فصل: باب التلبيَة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب التلبيَة:

الحديث الأول:
عنْ عَبْدِ اللّه بْن عُمَرَ رَضيَ اللّه عَنْهُمَا: أنَّ تَلْبيَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ الّلهُمَّ لَبَّيْكَ. لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لبًّيْكَ. إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ. لا شَرِيكَ لكَ».
قال: وَكَانَ عَبْدُ اللّه بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فيها: لَبَّيْكَ. لّبَّيْكَ وَسَعْدَيكَ وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ.
الغريب:
لبيك: مصدر محذوف العامل، جاء على صيغة التثنية، ولم يقصد به التثنية وإنما قصد به التكثير.
واختلفوا في معناه، لاختلافهم في مأخذه.
فهل هي الإجابة بعد الإجابة، أو الانقياد، أو الإقامة في المكان وملازمته أو الحب بعد الحب... الخ. ولا منافاة بينها بل هي متلازمة لأنها تفيد معنى الإقبال على الشيء والتوجه إليه، فمعنى ألبّ بالمكان: أقام فيه ولزمه.
إن الحمد: بكسر الهمزة وفتحها، والكسر أجود وأشمل معنى، لأن الفتح معناه تعليل الإجابة بسبب الحمد والنعمة فقط، والكسر للاستئناف، فيفيد الإجابة المطلقة عن الأسباب. قال ثعلب: من كسر (الهمزة) كان معناه: الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال لبيك لهذا السبب.
سعديك، القول في تصريف لفظه، مثل القول في: «لبيك» ومعناه مساعدة في طاعتك بعد مساعدة.
الرغباء: تقال بالمد والقصر، فإن مدت فُتِحَتِ الراء وإن قصرت ضُمَّتْ. وهما من الرغبة كالنعمى والنعماء من النعمة. وقيل: الرغباء: الضراعة والمسألة.
المعنى الإجمالي:
التلبية: شعار الحج وعنوان الطاعة والمحبة، والإقامة والاستجابة الدائمة إلى داعي الله تعالى.
وهي تحتوي على أفضل الذكر من التزام عبادة الله وإجابة دعوته، ومطاوعته في كل الأحوال مقترناً ذلك بمحبته، والخضوع والتذلُّل ببن يديه، ومن إفراده بالوحدانية المطلقة: عن كل شريك في إلهيته وربوبيته وسلطانه، كما تحتوي على إثبات كل المحامد له.
وبإثباتها تنتفي عنه النقائص مع إسناد النعم كلها إليه، دقيقها وجليلها، ظاهرها وباطنها، كما تحتوي على إثبات الملك المطلق.
فهو المتصرف القاهر الذي بقبضته كل شيء، ولا ينازعه أحد في ملكه، بل الجميع خاضع له، ذليل بين يديه.
وإثبات هذه الصفات العُلي، التي فيها الثناء على الله، وإثبات المحامد والوحدانية والتصرف، تفيد وصفه- جل وعلا- بها مفردة، كما أن اجتماعها يفيد معنى زائداً يليق بجلاله الذي هو أهله، وذلك كمال ناشئ عن اقتران صفة بصفة.
فكونه مالكاً، كمال، وكونه الحمد له، كمال. واجتماعهما، كمال زائد على الكمالين. فله الصفات العلي والمحامد الكاملة.
وإثبات هذه الصفات، يوجب للعبد إفراده بالعبادة والمحبة، والتوجه والإقبال، والخوف والرجاء، وغير ذلك من متعلقات العبد بربه ومولاه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية التلبية في الحج والعمرة، وتأكدها فيه لأنها شعاره الخاص ويأتي الخلاف: هل هي واجبة أو مستحبة؟ إن شاء اللّه.
2- الأفضل أن تكون بهذه الصيغة فقط للاتِّباع، ولما تحتويه هذه الجمل من المعاني العظيمة، ولما فيها من صفات الله تعالى الجليلة. فإن زاد فلا بأس.
3- أن التلبية شعار الحج كالتكبير شعار الصلاة فيستحب الإكثار منها، لاسيما عند الانتقال من منسك إلى آخر، وارتفاع على نشز، أو هبوط في منخفض، أو التقاء الحجيج، أو فعل محظور. لأن فيها التذكير على الإقامة على طاعة الله والاستجابة لداعيه. قال شيخ الإسلام: لا يزال يلبي في ذهابه من مشعر إلى مشعر حتى يرمي جمرة العقبة، فإذا شرع في الرمي قطع التلبية فإنه حينئذ يشرع في التحلل.
4- تقدم في المعنى الإجمالي ما تحتويه التلبية من أنواع الذكر، من الإقامة على طاعته، وإثبات الوحدانية المطلقة له، وإثبات المحامد وإسناد النعم إليه،
والإقرار بملكه وقهره وسلطانه المطلق. فهي محتوية على توحيد الإلهية والربوبية، والأسماء والصفات.
