فصل: باب الغسْل لِلمُحرم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب الغسْل لِلمُحرم:

الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ حُنَيْنِ: أنَّ عَبْدَ الله بْن عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخرَمَةَ اخْتَلَفا بِالأبْوَاء فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأسَهُ, قَالَ: فَأرْسَلَنٍي ابْنُ عَبَّاسِ إلَى أَبِي أيّوبَ الأَنْصَارِيِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ القَرْنَيْنِ وَهُوَ يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هذَا؟.فَقُلْتُ: أَنَا عَبْد الله بْنُ حُنَيْنُ أرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلَكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَه وَهُوَ مُحْرِمٌ؟, فَوَضَعَ أَبُو أيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثّوْبِ فَطَأطَأهُ حَتَّى بَدَا لِيَ رَأْسُهُ, ثُمَّ قَالَ لإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ: أُصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسهِ ثُمَّ حَرَّك رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُم قَالَ: هكَذَا رَأْيْتُه صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.
وفي رواية: فَقَالَ الْمِسْوَر لابْنِ عَبَّاسٍ: لا أُمَارِيكَ بَعْدَهَا أبَدَاً.
القرنان: العمودان اللذان تشد فيهما الخشبة، التي تعلق عليها بكرة البئر.
الغريب:
الأبواء: بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة ممدوداً، موضع بين مكة والمدينة. يقع شرقي قرية مستورة بنحو ثلاثة كيلو مترات. وسيل الأبواء ومستورة واحد. وما تزال الأبواء معروفة بهذا الاسم حتى الآن.
القرنان: بفتح القاف تثنية قرن وهما الخشبتان القائمتان على رأس البر وتمد بينهما خشبة تعلق عليها البكرة أو يجر عليها المستقي الحبل إذا لم يوجد بكرة وتسمى هاتان الخشبتان في نجد الآن القامة.
طأطأه: أي طامنه يعني الثوب ليرى الرسول رأسه من ورائه.
أماريك: أجادلك.
المعنى الإجمالي:
اختلف عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم، في جواز غسل المحرم رأسه.
فذهب المسور إلى المنع، خشية سقوط الشعر من أثر الغسل، ولأن في الغسل ترفُّهاً وينبغي للمحرم أن يكون أشعث أغبر.
وذهب ابن عباس إلى الجواز، استصحاباً للأصل، وهو الإباحة، إلا بدليل وهذا هو الفقه.
فأرسلا عبد الله بن حنين إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وهم في طريق مكة ليسأله فوجده عبد الله بن حنين- من تسهيل الله وتبيينه الأحكام لخلقه- يغتسل عند فم البئر، ومستتراً بثوب وهو محرم.
فسلم عليه وأخبره أنه رسول ابن عباس ليسأله: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم.
فمن حسن تعليم أبي أيوب رضي الله عنه، واجتهاده في تقرير العلم، أرخى الثوب وأبرز رأسه، وأمر إنساناً عنده أن يصب الماء على رأسه، فصبه عليه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر.
وقال لعبد الله بن حنين: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل.
فلما جاء الرسول وأخبرهما بتصويب ما رآه عبد الله بن عباس- وكان رائدهم الحق، وبغيتهم الصواب-، رجعٍ المسور رضي الله عنه، واعترف بالفضل لصاحبه، فقال: لا أماريك أبداً.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز غسل المحرم رأسه، ويستوي فيه أن يكون ترفهاً أو تنظفاً أو تبرداً أو عن جنابة.
2- جواز إمرار اليد على شعر الرأس بالغسل إذا لم ينتف شعراً، ويسقطه.
3- في الحديث دليل على جواز المناظرة في مسائل الاجتهاد والاختلاف فيها، والرجوع إلى من يظن عنده العلم بها.
4- قبول خبر الواحد في المسائل الدينية. وأن العمل به سائغ شائع عند الصحابة.
5- الرجوع إلى النصوص الشرعية عند الاختلاف، وترك الاجتهاد والقياس عندها.
6- جواز السلام على المتطهر في وضوء أو غسل، ومحادثته عند الحاجة.
