فصل: كتاب الحَجّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب لَيلَة القَدْرِ:

الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عمَرَ رَضْيَ اللَه عَنْهُمَا:
أنً رِجَالاً مِنْ أصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المنام. في السْبعِ الأوَاخِرِ. فقال رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم: «أرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأًتْ في السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَحَرِّيَها فَلْيَتَحَرًهَا في السَّبْع الأوَاخِرِ».
الحديث الثاني:
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أَنَّ رَسُوْلَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَحَّرَُوْا ليْلَةََ الْقَدْرِ فَي الوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ».
الغريب:
1- أروا فعل ماضٍ مبني للمجهول من الرؤية.
2- ليلة القدر ليلة مباركة من ليالي رمضان سميت ليلة القدر لعظيم قدرها وشرفها. وقيل: لأن للطاعات فيها قدراً، والمعنيان متلازمان.
3- العشر الأواخر: يعني الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان، لأن لها فضلاً ومزية.
5- قد تواطأت: أصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطئه من قبْله فنقلت هنا إلى معنى موافقة رؤيا الرجل، لرؤيا الآخر.
فتواطأت: مثل توافقت لفظاً ومعنى.
المعنى الإجمالي:
ليلة القدر، ليلة شريفة عظيمة، فيها تضاعف الحسنات وتكفر السيئات، وتقدر الأمور.
ولما علم الصحابة رضي الله عنهم فضلها وكبير منزلتها، أحبوا الاطلاع على وقتها.
ولكن الله سبحانه وتعالى- بحكمته ورحمته بخلقه- أخفاها عنهم ليطول تلمسهم لها في الليالي، فيكثروا من العبادة التي تعود عليهم بالنفع.
فكان الصحابة يرونها في المنام، واتفقت رؤاهم على أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر، فمن كان متحرياً فليتحرها في العشر الأواخر، خصوصاً في أوتار تلك العشر، فإنها أرجى.
وأرجاها وأكثرها علامات ودلالات هي ليلة سبع وعشرين من رمضان.
فليحرص على رمضان، وعشره الأخير أكثر، وليلة سبع وعشرين أبلغ. وفقنا الله لنفحاته الكريمة.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في تعيين ليلة القدر، وحكى فيها الحافظ ابن حجر في فتح الباري سبعة وأربعين قولاً.
وقد قصد بذلك المشاركة في إبهامها وتعميقها، ولكنه رجح منها أنها في أوتار العشر الأخيرة من رمضان.
وقال الإمام أحمد: أرجاها ليلهَ سبع وعشرين. وهذا القول أرجحها دليلاً.
ما يؤخذ من الحديث:
1- فضل ليلة القدر، لما ميزها الله تعالى من ابتداء نزول القرآن، وتقدير الأمور، وتنزيل الملائكة الكرام فيها.
فصارت في العبادة عن ألف شهر، لمزيد المضاعفة.
2- أن الله تبارك وتعالى- من حكمته ورحمته- أخفاها لِيَجِدَّ الناس في العبادة، طلباً لها، فيكثر ثوابهم.
3- أنها في رمضان وفي العشر الأخير أقرب. خصوصاً، ليلة سبع وعشرين.
1- أن الرؤيا الصالحة حقٌّ، يعمل بها إذا لم تخالف القواعد الشرعية.
فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل تواطؤ رؤياهم على أنها في العشر الأخير، دليلاً على كونها فيها.
5- استحباب طلبها، والتعرض فيها لنفحات الله تعالى.
فهذه ليلة مباركة تضاعف فيها الأعمال، ويستجاب فيها الدعاء، ويسمع النداء.
والمحروم، من حرم طلبها والتعرض لرحمة الله في مظانها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان والليالي العشر إلا واحداً من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة. قال ابن القيم: إذ تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيا كافيا فإنه ليس من أيامٍ العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة. وأما ليالي عشر رمضان فهي الليالي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحييها كلها. فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة.
الحديث الثالث:
عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضْيَ الله عَنْهُ: أَنَّ رَسُوْلَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فاعْتَكَفََ عَاماً حَتَّى إِذا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ الْلَيْلَةُ الْتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيْحَتِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ- قَالَ: مَنِ اعْتَكَفَ معِي فَلْيَعْتَكِفْ في العَشْرِ الأوَاخِرِ. فَقَدْ أُرِيْتُ هذِهِ الْليْلةَ ثُمَّ أنْسِيتهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِيْنٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأوَاخِرِ، والْتَمِسُوهَا فِي كُل وِتْرٍ.