5- ما دامت التلبية شعار الحج، فينبغي رفع الصوت بها للرجال.
أما المرأة فتخفض صوتها خشية الفتنة بهذه العبادة الجليلة.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على مشروعية التلبية في الحج، لأنها شعاره.
واختلفوا هل هي ركن، أو واجب، أو سنة؟.
فذهب إلى أنها سنة، الإمامان، الشافعي، وأحمد. ودليلهم أنها ذكر كسائر الأذكار، لا يجب بتركها شيء.
وذهب مالك وأصحابه، إلى أنها واجبة، يأثم تاركها، ويصح حجه، وعليه دم لتركه إياها.
وذهب أبو حنيفة، والثوري، وأهل الظاهر، وعطاء، وطاوس، وعكرمة إلى أنها رُكْن، لا يصح الحج بدونها.
ودليل هؤلاء، أنها شعار الحج، كما أن تكبيرة الإحرام، وتكبير الانتقالات، شعار الصلاة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخِلَّ بها، وكان يقول: «خذوا عني مناسككم»، وهى من أعظم المناسك، وفي الحديث: «أتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أن آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعوا أَصْوَاتَهُمْ بالإهْلالِ» وهي التلبية. والأمر يقتضي الوجوب.
قلت: وهذا قول جيد، وحجته قوية، وقد التزمها- ولله الحمد- المسلمون جميعاً، فلا تجد محرماً إلا وهو يقولها في نسكه مرات، فمِنْ مُقِلٍ وَمُكثِرِ.
فائدة:
قال شيخ الإسلام ما خلاصته: النية في الحج والعمرة: لا خلاف بين المسلمين في أن الحج والعمرة لا يصحان بدونها. وأصل ذلك أن النية المعهودة في العبادات تشتمل على أمرين هما: قصد العبادة وقصد المعبود، وهو الأصل الذي دل عليه قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين} وأما قصد العبادة فهو قصد عمل خاص يرضي به ربَّه من صيام أو حج أو غيرهما، وهذه النية التي تذكر في كتب الفقه المتأخرة، فالنية الأولى يتميز بها من يريد حرث الآخرة ممن يريد حرث الدنيا ويتميز بها المسلم من الكافر أما الثانية فهي تميز أنواع العبادات.
وقال رحمه الله: ولا يكون الرجل محرماً بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده، ولابد من قول أو عمل يصير به محرماً، والتجرد من الثياب واجب في الإحرام وليس شرطاً فيه، فلو أحرم وعليه ثيابه صح ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وباتفاق أئمة أهل العلم وعليه أن ينزع اللباس المحظور.

.باب سَفر المَرأة بدُون محْرم:

الحديث الأول:
عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ رَضيَ الله عَنْة قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلةٍ إلا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ», وفي لفظ للبخاري: «لا تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلا مَعَ ذي مَحْرَم».
المعنى الإجمالي:
المرأة مظنة الشهوة والطمع، وهي لا تكاد تقي نفسها لضعفها ونقصها.
ولا يغار عليها مثل محارمها، الذين يرون أن النَّيْلَ منها نَيْلٌ من شرفهم وعرضهم.
والرجل الأجنبي حينما يخلو بالأجنبية، يكون معرضاً لفتن الشيطان ووساوسه.
لهذه المحاذير، التي هي وسيلة في وقوعٍ الفاحشة وانتهاك الأعراض، حرَّم الشارع على المرأة أن تسافر يوماً، أو يوماً وليلة، إلا ومعها ذو محرم، وهو زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب، كأب، وابن، وأخ، وعم، وخال. أو والد زوجها أو ابنه وإن نزل. أو رضاع. كأبيها، وأخيها منه.
وناشدها الشارع في إيمانها بالله واليوم الآخر.
إن كانت تحافظ على هذا الإيمان وتنفذ مقتضياته، أن لا تسافر إلا مع ذي محرم.
اختلاف العلماء:
وهي تكفي عن الاستنباطات، لأنها تشتمل عليها:
هذه خلافات نجملها ولا نطيل بتفصيلها، لمخالفتها نص الحديث الصحيح.
فقد اختلفوا: هل المرأة مستطيعة الحج بدون المحرم، إذا كانت ذات مال؟ أو أن وجود المحرم شرط في الاستطاعة؟.
الصحيح: أنه لا يحل خروجها بدون محرم لأي سفر، فتكون معذورة غير مستطيعة.
واختلفوا في الكبيرة، التي لا تميل إليها النفس: هل تسافر بدون محرم، أو لابد من المحرم؟.
