج إلى الحل وهو قول الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة.
وقال المحب الطبري: لا أعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة.
وقصة عائشة مشهورة ثابتة فلا يقاومها مفهوم الحديث.
4- يدل قوله: «ممن أراد الحج والعمرة» أن من أراد دخول مكة لغير حج أو عمرة، بل لتجارة أو زيارة قريب ونحوه، أنه لا يجب عليه الإحرام. ثم إن تجدد له عزم على الإحرام أحرم من حيث عزم على أداء النسك ولو داخل المواقيت أو من مكة في الحج.
وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء، ويأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى.
رحمة من الله تعالى بخلقه، حيث جعل لكل جهة ميقاتاً يكون في طريق سالكه إلى مكة، سواء أكان من أهل تلك الجهة أم لا.
ولو جعل الميقات في جهة واحدة، لَشقَّ على من لم يأت منه مشقة كبيرة.
6- في تقدير النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت وتحديدها، معجزة من معجزاته الدالة على صدق نبوته.
فقد حددها، ووقتها، وأهلها لم يسلموا، إشعاراً منه بأن أهل تلك الجهات سيسلمون، ويحجون، ويحرمون منها، وقد كان، وللّه الحمد والمنة.
7- تعظيم هذا البيت وتقديسه، إذ جعل له هذا الحمى، الذي لا يتجاوزه من قصده بنسك، إلا وجاء منه معظماً، مكرماً، خاشعاً، خاضعاً، بهذه الهيئة الخاصة.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على مشروعية الإحرام لمن أراد دخول الحرم، سواء أكان دخوله لنسك أم غيره.
وأجمعوا على وجوب الإحرام لمن أراد دخوله للنسك.
واختلفوا في وجوبه على من أراد الدخول لغير نسك، كدخوله لتجارة، أو سكن، أو غير ذلك.
فذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: إلى وجوب الإحرام على من دخله، سواء أكان لنسك أم غيره، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم في مكة: «إنَّهَا حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وَلا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ كَحُرمَتِهَا بِالأمْسِ».
واستدلوا بحديث ابن عباس عند البيهقي بلفظ: «لا يَدْخُلُ أحَدٌ مَكَّةَ إلاَّ مُحْرِماً». قال ابن حجر: إسناده جيد.
وذهب الإمام الشافعي في المشهور عنه: إلى جواز الدخول بلا إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة، وهو مذهب الظاهرية، ونصره ابن حزم في المحلى وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وأبو الوفاء بن عقيل، قال ابن مفلح، في الفروع: وهي ظاهرة.
واستدلوا على ذلك بقوله في هذا الحديث: «ممن أراد الحج والعمرة».
وأجابوا عن الدليل الأول للموجبين بأن الحديث ليس له دخل في الإحرام، وإنما هو في تحريم القتال في مكة.
وأجابوا عن حديث ابن عباس، بأنه موقوف من طريق البيهقي ولا يحتج به فيما عداها من الطرق. والموقوف ليس بحجة.
ولم يوجب الله الحج والعمرة إلا مرة واحدة في العمر، والأصل براءة الذمة إلا بدليل موجب.
فائدة:
ما ذكر من الخلاف، في حق غير المتردد إلى الحرم لجلب الحطب أو الفاكهة ونحوهما، أو له بستان في الحل يتردد عليه، أو له وظيفة أو عمل في مكة، وأهله في جدة أو بالعكس.
فهؤلاء ونحوهم، لا يجب عليهم الإحرام عند عامة العلماء، فيما اطَّلَعْتُ عليه من كلام فقهاء المذاهب، إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من التحريم على كل داخل إلى مكة بغير إحرام. والعمل على خلافه.

.باب مَا يَلبسُه المحْرم من الثياب:

ذكر المؤلف رحمه اللَه تعالى في هذا الباب أربعة أحاديث.