قَال: فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلكَ الْلَيْلَةَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلى عَرِيشٍ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، فَأبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ المَاءِ وَالطِّين مِنْ صُبْحِِ إحْدَى وَعشْرِيْنَ.
الغريب:
في العشر الأوسط: قياسه الوسطى لأن العشر مؤنثة، وتوجيه صحته أنه أراد اليوم.
فوكف المسجد: أي قطر من سقفه، ومنه: وكف الدمع.
أريت هذه الليلة ثم أنسيتها: معناه أخبرت في موضعها ثم نسيت كيف أخبرت لحكمة إلهيَّةٍ لا أنه رآها عياناً.
المعنى الإجمالي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الوسطى من شهر رمضان ابتغاء ليلة القدر وتحرياً لمصادفتها لأنه يظن أنها في تلك العشر.
فاعتكف عاماً- كعادته- حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه، علم أن لليلة القدر في العشر الأواخر، فقال لأصحابه:
من اعتكف معي في العشر الوسطى، فليواصل اعتكافه وليعتكف العشر الأواخر.
فقد رأيت في المنام هذه الليلة وأنسيتها وقد رأيتني فيها في المنام أسجد في ماء وطين، وهي رؤيا حق ولم يأت تأويلها، فلابد أنها أمامكم في العشر الأواخر فالتمسوها فيها.
فصدق الله رؤيا نبيه صلى الله عليه وسلم. فمطرت السماء تلك الليلة.
وكان مسجده صلى الله عليه وسلم مبنيا كهيئة العريش، عمده من جذوع النخل، وسقفه من جريدها، فوكف المسجد من أثر المطر، فسجد صلى الله عليه وسلم صبيحة إحدى وعشرين، في ماء وطين.
ما يؤخذ هن الحديث:
1-كون النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسطى، طلباً لليلة القدر، قبل علمه أن وقتها في العشر الأواخر.
2- هذا الحديث من أدلة الذين يرونها في ليلة إحدى وعشرين.
3- يدل هذا الحديث على أنها في العشر الأواخر، وفي أوتارها آكد.
4- أن الرؤيا حق لاسيما رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
5- صفة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه، وكونه عريشاً قد سقف بالجريد الملبد بالطينِ، وحيطانه بعسبان النخل، وسواريه بجذوع النخل. فعمارتهم المساجد، بالطاعة فيها، لا بالتشييد والزخرفة.

.باب الاعتِكَاف:

الاعتكاف: في اللغة، لزوم الشيء وحبس النفس عليه، ومنه قوله تعالى: {يَعْكُفُوْنَ عَلَى أصْنَامٍ لَهُمْ} أي يلازمونها ويقيمون عليها.
وهو في الشرع: المقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة لطاعة الله.
أما حكمه: فقد أجمع العلماء على مشروعيته، وأجمعوا أيضاً على أنه مستحب ليس بواجب.
وأما حكمته وفائدته:- فقد قال ابن القيم في الهدى لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، شرع الاعتكاف الذي مقصوده وروحه، عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله، بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه. فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
وذكر عقيب الصيام لمناسبتين:
الأولى: أن جملة الكلام على الصيام سيتناول صيام شهر رمضان، وهو الذي يتأكد استحباب الاعتكاف فيه، لما يرجى فيه من ليلة القدر.
الثانية: اتفاق العلماء على مشروعية الصيام مع الاعتكاف لأن تمام قطع العلائق عن الدنيا يكون بالصيام.
وقد اشترط الحنفية والمالكية لصحة الاعتكاف، الصيام. ورد عليهم الصنعاني بأنه لا دليل لهم إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا صائماً. والفعل المجرد لا يكون دالاً على الشرطية. وقد اعتكف في شوال ولم ينقل أنه صام أيام اعتكافه.
الحديث الأول:
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ اللَه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتًى تَوَفَّاهُ الله تَعَالى. ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدَهُ.
