فصل: كتاب الجِهَاد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.كتاب الجِهَاد:

الجهاد: بكسر اليم، أصله- لغة- المشقة، يقال: جاهدت جهاداً، أي بلغت المشقة.
وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار والبغاة، وقطَّاع الطريق.
ومشروعيته بالكتاب، والسنة، والإجماع.
وقد تكاثرت النصوص في الأمر به، والحث عليه، والترغيب فيه. وسيأتي شيء منها إن شاء الله تعالى.
وهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي، سقط عن الباقين، وإلا أثموا جميعا مع العلم والقدرة، إلا في ثلاثة مواضع فيكون فرض عين.
الأول: إذا تقابل الفريقان، تعين يحرم الانصراف.
الثاني: إذا نزل العدو البلد وحاصرها، تعينت مقاومته.
الثالث: إذا استنفر الإمام الناس استنفارا عاماً، أو خص واحدا بعينه، لقوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمَنُوا مَا لكم إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفروا في سَبِيلِ الله اثَّاقلتم إلَى الأرض}.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا».
قال العلماء: ويطلق الجهاد على مجاهدة النفس والشيطان والفساق، فأما مجاهدة النفس، فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد واللسان والمال والبدن وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم بالقلب.
طبيعة الحرب في الإسلام:
ذهب بعض الغربيين المبشرين: إلى أن الإسلام قام على العنف والعسفِ، وانتشر بالسيف وإراقة الدماء، واعتمد على القسر والإكرا5 في الدخول فيه.
والجواب: أن نقول: هذا زعم خاطئ، وهو ناشئ، إما من جهل في الدين الإسلامي وفتوحاته وغزواته ونصوصه، وإما ناشئ عن عصبية وعداء لهذا الدين. فهم يريدون تبشيعه والتنفير منه.
والحق أنه ناشئ من الأمرين جميعاً، لاًن الدين الإسلامي قام على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ونادى بالسلام، ودعا إليه، فإن السلام مشتق من الإسلام.
ومن تتبع نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، التي منها وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمراء جيوشه، ومنها سيرته صلى الله عليه وسلم في الغزوات، علم أن الإسلام جاء بالحكمة، وللرحمة، والسلام، والوئام، وأنه جاء بالإصلاح لا بالإفساد.
اقرأ قوله تعالى: {لا إكْرَاهَ في الدينِ قَدْ تبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغيِّ} وقرأ قوله تعالى: {وَلَو شَاء ربُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرْض كُلهم جَمِيعاَ. أفأنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حَتىَّ يَكُونُوا مُؤمِنِينَ}؟.
واقرأ قوله تعالى: {لا ينهَاكُمُ الله عَنِ الَذِينَ لَمْ يقاتلوكم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دياركم أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ الله يُحِب الْمُقْسِطِينَ} وقوله تعالى: {قَاتِلُوا في سَبِيلِ الله الَذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تعتدوا}.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة.
وأما السنة فكل أعمال النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب، ووصاياه لقواده، ناطقة بذلك.
قال صلى الله عليه وسلم في حديث بريده الذي في (مسلم) كان إذا أمَّر أميرا على سرية أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا.
ثم قال: «اغزوا باسم اللّه في سبيل الله، من كفر باللّه ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا».
ونهى صلى الله عليه وسلم: «عن قتل النساء والصبيان» متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «اخرجوا باسم الله، تقاتلون في سبيل الله من كفر باللّه، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع». وقال: «ولا تقتلوا شيخاً فانياً».
وأوصى أبو بكر الصديق يزيد بن أبي سفيان، حين بعثه أميرا على ربع من أرباع الشام بقوله:
إنِّي موصيك بعشر خلال:1- لا تقتلوا امرأة. 2- ولا صبياً. 3- ولا كبيراً هرماً. 4_ ولا تقطع شجرا مثمرا. 5_ ولا تخرب عامراً. 6- ولا تعقرن شاة. 7- ولا بعيراً إلا لمأكله. 8- ولا تغرقن نخلا ولا تحرقه. 9- ولا تغلل. 10- ولا تجبن رواه مالك في الموطأ.
وقال ابن الأنبارى- عند قوله تعالى: {لا إكْرَاهَ في الدينِ} معنى الآية: ليس الدين ما يدين به من الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب، فتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين هو المعتقد في القلب.
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تبين له أنه لم يكره أحداً على دينه قط. وأنه إنما قاتل من قاتله.
وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته، لم ينقض عهده. بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكم فاستقيموا لَهُم}.
ولما قدم المدينة، صالح اليهود وأقرهم على دينهم.
فلما حاربوه، ونقضوا عهده، غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك، كما قصدوه يوم (أحد) ويوم (الخندق) ويوم (بدر) أيضاً هم جاءوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه، لم يقاتلهم.
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لم يكره أحداً على الدخول في دينه البتة. وإنما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعاَ.
فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى، وأنه رسول الله حقا. وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَين واضح جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه.
بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بينة.
ومن أعمى اللَه قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسوراً.
وكلام العلماء المحققين في هذا الباب كثير، وهو الذي يفهم من روح الإسلام ومبادئه ومقاصده.
ولكن أعداء الإسلام يأبون إلا أن يصفوه بما يشوهه ويشينه، للتضليل والتنفير.
وغزواته صلى الله عليه وسلم، التي فتحت القلوب والعقول، وحمل عليها الدفاع عن العقيدة المهددة، ومعاملاته، ومعاهداته، ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، تدحض تلك المزاعم فإن ربك أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
وقد بين ذلك ابن القيم في كتاب زاد المعاد حيث قال:
فصل: في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي ربه عز وجل.
