فصل: 43- بابٌ (مَا جَاءَ فِي) كَرَاهِيَةِ الإسْرَافِ فِي الْوُضُوِء بِالْمَاء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري ***


43- بابٌ ‏(‏مَا جَاءَ فِي‏)‏ كَرَاهِيَةِ الإسْرَافِ فِي الْوُضُوِء بِالْمَاء

57- حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ حَدّثَنَا أَبُو دَاودَ الطّيَالِسِيّ حدّثَنَا خَارِجَةُ بنُ مُصْعَبٍ عنْ يُونَسَ بنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عنْ عُتَيّ بنِ ضَمْرَةَ السّعْدِيّ عَنْ أُبَيّ بنِ كَعْبٍ عَنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ ‏"‏إِنّ لِلْوُضُوُءِ شَيْطَاناً يُقالُ لَهُ‏:‏ الْوَلَهَانُ، فَاتّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ‏"‏‏.‏

قالَ‏:‏ وفي البابِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو، وَعَبْدِ الله بنِ مُغَفّلٍ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حدِيثُ أُبَيّ بن كَعْبٍ حديثٌ غَرِيبٌ، ولَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِىّ ‏(‏والصّحِيح‏)‏ عِنْدَ أهْلِ الْحَديِثِ لأنّا لا نَعْلَمُ أحداً أَسْنَدَهُ غَيْرَ خَارِجَةَ‏.‏

وقُدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وجْهٍ عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ قَوْلَهُ ولاَ يَصِحّ فِي هَذَا الْبَابِ عنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ‏.‏ وخَارِجَةُ لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدَ أَصحابِنا، وضَعّفَهُ ابنُ المبارك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نا أبو داود‏)‏ هو الطيالسي واسمه سليمان بن داود بن الجارود الفارسي مولى الزبير الطيالسي البصري أحد الأعلام الحفاظ، روى عن ابن عوف وهشام بن أبي عبد الله وخلائق، وعنه أحمد وابن المديني وابن بشار وخلق، قال ابن مهدي أبو داود أصدق الناس، وقال أحمد ثقة يحتمل خطؤه، وقال وكيع جبل العلم مات سنة 204 أربع ومائتين عن إحدى وسبعين كذا في الخلاصة‏.‏

وقال في التقريب ثقة حافظ غلط في أحاديث ‏(‏نا خارجة بن مصعب‏)‏ أبو الحجاج السرخسي، متروك وكان يدلس عن الكذابين، ويقال إن ابن معين كذبه، قاله الحافظ ‏(‏عن يونس بن عبيد‏)‏ العبدي مولاهم، أبو عبد الله البصري، أحد الأئمة وثقة أحمد وأبو حاتم ‏(‏عن الحسن‏)‏ هو البصري ‏(‏عن عتي‏)‏ بضم أوله مصغراً ثقة من الثالثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن للوضوء شيطاناً‏)‏ أي للوسوسة فيها ‏(‏يقال له الولهان‏)‏ بفتحتين مصدر وله يوله ولهاناً وهو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد وغاية العشق سمى بها شيطان الوضوء إما لشدة حرصه على طلب الوسوسة في الوضوء وإما لإلقائه الناس بالوسوسة في مهواة الحيرة حتى يرى صاحبه حيران ذاهب العقل لا يدري كيف يلعب به الشيطان ولم يعلم هل وصل الماء إلى العضو أم لا وكم مرة غسله، فهو بمعنى اسم الفاعل أن باق على مصدريته للمبالغة كرجل عدل، قاله القاري ‏(‏فاتقوا وسواس الماء‏)‏ قال الطيبي أي وسواسه هل وصل الماء إلى أعضاء الوضوء أم لا وهل غسل مرتين أو مرة وهل هو طاهر أو نجس أو بلغ قلتتين أو لا، وقال ابن الملك وتبعه ابن حجر أي وسواس الولهان، وضع الماء موضع ضميره مبالغة في كمال الوسواس في شأن الماء أو لشدة ملازمته له كذا في المرقاة‏.‏ والحديث يدل على كراهية الإسراف في الماء للوضوء، وقد أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء ولو على شاطئ النهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مغفل‏)‏ أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه النسائي وابن ماجه، ولفظه‏:‏ قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم، وأما حديث عبد الله بن مغفل فأخرجه أبو داود وابن ماجه ولفظه‏:‏ سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث أبي بن كعب حديث غريب‏)‏ وأخرجه ابن ماجه ‏(‏لأنا لا نعلم أحداً أسنده‏)‏ أي رواه مرفوعاً ‏(‏وخارجة ليس بالقوي عند أصحابنا‏)‏ أي أهل الحديث قاله الطيبي كذا في المرقاة، قلت الأمر كما قال الطيبي وقد تقدم في المقدمة تحقيق ذلك ‏(‏وضعفه ابن المبارك‏)‏ قال الذهبي في الميزان‏:‏ وهاه أحمد وقال ابن معين ليس بثقة وقال أيضاً كذاب وقال البخاري تركه ابن المبارك ووكيع وقال الدارقطني وغيره ضعيف وقال ابن عدي هو ممن يكتب حديثه قال الذهبي انفرد بخبر‏:‏ إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان، مات سنة 168 ثمان وستين ومائة، وكان له جلالة بخراسان انتهى‏.‏