7- استحباب التستر وقت الغسل، فإن خاف من ينظر إليه وجب.
8- جواز الاستعانة في الطهارة بالغير.
9- سؤال ابن عباس أبا أيوب، يفيد أن عنده علماً نقلياً عن غسل المحرم، وأن أبا أيوب يعرف ذلك، فقد سأله عن كيفية الغسل، لا عن أصله.
10- قال شيخٍ الإسلام: ويستحب الغسل للإحرام، ولو كانت (المحرمة) نفساء أو حائضاً. وإن احتاج (المحرم) إلى التنظيف كتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونحو ذلك، فعل ذلك.
وهذا ليس من خصائص الإحرام، ولكنه مشروع بحسب الحاجة، وهكذا يشرع للجمعة والعيد على هذا الوجه.
قلت: والغسل الذي تجادل فيه ابن عباس والمسور ليس الغسل من أجل الإحرام، وإنما هو الغسل أثناء الإحرام، وهو الذي فعله أبو أيوب.

.باب فَسخ الحَج إلى العمْرة:

الحديث الأول:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قالَ: أَهَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ بالحَجِّ وَلَيْس مَعَ أحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ.
وَقَدِمَ عَلِيٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَال: أهَلَلْتُ بما أهَلَّ بهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أن يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَيَطُوفُوا ثمَّ يُقَصِّرُوا وَيُحِلُّوا إلاَّ مَنْ كانَ مَعَهُ الْهدْيُ, فَقالُوا: نَنْطَلِقُ إلَى مِنىً وَذَكَرُ أحَدِنَا يَقْطُرُ؟ فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا استَدْبَرْتُ مَا أهْدَيْت، وَلَوْلا أَنَّ مَعِي الْهدْيَ لأحَلَلْتُ». وَحَاضَتْ عَائِشَةُ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ. فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ قالت: يَا رَسُولَ الله تنْطَلِقونَ بِحجَّةٍ وَعُمْرةٍ وَأنْطَلِقُ بِحَجِّ! فَأمَرَ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنِ أبِى بَكْرٍ بِأن يَخْرُجَ مَعَهَا إلى التَنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ.
المعنى الإجمالي:
يصف جابر بن عبد الله رضيَ الله عنهما حجة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وأصحابه أهلُّوا بالحج، ولم يَسُقِ الْهَدْيَ إلا النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة بن عبيد الله. وكان على بن أبي طالب في اليمن، فقدم، ومن فقهه أحرم وعلَّق إحرامه بإحرام النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما قدموا مكة، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفسخوا إحرامهم من الحج إلى العمرة، ويكون طوافهم وسعيهم للعمرة، ثم يقصروا ويُحِلُّوا التحلل الكامل. هذا في حق من لم يسق الهدي.
أما من ساقه- ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم فبقوا- بعد طوافهم وسعيهم- على إحرامهم.
فقال الذين أُمِرُوا بفسخ حجهم إلى عمرة- متعجبين ومستعظمين-: كيف ننطلق إلى مِنى مُهِلين بالحج، ونحن حديثو عهد بجماع نسائنا؟.
فبلغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مقَالَتَهم واستعظام ذلك في نفوسهم، فطمأن أنفسهم بما هو الحق وقال:
لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سُقْتُ الهَدْىَ الذي منعني من التحلل، ولأحللت معكم. فرضيت أنفسهم واطمأنت قلوبهم.
وحاضت عائشة قُرْبَ دخولهم مكة، فصارت قارنة، لاًن حيضها منعها من الطواف بالبيت، وفعلت المناسك كلها غير الطواف والسعي.
فلما طهرت وطافت بالبيت طواف حجها، صار في نفسها شيء، إذ كان أغلب الصحابة- ومنهم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم- قد فعلوا أعمال العمرة وحدها وأعمال الحج. وهي قد دخلت عمرتها في حجها.
فقالت: يا رسول الله، تنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟.
فطيَّب خاطرها، وأمر أخاها عبد الرحمن أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج.
ما يؤخذ من الحديث:
1- كون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم ومعه الهدي، فهو أفضل وأكمل.