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بالتبليغ.
ثم نزل عليه {يا أيها المدثر قم فأنذر} فنبأه بقوله: {اقرأ} وأرسله بـ {يا أيها المدثر} ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حوله من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال... ويؤمر بالكف والصبر والصفح.
ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله للّه. اهـ.
قلت: ويعلم من المرحلة الأخيرة في القتال وجوب قتال الكفار ومهاجمتهم بعد دعوتهم والأعذار إليهم حتى تكون كلمه الله هي العليا، وإن قتال الكفار في الإسلام ليس مدافعة فقط، بل هو حركة جهادية حتى يكون الدين كله للَه.
نسأل اللّه أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، إنه قوي عزيز.
الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ أبى أوْفَى رَضي اللّه عَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في أيامه الَّتي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ، انتظَرَ حَتَّى إذَا مَالتِ الشَّمس قَامَ فِيهِمْ فَقَالَ:
{يا أيها النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، واسألوا الله الْعَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِروُا وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السيوفِ}.
ثُمَّ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «اللهم مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ، اِهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ».
المعنى الإجمالي:
ينهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن تَمَنى لقاء العَدُوِّ، لما في ذلك من العجب والغرور واحتقار الأعداء وازدرائهم، الذي هو انتفاء للحيطة والحزم المطلوبين.
وأمرهم أن يسألوا الله تعالى العافية، وهي السلامة من مكروهات الدنيا والآخرة، ومنها لقاء الأعداء.
ثم بيَّن أسباب النصر- إذا ابتلوا بعدوهم- وهي الثبات والصبر وتَحرى القتال في أوقات البرد بعد الزوال، فإنَِّّه وقت هبوب الرياح وفي ذلك تنشط الأجسام ويحين وقت النصر، وأن لا يتكلوا على قُوَّتِهم وعدتهم، بل يسألوا الله تعالى العون والنصر وَخَذلَ الأعداء.
ثم ذكر دعاء مناسباً لذلك الموطن، فتوسل إلى اللّه تعالى بكونه مُنْزِلَ الكتاب الذي سن القتال، لإظهار شعائره وأحكامه، وهو توسل بنعم الدِّين، وإجرائه السحاب الذي هو نعمة الدنيا فيها شاملا به لنعم الدنيا والآخرة، وكما أنعمت بنصرنا وَهَزْم أعدائنا يوم الأحزاب، فانصرنا، فنحن نقاتل اليوم على ما نقاتل عليه في ذلك اليوم، فاهزمهم وانصرنا عليهم.
فهذه أسباب النصر- ببيان الوقت المناسب، والدعاء المناسب، ودفع الشر، بتركه والصبر عند حلوله- أرشد إليها القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم.
ثم بين فضيلة من فضائل الجهاد، وهى أنه من أقرب الأسباب لدخول الجنة، لأنه إرخاص للنفس والنفيس في سبيل اللّه تعالى.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحين مناسبة الوقت للقتال.
والأولى أن يكون في أول النهار، فإن لم يمكن، فبعد الزوال. كما جاء في حديث آخر (كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تهب الرياح وتحضر الصلاة).
2- كراهة تَمنِّى القتال ومصادمة الأعداء، لأنَّ المتمنِّي ما يدرى ما عاقبة الأمر، وأيضاً دليل الغرور والعجب، وهو عنوان الخذلان، ودليل احتقار العدو وهو عنوان قلة الحزم والاحتياط،
3- سؤال العافية، وهي شاملة لعافية الدين والدنيا والأبدان.
4- الصبر عند لقاء العدو، لأنه السبب الأكبر في الظفر والانتصار.
5- فضيلة الجهاد، وأنه سبب قريب في دخول الجنة.
وفي قوله: ظلال السيوف, إشارة إلى الإقدام والدنو من العدو، حتى تظلله سيوفهم ولا يُوَلًى عنهم. قال القرطبي: هو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من المبالغة مع الو جازة وعذوبة اللفظ.
6- الدعاء بهذه الدعوات المناسبات، عند لقاء الأعداء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
الحديث الثاني:
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي اللّه عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رِبَاطُ يَوْم، في سَبِيلِ الله خير مِنَ الدُّنيا وَمَا عَلَيْهَا، وموضع سَوْطِ أحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيا وَمَا عَلَيْهَا، والروحة يروحها العَبْدُ في سَبِيلِ اللّه أوِ الغدوة، خير مِنْ الدنيا وَمَا فِيهَا».
الغريب.
رباط يوم في سبيل الله: الرباط: بكسر الراء، وفتح الباء الموحدة الخفيفة، هو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار، لحراسة المسلمين منهم.
سَوْط: بفتح السين وسكون الواو، أداة ضرب، فوق القضيب،: ودون العصا.
الروحة: بفتح الراء، السير من الزوال إلى الليل. ويراد بها المرة الواحدة.
الغَدْوَة: بفتح الغين، السير في أول النهار إلى الزوال، ويراد بها المرة الواحدة.
المعنى الإجمالي:
يبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم فضل المرابطة في سبيل الله، بأن ثواب مرابطة يوم، خير من الدنيا وما فيها، لما في ذلك من حراسة المسلمين والإقامة في وجوه الأعداء، الذين يتربصون الدوائر والفرص بالمسلمين، فيهجمون عليهم،: لما فيها من المخاطرة بالنفس لحفظ المسلمين وصيانتهم من عدوهم.