44- بابُ ‏(‏مَا جَاءَ فِي‏)‏ الْوُضُوءِ لِكلّ صَلاَة

58- حدثنا مُحَمّدُ بنُ حُمَيْدٍ الرّازِيّ حدّثنا سَلَمَةُ بنُ الفَضْلِ عَن مُحَمّدِ ابنِ إسْحاقَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ‏:‏ ‏"‏أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَتَوَضّأُ لِكُلّ صَلاَةٍ طاهِراً أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ‏.‏ قالَ‏:‏ قُلْتُ لاِنَس‏:‏ فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ‏؟‏ قالَ‏:‏ كنّا نَتَوَضّأُ وُضُوءًا واحِداً‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ ‏(‏و‏)‏ حدِيثُ ‏(‏حُمَيْدٍ عَن‏)‏ أَنَسٍ ‏(‏حَدِيثٌ‏)‏ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ‏(‏الأْنْصَارِيّ‏)‏ عَنْ أَنَسٍ‏.‏

وَقَدْ كاَنَ بَعْضُ أَهلِ الْعِلْم يَرَى الْوُضُوءَ لِكلّ صَلاَةٍ اسْتِحْبَاباً، لاَ عَلَى الْوُجُوبِ‏.‏

59- وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عُمَر عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏مَنْ تَوَضّأَ عَلَى طُهْرٍ كَتَبَ الله لَهُ بِهِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ‏"‏‏.‏

قالَ‏:‏ وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الإِفْرِيقِيّ عَنْ أَبِي غُطَيفٍ عَنْ ابن عُمَرَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ حَدّثَنَا بِذَلِكَ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ المَرْوزِيّ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيّ عَنِ الإفْرِيقيّ‏.‏ وَهُوَ إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ‏.‏

قال علي ‏(‏بن الْمَدِينِيّ‏)‏‏:‏ قَالَ يَحْيَى بن سعيدٍ القطّانُ‏:‏ ذُكِرَ لِهِشَامِ بن عُروةَ هَذَا الْحَدِيثُ فقال‏:‏ هَذَا إِسْنَادٌ مَشْرِقيّ‏.‏

‏(‏قالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بن الْحَسَنِ يَقُولُ‏:‏ سَمِعتُ أَحْمَدَ بن حَنْبلٍ يَقُولُ ما رَأَيْتُ بِعَيْنِي مِثْلَ يَحْيَى بن سعيدٍ القطّانّ‏)‏‏.‏