2- أن ترك سوق الهدي جائز، لأن أكثر الصحابة لم يسقه.
ويأتي تَمَنِّيهِ صلى الله عليه وسلم عدم سَوْقِهِ الهدي، وتوجيه ذلك إن شاء الله تعالى.
3- فقه علي رضي الله عنه، فإنه حين لم يعرف أيّ الأنساك أفضل، علَّقه بإحرام النبي صلى الله عليه وسلم.
4- جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير.
5- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يفسخوا حجهم إلى عمرة.
فإذا فرغوا من أعمال العمرة حلُّوا، ليحرموا بالحج فيقتضي الأمر فعل ما فعلوه ويأتي الخلاف في ذلك وتحقيقه، إن شاء اللّه تعالى.
6- أن من ساق الهدي، منعه ذلك من الإحلال، وبقي على إحرامه، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم.
7- جواز المبالغة في الكلام، لاستيضاح الحقائق، وتبيين الأمور.
8- تَمنِّي النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لم يسق الهدي، وأنه فسخ حجه إلى عمرة منها، وأنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم.
9- جواز تمني الأمور الفائتة إذا كانت من مصالح الدين، لأنه رغبة في الخير، وندم عليه. فهو من أنواع التوبة.
10- جواز فعل المناسك للحائض، ماعدا الطواف بالبيت، فممنوع. إما لاشتراط الطهارة في الطواف، وإما خشية تلويث المسجد.
11- أن السعي من شرطه أن يقع بعد طواف نسك. ولذا لم يصح من الحائض السعي، لا لاشتراط الطهارة فيه، ولكن لأنه لابد أن يقع بعد طواف نسك وهو معدوم في حق الحائض.
12- جواز الإتيان بالعمرة من أدنى الحل بعد الحج ولا تسنُّ لأنه لم يقع من الصحابة إلا هذه المرة من عائشة. ولم ينقل عن عائشة أنها فعلتها بعد ذلك.
ولو كانت العمرة المشروعة، لما تركوها وهم في مكة، سهلة عليهم، ميسرة لهم.
13- أن الإحرام بالعمرة لابد أن يكون من خارج الحرم، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ولم يخالف إلا قلة بخلاف الحج، فإنه من مكة لمن هو فيها.
والفرق بين الحج والعمرة، أن العمرة جميع أعمالها في الحرم، فيخرج للحل للجمع فيها بين الحل والحرم.
وأما الحج فبعض أعماله في الحرم، وبعضها في الحل، وهو الوقوف بعرفة.
14- قوله: «أهل بالحج» ظاهره أنه مُفرِد.
وتقدم الجمع بين روايات ما يوهم الإفراد أو التمتع، وأن الصحيح أنه قارن.
اختلاف العلماء، في فسخ الحج إلى عمرة:
أجمع العلماء على أن الصحابة الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، قد فسخوا حجهم إلى عمرة، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا: هل هذا الفسخ لمن بعدهم أيضاً، أم لهم خاصة في تلك الواقعة؟.
فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وجمهور العلماء إلى أن هذا الفسخ خاص بالصحابة في تلك السنة، ولا يتعدَّاهم إلى غيرهم.
وذهب الإمام أحمد، وأهل الحديث، والظاهرية. ومن الصحابة ابن عباس وأبو موسى الأشعري:ـ إلى الفسخ.
استدل الأولون بما رواه أبو داود عن أبي ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للركب، الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولـ مسلم عن أبي ذر كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وبما رواه الخمسة عن الحارث بن بلال، عن أبيه بلال بن الحارث قال: قلت يا رسول الله: فسخ الحج لنا خاصة، أم للناس عامة؟ قال: بل لنا خاصة.
فعند الجمهور أن حديث بلال ناسخ لأحاديث الفسخ، فهو للصحابة خاصة في تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية، من تحريم العمرة في أشهر الحج، ويؤيد ذلك الأثر السابق عن أبي ذر رضي الله عنه.
واستدل الآخرون على فسخ الحج بأحاديث صحيحة جيدة قربت من حَدِّ التواتر عن بضعة عشر من الصحابة.