ثم يبين صلى الله عليه وسلم حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة ليزهدهم فيها، رغبهَ فيما عنده، فيرخصوا أنفسهم في سبيله وفي سبيل إعزاز دينه.
فموضع السوط فيها، خير من الدنيا وما فيها، لأن هذه فانية، وتلك باقية، ولأن هذه منغِّصة، وتلك منعِّمة، ولأن ما في المتاع والنعيم، لا يقارن بنعيم تلك الدار، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وثواب الروحة أو الغدوة في سبيل الله مرة واحدة، خير من الدنيا وما فيها، لما للمجاهد من عظيم الأجر وجزيل الثواب، لأن المجاهدين باعوا أنفسهم الغاليةْ لله تعالى بثواب الجنة، وأرخصوها في ابتغاء مرضاته، إعلاءً لكلمته، وإظهاراً لدينه، ليغفر لهم ذنوبهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم.
ما يستفاد من الحديث:
1- فضل الرباط في سبيل الله، لما فيه من المخاطرة بالنفس، بصيانة الإسلام والمسلمين.
لذا فإن ثواب يوم واحد، خير من الدنيا وما فيها.
2- حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة، لأن موضع السوط من الجنة، خير من الدنيا وما فيها.
ولو لم يكن بينهما إلا أن هذه فانية، وتلك باقية، فإن الرغبة في الباقي، وإن كان خزفاً، خير منْ الفاني، وإن كان صدفاً.
كيف والفاني هو الخزف، والباقي هو الصدف.
3- فضل الجهاد في سبيل الله، وعظم ثوابه، لأن ثواب الروحة الواحدة أو الغدوة، خير من الدنيا وما فيها.
4- رتب هذا الثواب العظيم على الجهاد لما فيه من الخاطرة بالنفور، طلباً لرضا الله تعالى، ولما يترتب عليه من إعلاء كلمة الله ونصر دينه، ونشر شريعته، لهداية البشر، فهو ذرْوَةُ سنام الإسلام، كما في حديث (مُعاذ بن جبل).
الحديث الثالث:
عَنْ أبي هريرة رضي الله عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «انتدَبَ الله (ومسلم: تَضمَّنَ الله) لِمَنْ خرج في سَبِيلهِ، لا يُخْرِجُهُ إلا جهاد في سَبِيله، وَإيمَان بي، وَتَصْدِيق بٍرَسُولي، فَهُوَ عَلَىَّ ضَامِن أنْ ادْخِلَهُ الْجنَّة أوْ أرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِه الَذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلا مَا نَالَ مِنْ أجْر أو غَنِيمَةٍ».
الغريب:
إلا جهاد: مرفوع، هو وما بعده. وقد جاء منصوباً في (صحيح مسلم) على أنه مفعول لأجله، أي لا يخرجه الخروج إلا للجهاد. وأما كونه منصوباَ، فلأنه معطوف على قوله (أن أدخله الجنة) من أجر أو غنيمة: (أو) بمعنى (الواو). وقد رواها أبو داود (بالواو) وفي بعض طرق (مسلم) أيضاً.
ضامن: بمعنى مضمون، نحو عيشة راضية، أي مرضية، فهو فاعل بمعنى مفعول.
أو أرجعه: بفتح الهمزة، وكسر الجيم، ونصب العين. لأن ماضيه ثلاثي، بدليل {رب ارجعوني} بوصل الهمزة. وعليه فيكون الغازي القائم، يرجع بالأجر أيضاً.
انتدب اللّه: قال ابن الأثير: ندبته فانتدب، أي بعثته فانبعث، ودعوته فأجاب.
المعنى الإجمالي:
ضمن الله تعالى والتزم- كرماً منه وفضلا- أن من خرج يقاتل في سبيله مخلصاً نيته عن الأغراض الدنيوية، من غنيمة، أو عصبية، أو شجاعة، أو حُب للشهرة، أو الذكر. بل لمجرد الإيمان بالله تعالى الذي وعد المجاهدين بالمثوبة، وتصديقا برسله الذين بلغوا عنه وعده الكريم، فاللَه ضامن له دخول الجنة، إن قتل أو مات في سبيله. أو يرجعه إلى مسكنه وأهله نائلا الأجر العظيم، أو حاصلا له الحسنيان، الأجر والغنيمة. والله لا يخلف الميعاد.
ما يستفاد من الحديث:
1- جود الله تعالى وكرب، إذ ألزم نفسه بهذا الجزاء الكبر للمجاهدين.
2-. فضل الجهاد في سبيل الله، إذ تحقق ربحه العظيم.
فإما الشهادة العظمى التي تنيل صاحبها المقامات العالية مع النبيين والصد يقين.
وإما الرجوع إلى مسكنه بجزيل الحسنات، وتكفير السيئات.
وإن كان معه غنيمة، فذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
3- قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أنه لا يحصل هذا الثواب إلا لمن صحت نيته وخلصت من شوائب إرادة الأغراض الدنيوية.
وقال الطبري-: إذا كان أصل الباعث هو إعلاء كلمة الله فلا يفره ما عرض له بعد ذلك.
الحديث الرابع:
ولـ مسلم مَثَلُ المجاهدين في سَبِيل الله- واللّه أعْلمُ بَمنْ يُجَاهِدُ في سبِيله- كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ. وَتوَكَّلَ الله لِلْمُجَاهِدِ في سَبِيِلهِ- إن تَوَفَّاهُ- أنْ يدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أو يَرجِعَهُ سَالِماً مَعَ أجْرٍ أو غَنيمَةٍ.