الصحيح الأخير. لأن الحديث عام في كل امرأة، ولا يخلو الأمر من محذور، فلكل ساقطة لاقطة.
واختلفوا هل يكفي أن تكون مع رفقة أمينة، أو تسافر مع امرأة مسلمة ثقة أم لا؟.
ظاهر الحديث أنه لابد من المحرم، لأن غيرة المحرم ونظره مفقودان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا كانت المرأة من القواعد اللائي لم يحضن، وقد يئست من النكاح، ولا محرم لها فإنه يجوز في أحد قولي العلماء أن تحج مع من تأمنه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ومذهب مالك والشافعي.
وقد أجمع المسلمون أنه لا يجوز السفر للمرأة بدون محرم، إلا على وجه تأمن فيه. ثمَّ ذكر كل منهم الأمر الذي اعتقده صائناً لها وحافظاً، من نسوة ثقات، أو رجال مأمونين، ومنعها أن تسافر بدون ذلك، فاشتراط ما اشترطه اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحق وأوجب وحكمته ظاهرة، فالذين خالفوا ظاهر الأحاديث، وأباحوا لها السفر حين تكون آمنة نظروا إلى المعنى المراد وقالوا: إنها مأمورة بالحج على وجه العموم بقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سيلا}.
والذين أخذوا بظاهر حديث المنع من السفر قالوا: إن الحديث مخصص للآية وله نظائر كحديث الغازي الذي خرجت امرأته حاجة، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يدع الجهاد ويحج مع امرأته، وغيره من الأحاديث.
واختلفوا في تحديد السفر، تبعاً لاختلاف الأحاديث.
فمنها يوم ويومان وثلاث ليال وليلة، وبريد.
والأحوط أن يؤخذ بأقلها، لأنه لا ينافي ما فوقه، ويكون ما فوقه قضايا عين، حسب حال السائل. والله أعلم.
ظاهرة محزنة:
إذا قارنت حال المسلمين اليوم بهذه النصوص الصحيحة، والآداب العالية، والغيرة الكريمة، والشهامة النبيلة، والمحافظة على الفروج والأعراض وحفظ الأنساب، وجدت كثيراً من المسلمين قد نبذوا دينهم وراءهم ظهرياً، ومرقوا منه، وصار التَّصَوُّنُ والحياء ضرباً من الرجعية والجمود.
أما الانحلال الخُلُقيُّ، وخلع رداء الحياء والعفاف، فهو التقدُّم والرُّقيُّ. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

.باب الفِديَة:

الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ اللّه بْن مَعْقِلٍ، قال: جَلَسْتُ إلى كَعْب بْنِ عُجْرَةَ فَسَألتُهُ عَنِ الفِدْيَةِ فقال: نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّة، وَهِي لَكُمْ عَامَّة: حُمِلْتُ إلى رَسُولِ اللّه وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلى وَجْهي فقال: «مَا كُنْتُ أرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أرى- أو: مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أرَى:- أتَجدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: لا، قَالَ: «فَصُمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ، أَوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِيْنَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ».
وفي رواية: أمَرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُطْعِمَ فَرَقاً بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أوْ يُهْدِي شَاةً، أوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أيامٍ.
الغريب:
نزلت فيَّ: يعني الآية وهي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضَاً أوْ به أذَىً مِنْ رَأسِه فَفِدْية مِنْ صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ}.
حملت: بالبناء للمجهول.
ما كنت أُرَى:- بضم الهمزة، بمعنى أظن.
ما أرى:- بفتح الهمزة، بمعنى أشاهد.
الجَهد: بفتح الجيم المشقة وبضمها بمعنى الوسع والطاقة والمراد- هنا- الأول.
الفَرَق: بفتح الفاء والراء، مكيال يسع ثلاثة آصع نبوية.
وتقدم في الزكاة تحرير الصاع النبوي ومكاييلنا الحاضرة والمقارنة بينهما.
المعنى الإجمالي:
رأى النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة في الحديبية وهو محرم.
وإذا القمل يتناثر على وجهه من المرض، والأوساخ المتسببة من المرض.
وكان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فَرَقَّ لحاله وقال: ما كنت أظن أن المشقة بلغت منك هذا المبلغ، الذي أراه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أوْ بِهِ أذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية.
فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يجد أفضل ما يفدي به وهو الشاة؟.
فقال: لا، فقال: إذا لم تجد الشاة فأنت مخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من بر، أو غيره، ويكون ذلك كفارة عن حلق رأسه، الذي اضطر إليه في إحرامه، من أجل ما فيه من هوام، وفي الرواية الأخرى، خيَّره بين الثلاثة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز حلق الشعر للمحرم مع التضرر ببقائه، ويفدي.