منها حديث جابر، وسراقة بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وعَلِيًّ، وابن عباس، وأنس، وابن عمر، والربيع بن سبرة، والبراء بن عازب، وأبي موسى، وعائشة، وفاطمة، وحفصة، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
كل هؤلاء رَوَوْا أحاديث كثيرة- وبعضها في الصحيحين- تنص على فسخ الحج إلى العمرة.
ولهذا، لما قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد: يا أبا عبد الله، كل شيء منك حسن جميل، إلا خصلة واحدة. فقال: وما هي؟.
قال: تقول بفسخ الحج.
فقال الإمام أحمد: كنت أرى أن لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً، كلها في فسخ الحج، أتركها لقولك؟
وقد أورد المصنف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب، منها حديثين:
1- حديث جابر، الذي نحن نتكلم عليه الآن.
2- وحديث ابن عباس؛ سيأتي، ونورد معهما حديثين من تلك الأحاديث المتكاثرة.
الأول: ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً, فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة، إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية، وَرُحْنَا إلى منى أهللنا بالحج.
والثاني: ما رواه مسلم وابن ماجه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: خرجنا محرمين، فقال رسول الله: «من كان معه هَدْيٌ فَلْيُقِمْ على إحرامه، ومن لم يكن معه هديٌ، فليحلل»، فلم يكن معي هدي، فحللت. وكان مع الزبير هدي، فلم يحلل.
وهذه أحاديث عامة للصحابة ولمن بعدهم، إلى الأبد.
فإن الأحكام الشرعية، لا تكون لجيل دون جيل، ولا لطائفة دون أخرى.
فمن ادّعى الخصوصية، فعليه الدليل.
وكيف ولما سأل سراقة بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفسخ هل هي للصحابة خاصة؟ فقال: «بل للأمة عامَّة؟».
وقد وردت هذه الأحاديث في واقعة متأخرة، لم يأت بعدها ما ينسخها. ومن ادَّعى النسخ، فعليه الدليل.
بل ورد ما يبعد دعوى النسخ، حين قيل للنبي صلى الله عليه وسلم عمرتنا هذه: لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: «لا. بل لأبد الأبد»، ودخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة.
أما دعوى الجمهور النسخ، بحديث بلال بن الحارث، فبعيد كل البعد.
لأن الإمام أحمد قال في حديثه: حديث بلال بن الحارث عندي، ليس بثبت، ولا أقول به. وأحد رواة سنده الحارث بن بلال لا يعرف.
وقال أيضاً: أرأيت لو عرف الحارث بن بلال؟ إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون ما يرون من الفسخ: أين يقع الحارث بن بلال منهم؟!
وأما أثر أبي ذر، فهو رَأيٌ له، وقد خالفه غيره فيه، فلا يكون حجة، لاسيما مع معارضته للأحاديث الصحاح.
وممن اختار الفسخ، شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللّه روحه، وتلميذه ابن القيم.
وقد أطال ابن القيم البحث في الموضوع في كتابه (زاد المعاد) وبيَّن حجج الطرفين، ونصر الفسخ نصراً مؤزراً مبيناً، وردَّ غيره، وفنَّد أدلته بطريقته المقنعة، وعارضته القوية.
ثم اختلف القائلون بالفسخ: أهو للوجوب أم للاستحباب؟
فذهب الإمام أحمد: إلى استحباب الفسخ. قال شيخ الإسلام: أهل مكة وبنو هاشم وعلماء الحديث يستحبونها، فاستحبها علماء سنته، وأهل سنته، وأهل بلدته التي بقربها المناسك وهؤلاء أخص الناس به.
ولعل قصر الإمام أحمد لأحاديث الأمر بالفسخ مع التغليظ فيه على الاستحباب، حمله على عدم مبادرة الصحابة إلى امتثال أمره صلى الله عليه وسلم.
وذهب ابن عباس في المفهوم من كلامه: إلى أنه فرض من لم يَسُقْ هدي التمتع، حيث قال: من جاء مُهلاًّ بالحج، فإن الطواف باليت يغيره إلى عمرة، شاء أم أبى.