وفي لفظٍ: كَانَ رَسُولُ الله يَعْتَكِفُ في كلِّ رَمَضَانَ، فَإذَا صلَّى الْغَدَاةَ، جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيْهِ.
المعنى الإجمالي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، طلباً لليلة القدر، بعد أن علم أنها في تلك العشر، واستمر يعتكفهن كل سنة، حتى توفاه الله تعالى.
ثم اعتكف أزواجه رضي الله عنهن، من بعده يطلبن ما طلب.
وإذا صلى الصبح دخل معتكفه، وهو ما يحتجزه من المسجد للخلوة وقطع العلائق عن الخلائق.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية الاعتكاف، وأنه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، التي يحرص عليها.
2- فائدته وثمرته: هي أن يقطع المعتكِف علائقه عن الدنيا وما فيها، ويخلو بربه، ويتلذذ بمناجاته وجمعه نفسه وخواطره وأفكاره، عليه وعلى عبادته.
3- أن اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم استقر- أخيراً- على العشر الأواخر من رمضان، لما يُرجَى فيهن من ليلة القدر.
4- أن الاعتكاف سنة مستمرة لم تنسخ إذ اعتكف أزواجه صلى الله عليه وسلم بعده.
5- أن وقت دخول المعتكِف مكان اعتكافه، يكون بعد صلاة الصبح.
6- أنه لا بأس من أن يحتجز المعتكف ما يخلو به إذا لم يضيق على المصلين. لما أخرج الشيخانْ عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف أمر بضرب خبائه فضرب.
7- يؤخذ من معنى الاعتكاف، ومن مقصده أن المعتكف يجتنب الجماع ودواعيه، والخروج من معتكفه لغير حاجة، ويجتنب أعمال الدنيا من المعاوضات والصنائع ونحوها، وأن يُقِلَّ من مخالطة الناس لغير اجتماع في ذكر أو قرآن، لأن هذه الأشياء وأشباهها، منافية للاعتكاف.
8- أن شرط الاعتكاف أن يكون في مسجد تقام فيه الجماعة لقوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} لئلا يفضي اعتكافه إلى ترك الجماعة، أو إلى تكرار الخروج إليها كثيراً.
الحديث الثاني:
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّها كَانَتْ ترَجِّلُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ،
وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ، وهِيَ فِي حُجْرَتِهَا، يُنَاوِلُهَا رَأسَهُ.
وفي رواية: وَكَانَ لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلاَّ لِحَاجَةِ الإنْسَانِ.
وفي رواية: «أنَ عَائِشَةَ قَالَتْ: إني كُنْت لا أدْخُلُ الْبَيْتَ إلاَّ لِلْحَاجَةِ والْمَرِيضُ فِيهِ، فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلاَّ وَأَنَا مَارَّة».
الترجيل: تسريح الشعر.
المعنى الإجمالي:
اليهود يتشددون في أمر الحائض فيجتنبون منها ما أباحه الله، من المباشرة والمضاجعة، بل يعتزلونها ويرونها رجساً نجساً.
والنصارى على نقيضيهم، فلا يتحاشون عنها، بل يعاملونها معاملة الطاهرة.
أما الإسلام دين السماح واليسر، ودين العدل والتوسط، فيراها طاهرة في بدنها وعرقها وثوبها. فالمؤمن لا ينجس، لا حيا ولا ميتاً فلا بأس من مباشرتها للأشياء الرطبة واليابسة. بل لا بأس من أن يباشرها زوجها بما دون الفرج.
أما الجماع فيحرمه لما فيه من الخبث، الذي يعود بالضرر على المجامع وعلى الولد إن قُدِّر في ذاك الجماع.
لذا كانت عائشة رضي الله عنها تصلح رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهى حائض.
فكان اعتكافه لا يمنعه من ترجيل شعره، وتنظيف بدنه، وكان لا يخرج من المسجد لذلك، بل يناولها رأسه وهو في المسجد وهي في بيتها.
فقد كان اعتكافه يمنعه من الخروج إلا لما فيه حاجته من طعام أو شراب، أو قضاء حاجة ونحو ذلك.
فالاعتكاف لزوم المسجد. والخروج ينافيه، لذا حكت عائشة عن نفسها أنها لا تدخل البيت إلا لحاجةٍ إذا اعتكفت.