2- تحريم أخذ الشعر للمحرم بلا ضرر، ولو فدى.
3- أن الأفضل في الفدية، ذبح شاة، وتقسيمها على الفقراء. فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.
وفي الرواية الأخرى التخيير بين الثلاثة ويأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله.
4- كون السنة مفسرة، ومبينة للقرآن.
فإن الصدقة المذكورة في الآية مجملة، بيَّنها الحديث.
5- ظاهر الحديث أن نصف الصاع يخرج، سواء أكان من بر أم غيره.
وهو مذهب مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، وهو الصحيح، لظاهر الحديث.
أما المشهور من مذهب أحمد، فيجزئ مُدٌّ من بُرٍّ، أو نصف صاع من غيره.
6- ظاهر النصوص، نزول الآية بعد فتوى النبي صلى الله عليه وسلم.
فتكون الآية مؤيدة للوحي الذي لا يتلى.
7- وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم.
8- وفيه تفقد الأمير والقائد أحوال رعيته.
9- ألحق العلماء بحلق الرأس تقليم الأظفار، والطيب، واللبس، بجامع الترفُّه في كل منها، وتسمى فدية الأذى.
10- ورد في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بكعب، وبعضها: أنه حمل إليه.
وجمع بينهما العلماء، بأنه مرَّ به أولاً ثم طلبه فحمل إليه.
11- يجوز الحلق قبل التكفير وبعده، ككفارة اليمين، تجوز قبل الحنث وبعده.
12- سبب نزول الآية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً…} الخ قضية كعب بن عجرة.
ولكنها عامة، لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
تحقيق التخيير في الكفارة:
ظاهر الحديث الذي معنا يفيد تقديم الشاة، فإنْ لم يجدها، فهو مخير بين الصيام والإطعام.
أما الآية وبقية الروايات، فتفيد التخيير بين الثلاثة.
ومنها ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعله آذَاكَ هَوَامُّكَ؟».
قال: نَعَمْ.
فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «احْلِقْ رَأسَكَ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَةَ مَسَاكِينَ، أوِ انْسُكْ شَاةً» فهذا وأمثاله، صريح في التخيير.
وقد جمع العلماء بينها، فقال ابن عبد البر: قدم الشاة، إشارةً إلى ترجيح الترتيب، لا إلى إيجابه.
قال النووي: قصد بسؤاله عن الشاة، أن يخبره إن كان عنده شاة، فهو مخير بين الثلاثة، لا أنه لا بجزيء مع وجودها غيرها.
وقال بعضهم: إنه أفتاه في الشاة اجتهاداً، وبعد ذلك نزلت الآية في التخيير بين الثلاثة.
ويؤيد هذا القول ما رواه مسلم عن عبد اللَه بن معقل، عن كعب قال: «أتجد شاة؟» قلت: لا، فنزلت هذه الآية.
والأحاديث الواردة في هذا المعنى، وردت من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، ومن طريق عبد الله بن معقل، عن كعب أيضاً.
وما روي من طريق عبد الرحمن، موافق لمعنى الآية، من إفادة التخيير بين الثلاثة.
وما ورد من طريق عبد الله بن معقل، يفيد الترتيب.
لهذا فإن ابن حزم، حكم على رواية عبد الله بالاضطراب، وقال في طريق عبد الرحمن: هذا أكمل الأحاديث وأبينها.
والذي أرى: أن ما ذهب إليه أبو محمد هو أحسن جمع، لأن القصة واحدة. فلا يمكن أن يقع فيها إلا صفة واحدة، فلا يمكن الجمع إلا بهذا؛ ولذا قال ابن حجر: وأقرب ما وقفت عليه من طرق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن شئت فانسك شاة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم».
ورواية مالك في الموطأ: «أي ذلك فعلت أجزأ». والله أعلم.

.باب حرمَة مَكة:

حرمة مكة المكرمة مستمدة من هذا البيت المعظم، الذي هو أول بيت وُضِعَ في الأرض لِيَؤمَّه الناس لعبادة الله تعالى كما قال تعِالى {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًىً لِلعَالَمِينَ}. وقد بناه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
وما زال معظماً مكرماً محجوجاً منذ بُنيَ حتى يفسد الزمان، ويذهب الإيمان.
فما دام الدين قائماً فقد جعله الله {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنَاً}.
وقد عظمه العرب في جاهليتهم، وجاءوا إليه من أقطار الجزيرة ومن ورائها، فأكرمهم سدنته وخدامه من قريش ومن قبلهم.
وجاء الإسلام فزاد من تعظيمه وتقديسه- وقد حماه الله من كل مُعْتَدٍ، وأكبر دليل، قصة أصحاب الفيل المشهورة.