وذهب ابن حزم إلى ما ذهب إليه ابن عباس، حيث يقول في كتابه المحلى:
ومن أراد الحج، فإنه إذا جاء إلى الميقات، فإن كان لا هدي معه، ففرض عليه أن يحرم بعمرة مفردة ولابد، ولا يجوز له غير ذلك.
فإن أحرم بحج أو بقران حج وعمرة، ففرض عليه أن يفسخ إهلاله ذلك، بعمرة يحل إذا أتمها، لا يجزئه غير ذلك.
وذهب ابن القيم إلى هذا الرأي حيث قال في كتابه زاد المعاد بعد أن ساق حديث البراء بن عازب، ونحن نشهد الله علينا، أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضاً علينا فسخه إلى عمرة، تفادياً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لأمره.
فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صح حرف واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه، دون مَنْ بعده، بل أجرى الله سبحانه وتعالى على لسان سراقة أن يسأله: هل ذلك مختص بهم؟ فأجاب: بأن ذلك كائن لأبد الأبد.
فما ندري ما تقدم على هذه الأحاديث وهذا الأمر المؤكد، الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه.
فهؤلاء، لما رأوا تكاثر الأحاديث في الأمر به، وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم من أجله، لم يقنعوا إلا بالقول بوجوبه وفريضته.
وحديث البراء المشار إليه هو ما أخرجه ابن ماجه، والإمام أحمد وصححه، عن البراء بن عازب قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال: «اجعلوا حجكم عمرة».
قال: فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج، كيف نجعلها عمرة.
قال: «انظروا ما آمركم به فافعلوا» فردوا عليه القول فغضب.
ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان، فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟.
قال: «ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يُتَّبعُ».
فهذا وأمثاله، متمسك من أوجبوا الفسخ.
الحديث الثاني:
عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضِي الله عَنْهُمَا قالَ: قدِمْنَا مَعَ سُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَقُولُ: «لَبَّيْكَ بالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً».
المعنى الإجمالي:
يقول جابر: قدمنا في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهلِّين بالحج ومُلبِّينَ به، لأن بعضهم أفرد الحج، وبعضهم قرن، وكأنه مُفْرِد وسكت عن المتمتعين، وفيهم قسم متمتع.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي منهم أن يفسخ حجه إلى عمرة متمتعاً بها إلى الحج.
وهذا الحديث، أحد أدلة من يرون فسخ الحج إلى عمرة.
الحديث الثالث:
عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَال: قَدِمَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأصحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ، فَأمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله أيُّ الْحِلِّ؟ قال: «الحِلُّ كُلُّهُ».
المعنى الإجمالي:
يذكر ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا مكة في حجة الوداع، صبيحة اليوم الرابع من ذي الحجة، وكان بعضهم محرماً بالحج، ومنهم القارن بين الحج والعمرة.
فأمر من لم يَسُقِ الْهَدْيَ من هاتين الطائفتين بأن يحلوا من حجهم، ويجعلوا إحرامهم بالعمرة.
فكبُر عليهم ذلك ورأوا أنه عظيم أن يتحللوا التحلل الكامل، الذي يبيح الجماع، ثم يحرمون بالحج، ولذا سألوه فقالوا: يا رسول الله: أي الحل؟ فقال صلى الله عليه وسلم الحل كله، فيباح لكم ما حرم عليكم قبل الإحرام فامتثلوا رضي الله عنهم وهذا من أدلة القائلين بالفسخ أيضاً.
الحديث الرابع:
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّيَيْرِ قال: سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَنَا جَالِس: كَيْفَ كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ حِينَ دَفَعَ؟ فقال: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ.
العنق: انبساط السير، والنص فوق ذلك.
الغريب:
العنق والنص: العنق بفتح العين والنون. والنص بفتح النون وتشديد الصاد. وهما ضربان من السير، والنص أسرعهما.
الفجوة: بفتح الفاء، المكان المتسع.
المعنى الإجمالي:
كان أسامة بن زيد رضي الله عنهما رديف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة.