ومن اهتمامها بسرعة الرجوع، يكون المريض في طريقها فلا تقف لتواسيه، بل تسأل عنه وهي في طريقها بالذهاب أو الإياب إلى المسجد.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن الاعتكاف لا يمنع من ترجيل الشعر وغسله وأنواع التنظيف.
2- أنه لا بأس من ملامسة الحائض ومباشرتها للأشياء.
3- أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد.
4- أن المعتكف لا يخرج من المسجد إلا لحاجة، كالطعام والشراب.
5- أن إخراج بعض البدن من المسجد، لا يعد خروجا.
6- أن الحائض لا تمكث في المسجد، لئلا تلوثه.
7- أن من خرج لقضاء حاجة فَلْيَعُدْ إليه سريعاً، ولا يشتغل بغير حاجته التي أباحت له الخروج.
8- أن لمس المرأة لغير شهوة، لا يضر في الاعتكاف.
الحديث الثالث:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطًابِ رَضيَ الله عَنْهُ قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ في الجَاهِلية أَنْ أعْتَكِفََ لَيْلَةً (وفي رواية: يَوْمَاً فِي المَسْجِدِ الْحَرَامِ). قال: «فَأوْفِ بِنَذْرِكَ» ولم يذكر بعض الرواة يوماً ولا ليلة.
المعنى الإجمالي:
نذر عمر بن الخطاب في الجاهلية أن يعتكف يوماً وليلة في المسجد الحرام، فسأل النبي عن حكم نذره.
فلما كان مطالباً بوفائه، سواء عقده في حال كفره أو إسلامه، أمره أن يوفي بنذره، لأنه وإن كان عقده مكروهاً إلا أن الوفاء به واجب.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب الوفاء بالنذر، ولو عقد في حال الكفر.
2- إذا عيَّن لاعتكافه المسجد الحرام تعيَّن، فإن عيَّن ما دونه من المساجد أجزأه عنها، وكل مسجد فاضل يجزئ عما دونه بالفضل.
3- أن الاعتكاف يجب بالنذر، ويلزم الوفاء به.
4-ورد في الحديث نذر ليلة وورد يوماً وورد مطلقاً. فمن أخذ برواية الليل أجزأه الاعتكاف بدون صوم.
ومن جعل المراد بالليل أو اليوم ما يشملهما جميعاً، اشترط الصوم في الاعتكاف، وهما قولان للعلماء، والأحوط الصيام معه.
الحديث الرابع:
عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُييٍّ رضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفاً في المَسْجِدِ، فَأَتَيْتُهُ أَزُورَهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ. ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي- وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي بَيْتِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ, فَمَرّ رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَلَمَّا رأَيَا رَسُوْلَ اللّه صلى الله عليه وسلم أسْرَعَا في المَشْي, فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إنًهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ», فَقَالا: سُبْحَانَ الله يَا رَسُولَ الله, فَقَالَ: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإنِّي خِفْتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا شَرَّاً» أو قال: «شَيْئاً».
وفي رواية: أنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ في اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فِي العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فتَحدََّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَعَهَا يَقْلِبُهَا, حَتَّى إذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عَنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَة ثُمَّ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.
الغريب:
حُيي: بضم الحاء. هو ابن أخطب اليهودي زعيم بني النضير قتل مع بني قريظة صبراً.
ليقلبني: بفتح الياء وسكون القاف، ليردني ويرجعني إلى منزلي.
في بيت أسامة: نسب البيت إلى أسامة بن زيد، فإنه صار له بعد ذلك.
على رسلكما: بكسر الراء: أي على هينتكما، أي تمهلا ولا تسرعا.
فقالا: سبحان الله، تسبيحٌ وردَ مورد التعجب.
المعنى الإجمالي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً في العشر الأواخر من رمضان.
وكان ينقطع في معتكفه عن الناس إلا قليلاً للمصلحة.
ولذا فإن زوجه صفية رضي الله عنها زارته في إحدى الليالي فحدثته ساعة، ثم قامت إلى بيتها.
فلِمَا جبله الله عليه من كرم الأخلاق واللطف العظيم، وجبر القلوب، قام معها ليشيعها ويؤنسها من وحشة الليل.