60- حدثنا مُحمّدُ بن بَشّارٍ حَدّثَنَا يَحْيَى بن سعيدٍ، و عَبْدُ الرّحْمَنِ ‏(‏هُوَ‏)‏ ابنُ مَهْدِيّ قالاَ حَدّثَنَا سُفْيانُ بن ‏(‏سَعيدٍ‏)‏ عَنْ عَمْرِو بن عَامِرٍ الأنْصاَرِيّ قال‏:‏ سَمِعْتُ أَنَسَ بن مالِكٍ يَقُول‏:‏ ‏"‏كاَنَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضّأُ عِنْدَ كُلّ صَلاَةٍ‏.‏ قلت‏:‏ فَأَنْتُمْ مَا كُنْتُم تَصْنَعُونَ‏؟‏ قالَ‏:‏ كُنّا نُصَلي الصَلَوَاتِ كُلّهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ‏(‏وَحَدِيثُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ حَدِيثٌ جيّد غَرِيبٌ حَسَنٌ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن حميد الرازي‏)‏ بن حيان الرزي حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأى فيه من العاشرة، روي عن يعقوب بن عبد الله القمي وجرير ابن عبد الحميد وسلمة بن الفضل وغيرهم، وعنه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد ابن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم‏.‏ كذا في التقريب وتهذيب التهذيب، وقال في الخلاصة قال ابن معين ثقة كيس، وقال البخاري فيه نظر وكذبه الكوسج وأبو زرعة وصالح بن محمد وابن خراش مات سنة 248 ثمان وأربعين ومائتين ‏(‏نا سلمة بن الفضل‏)‏ الأبرش بالمعجمة مولى الأنصار قاضي الري صدوق كثير الخطأ من التاسعة، قاله الحافظ، روي عن ابن إسحاق وحجاج بن أرطاة وعنه عثمان بن أبي شيبة وابن معين، ووثقه وقال مرة ليس به بأس يتشيع قال البخاري عنده مناكير وقال أبو حاتم محله الصدق وقال ابن سعد كان ثقة صدوقاً وهو صاحب مغازي ابن إسحاق، وقال النسائي ضعيف كذا في الخلاصة وهامشها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن حميد‏)‏ هو حميد بن أبي حميد الطويل البصري، ثقة مدلس روى عن أنس والحسن وعكرمة، وعنه شعبة ومالك والسفيانان والحمادان وخلق قال القطان مات حميد وهو قائم يصلي، قال شعبة لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثاً، مات سنة 142 ثنتين وأربعين ومائة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان يتوضأ لكل صلاة‏)‏ أي مفروضة ‏(‏كنا نتوضأ وضوء واحداً‏)‏ أي كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث كما في الرواية الاَتية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث أنس حديث حسن غريب‏)‏ تفرد به محمد بن إسحاق وهو مدلس ورواه عن حميد معنعناً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد كان بعض أهل العلم يرى الوضوء لكل صلاة استحباباً لا على الوجوب‏)‏ بل كان أكثر أهل العلم يرون الوضوء لكل صلاة استحباباً لا على الوجوب، قال الطحاوي في شرح الآثار ذهب قوم إلى أن الحاضرين يجب عليهم أن يتوضؤا لكل صلاة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث أي بحديث سليمان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، وخالفهم في ذلك أكثر العلماء فقالوا لا يجب الوضوء إلا من حدث انتهى، وقال الحافظ في الفتح‏:‏ اختلف السلف في معنى قوله تعالى ‏"‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏"‏ الاَية، فقال الأكثرون التقدير إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، واستدل الدارمي في مسنده على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لا وضوء إلا لمن أحدث، ومن العلماء من حمله على ظاهره وقال كان الوضوء لكل صلاة واجباً، ثم اختلفوا أهل نسخ أو استمر حكمه، ويدل على النسخ ما أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث عبد الله بن حنظلة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك، وذهب إلى استمرار الوجوب قوم كما جزم به الطحاوي، ونقله ابن عيد البر عن عكرمة وابن سيرين وغيرهما واستبعده النووي وجنح إلى تأويل ذلك إن ثبت عنهم، وجزمنا بأن الإجماع استقر على عدم الوجوب، ويمكن حمل الاَية على ظاهرها من غير نسخ ويكون الأمر في حق المحدثين على الوجوب وفي حق غيرهم على الندب، وحصل بيان ذلك بالسنة انتهى كلام الحافظ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نا يحيى بن سعيد‏)‏ هو القطان ‏(‏نا سفيان بن سعيد‏)‏ هو الثوري ‏(‏عن عمرو ابن عامر الأنصاري‏)‏ الكوفي ثقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة‏)‏ قال الحافظ أي مفروضة، وظاهره أن تلك كانت عادته، قال الطحاوي يحتمل أن ذلك كان واجباً عليه خاصة ثم نسخ يوم الفتح بحديث بريدة يعني الذي أخرجه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، قال ويحتمل أنه كان يفعله استحباباً ثم خشي أن يظن وجوبه فتركه لبيان الجواز، قال الحافظ وهذا أقرب، وعلى التقدير الأول فالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد بن النعمان فإنه كان في خيبر وهي قبل الفتح بزمان انتهى، قلت وحديث سويد بن النعمان الذي أشار إليه الحافظ أخرجه البخاري وغيره، قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فلما صلى دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بالسويق فأكلنا وشربنا ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب فمضمض ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ ‏(‏قلت فأنتم ما كنتم تصنعون‏)‏ وفي رواية البخاري قلت كيف كنتم تصنعون، والقائل عمرو بن عامر والمراد الصحابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري وغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من توضأ على طهر‏)‏ أي مع كونه طاهراً ‏(‏كتب الله له به عشر حسنات‏)‏ قال ابن رسلان يشبه أن يكون المراد كتب الله له به عشرة وضوءات فإن أقل ما وعد به من الأضعاف الحسنة بعشر أمثالها، وقد وعد بالواحدة سبعمائة ووعد ثواباً بغير حساب، قال في شرح السنة تحديد الوضوء مستحب إذا كان قد صلى بالوضوء الأول صلاة وكرهه قوم إذا لم يصل بالأول صلاة ذكره الطيبي، قال القاري ولعل سبب الكراهة هو الإسراف‏.‏