المعنى الإجمالي:
بيَّن صلى الله عليه وسلم فضل الجهاد الخالص لوجه الله تعالى، بأن من جاهد في سبيله لقصد الجهاد وإعلاء كلمة الله تعالى- والله مطلع على سرائره فيعلم المخلص من غيره- فأجره كأجر الذي أحيا ليله بالقيام، ونهاره بالصيام، لأن المجاهد لا يزال في عبادة في قيامه وقعوده، وسره وإقامته، ويقظته ونومه. فهو في عبادة مستمرة، لا يدركه إلا الذي شغل وقته كله بالعبادة، مع فرق ما بين العبادة القاصرة، كالصلاة، والصيام، والعبادة المتعدى نفعها، كالجهاد.
فهذا الذي خرج مجاهداً في سبيل الله بإخلاص، قد كفل الله له الجنة، إن قتل أو مات في سبيله، أو الرجوع بالأجر والغنيمة.
الحديث الخامس:
عَنْ أبي هُريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِن مَكْلُوم يُكلَمُ في سبيل اللّه إلا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَلمُهُ يَدْمَى، الَلونُ لونُ الدم، وَالريحُ ريحُ المِسكِ».
الغريب:
مَكْلُوم: بفتح الميم وسكون الكاف، اسم مفعول من (كَلَمَ) و(الكلم) الجرح. فمعناه: مجروح.
المعنى الإجمالي:
يُبَينُ النبي صلى الله عليه وسلم فضل الجهاد في سبيل الله تعالى وما ينال صاحبه، من حسن المثوبة، بأن الذي يجرح في سبيل اللّه فيقْتَلُ أو يبرأ، يأتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بِوِسَام الجهاد والبلاء فيه، إذ يجيء بجرحه طَريّاً، فيه لون الدم، وتتضوع منه رائحة المسك،
فقد أبدله اللّه تعالى بِهَوانِ أذَى الأعداء شرف الفخر والعزة على أنظار الأولين والآخرين، وبإراقة دمه أن أبدله مسكا، يتأرَّج شذاه، وتفوح ريحه الزكية. والله ذو الفضل العظيم.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه فضل الجهاد، وقد كثرت فضائله، وتعدد ثوابه، لما فيه من عز الإسلام.
2- فضل الشهادة في سبيل اللّه، وكيف يجازي صاحبها، وفيه فضل الجراحة في سبيل الله، فهي أثر من طاعته ومجاهدة أعدائه.
3- هذا الفضل والفخر، الذي يتميز به المجروح يوم القيامة.
الحديث السادس:
عَنْ أبي أيوب الأنصاري رَضيَ الله عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ الله أوْ رَوْحَة خَير مِما طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمسُ وَغرَبَتْ».
الحديث السابع:
عَنْ أنس بْنِ مَالِكٍ رَضَي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «غَدْوَةٌ في سبيل الله أوْ رَوْحَة خَيرٌ منَ الدُّنيا وَمَا فِيهَا».
المعنى الإجمالي:
تقدم معنى هذين الحدثين اللذين أبانا فضل الجهاد القليل في سبيل الله، فكيف بالكثير، ومصابرة الأعداء؟!.
وينبغي أن يعلم أن طلب العلم الشَّرعي نوع عظيم من الجهاد في سبيل الله، وأن الانتصار للحق، ودحض حجج الزنادقة والملحدين والغربيين المبشرين الذين يحاربون الإسلام، ويريدون القضاء عليه، هو من أعظم الجهاد في سبيل الله.
فالقصد من الجهاد، إظهار الإسلام ونصره، فكَبتُ هؤلاء، من الجهاد الكبير العظيم. اللهم وفق المسلمين لنصر دينهم، وإعلاء كلمتك. إنك قريب مجيب.
الحديث الثامن:
عَنْ أبي قَتَادَة الأنصاري رضي الله عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى حُنَيْن (ويذكر قصة) فَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتيلاً- لَهُ عَلَيْهِ بينة- فَلَهُ سَلَبهُ» قالها ثلاثاً.
الحديث التاسع:
عَنْ سَلَمَةَ بْن الأكْوَعِ رَضَي اللّه عَنْهُ قَالَ: أتىَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عَين مِنْ المشرِكِين- وَهُوَ في سَفر- فَجَلَسَ عِنْدَ أصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انفَتَلَ. فَقَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «اُطلْبوهُ، واقْتلوهُ» فَقَتَلْتُهُ، فَنَفلَني سَلَبَهُ.
وفِى روايِة فَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ الرَجُلَ؟» فَقَالُوا: ابنُ الأكْوَعِ. فَقَالَ: «لَهُ سَلبه أجْمَع».
الغريب:
سَلَبَهُ: بفتح السين واللام والباء، وهي ثياب المقتول، وسلاحه، ودابته التي، قاتل عليها.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه أن من قتل قتيلاً وأقام على قتله إياه بَينةً، فله سبله الذي تقدم تعريفه.
2- أن السلب للقاتل، سواء قاله قائد الجيش قبل القتال أو بعده.
3- إعطاء القاتل سلب قتيله من باب التشجيع والتحمس على قتال الأعداء.
4- قتل العن الذي يبعثه الأعداء ليخبر المسلمين، ويتعرف على أحوالهم، لأن في تركه ضرراً على المسلمين بالإخبار عن حالهم، ومكان الضعف منهم، والدلالة على ثغراتهم بخلاف الرسل، فإنهم لا يُؤذوْن، لأنهم دعاة سلام وصلة التئام، وهذا من محاسن الإسلام.