وفي أثناء سيره معها، مرَّ رجلان من الأنصار، فاستحييا أن يسايرا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أهله، فأسرعا في مشيهما.
فقال لهما: تمهلا ولا تسرعا، فإن التي معي زوجي صفية.
فتعجبا وكبر عليهما ذلك وقالا: سبحان الله! كيف تظن يا رسول الله أننا نظن شيئاً؟!
فأخبرهما أنه لم يظن بهما ذلك، وإنما أخبرهما أن الشيطان حريص على إغواء بني آدم، وله قدرة عليهم عظيمة فإنه يجري منهم مجرى الدم من لطف مداخله، وخَفِيِّ مسالكه. أعاذنا الله منه، بحمايته آمين.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية الاعتكاف، لاسيما في العشر الأواخر من رمضان.
2- أن المحادثة اليسيرة لا تنافي الاعتكاف، خصوصاً لمصلحة، كمؤانسة الأهل مثلاً.
3- وفيه حسن خلقه ولطفه صلى الله عليه وسلم، إذ آنسها، ثم قام ليشيعها إلى بيتها.
فكذا ينبغي أن يتحلَّى المسلمون بمثل هذه الأخلاق النبوية الكريمة.
4- وفيه أنه ينبغي أن يريل الإنسان ما يلحقه من تهمة، لئلا يظن به شيء هو بريء منه، أي ينبغي التحرز مما يسبب التهمة.
5- أن الشيطان له قدرة وتمكن قَوِيٌّ من إغواء بني آدم، فهو يجري منهم مجرى الدم.
قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يقتدى بهم.
6- وفيه شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته: فإنه يعلم من ظاهر الحال أن الرجلين لم يظنا شيئا، وإنما علم كيد الشيطان الشديد، فخاف عليهما أن يوسوس لهما بشيء يكون سبب هلاكهما.
7- قال بعض العلماء: ومنه ينبغي للحاكم أن يبيِّن للمحكوم عليه وجه الحكم، إذا كان خافياً عليه، نفياً للتهمة.
8- جواز خلوة المعتكف بزوجه ومحادثتها، إذا لم يُثِرْ ذلك شهوته المنافية للاعتكاف.
9- قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على هجوم خواطر الشيطان على النفس. وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه لا يؤاخذ به لقوله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}. قال الصنعاني: الوساوس تطرق القلب، فإن استرسل العبد معها قادته إلى الشك، وإن قطعها بالذكر والاستعاذة ذهبت عنه.

.كتاب الحَجّ:

الحج: لغة، القصد: وشرعاً: القصد إلى البيت الحرام، لأعمال مخصوصة، في زمن مخصوص.
وابتدأ المصنف بـ الصلاة لأنها أهم أركان الدين بعد الشهادتين.
وثَنَّى بـ الزكاة لأنها قرينتها في آيات القرآن الكريم.
وثلَّث بـ الصيام، لكونه يجب كل سنة، ويطيقه ويقوم به الجمهور من المسلمين.
وأخَّر الحج، لأنه لا يجب إلا مرة في العمر، ولا يجب إلا على القادرين، وهم أقل من العاجزين.
وقد ثبت بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، فوجوبه معلوم من الدين بالضرورة.
وفرض سنة تسع من الهجرة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، سنة عشر، بعد أن طهَّر البيت من آثار الشرك.
أما فضله فقد وردت فيه النصوص الكثيرة الصحيحة ومنها: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
أما حِكَمُهُ وأسراره، فأكثر من أن تحصى، ولا يوفيها-بياناً- إلا التصانيف المستقلة في الأسفار المطولة.
وَلْنُلِمَّ بنُبْذَةٍ منها ليقف القارئ على قُلٍّ من كُثْرٍ من أسرار شريعته الرشيدة وأهدافها الحميدة، فيرى أن له ديناً يهدف- بعباداته- إلى صلاح الدين والدنيا.
فهذا المؤتمر الإسلامي العظيم، وهذا الاجتماع الحاشد، فيه من المنافع الدينية والدنيوية والثقافية والاجتماعية والسياسية، ما يفوت الحصر والعدِّ.
أما الدينية، فما يقوم به الحاج من هذه العبادة الجليلة، التي تشتمل على أنواع من التذلل والخضوع، بين يدي الله تعالى.