فائدة‏:‏

قال الحافظ المنذري في الترغيب‏:‏ وأما الحديث الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الوضوء على الوضوء نور على نور فلا يحضرني له أصل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله من كلام بعض السلف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏روى هذا الحديث الإفريقي‏)‏ هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف ‏(‏عن أبي غطيف‏)‏ بالتصغير الهذلي، قال الحافظ مجهول ‏(‏حدثنا بذلك الحسين بن حريث المروزي‏)‏ ثقة من العاشرة ‏(‏حدثنا محمد بن يزيد الواسطي‏)‏ أصله شامي ثقة ثبت عابد من كبار التاسعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو إسناد ضعيف‏)‏ لأن الإفريقي ضعيف وأبا غطيف مجهول والحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه أيضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال علي‏)‏ هو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم أبو الحسن ابن المديني البصري ثقة ثبت إمام أعلم أهل عصره بالحديث وعلله، حتى قال البخاري ما استصغرت نفسي إلا عنده، وقال القطان كنا نستفيد منه أكثر مما يستفيد منا وكذلك قال شيخه ابن عيينة، وقال النسائي كأن النسائي كأن الله خلق عليا لهذا الشأن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا إسناد مشرقي‏)‏ أي رواة هذا الحديث أهل المشرق وهم أهل الكوفة والبصرة كذا في بعض الحواشي‏.‏

45- بابُ مَا جَاءَ أَنّهُ يُصَلّي الصّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِد

61- حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ حدّثنا عَبْدُ الرّحْمَن بنُ مَهْدِيّ عَنْ سَفْيَانَ عَنْ علْقَمَةَ بنِ مَرْثَدٍ عَنْ سْلَيْمانَ بنِ بُرَيْدَةَ عنْ أَبيهِ قالَ‏:‏ ‏"‏كاَنَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتَوَضّأُ لِكُلّ صَلاَةٍ، فَلمّا كاَنَ عامَ الفَتْحِ صَلّى الصّلَوَاتِ كُلّها بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ ومَسَحَ عَلَى خُفّيْهِ فَقالَ عُمَرُ‏:‏ إِنّكَ فَعَلْتَ شَيْئاً لَمْ تَكُنْ فَعَلْتَهُ‏؟‏ قالَ‏:‏ عَمْدًا فَعَلْتُهُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ‏.‏

وروَى هَذَا الْحَدِيثَ علِيّ بنُ قادِمٍ عنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وزَادَ فِيهِ ‏"‏تَوَضّأَ مَرّةً مَرّةً‏"‏‏.‏

‏(‏قالَ‏)‏‏:‏ وَرَوَى سُفْيانُ الثّوْرِيّ هَذَا الْحَدِيثَ أيْضاً عنْ مُحارِبِ بنِ دِثارٍ عَنْ سلَيْمانَ بنِ بُرَيْدَةَ‏:‏ ‏"‏أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوضّأُ لِكُلّ صَلاَةٍ‏"‏‏.‏

ورَواهُ وكِيعٌ عنْ سفْيَانَ عَنْ مُحارِبٍ عَنْ سلَيْمَانَ بنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ‏.‏

قالَ ورَوَاهُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍ وَغَيْرُهُ عَنْ سفْيَانَ عَنْ مُحارِبِ بنِ دِثارٍ عَنْ سلَيْمانَ بنِ بُرَيْدَةَ عَنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسلاً وهَذَا أَصَحّ مَنْ حدِيثِ وكِيعٍ‏.‏

والعَمَلُ عَلَى هَذَا عندَ أهْلِ الْعِلْمِ‏:‏ أَنّهُ يُصَلّي الصّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ واحِدٍ مَا لمْ يُحْدِثْ‏.‏ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَوَضّأُ لِكُلّ صَلاَةٍ‏:‏ اسْتِحْبَابًا وإرادَةَ الْفَضْلِ‏.‏

وَيُرْوَى عَنْ الإفْرِيِقىّ عَنْ أَبِي غُطيْفٍ عَنِ ابن عُمَرَ عَنِ النّبْيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ تَوَضّأَ عَلَى طُهْرٍ كَتَبَ الله لَهُ به عَشْرَ حَسَنَاتٍ‏"‏‏.‏ وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ‏.‏