الحديث العاشر:
عَنْ عَبْد الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم سَرِيةً إلى نَجْدٍ، فخَرَجْتُ فِيهَا، فَأصبْنَا إبلا وَغَنَماً، فَبَلَغَتْ سهماننا اثني عَشَرَ بَعِيراً وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بعيِراً بَعِيراً.
الغريب:
سَريَّةً: بفتح السن المهملة، وكسر الراء، وتشديد الياء: هي القطعة من الجيش. قال في (القاموس) من خمسة إلى أربعمائة.
سُهمَانُنَا: بضم السين المهملة، جمع (سهم) وهو النصيب.
نَفلنا: النفل، بفتح النون والفاء: هو الزياة يعطاها الغازي، زيادة عن سهمه.
ما يستفاد من الحديث:
1- بعث السرايا لإضعاف العدو، ومفاجأته إذا رأى الإمام ذلك مصلحة.
2- حل الغنيمة للغازين الغانمين، وهذا مما خصت به هذه الأمة المحمدية.
3- أن السرية إذا كانت مستقلة، ليست تابعة للجيش، فغنيمتها لها وحدها.
4- جواز تنفيل الغانمين زيادة على أسهمهم، إذا رأى الإمام ذلك مصلحة.
ويكون النفل من الخمس، وبعضهم يرى أنه من أصل الغنيمة.
الحديث الحادي عشر:
عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا عَنْ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا جَمَعِ اللّه الأولين والآخرين، يُرْفَعُ لِكل غَادِر لِوَاء، فيقَالُ: هذِهِ غَدرة فُلانِ بن فلانٍ».
المعنى الإجمالي:
من ائتمنك على دم، أو عرض، أو سر، أو مال، فخنته فيه فقد غدرته.
وأعظم الغدر أن يقع من قائد الجيش حي يؤمن عدواً، ثم يأخذه على غِرَّة وغفلة.
ولذا فإن على الغادر الخائن، الذي أخفى خيانته، هذا الوعيد الشديد، إذ يجاء به يوم القيامة، وقد رفع له لواء غدرته، فينادى عليه: هذه غدرة فلان، فينشر خزيه، وفضيحته على رءوس الخلائق جزاء ما أخفى من غدر، ومن خيانة.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم الغدر بالمهادَن والمعاهَد.
وأعظم الغدر أن يقع من قائد الجيش، لأن غدرته تنسب إلى الإسلام، فتشَوهُهُ، وَتُنَفر عَنه. بخلاف غدر الأفراد، فهي منسوبة إليهم.
فإن كان بينه وبين الكفار عهد فخاف نَكْثهم، أنذرهم بأنه لا عهد لهم، كما قال تعالى: {وَإما تخافن مِنْ قَوْم خيانة فَانْبِذْ إليهم عَلَى سَوَاءٍ إن الله لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ}.
2- ويشمل الغدر المتوعَّد عليه، كل من ائتُمنك على دمٍ، أو عِرْضٍ، أو سِرٍّ، أو مالي فخنته، وأخلفت ظنه في أمانتك.
3- هذا الخزي الشنيع والفضيحة الكبرى للغادر يوم القيامة، لأنه أخفى غدرته وخيانته، فجوزي بنقيض قصده، وعوقب بتشهيره، وهو أعظم من خيانة من ائتمنك.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخن من خانك».
الحديث الثاني عشر:
عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا: أنَّ امْرَأةً وُجِدَتْ فِي بَعْض مَغَازِي النَّبي صلى الله عليه وسلم َمقْتوُلَةً، فَأنْكَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبيَانِ.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الذي عليه القتل والمقاتلة، هم الرجال المقاتلون من الكفار.
2- أن من لم يقاتل من النساء، والصبيان، والشيوخ الفانين، والرهبان، لا يقتلون، لأن القتل والقتال لدفع أذى الكفار ووقوفهم في وجه الدعوة إلى الإسلام، ما لم يكن هؤلاء النساء والشيوخ، أصحاب رأي ومساعدة على قتال المسلمين فإذا كانوا كذلك فإنهم يقتلون.
وما لم يقتض الرأي رميَ الكفار بما يهلكهم عامة، كالمدافع، وفيهم نساؤهم وصبيانهم، ولا يمكن تمييزهم عنهم، فيرْمَوْنَ وَلو انقتل منهم هؤلاء الضعفاء.
الحديث الثالث عشر:
عَنْ أنس بْن مالك رضي الله عَنْهُ: أنَّ عَبْدَ الرَّحْمن بنَ عَوفٍ وِالزُّبير بْن العَوام شَكَيَا الْقَمْلَ إلى رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ لَهُمَا، فرَخَّصَ لهما في قَمِيص الْحَرِيرِ، فَرَأيتهُ عَلَيْهِمَا.
ما يستفاد من الحديث:
1- يؤخذ من قوله: فرخص ما تقدم من تحريم الحرير على الذكور.
2- جواز لبسه للحاجة، كالتداوى به عن الحِكَّة أو القمل. وكذلك للتعاظم على الكفار، وإظهار الخيلاء، والعزة والقوة أمامهم، لما فيه من مصلحة توهينهم، فيكون مستثنى مما تقدم من التحريم في الأحاديث السابقة.
الحديث الرابع عشر:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ أمْوَالُ بَنيِ النَّضِيرِ مِمَّا أفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَم يُوجِفِ المسلمون عَلَيْهِ بِخَيْل وَلا رِكَابٍ، وَكَانَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَالِصاً.
فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعْزِلُ نَفَقَةَ أهلِهِ سَنَةً، ثم يَجْعَلُ مَا بقِي فِي الكُرَاع والسِّلاح عدة في سَبِيلِ الله عَزَّّ وَجَل.