الأول والثاني: في بيان ما يلبسه المحرم من الثياب، وما يجتنبه.
والثالث: في بيان التلبية، وسأُفْرِدُهُ بباب.
والرابع: في بيان حكم سفر المرأة بلا محرم، وسأفرده بباب أيضاً، ليتبين من تعدد التراجم ما في الأحاديث من الأحكام.
والمؤلف أخذ الترجمة من السؤال، الذي في الحديث.
الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عُمَرَ رَضْيَ اللّه عَنْهُمَا: أنَّ رَجُلاً قالَ: يَا رَسُولَ اللّه. مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثيابِ؟,قال صلى الله عليه وسلم: «لا يَلْبَسُ القَمِيصَ، وَلا العَمَائِمِ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ إلا أحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْن فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلا يَلْبَسْ مِنَ الثيابِ شيئاً مَسَّهُ زَعْفَران أوْ وَرْسٌ», وللبخاري: «وَلا تَنْتَقِبُ الْمَرأةُ، وَلا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ».
الغريب:
السراويل: يذكر ويؤنث، وهو مفرد على صيغة الجمع، وجمعه السراويلات، وهي لفظة أعجمية عُربَتْ.
البرانس: جمع بُرْنس، ثوب رأسه منه، ملتزق به، لباس للنساك في صدر الإسلام. ويلبسه المغاربة الآن.
الخفاف: بكسر الخاء جمع خف بضم الخاء، وهو ما يلبس في الرجل، ويكون إلى نصف الساق.
أما الجوارب، فما غطى الكعبين، وحكمهما واحد، ويأتي إنشاء الله. مسه: أصابه.
ورس: بفتح الواو، وإسكان الراء، نبت أصفر، يصبغ به الثياب، وله. رائحة طيِّبة.
الزعفران: نبات بصلي معمر من الفصيلة السوسنية يصبغ به أيضا.
ولا تنتقب: الانتقاب: هو أن تُخَمِّر المرأة وجهها- أي تغطيه بالخمار- وتجعل لعينيها خرقين تنظر منهما.
القفازين: تثنية قُفَّاز وهو شيء يعمل لليدين، من خرق، أو جلود، أو غيرها. يقيها من البرد وغيره، على هيئة ما يجعله حاملو البزاة والصقور.
الكعبين: العظمان الناتئان عند مفصل الساق.
المعنى الإجمالي:
قد عرف الصحابة رضي الله عنهم أن للإحرام هيئة تخالف هيئة الإحلال. ولذا سأل رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء المباحة، التي يلبسها المحرم.
ولمّا كان من اللائق أن يكون السؤال عن الأشياء التي يجتنبها، لأنها معدودة قليلة وقد أعْطِي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم أجابه ببيان الأشياء التي يجتنبها المحرم ويبقى ما عداها على أصل الحل، وبهذا يحصل العلم الكثير.
فأخذ صلى الله عليه وسلم يَعُدُّ عليه ما يحرم على الرجل المحرم من اللباس منها بكل نوع منه، على ما شابهه من أفراده، فقال:
لا يلبس القميص، وكل ما فُصِّل وَخِيطَ على قدر البدن، ولا العمائم، والبرانس، وكل ما يغطى به الرأس، ملاصقاً له، ولا السراويل، وكل ما غطي به- ولو عضواً- كالقفازين ونحوهما، مخيطاً أو مُحِيطاً، ولا الخفاف ونحوهما، مما يجعل بالرجلين ساترين للكعبين، من قطن أو صوف، أو جلد أو غير ذلك.
فمن لم يجد وقت إحرامه نعلين، فَلْيَلْبَسْ الخفين ولْيَقْطَعْهُما من أسفل الكعبيِن، ليكونا على هيئة النعلين.