وفي البابِ عَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ الله‏:‏ ‏"‏أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سفيان‏)‏ هو ابن سعيد الثوري ‏(‏عن علقمة بن مرثد‏)‏ بفتح الميم والثاء وسكون الراء بينهما وثقة أحمد والنسائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عمداً صنعته‏)‏ أي لبيان الجواز، قال القاري في المرقاة شرح المشكاة الضمير راجع للمذكور وهو جمع الصلوات الخمس بوضوء واحد والمسح على الخفين، وعمداً تمييزاً أو حال من الفاعل‏.‏ فقدم اهتماماً بشرعية المسألتين في الدين واختصاصهما رداً لزعم من لا يرى المسح على الخفين، وفيه دليل على أن من يقدر أن يصلي صلوات كثيرة بوضوء واحد لا تكره صلاته إلا أن يغلب عليه الأخبثان كذا ذكره الشراح، لكن رجوع الضمير إلى مجموع الأمرين يوهم أنه لم يكن يمسح على الخفين قبل الفتح والحال أنه ليس كذلك، فالوجه أن يكون الضمير راجعاً إلى الجمع فقط أي جمع الصلوات بوضوء واحد انتهى كلامه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وروى هذا الحديث علي بن قادم‏)‏ الخزاعي الكوفي صدوق ‏(‏وروى سفيان الثوري هذا الحديث أيضاً عن محارب بن دثار‏)‏ أي كما رواه عن علقمة بن مرثد، فهذا الحديث عند سفيان عن شيخين‏:‏ علقمة بن مرثد ومحارب بن دثار كلاهما عن سليمان بن بريدة ‏(‏مرسل‏)‏ أي هذا مرسل، وفي نسخة قلمية صحيحة مرسلاً وهو الظاهر ‏(‏وهذا أصح من حديث وكيع‏)‏ أي هذا المرسل الذي رواه عبد الرحمن بن مهدي وغيره عن سفيان عن محارب بن دثار عن سليمان بن بريدة بدون ذكر عن أبيه أصح من حديث وكيع الذي رواه عن سفيان عن محارب مسنداً بذكر عن أبيه، ووجه كون المرسل أصح لأن رواته أكثر، والمرسل قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا، والمسند ما اتصل سنده مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تنبيه‏:‏

اعلم أن سفيان روى هذا الحديث عن شيخين علقمة بن مرثد ومحارب بن دثار واختلاف أصحاب سفيان في روايته مرسلاً ومسنداً إنما هو في روايته عن محارب لا في روايته عن علقمة فإن أصحابه لا يختلفون في روايته عن علقمة في الإسناد والإرسال بل كلهم متفقون في روايته مسنداً، وهذا ظاهر على من وقف على طرق الحديث، ولم يقف على هذا صاحب الطيب الشذي فاعترض على الترمذي حيث قال‏:‏ ولعل الحق خلافه، ثم هذا المعترض يظن أن بين الإرسال والرفع منافاة فإنه قال في شرح قول الترمذي وهذا أصح من حديث وكيع أي رواية الإرسال أصح من رواية الرفع، وجه الصحة كون المرسلين أكثر ممن رفعه انتهى، والأمر ليس كذلك، وهذا ظاهر فإن رواية الإرسال أيضاً مرفوعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والعمل على هذا عند أهل العلم إلخ‏)‏ قال النووي في شرح صحيح مسلم في هذا الحديث أنواع من العلم‏:‏ منها جواز الصلوات المفروضات والنوافل بوضوء واحد ما لم يحدث وهذا جائز بإجماع من يعتد به، وحكى الطحاوي وابن بطال عن طائفة أنهم قالوا يجب الوضوء لكل صلاة وإن كان متطهراً، واحتجوا بقول الله تعالى ‏"‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏"‏ الاَية، وما أظن هذا المذهب يصح عن أحد، ولعلهم أرادوا استحباب تجديد الوضوء عند كل صلاة، ودليل الجمهور الأحاديث الصحيحة منها هذا الحديث وحديث أنس وحديث سويد بن النعمان، وفي معناه أحاديث كثيرة وأما الاَية الكريمة فالمراد بها والله أعلم‏:‏ إذا قمتم محدثين انتهى كلام النووي مختصراً، وقال الحافظ في الفتح‏:‏ اختلف السلف في معنى الاَية‏:‏ فقال الأكثرون التقدير إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وقال الاَخرون بل الأمر على عمومه من غير تقدير حذف إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب وفي حق غيره على الندب، وقال بعضهم كان على الإيجاب ثم نسخ فصار مندوباً، ويدل لهذا ما رواه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن حنظلة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث، ولمسلم من حديث بريدة كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر أنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله فقال عمداً فعلته، أي لبيان الجواز وسيأتي حديث أنس في ذلك انتهى كلام الحافظ، قلت ‏(‏وإرادة الفضل‏)‏ بالنصب عطف على استحباباً أي وطلباً للفضيلة والثواب لا على الوجوب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن جابر بن عبد الله‏)‏ أخرجه ابن ماجه‏.‏