الغريب:
بني النضير: بفتح النون وكسر الراء المعجمة، بعدها مثناة تحتية: إحدى طوائف اليهود الذين سكنوا قرب المدينة، فوادَعَهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه، على أن لا يحاربوه، ولا يعينوا عليه. فنكثوا العهد كما هي عادة اليهود، فحاصرهم حتى نزلوا على الجلاء، على أن لهم ما حملت إبلهم غير السلاح.
مما أفاء الله: الفيء: الرجوع، سمى به المال الذي أخذ من الكفار بغير قتال، لأنه رُدَّ لمصالح المسلمين.
لم يوجف: الإيجاف: الإسراع في السير.
رِكاب: بكسر الراء: هي الإبل.
الكُراع: بضم الكاف، وفتح الراء، بعدها ألف، ثم عين: اسم للخيل.
قال ابن فارس: فأما تسميتهم الخيل كُرَاعاً فلأن العرب تعبر عن الجسم ببعض أعضائه.
المعنى الإجمالي:
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً، وجد حولها طوائف من اليهود، فوادعهم وهادنهم، على أن يبقيهم على دينهم، ولا يحاربوه، ولا يعينوا عليه عَدُوا.
فقتل رجل من الصحابة يقال له (عمرو بن أمية الضمرى) رجلين من بنى عامر، يظنهما من أعداء المسلمين.
فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم دية الرجلين، وخرج إلى قرية بنى النضير يستعينهم على الديتين.
فبينما هو جالس في أحد أسواقهم ينتظر إعانتهم، إذ نكثوا العهد وأرادوا اهتبال فرصة قتله.
فجاءه الوحي من السماء بغدرهم، فخرج من قريتهم مُوهِماً لهم وللحاضرين من أصحابه أنه قام لقضاء حاجته، وتوجه إلى المدينة.
فلما أبطأ على أصحابه، خرجوا في أثره فأخبرهم بغدر اليهود- قبحَهُمُ الله تعالى- وحاصرهم في قريتهم ستة أيام، حتى تم الاتفاق على أن يخرجوا إلى الشام والحِيرَة وخَيبَرَ.
فكانت أموالهم فَيْئاً بارداً، حصل بلا مشقة تلحق المسلمين، إذ لم يُوجِفُوا عليه بخيل ولا ركاب.
فكانت أموالهم لله ولرسوله، يَدَخِّرُ منها قوت أهله سنة، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين العامة.
وأولاها في ذلك الوقت عُدةُ الجهاد من الخيل والسلاح، ولكل وقت ما يناسبه من المصارف للمصالح العامة.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن أموال بنى النضير صارت فيئا لمصالح المسلمين العامة، إذ حصلت بلا كلفة ولا مشقة تلحق المسلمين المجاهدين.
فكل ما كان مثلها مما تركه الكفار فزعا من المسلمين، أو صولحوا على أنها لنا، والجزية والخراج، فهو لمصالح المسلمين العامة.
2- يكون للإمام منه ما يكفيه ويكفي من يمون. والله المستعان.
3- وأن يتحرى الإمام في صرف الفيء وبيت مال المسلمين المصالح النافعة.
ويبدأ بالأهم فالأهم، ولكل وقت ما يناسبه.
4- جواز ادّخار القوت، وأنه لا ينافى التوكل على اللّه تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى المتوكلين، وقد ادخر قوت أهله.
الحديث الخامس عشر:
عَنْ عَبْدِ اللّه بنِ عُمَرَ رضي اللّه عَنْهُمَا قَالَ: أجْرَي النَّبي صلى الله عليه وسلم مَا ضُمِّرَ مِنَ الخَيل مِنَ الْحَفيَاءِ إلى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ، وَأجْرَى مَا لمْ يُضَمرْ مِنَ الثنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَني زُريقٍ.
قَالَ ابنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أجْرَى.
قَالَ سُفْيَان: مِنَ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنيةِ الْوَدَاعِ خَمْسَة أمْيَالٍ أوْ سِتَّة، وَمِنْ ثَنِيه الوَدَاعِ إلَى مَسْجِدِ بني زُريقٍ، مِيل.
الغريب:
ما ضُمِّر: بضم الضاد وكسر الميم المشددة، مبنى للمجهول. و(المضمرة) هي التي أعطيت العلف، حتى سمنت وقويت، ثم قلل لها تدريجيا، لتخف وتضمر، فتسرع في العدو، وتقوى على الحركة.
الحفْيَاء: بفتح الحاء، وسكون الفاء، ثم ياء، فألف ممدودة: مكان خارج المدينة.
ثنية الوداع: سميت بذلك لأن المسافر من المدينة، يخرج معه إليها المودعون و(الثنية) هي: الطريق في الجبل.
زُرَيْق: بضم الزاي المعجمة، ثم راء مهملة، فياء، ثم قاف: هم بطن من الأنصار.
خمسة أميال: الميل نحو (كيلو مترين) إلا سدساً، وتقدم في مواقيت الإحرام.
المعنى الإجمالي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم مستعداً للجهاد، قائماً بأسبابه، عملا بقوله تعالى: {وَأعِدوا لهم مَا استطعتم مِنْ قوةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيلِ ترْهِبُونَ بِهِ عَدُو الله وعدوكم} فكان يضمر الخيل ويمرن أصحابه على المسابقة عليها ليتعلموا ركوبها، والكرّ والفَرّ عليها، ويقدر لهم الغايات التي يبلغها جَرْيُهَا مُضَمرَة وغير مضمرة، لتكون مُدَرَّبة مُعَلَمة، وليكون الصحابة على الأهبة مُدَرَّيِينَ. ولذا فإنه أجرى المضمرة ما يقرب من ستة أميال، وغير المضمرة، وهي التي أثقلها السمَنُ ميلا.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه أحد شباب الصحابة المتعلمين على فنون الحرب.