والمجاورة فيه من أفضل العبادات لمن رزق الاستقامة، لأن العمل عنده مضاعف إلى مائة ألف ضعف كما أنَّ المعاصي عنده وفيه، مغلظة لحرمة المكان. رزقنا الله العمل الصالح المرضي وجهه الكريم، وجنَّبَنَا الزَّيْغَ والضلالَ والْمِحَنَ والفتن، ما ظهر منها وما بطن. آمين.
وتقدم في أول الكتاب شيء من حِكَمِ الحج وأسرارِه.
وكون الحج إلى هذا البيت له حِكَم ومناسبات أخرى، منها أن هذا البيت ومناسكه، هي آثار أبي الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهي ذكريات، وأعياد إسلامية دينية.
ومنها أن هذه البقعة هي مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه، ومنها شَعَّ نور الإسلام.
فالمسلمون يجددون بها عهداً وهي عاصمتهم الأولى ومُتَوَجَّه وجوههم ومهوى أفئدتهم.
جمع الله المسلمين على التُّقَى ولَمَّ كلمتهم فيما يُعْلي دينهم، ويرفع شأنهم. آمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
الحديث الأول:
عَنْ أبِي شُرَيْحٍ خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرو الْخُزَاعِي الْعَدَوِي رَضيَ الله عَنْة:
أَنهُ قَالَ لِعَمْرِو بْن سَعِيدِ بْنِ الْعَاص- وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِيْ أُيُّهَا الأمِيرُ أنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلاً قَالَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأبصَرَتْهُ عَينايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ. أنَّهُ حَمِدَ اللّه وَأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا الله تعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً ولا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً. فَإنْ أحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَال رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُوْلُوا: إنَّ الله أذِن لِرسُولِهِ وَلَمْ يَأذَنْ لَكُمْ، وإنِّمَا أذِنَ لِرَسُولِهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرمَتِهَا بالأمْسِ. فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ».
فقيل لأبي شريح: مَا قَالَ لَكَ عَمْروٌ؟ قَالَ: قَالَ أنَا أعْلَمُ بِذلِكَ مِنْكَ يَا أبَا شُرَيْح، إنَ الْحَرَمَ لا يُعِيْذُ عَاصِياً وَلا فَارَّاً بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخَرَبَةٍ.
الخربة: بالخاء المعجمة، والراء المهملة. قيل: الخيانة، وقيل: البلية. وقيل: التهمة.
وأصلها في سرقة الإبل قال الشاعر:
والخارِبُ الِّلصُّ يُحِبُّ الخارِبا

الغريب:
ايذن لي: أصله إأذن لي بهمزتين فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.
أن يسفك بها دماً:- بكسر الفاء وضمها- قال الهروي: لا يستعمل السفك إلا في الدم.
ساعة من نهار: هي ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر.
لا يعيذ: لا يجير ولا يعصم.
لا يعضد بها شجرة: هو مثل ضرب يضرب- بكسر الضاد- ومعناه يقطع.
المعنى الإجمالي:
لما أراد عمرو بن سعيد بن العاص، المعروف بالأشدق، أن يجهز جيشاً إلى مكة المكرمة وهو- يومئذ- أمير ليزيد بن معاوية على المدينة المنورة لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، جاءه أبو شريح، خويلد بن عمرو الخزاعي، لينصحه عن ذلك.
ولكون المنصوح كبيراً في نفسه، تلطَّف أبو شريح معه في الخطاب، حكمة منه ورشداً، ليكون أدعى إلى قبول النصيحة وسلامة العاقبة، فاستأذنه ليلقي إليه نصيحة في شأن بعثه الذي هو ساعٍ فيه، وأخبره أنه متأكد من صحة هذا الحديث الذي سيلقيه عليه، وواثق من صدقه إذ قد سمعته أذناه ووعاه قلبه، وأبصرته عيناه حين تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له عمرو بن سعيد في الكلام.
فقال أبو شريح: إن النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة فتح مكة حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض» فهي عريقة بالتعظيم والتقديس، ولم يحرمها الناس كتحريم الحمى المؤقت والمراعي والمياه، وإنما الله الذي تولَّى تحريمها، ليكون أعظم وأبلغ.
فإذا كان تحريمها قديماً ومن الله: «فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر- إن كان يحافظ على إيمانه- أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة».
فإن أحد ترخص بقتالي يوم الفتح، فقولوا: «إنك لست كهيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أُذِنَ له ولم يُؤذن لك».
على أنه لم يحل القتال بها دائماً، وإنما هي ساعة من نهار، بقدر تلك الحاجة، وقد عادت حرمتها كما كانت، فليبلغ الشاهد الغائب.