فكان أعلم الناس بسير النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن صفته فقال: كان يسير العنق، وهو انبساط السير ويسره في زحمة الناس، لئلا يؤذي به، وليكون بعد انصرافه من هذا الموقف العظيم وإقباله على المشعر الحرام خاشعاً خاضعاً، عليه السكينة والوقار، راجياً قبول عمله، شاكراً على نعمه التي من أجلها عزَّ الإسلام، وذلَّ الشرك. فإذا وجد فرجة ليس فيها أحد من الناس حرك دابته، فأسرع قليلاً، وخشوعه وخضوعه لا يفارقانه صلى الله عليه وسلم في كل حركة وسكون.
ما يؤخذ من الحديث:
1- كون أسامة بن زيد رديف النبي صلى الله عليه وسلم، من دفع عرفة إلى مزدلفة، فهو أعلم الناس بسيره.
2- كان سيره صلى الله عليه وسلم انبساطاً لا تباطُؤَ فيه، ولا خفة ولا سرعة، فيؤذي بهما، ويذهب معهما خشوعه.
3- إذا وجد فجوة ليس فيها أحد، حرك دابته مع ما هو فيه من الخشوع والخضوع لله تعالى، ومراقبته الله، وتعظيمه لمناسكه ومشاعره.
4- أن ما عليه الناس اليوم من الطيش، والخفة، والسرعة، والسباق على السيارات مناف للسنة، وهيبة الحج، وسكينته ووقاره.
ويحدث من جراء هذه السرعة ما ينافي الشرع من المبادرة بالخروج من حدود عرفة قبل الغروب، فيحصل التشبه بالمشركين، ويحصل أضرار تلحق الراكبين ومراكبهم، ويحصل من الشجار والنزاع ما ينافي آداب الحج. إلى غير ذلك من المفاسد المترتبة على هذه العجلة، التي في غير موضعها.

.باب حكم تقديم الرمي:

الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضَي الله عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَقَفَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلونَهُ.
فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أشْعُرْ، فحَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ، قالَ: اذْبَحْ ولا حَرَجَ. وَقَالَ الآخَرُ: لَمْ أشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِي، فقال: «اِرْمِ، ولا حَرَجَ».
فَمَا سئلَ- يَوْمَئِذٍ- عَنْ شيءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: «افْعَلْ وَلا حَرَجَ».
المعنى الإجمالي:
اليوم العاشر من ذي الحجة هو يوم النحر ويوم الحج الأكبر، وهو من أفضل الأيام وأسعدها، لما يقع فيه من الأعمال الجليلة، لاسيما من الحاج الذي يؤدي فيه أربع عبادات جليلات وهن:
1- الرمي 2- والنحر 3- والحلق أو التقصير 4- والطواف بالبيت العتيق.
والمشروع أن يأتي بهن على هذا الترتيب، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وإتيانا بأعمال المناسك على النسق اللائق.
فيبدأ برمي جمرة العقبة، لأن رميها تحية منى، ثم ينحر هديه، مبادرةً بإراقة الدماء، لما فيه من الخضوع والطاعة، ولما فيه من نفع الفقراء والمساكين، ومشاركتهم الناس في فرحهم عيدهم.
ثم يحلق، أو يقصر ابتداء بالتحلل من الإحرام، وتأهباً بالزينة والهيئة الحسنهَ للطواف بالبيت.
هذا ما يشرع للحاج، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعده: «خذوا عني مناسككم».
ولكن الشارع رحيم عليم.
فإذا قدم أحد بعض هذه اْلأعمال على بعض، جهلاً بالحكم أو نسياناً، فلا يلحقه شيء من إثم أو جزاء.
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه.
فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح. قال: اذبح ولا حرج.
وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج.
قال الراوي: فما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج» سماحة في هذا الدين ويسراً.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وقوف العالم في أيام المناسك لإفتاء الناس وإرشادهم في أمر حجهم.
2- جواز تقديم كل من الرمي، والنحر، والحلق أو التقصير، والإفاضة بعضها على بعض من الناسي والجاهل.
ويأتي الخلاف في العامد إن شاء الله.