ما يستفاد من الحديث:
1- مشروعية التمرن وتعلم الفنون العسكرية، والعلوم الحربية، استعدادا لمجابهة العدو.
وهو يختلف باختلاف الأزمنة، فلكل زمن سلاحه وأدوات قتاله. وآلاته وتعالميه.
2- يحتمل أن تكون المسابقة بِعِوَض أو بغيره، وهى جائزة على كلا الأمرين، وإن كانت مع العوض نوعا من القمار، ولكن لما كانت مصلحتها عظيمة أبيحت، فإن القاعدة الشرعية تقول: إذا ترجحت المصلحة على المفسدة وغمرتها، اغتفرت المفسدة لذلك.
3- لا يتقيد هذا بإجراء الخيل، فكل ما أعان على قتال الأعداء من الأسلحة والمراكب، فالمغالبة عليه بِعَوَض جائزة، لحديث: «لا سَبَقَ- أخذ عوض- إلا في نصل أو خف أو حافر» وهذا مذهب جمهور العلماء.
وألحق شيخ الإسلام (ابن تيميه) بها مسائل العلم، فتجوز المراهنة عليها وأخذ العوض، لأنه من الجهاد، ولقصة أبي بكر مع المشركين.
4- أن مثل هذه المسابقة من الرياضة المحمودة التي تنشط الجسم وتقويه، وتعين على الجهاد والقتال، مشروعة محبوبة، لأنها نوع عبادة مع النية الصالحة، لا ما فتِنَ به الشباب اليوم من هذه الرياضات العديمة النفع، العقيمة الخير من ألعاب الكرة ونحوها، من التي لا يجنى منها مرونة ولا علم، مع ما فيها من إضاعة للوقت، وترك للواجبات، وأكل لأموال الناس بالباطل.
5- أن يُجعل للمسابقة على الخيل والرمي بالبنادق وغيرهما، أمد مناسب لهما. ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للخيل المضمرة الخفيفة القويهَ، نحو ستة أميال، وللخيل السمان الثقال، ميلا.
الحديث السادس عشر:
عَن عَبْدِ اللّه بْنِ عُمَرَ رَضيَ اللّه عَنْهُمَا قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم يَوْمَ (أحُد) وَأنا ابْنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَة فَلَمْ يُجِزْني في المقاتلة، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأنا ابْنُ خَمس عَشْرَةَ، فَأجازَني.
ما يستفاد من الحديث:
1- غزوة (أحد) سنة ثلاث من الهجرة، و(غزوة الخندق) سنة خمس فكان ابن عمر في (غزوة أحد) ابن أربع عشرة سنة، صغيراً لم يبلغ، فلم يره يطيق القتال، وفي الخندق ابن ست عشرة سنة، فهو كبير مطيق، فرده في الأولى، وقبله في الثانيَة.
2- أن البلوغ يحصل في تمام الخامسة عشر، أو بإنزال المَني، أو بنبات عانته، وهو الشعر الخشن حول القبل. هذا للذكر.
وتزيد الأنثى بالحيض، فهو علامة البلوغ أيضا، عندها.
3- أنه ينبغي للقائد والأمير، تفقُّدُ رجال جيشه وسلاحهم، لأنه أكمل للأهبة والاستعداد، وهو من الحزم المطلوب في القائد.
فيرد من لا يصلح من الرجال، كالضعفاء والمرجفين، وما لا يصلح من أدوات القتال، كالأسلحة الفاسدة، ويقبل الصالح من ذلك، ويقيم استعراضا لهذا القصد.
الحديث السابع عشر:
وَعَنْهُ (يَعْنى ابْنَ عُمَرَ رَضَي الله عَنْهُمَا) أنَّ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قسم ني النَّفَلِ لِلْفَرَس. سَهْمَيْنِ وَلِلرجُلِ سَهْمَاً.
ما يستفاد من الحديث:
1- النَّفَل: بفتح النون والفاء- يطلق على الغنيمة- كما في قوله تعالى: {يسألونك عَنِ الأنفال، قُلِ الأنفَالُ لله والرسول} والمراد به الغنيمة.
ويطلق على ما يزيده الإمام بعض الغزاة على سُهْمَانِهم. والمراد به، في هذا الحديث، الغنيمة.
2- أن يجعل للفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه. ويجعل سهم واحد لغير الفارس، وهو الماشي، أو الراكب على غير فرس، من بعير، وبغل وغيرهما.
3- هذا التقسيم بعد إخراج ما يلحق الغنيمة من رَضْخ لغير ذوى الأسهم ونوائبها، وبعد إخراج الخمس منها.
الحديث الثامن عشر:
وَعَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يبْعَثُ مِنَ السََّراَيَا لأنفُسِهِمْ خاصة، سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْش.
ما يستفاد من الحديث:
1- هذا التنفيل هو غير أسهم المجاهدين، بل زيادة يعطونها نافلة لهم على أسهمهم، حسب ما يرى الإمام والقائد من المصلحة. قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دلالة على أن لنظر الإمام مدخلا في المصالح المتعلقة بالمال أصلا وتقديرا على حسب المصلحة.
2- إعطاء بعض الجيش زيادة على أسهمهم أو تخصيص بعض السرايا بزيادة على غيرهم، لقصد المصلحة والترغيب والتشجيع.