ثم زاد صلى الله عليه وسلم فوائد لم تكن في السؤال، وإنما المقام يقتضيها. فَبيَّن ما يحرم على المحرم مطلقاً من ذكر وأنثى، فقال:
ولا يلبس شيئاً من الثياب، أو غيرها مَخِيطاً أو غير مخيط، إذا كان مطيباً بالزعفران أو الورس، منبهاً بذلك على اجتناب أنواع الطيب.
ثم بيَّن ما يجب على المرأة، من تحريم تغطية وجهها وإدخال كفيها فيما يسترهما، فقال:
«ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين».
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن السؤال ينبغي أن يكون متوجهاً إلى المقصود علمه.
2- أنه ينبغي للمسئول إذا رأى السؤال غير ملائم أن يعدله ويقيمه إلى المعنى المطلوب، ويضرب صفحاً عن السؤال، كقوله تعالى: {يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قل هِيَ مَوَاقِيْتَ لِلنَّاسِ والْحَجِّ}.
3- أن الأشياء التي يجتنبها المحرم من الملابس، قليلة معدودة.
وأما الأشياء المباحة فهي الكثيرة، التي تعرف بالجد لأنها على أصل الإباحة.
ولهذا المعنى صرف النبي صلى الله عليه وسلم، سؤال السائل عن ما يلبسه المحرم، إلى بيان ما لا يلبسه.
4- تحريم هذه الأشياء الملبوسة خاصة بالرجل.
وأمَّا المرأة، فيباح لها لبس المخيط وتغطية الرأس.
5- منها القميص: وَنَبَّه به على ما في معناه، من كل ما لبس على قدر البدن، مخيطاً أو محِيطاً.
6- ومنها البرانس والعمائم ونبه بهما على كل ما يُغَطَّى به الرأس أو بعضه، من مَخِيطٍ أو مُحِيطٍ، من معتاد ونادر. فيدخل القلانس، والطواقي ونحوهما.
7- ومنها الْخُفَّان وما في معناهما من كل ساتر للكعبين، من مخيط أو محيط، سواء كان من جلد، أو صوف، أو قطن، أو غيرها.
8- إذا لم يجد نعلين ونحوهما مما لا يستر الكعبين، فَليَتَرَخَّصْ بلبس الخفين ولكن لِيَقْطَعْهُمَا من أسفل الكعبين، ليكونا في معنى النعلين.
ويأتي في الحديث الذي بعد هذا، اختلاف العلماء في ذلك، وبيان الراجح منه، إن شاء الله. قال المجد بن تيمية واتفقوا على أن التحريم هنا على الرجل.
9- تحريم الورس، والزعفران وما في معناهما من أنواع الطيب، لكل محرم من ذكر وأنثى.
10- تحريم تغطية المرأة وجهها، لأن إحرامها فيه. وتحريم لبس القفازين، على الذكر والأنثى.
11- هذه الفائدة والتي قبلها، لم تكن في سؤال السائل.
ولكن لما ظن النبي صلى الله عليه وسلم جهل السائل بها، بقرينة السؤال، زاده النبي صلى الله عليه وسلم لبيان العلم وقتَ الحاجة إليه، وعند مناسبته.
12- لهذا اللباس الخاص بالمحرم، حِكَمٌ وأسرار كثيرة.
منها:- أن يكون في حال خشوع وخضوع، بعيداً عن الترفُّه وزينة الدنيا، وليتذكر بهذا اللباس حال الموت، فيكون أقرب إلى المراقبة. قال ابن دقيق العيد: فيه تنبيه النفس على التلبس بهذه العبادة العظيمة بالخروج عن معتادها، وذلك موجب للإقبال عليها والمحافظة على قوانينها وأركانها وشروطها وآدابها.
13- قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في الحديث لا يلبسه المحرم، وأنه نبه بالسراويل والقميص على المخيط، وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطى به الرأس، مخيطاً كان أو غيره، وبالخفاف على ما يستر الرجلين.
14- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس للمحرم أن يلبس شيئا مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا لحاجة، والحاجة مثل البرد الذي يخاف أن يمرضه إذا لم يغط رأسه، فيلبس قدر الحاجة، فإذا استغنى عنه نزعه، وعليه أن يفدي إما بصيام ثلاثة أيام أو نسك شاة أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو شعير أو مدِّ برٍّ. ويجوز أن يفدي قبل فعل المحظور وبعده.
فائدة:
المراد بالنهي عن لبس المخيط والمحيط، هو اللبس المعتاد. أما ارتداؤه ونحوه، فلا بأس.
الحديث الثاني:
عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عَبَّاس رضيَ اللّه عَنْهُما قال:
سَمِعْتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بعَرَفَاتٍ: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَس خُفَّيْن.
وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارَاً فَلْيَلْبَسْ سَراوِيلَ (للمحرم).
المعنى الإجمالي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الحجيج بعرفات في حجة الوداع، ويبين أحكام المناسك.
وكان المسلمون في ذلك الوقت، في ضيق من الدنيا.
فَبَيَّن لهم أن من لا يجد نعلين يلبسهما في إحرامه، فليلبس بدلهما خفين ولو سترا الكعبين.
ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ولا يشقه، تخفيفاً من الشارع، ورخصةً من الله تعالى، الذي لا يكلف نفساً إلا وسعها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الخطبةْ في عرفة لبيان أحكام الحج وآداب المناسك.
2- أنه ينبغي تذكير الناس في كل وقت بما يناسبهم.
3- أن من لم يجد نعلين، فليلبس الخفين.
ظاهره، بلا قطع لهما، ويأتي الخلاف فيه.
4- أن من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل.
ولا فدية مع لبس الخفين والسراويل في هذه الحال.
5- سماحة هذه الشريعة ويسرها، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
اختلاف العلماء، والتوفيق بين الحديثين:
اختلف العلماء. في حكم المحرم، الذي لا يجد نعلين ووجد خُفَّيْنِ.
فهل يجب عليه قطعهما من أسفل الكعبين؟ وإن لم يفعل أثم وفدى، أو أنه يباح له لبسهما بلا قطع وليس عليه فدية؟
فذهب الجمهور من العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافي، والثوري وإسحاق: إلى الأول. مستدلين بحديث ابن عمر السابق. فإن لم يجد نعلين فليقطعهما من أسفل الكعبين لأنه أمر يقتضي الوجوب، فيحمل عليه حديث ابن عباس، على قاعدة حمل المطلق على المقيد.
وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه إلى الثاني، ويروى أيضاً عن عليٍّ، وقال به عطاء وعكرمة. مستدلين بحديث ابن عباس الذي معنا.
وأجابوا عن حديث ابن عمر بأجوبة، أحسنها أنه منسوخ بحديث ابن عباس، الذي خطب به في عرفات بينما حديث ابن عمر قاله في المدينة قبل حجة الوداع.
وأيدوا قولهم في النسخ بما يأتي:
1- أنه أطلق لبس الخفين بلا قطع بـ عرفات، على مشهد من أمم لم تحضر كلامه في المدينة، فليس عندهم علم من الحديث الأول ليحملوا هذا عليه، فما كان ليسكت عما يجهلون.
2- أن حديث ابن عباس في عرفات وهو وقت الحاجة، وتأخير البيان عنها ممتنع.
3- لم يذكر في حديث ابن عمر السراويل، وذكره في حديث ابن عباس ولم يأمر بفتقه مع أنه لا يوجد شيء يحمل عليه، مما دل على أنه أراد من الخفين والسراويل، مطلق اللبس بلا قطع ولا فتق.
4- أن القطع نسخ تخفيفاً وإصلاحاً عن الإفساد بإتلاف المال.
ونظائر هذه التخفيفات كثيرة في الشرع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أولاً أمرهم بقطعهما ثم رخص لهم في لبسهما مطلقاً من غير قطع، وهذا هو الذي يجب حمل الحديث عليه. اهـ.