لهذا بلغتك أيها الأمير، لكوني شاهداً هذا الكلام، صبيحة الفتح، وأنت لم تشهده.
فقال الناس لأبي شريح: بماذا أجابك عمرو؟ فقال: أجابني بقوله: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارًا بخربة, وهذه محاولة منه باطلة، فإنه متوجه لقتال من هو أفضل منه وأولى بالخلافة.
وقد سلط عليه عبد الملك بن مروان، فقد قتله غدراً صبراً. وقد هزم جيشه وقتل أميره عليه، وسيأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى.
ما يؤخذ من الحديث:
1- إفادة العلم وقت الحاجة إليه، وهي مناسباته، لأنه أبلغ.
2- نصح ولاة الأمور، وأن يكون ذلك بلطف ولين، لأنه أنجح في المقصود.
3- تأكيد الخبر بما يثبته ويؤيده، من بيان الطرق الوثيقة، التي وصل منها، لكونه سمعه بنفسه، أو تكرر عليه، أو شاهد الحادث، أو نقله عن ثقة، ونحو ذلك.
4- البداءة بالحمد والثناء على الله تعالى، في الخطب والمخاطبات، والرسائل وغيرها، من الكلام المهم.
5- تحريم الله لمكة منذ خلق السماوات والأرض، مما يدل على أنها لم تفضل لمناسبات مؤقتة. وإنما هي عريقة أصيلة في التعظيم والتقديس.
أما تحريم إبراهيم عليه السلام، فهو إظهار لتحريم اللّه.
6- أن الإيمان الصحيح هو الرادع عن محارم الله وتعدِّي حدوده.
7- تحريم سفك الدماء في مكة، وظاهره التحريم مطلقاً. ويأتي بحثه إن شاء الله تعالى في الحديث الذي بعد هذا.
8- تحريم قطع شجرها، ظاهره سواء أن يكون قد نبت بنفسه أو غرسه آدمي. ويأتي بحثه إن شاء الله، في الحديث الذي بعد هذا.
9- أنه لا يحل لأحد أن يترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقاتل في مكة.
10- أنها أبيحت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة، لم تبح قبلها، ولن تباح بعدها.
11- أن النبي فتح مكة عَنْوَةً لقوله: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله».
12- وجوب تبليغ العلم لمن يعلمه، لاسيما عند الحاجة إليه. وهذا ما حمل أبا شريح على نصيحة عمرو بن سعيد.
13- قال ابن جرير: وفيه دليل على قبول خبر الواحد لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ.
تنبيه:
بحوث هذا الحديث الخلافية، أخرناها إلى الحديث الذي بعد هذا، لأن معنى الحديثين متقارب.
تنبيه آخر:
قال شيخ الإسلام: ولا يقطع شيء من شجر الحرم ولا من نباته، إلا الإزخر وما غرسه الناس أو زرعوه، فهو لهم.
ثم قال رحمه الله: وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام: كمسجد الصفا، وكمسجد المولد، وغيره، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة. وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة كجبل حراء فإنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة.
تنبيه ثالث:
حينما هم عمرو بن سعيد بمحاربة عبد الله بن الزبير بأمر من يزيد بن معاوية وجه إليه من المدينة جيشاً بقيادة عمرو بن الزبير- أخي عبد الله- وكانت بين الأخوين عداوة. فسار الجيش من المدينة، وحينما اقترب من مكة أخرج له عبد الله بن الزبير فرقتين من الجيش المرابط معه في مكة، فصارت الهزيمة على الجيش الأموي، وأسر عمرو بن الزبير، فحبسه أخوه وضربه بالسياط إلى أن مات.
الحديث الثاني:
عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عَبَّاسٍ رضيَ الله عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةََ: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلكِنْ جِهَاد وَنِيَّة. وَإذَا اسْتُنْفِرْتُم فَانْفِرُوا» وقال يوم فتح مكة: «إنَّ هذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ بحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحدٍ قَبْلِي، ولم يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَار- وهي ساعتي هذه- فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، ولا يُخْتَلَى خَلاهُ» فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ الله إلاَّ الإذْخِرَ فَإنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبيُوتِهِمْ، فَقَال: «إلاَّ الإذْخِرَ».
القين: الحدّاد.
الغريب:
استنفرتم فانفروا: نفر خرج بسرعة. يعني إذا طلب خروجكم للحرب بسرعة فاخرجوا كما طلب منكم.
لا يعضد شوكه: العضد: القطع.
لا ينفر صيده: لا يزعج من مكانه ويذعر.
لا يختلى خلاه: الخلا بالقصر هو الرطب من الكلأ واختلاؤه قطعه.
الإذخر: يجوز فيه الرفع بدلاً مما قبله، ونصبه لكونه مستثنى بعد النفي.