46- باب ‏(‏مَا جَاءَ‏)‏ فِي وُضُوءِ الرّجُل وَالمَرْأَةِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِد

62- حَدثَنَا ابْنُ أَبي عُمَرَ حَدّثَنَا سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دينارٍ عَنْ أَبي الشّعثاءِ عَنْ ابن عَبّاسٍ قال‏:‏ حَدّثَتْنِى مَيْمُونَةُ قالَتْ‏:‏ ‏"‏كُنْتُ أْغْتَسلُ أَنا وَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ إِناءٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَنابَةِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ‏.‏

وهُوَ قَوْلُ عَامّةِ الْفُقَهاءِ‏:‏ أنْ لاَ بَأْسَ أَنْ يَغْتَسِلَ الرّجُلُ والْمَرْأةُ مِنْ إناءٍ وَاحِدٍ‏.‏

‏(‏قالَ‏)‏‏:‏ وفي البابِ عَنْ عَليّ، وعَائِشَةَ، وَأنَسٍ، وأُمّ هانِئٍ، وأُمّ صُبيّةَ ‏(‏الجُهَنِيّةِ‏)‏، وأُمّ سَلَمَةَ، وابنِ عُمَرَ‏.‏

‏(‏قال أبو عيسى‏)‏‏:‏ وأبُو الشّعثَاءِ اسْمُهُ ‏(‏جَابِرُ بنُ زَيْدٍ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عمرو بن دينار‏)‏ المكي أبي محمد الأثرم الجمحي مولاهم ثقة ثبت من الرابعة ‏(‏عن أبي الشعثاء‏)‏ اسمه جابر بن زيد الأزدي ثم الخزاعي البصري مشهور بكنيته، ثقة فقيه من الثالثة كذا في التقريب، وقال في الخلاصة روى عن ابن عباس فأكثر ومعاوية وابن عمرو عنه عمرو بن دينار وقتادة وخلق قال ابن عباس هو من العلماء انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وضوء الرجل‏)‏ بضم الواو لأن المراد الفعل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ يحتمل أن يكون مفعولاً معه يحتمل أن يكون عطفاً على الضمير، وهو من باب تغليب المتكلم على الغائب لكونها هي السبب في الإغتسال فكأنها أصل في الباب، قاله الحافظ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري ومسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو قول عامة الفقهاء إلخ‏)‏ قال النووي في شرح مسلم‏:‏ وأما تطهير الرجل والمرأة من إناء واحد فهو جائز بإجماع المسلمين لهذه الأحاديث التي في الباب انتهى، وقال الحافظ في الفتح‏:‏ نقل الطحاوي ثم القرطبي والنووي الإتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد، وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهي عنه وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم، وهذا الحديث حجة عليهم انتهى‏.‏ وتعقب العيني على الحافظ فقال في نظره نطر لأنهم قالوا بالإتفاق دون الإجماع فهذا القائل لم يعرف الفرق بين الإتفاق والإجماع انتهى كلام العيني، قلت قال النووي هو جائز بإجماع المسلمين كما عرفت فنظر الحافظ صحيح بلا مرية ونظر العيني مردود عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن علي وعائشة وأنس وأم هانيء وأم صبية وأم سلمة وابن عمر‏)‏ أما حديث علي فأخرجه أحمد، وأما حديث عائشة وأنس فأخرجه البخاري وغير، وأما حديث أم هانيء فأخرجه النسائي، وأما حديث أم صبية بصاد مهملة وموحدة مصغراً فأخرجه أبو داود والطحاوي، وأما حديث أم سلمة فأخرجه ابن ماجه والطحاوي، وأما حديث ابن عمر فأخرجه مالك في الموطأ والنسائي وابن ماجه‏.‏

47- بابُ ‏(‏مَا جَاء‏)‏ فِي كَرَاهِيَةِ فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَة

63- حَدّثَنَا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ قالَ حَدّثَنَا وكِيعٌ عَنْ سُفْيانَ عَنْ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ عَنْ أبِي حَاجِبٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غفار قَالَ‏:‏ نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ فَضْلِ طَهُورِ المَرْأَةِ‏.‏