فمنها تقحُّم الأسفار وإنفاق الأموال، والخروج من ملاذ الحياة، بخلع الثياب واستبدالها بإزار ورداء، حاسر الرأس، وترك الطيب والنساء، وترك الترفُّه بأخذ الشعور والأظفار ثم التنقل بين هذه المشاعر.
كل هذا بقلوب خاشعة، وأعين دامعة، وألسنة مكبرة ملبية.
قد حدا بهم الشوق إلى بيت ربهم، ناسين- في سبيل ذلك- الأهل والأوطان والأموال، والنفس والنفيس، فما ترى ثوابهم عند ربهم؟
أما الثقافية، فقد أمر الله بالسير في الأرض، للاستبصار والاعتبار.
ففيه من معرفة أحوال الناس، والاتصال بهم، والتعرف على شئون الوفود، التي تمثل أصقاع العالم كله، ما يزيد الإنسان بصيرة وعلماً، إذا تحاكَّ بعلمائهم، واتصل بنبهائهم، فيجد لكل علمٍ وفنٍ طائفة تمثله.
أما الاجتماعية والسياسية، فإن الحج مؤتمر عظيم، يضم وفوداً متنوعة العلوم، مختلفة الثقافات، متباينة الاتجاهات والنزعات، فإذا اجتمع كل حزب بحزبه، وكل طائفة بشبيهتها، ومثلوا لجان الحكومة الواحدة ودرسوا وضعهم الغابر والحاضر والمستقبل، ورأوا ما الذي أخرهم، وما الذي يقدمهم، وما هي أسباب الفرقة بينهم، وما أسباب الائتلاف والاجتماع، وتوحيد الكلمة.
وبحثوا شئونهم الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، على أساس المحبة والوئام، وبروح الوحدة والالتئام.
أصبحوا يداً واحدة ضد عدوهم، وقوة مرهوبة في وجه المعتدي عليهم.
وبهذا يصير لهم كيان مستقل خاص، له مميزاته وأهدافه ومقاصده.
يسمع صوته ويصغى إلى كلمته، ويحسب له ألف حساب.
وبهذا يعود للمسلمين عزَّهم، ويرجع إليهم سؤددهم، ويبنون دولة إسلامية، دستورها كتاب الله وسنة رسوله، وشعارها العدل والمساواة، وهدفها الصالح العام، وغايتها الأمن والسلام.
حينئذٍ تتجه إليهم أنظار الدنيا، وتسلم الزمام إليهم، فيمسكونه بأيديهم، ويُقَوِّضُونَ مجالس بُنِيتْ على الظلم والبَغْي، ويبنون على أنقاضها العدل والإحسان.
وبهذا يقر السلام، ويستتب الأمن، وتتجه المصانع التي تصنع للموت الذريع أسلحة الدمار والخراب، إلى أن تخترع المعدات التي تساعد على التثمير والتصنيع، وإخراج خيرات الأرض، فتحقق حكمة الله بخلقه، ويحل الخصب والرخاء، والأمن والسلام مكان الجدب والغلاء، والخوف والدماء.
ولكن لابد لكمال تحقق أعمال هذا المؤتمر من لغة موحدة، يتفاهمون بها.
وأولى اللغات بذلك لغة القرآن.
كما أنه لابد من التنظيم، والتنسيق، والرعايا من الحاكمين.
وإذا علمت ثمرات هذه الاجتماعات الإسلامية، فهمت جيداً- أيها المسلم المؤمن- أن لك ديناً عظيماً، جليل القدر، يقصد منه- بعد عبادة الله- صلاح الكون واتساقه، لأن الاجتماع هو أعظم وسيلة لجمع الأمة وتوحيد الكلمة.
ولذا فإنه عُنِيَ بالاجتماعات عناية عظيمة، تحقيقاً للمقاصد الكريمة.
ففرض على أهل المحلة الاجتماع في مسجدهم كل يوم خمس مرات.
وفرض على أهل البلد عامة الاجتماع للجمعة في كل أسبوع.
وفرض على المسلمين الاجتماع في كل عام.
وهذا موضوع خطير طويل، نكتفي منه بهذه الإشارة.
نسأل اللَه تعالى أن يُعْلِيَ كلمته، ويظهر دينه، وينصر أولياءه، ويذل أعداءه. إنه قوي عزيز.