واختار ابن مالك النصب، لكون الاستثناء وقع متراخياً عن المستثنى منه.
والإذخر نبت أصله ماضٍ في الأرض، وقضبانه دقاق، ورائحته طيبة.
وهو كثير في أرض الحجاز، وكانوا يسقفون به، فيجعلونه تحت الطين، وفوق الخشب ليسد الخلل، فلا يسقط الطين، وكذا يجعلونه في القبور.
لقينهم: بفتح القاف وسكون الياء، بعدها نون: هو الحداد، وحاجته لها، ليوقد بها النار.
المعنى الإجمالي:
بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، ودعا أهلها إلى الإسلام، فآمن به قليل منم فآذاهم المشركون في مكة فوسَّع الله لهم بالهجرة منها إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر معه أصحابه، وصارت الهجرة وَاجَبة منها، لأن المسلم لا يتمكن أن يظهر فيها إسلامه.
فلما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم وصارت بلدة إسلامية، انقطعت الهجرة منها، لأنه زال موجبها، وبقي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، ونصر دينه قائماً، إلي يوم القيامة، باللسان، والسلاح، والنية الصالحة، بإخلاص الأعمال لله تعالى.
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الجهاد، وجوب الخروج بسرعة ونشاط إذا استنفرهم وَلِيُّ الأمر للقتال.
ثم ذكر تحريم الله تعالى لمكة، أنه قديم بقدم خلق السماوات والأرض.
لأن الله هو الذي حرمها، ومن تلك المدة فهي حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل فيها القتال تأسِّياً بقتال النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
فقد أحلت له خاصة، ساعة من نهار، ثم رجعت حرمتها إليها مطلقاً إلى يوم القيامة.
ثم ذكر أن حرمة هذا البيت، شملت ما حوله من شجر، فلا يقطع، ومن صيد فلا يزعج وَيُنفَّر من مكانه، فما بالك بقتله؟ كما حرَّم لقطة الحرم إلا من أخذها لِيُعَرِّفها دائماً.
فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم قطع النبات، قال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فهم في حاجة إليه لتسقيف بيوتهم وسَدِّ خلل قبورهم، وَإيقاد نيرانهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر، فإنه مباح.
ما يؤخذ من الحديث:
1- انقطاع الهجرة من مكة إلى غيرها، لأنها- ولله الحمد- بلاد إسلامية.
أما الهجرة من غيرها، فهي باقية، من كل بلد لا يقيم الإنسان فيه دينه.
2- أن الجهاد باقٍ، واجب عند وجوده، ونيته عند عدمه.
وكذلك النية الصالحة، ركن أساسي في قبول الأعمال، وعليها المدار.
3- قوله: «وإذا استنفرتم فانفروا» أي: إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ففيه وجوب النفر من المسلم إذا طلبه الإمام لقتال عدو، إما بتنفير عام، أو تعيين. فمن عَيَّنه الإمام، خرج.
4- تحريم القتال في مكة، فلا يحل لأحد إلى يوم القيامة.
5- أن حلها للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة من خصائصه، وأنها أحلت له ساعة، ثم عادت حرمتها كما كانت منذ خلقت السماوات والأرض.
6- تحريم قطع الشوك في حَرَمِهَا، وتحريم قطع الشجر الذي ليس فيه شوك من باب أولى، وكذلك الكلأ.
7- تحريم تنفير صيده، وحبسه وقتله أشد حرمة بطريق الأولى. والصيد، هو الحيوان المأكول، المتوحش أصلاً.
8- تحريم أخذ اللقطة فيها، إلا لمن أخذها لِيُعَرِّفها دائماً.
9- استثناء: «الإذخر» من الكلأ، للحاجة الشديدة إليه. فيجوز أخذه رطباً أو يابساً.
10- أن بعض السُنَّة، تكون بفهم يلقيه الله على نبيه صلى الله عليه وسلم.
كما قال تعالى: {وأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لِتُبيِّنَ لِلنَاسِ ما نُزِّل إلَيْهِمْ}.
11- أن الفصل اليسير الذي لا يُعَدُّ قاطعاً للكلام، لا يضر بين المستثنى والمستثنى منه.
12- أن مكة فتحها النبي صلى الله عليه وسلم عَنْوَةً، ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم وَكَلَئِهِ الْبَرِّيِّ الذي لم ينبته الآدمي.
كما أجمعوا على إباحة أخذ: «الإذخر» وما أنبته الآدمي، من الزروع والبقول، أخذاً بالأحاديث الصحيحة المتقدمة وغيرها.
واختلفوا في قطع الشجر الذي أنبته الآدمي، فالجمهور على جواز قطعه، كالزرع الذي ينبته الآدمي.