3- بدء يوم النحر برمي جمرة العقبة. ومن حكمة الرمي طرد الشيطان، فهو شبيه بتقديم الاستعاذة في الصلاة، وهذه مقارنة عنت لي ولم أر أحداً من العلماء قد ذكرها. وربما قالها أحدهم ولم أطلع على ذلك. فإذا كانت صوابا فهي من الله، وإذا كانت خطأ فهي مني.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على مشروعية ترتيب الرمي والنحر والحلق أو التقصير والإفاضة هكذا، كما رتبها النبي صلى الله عليه وسلم.
فيبدأ بالرمي، ثم ينحر الهدي، ثم الحلق أو التقصير، ثم الإفاضة إلى البيت.
واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض بالنسبة للعامد.
فذهب الشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه: إلى جواز ذلك مستدلين بما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال: يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح. قال: «اذبح ولا حرج» وقال آخر: ذبحت قبل أن ارمي. قال: «ارمي ولا حرج».
وهذا أحد طرق الحديث الذي معنا في الباب، وفي بعض طرقه فما سئل عن شئ قُدِّم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج».
قال الطبري: لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزئ، لأمره بالإعادة لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المكلف الحكم الذي يلزمه في الحج.
كما لو ترك الرمي ونحوه، فإنه لم يأثم بتركه ناسياً أو جاهلاً، ولكن تجب عليه الإعادة.
وما ذهب إليه الإمامان، الشافعي، وأحمد، هو مذهب الجمهور من التابعين والسلف، وفقهاء الحديث لما تقدم من الأدلة وغيرها.
وذهب بعض العلماء: إلى أن رفع الإثم يكون بحال النسيان والجهل، لقول السائل في الحديث: لم أشعر فيختص الحكم بهذه الحال ويبقى العامد على أصل وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج لحديث: «خذوا عني مناسككم» هذا هو الخلاف المتقدم في الإثم وعدمه.
أما الإجزاء فقد قال الشيخ ابن قدامة في كتابه المغني: ولا نعلم خلافاً بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الإجزاء ولا يمنع وقوعها موقعها. اهـ.
واختلفوا في وجوب الدم على من قدم المؤخر من هذه المناسك الأربعة.
فذهب الجمهور من السلف، وفقهاء الحديث، ومنهم الإمامان الشافعي وأحمد، وعطاء، وإسحاق: إلى عدم وجوب الدم من العامد وغيره، بناء على جواز الفعل وسقوط الإثم، ولقوله صلى الله عليه وسلم للسائل: «لا حرج» فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معاً، لأن اسم الضيق يشملهما.
ووجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجباً حينئذ لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت الحاجة، وتأخيره عنها لا يجوز.
وذهب بعض العلماء- ومنهم سعيد بن جبير وقتادة- إلى وجوب الدم على العامد بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُم حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه}.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها وقال: خذوا عني مناسككم، وهو رواية عن الإمام أحمد.
فقد قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل حلق قبل أن يذبح. فقال: إن كان جاهلاً، فليس عليه دم، فأما مع التعمد، فلا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال لم أشعر.
وقال ابن دقيق العيد- بعد أن نقل كلام الإمام أحمد: وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي، دون العامد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج بقوله: «خذوا عني مناسككم».
وهذه الأحاديث المرخصة في التقديم لما وقع السؤال عنه، إنما قرنت بقول السائل: لم أشعر فيخصص الحكم بهذه الحال وتبقى حالة العمد على أصل وجوب اتباع الرسول في أعمال الحج. اهـ.
قال الصنعاني: هذا حسن إلا أن إيجاب الدم لم ينهض دليله. وقال أيضاً: اعلم أن إيجاب الدم في هذه الأفعال والتروك في الحج، لم يأت به نص نبوي، وإنما روي عن ابن عباس، ولم يثبت عنه: أن من قدم شيئاً على شئ فعليه دم. وبه قال سعيد بن جبير والحسن والنخعي وأصحاب الرأي. وقال الصنعانى أيضاً: والعجب إطباق المفرعين على إيجاب الدم في محلات كثيرة، والدليل كلام ابن عباس، وعلى أنه لم يثبت عنه.