قال‏:‏ وفي البابِ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سَرْجِسٍ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وكَرِهَ بعضُ الفُقَهاءِ الوُضُوءَ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأةِ وهُو قَولُ أحْمَدَ وإِسْحَاقُ‏:‏ كَرِهَا فَضْلَ طَهُورِهَا، ولَمْ يَرَيَا بَفضْلِ سُؤْرِهَا بَأْساً‏.‏

64- حدثنا مُحمّدُ بن بَشّارٍ و مَحْمُودُ بن غَيْلانَ قالاَ حدثنا أبو دَاوُد عن شُعبَةَ عن عَاصِمٍ قال سَمِعْتُ أبا حَاجِبٍ يُحَدّثُ عنِ الْحَكَم بن عَمْرٍو الغِفارِيّ ‏"‏أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ يَتَوَضّأَ الرّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ المَرْأةِ‏"‏ أوْ قال‏:‏ بِسُؤْرِها‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ‏.‏ وأبو حَاجِبٍ اسْمهُ ‏(‏سَوَادَةُ بنُ عَاصِمٍ‏)‏‏.‏

وقال مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ في حَديثِهِ‏:‏ ‏"‏نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَتَوَضّأَ الرّجلُ بفَضْلِ طَهورِ المَرْأةِ‏"‏‏.‏ ولَمْ يَشُكّ فِيهِ مُحمّدُ ابنُ بَشّارٍ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سفيان‏)‏ هو الثوري ‏(‏عن سليمان التيمي‏)‏ هو ابن طرخان أبو المعتمر البصري نزل في التيم فنسب إليهم، ثقة عابد من الرابعة ‏(‏عن أبي حاجب‏)‏ اسمه سودة بن عاصم العنزي البصري، صدوق يقال إن مسلماً أخرج له من الثالثة ‏(‏عن رجل من بني غفار‏)‏ هو الحكم بن عمرو قاله الحافظ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن فضل طهور المرأة‏)‏ أي عما فضل من الماء بعد ما توضأت المرأة منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن عبد الله بن سرجس‏)‏ بفتح المهملة وسكون الراء وكسر الجيم بعدها مهملة، صحابي سكن البصرة وحديثه أخرجه ابن ماجه بلفظ‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة والمرأة بفضل الرجل ولكن يشرعان جميعاً‏.‏ قال ابن ماجه بعد إخراجه ما لفظه‏:‏ الصحيح هو الأول والثاني وهم انتهى‏.‏ قلت أراد بالأول حديث الحكم بن عمرو الاَتي فإنه أخرجه قبل حديث عبد الله بن سرجس وأراد بالثاني حديث عبد الله بن سرجس، وفي الباب ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق حميد بن عبد الرحمن الحميري، قال لقيت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل ويغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً، قال في الفتح‏:‏ رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية انتهى، وقال في البلوغ إسناده صحيح، قال أحمد قيده بما إذا خلت به، لأن أحاديث الباب ظاهرة في الجواز إذا اجتمعا، ونقل الميموني عن أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة قال لكن صح عن عدة من الصحابة المنعم فيما إذا خلت به، وعورض بصحة الجواز عن جماعة من الصحابة منهم ابن عباس والله أعلم انتهى‏.‏ اعلم أن لأحمد في هذه المسألة قولين أحدهما هذا الذي ذكره الترمذي وهو المشهور، والثاني كقول الجمهور قال ابن قدامة في المغنى اختلفت الرواية عن أحمد والمشهور عنه أنه لا يجوز ذلك إذا خلت به، والثانية يجوز الوضوء به للرجال والنساء اختارها ابن عقيل وهو قول أكثر أهل العلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكره بعض أهل العلم الوضوء بفضل المرأة وهو قول أحمد وإسحاق إلخ‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ صح عن عبد الله بن سرجس الصحابي وسعيد بن المسيب والحسن البصري أنهم منعوا التطهر بفضل المرأة وبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال نا أبو داود‏)‏ هو الطيالسي ففي رواية أبي داود حدثنا ابن بشار قال حدثنا أبو داود يعني الطيالسي وأبو داود الطيالسي اسمه سليمان بن داود بن الجارود البصري أحد حفاظ الإسلام والطيالسي بفتح الطاء وخفة التحتية وكسر اللام منسوب إلى بيع الطيالسة جمع طيلسان وهو نوع من الأردية ‏(‏عن عاصم‏)‏ هو ابن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن البصري، وثقه ابن معين وأبو زرعة وقال أحمد ثقة من الحفاظ ‏(‏عن الحكم‏)‏ بفتح الحاء والكاف ‏(‏بن عمرو الغفاري‏)‏ ويقال له الحكم ابن الأقرع صحابي نزل البصرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نهى عن أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة‏)‏ قيل النهي محمول على التنزيه بقرينة أحاديث الجواز الاَتية في الباب الاَتي ‏(‏أو قال‏)‏ وقال بسؤرها شك من شعبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن‏)‏ قال الحافظ في الفتح حديث الحكم بن عمرو وأخرجه أصحاب السنن وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وأغرب النووي فقال اتفق الحفاظ على تضعيفه‏.‏