وذهب الشافعية إلى تحريمه، أخذاً بعموم الحديث، ومال الشيخ الموفق ابن قدامة في المغني إلى هذا.
واختلفوا في جواز قتل من وجب عليه القتل فلجأ إلى الحرم.
فذهب إلى تحريمه جمهور التابعين، والإمام أبو حنيفة، وأصحابه من الفقهاء، والإمام أحمد، وبعض المحدِّثين وقالوا: يعالج حتى يخرج منه من وجب عليه حَدُّ القتل في غيره ثمَّ لجأ إليه.
وذهب مالك، والشافعي: إلى أنه يستوفى منه الْحَدُّ في الحرم.
ودليل مالك، والشافعي، ومن تبعهم، عمومات النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان. وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو معلق بأستار الكعبة، وقاسوه أيضاً على من أتى في الحرم بما يوجب القتل.
واستدل الأولون بمثل قوله تعالى: {ومَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنَاً}، {أوَ لَمُ نُمكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِنَاً} ونحوهما من الآيات، ولو لم يكن للتخصيص فائدة، لما ذكر.
وأجابوا عن أدلة المعارضين، بأنَّ العمومات لا تتناوله، لأن لفظها لا يدل عليه، لا بالوضع، ولا بالتضمن، فهو مطلق بالنسبة إليها.
ولو فرض تناولها له، لكانت مخصصة بالأدلة الواردة في وضع إقامة الحد فيه؟ لئلا يبطل موجبها.
أما قتل ابن خطل فليس فيه دليل لأنه قتل في الساعة التي أحل فيها الحرم للنبي عليه الصلاة والسلام.
وأما قياسه على من فعل ما يوجب القتل في الحرم، فلا يستقيم، لأن الجاني فيه هتك حرمته، وحرمة الله تعالى، فهما مفسدتان، ولو لم يقم الحد على الجناة فيه، لَعَمَّ الفساد، وعظم الشر في حرم الله.
بخلاف الذي أتى ما يوجب القتل خارجه، فذنبه أخف كثيراً، وهو- بلجوئه إلى الحرم- كالتائب من الذنب، النادم على فعله، فلا يناسب حاجته.
قال ابن حجر في فتح الباري فأما القتل، فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، وخص الخلاف بمن قتل في الحل، ثم لجأ إلى الحرم.
وممن نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر.
قلت: نصر ابن حزم في المحلى أن القصاص وأنواع الحدود، لا تقام في الحرم مطلقاً.
وقال: من أتى فيه بما يوجب القتل والحد، فليُخْرَج، ثم يقام عليه.
ونقل عمومات عن بعض الصحابة، ظاهرها معه.
واختلفوا: هل فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة صلحاً أو عنوة؟.
ذهب الأكثرون من العلماء- ومنهم الإمامان أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه- إلى أنها عنوة.
وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحاً، واستدلوا على ذلك بأنها لو فتحت عَنْوَةً لقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الغانمين كـ خيبر ولملك الغانمون دورها، وكانوا أحق بها من أهلها، ولو كانت عنوة لم يؤمِّن أهلها.
واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أحلها ليِ ساعة من نهار».
وبقوله: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لك».
واستدلوا أيضاً، بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها في حالة حرب وتعبئة.
فقد جعل للجيش ميمنة، وميسرةً، ومقدمة، ومؤخرة، وَقَلْباً، ودخلها، وعلى رأسه المغفر غير محرم، وحصل القتال بين خالد بن الوليد وبينهم، حتى قتل منهم جماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم للأنصار: «أترون أوباش قريش وأتباعهم، احصدوهم حصداً» حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم.
فقال: «من أغلق بابه فهو آمن» وغير ذلك من الأدلة الواضحة الصحيحة.
وأجابوا عن أدلة المعارضين:
فأما كونه لم يقسِّم أرضها بين الغانمين، فلأن الأرض غير داخلة في الغنائم التي تقسم، وهذا عمل الخلفاء الراشدين في الأرض العنوة التي يأخذونها، لا يقسمونها، وإنما يجعلونها فيئاً على المسلمين أولهم وآخرهم.
على أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ على أهل مكة، فَأمَّنَهمْ، ومِنْ تأمينهم، ترك ما بأيديهم.
مع أن هناك خلافاً بين العلماء: هل تملك رباع مكة ودورها؟.
وقد رجح كثير من العلماء عدم تملكها. وقالوا: إنه يستوي فيها المسلمون كالمساجد.
وأما تأمينه أهلها، فبعد القتال مَنَّ عليهم بذلك لكونهم جيران بيت الله تعالى. وبعد أن رأوا أن لا طاقة لهم في القتال طلبوا الأمان، فأجابهم لطفاً بهم ورحمة.