3- أن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو دليل على أنه لا يخل في إخلاصهم، ولا ينقص من أجرهم، ما دام أن المقصد الأول من الجهاد والمخاطرة، هو إعلاء كلمة الله تعالى.
4- قال ابن دقيق العيد: وللحديث تعلق بمسائل الإخلاص في الأعمال وما يضر من المقاصد الداخلة فيها ومالا يضر، وهو موضع دقيق المأخذ، ووجه تعلقه به أن التنفيل للترغيب في زيادة العمل والمخاطرة والمجاهدة، ومن ذلك مداخلة لقصد الجهاد لله تعالى، إلا أن ذلك لم يضرهم قطعاً لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لهم، ففي ذلك دلالة لا شك فيها على أن بعض المقاصد الخارجة عن محض التعبد لا تقدح في الإخلاص، وإنما الإشكال في ضبط قانونها، وتمييز ما يقر مداخلته من المقاصد، وتقتضي الشركة فيه المنافاة للإخلاص، وما لا تقتضيه ويكون تبعا لا أثر له ويتفرغ عنه غير ما مسألة.
وقال الصنعانيى: وقد أجمع العلماء على جواز الجمع بين الحج والتجارة، والجمع بين إرادتهما، ونزل في ذلك قوله تعالى: {لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم}.
وذكر أن أصرح من ذلك قوله تعالى: {ومن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةْ} وبين أنه إذا أراد بذلك الثناء فهو مما يقبح، إلا أن يكون العمل في أصله لله، ثم أحب بعد ذلك أن يثني عليه، فأظهر الاحتمالين أنه لا بأس بذلك ولا حرج فيه.
الحديث التاسع عشر:
عَن أبى مُوسَى (عَبْدِ الله بْنِ قيْس) عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَمَل علينا السلاح فَلَيْسَ مِنَّا».
المعنى الإجمالي:
يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين إخوة يتألم بعضهم لألم بعضهم الآخر ويفرح لفرحه، وأن كلمتهم واحدة فهم يد على من عاداهم.
فيلزمهم الاجتماع والطاعة لإمامهم، وإعانته على من بغى وخرج عليه، لأن هذا الخارج. شق عصا المسلمين، وحمل عليهم السلاح، وأخافهم.
فيجب قتاله، حتى يرجع ويفئ إلى أمر الله تعالى.
لأن الخارج عليهم والباغي عليهم، ليس في قلبه، لهم الرحمة الإنسانية، ولا المحبة الإسلامية، فهو خارج عن سبيلهم فليس منهم، فيجب قتاله وتأديبه.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم الخروج على الأئمة، وهم الحكام، ولو حصل منهم بعض المنكر، ما لم يصل إلى الكفر، فإن ما يترتب على الخروج عليهم من إزهاق الأرواح، وقتل الأبرياء، وإخافة المسلمين، وذهاب الأمن، واختلال الِنظام، أعظم من مفسدة بقائهم.
2- إذا كان محرما في حق من يحدث منهم بعض المنكرات، فكيف بحال المستقيمين العادلين؟.
3- تحريم إخافة المسلمين بالسلاح وغيره، ولو على وجه المزاح.
الحديث العشرون:
عَن أبى مُوسَى قَالٍ: سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَة، وَيُقَاتِلُ حمِيَّة، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً: أي ذلِكَ فِي سَبِيل اللّه؟.
فَقَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَة اللّه هِي الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللّه عَزَّ وَجَل».
المعنى الإجمالي:
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل اًعداء الدين، ولكن الحامل له على القتال هو إظهار الشجاعة والإقدام أمام الناس.
ويقاتل الآخر حمية لقومه، أو لوطنه.
ويقاتل الرجل رياء أمام أنظار الناس أنه من المجاهدين في سبيل الله المستحقين للثناء والتعظيم.
فأي هؤلاء الذي في سبيل الله قتاله؟.
فأجاب صلى الله عليه وسلم بأوجز عبارة وأجمع معنى، وهي: «أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو الذي في سبيل الله، وما عدا هذا، فليس في سبيل الله، لأنه قاتل لغرض آخر».
والأعمال مترتبة على النيات، في صلاحها وفسادها، وهذا عام في جميع الأعمال فالأثر فيها للنية، صلاحاً وفسادا، وأدلة هذا المعنى كثيرة.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الأصل في صلاح الأعمال وفسادها، النية. فهي مدار ذلك.
2- لذا فإن من قاتل الكفار لقصد الرياء، أو الحمية، أو لإظهار الشجاعة، أو لغير ذلك من مقاصد دنيوية، فليس في سبيل الله تعالى.
3- أن الذي قتاله في سبيل اللّه، هو من قاتل لإعلاء كلمة الله تعالى.
4- إذا انضم إلى قصد إعلاء كلمة الله قصد المغنم، فهل يكون في سبيل الله؟.
قال الطبري: لا يضر، وبذا قال الجمهور، ما دام قَصْد المغنم قد جاء ضمن النية الصالحة الأولى،وهذا جار في جميع أعمال القرب والعبادات.
قال تعالى: {لَيْسَ عليكم جناح أنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم}يعنى التجارة في سفر الحج.
والصحابة رضي اللّه عنهم، خرجوا يوم بدر ورغبتهم في عير قريش {وَتَوَدُّونَ أنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوكَةِ تَكُونُ لَكم}.
5- مدافعة الأعداء عن الأوطان والحرمات، من القتال المقدس. ومن قتل فيه، فهو شهيد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد.. الخ».