48- بَابُ ‏(‏مَا جَاءَ‏)‏ فِي الرّخْصَةِ فِي ذَلِك

65- حدثنا قُتَيْبةُ حدثَنا أبو الأحْوَصِ عنْ سِمَاكِ بن حَرْبٍ عنْ عِكْرِمةَ عنِ ابن عبّاسٍ قال‏:‏ ‏"‏اغْتَسَلَ بَعْضُ أزْواجِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جَفْنَةٍ، فأَرادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَتَوَضأَ مِنْهُ، فقالتْ‏:‏ يَا رسولَ الله، إني كُنْتُ جُنُباً، فقال‏:‏ إنّ المَاء لاَ يُجْنِبُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ‏.‏

وهُوَ قَوْلُ سفْيانَ الثوْرِيّ ومَالِكٍ والشّافِعيّ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نا أبو الأحوص‏)‏ اسمه سلام بن سليم الكوفي الحافظ، قال ابن معين ثقة متقن ‏(‏عن عكرمة‏)‏ هو عكرمة بن عبد الله مولى ابن عباس أصله بربري ثقة ثبت عالم بالتفسير لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولا يثبت عنه بدعة كذا في التقريب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هي ميمونة رضي الله عنها لما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس عن ميمونة قالت‏:‏ أجنبت فاغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منه فقلت له فقال الماء ليس عليه جنابة واغتسل منه ‏(‏في جفنة‏)‏ بفتح الجيم وسكون الفاء أي قصعة كبيرة وجمعة جفان ‏(‏إني كنت جنباً‏)‏ يضم الجيم والنون والجنابة معروفة يقال منها أجنب بالألف وجنب على وزن قرب فهو جنب ويطلق على الذكر والأنثى والمفرد والتثنية والجمع ‏(‏إن الماء لا يجنب‏)‏ بضم الياء وكسر النون ويجوز فتح الياء وضم النون‏.‏ قال الزعفراني أي لا يصير جنباً كذا في المرقاة، وحديث ابن عباس هذا يدل على جواز التطهر بفضل المرأة وحديث الحكم بن عمرو الغفاري الذي تقدم في الباب المتقدم يدل على النهي عن ذلك، وقد جمع بينهما بأن النهي محمول على ما تساقط من الأعضاء لكونه قد صار مستعملاً والجواز على ما بقي من الماء وبذلك جمع الخطابي، وبأن النهي محمول على التنزيه بقرينة أحاديث الجواز قيل إن قول بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إني كنت جنباً عند إرادته صلى الله عليه وسلم التوضؤ بفضلها يدل على أن النهي كان متقدماً فحديث الجواز ناسخ لحديث النهي والله تعالى أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وقال الحافظ في البلوغ‏:‏ وصححه ابن خزيمة وقال في الفتح وقد أعله قوم بسِمَاك بن حرب رواية عن عكرمة لأنه كان يقبل التلقين لكن قد رواه عنه شعبه وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم انتهى‏.‏

وأخرج أحمد ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة، وأخرج أحمد وابن ماجه عن ابن عباس عن ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي‏)‏ قال النووي في شرح مسلم وأما تطهير الرجل بفضلها فهو جائز عندنا وعند مالك وأبي حنيفة وجماهير العلماء سواء خلت به أو لم تخل قال بعض أصحابنا ولا كراهة في ذلك للأحاديث الصحيحة الواردة به، وذهب أحمد بن حنبل وداود إلى أنها إذا خلت بالماء واستعملته لا يجوز للرجل استعمال فضلها، وروى عن أحمد كمذهبنا وروى عن الحسن وسعيد بن المسيب كراهة فضلها مطلقاً والمختار ما قاله الجماهير لهذه الأحاديث الصحيحة في تطهيره صلى الله عليه وسلم مع أزواجه وكل واحد منهما يستعمل فضل صاحبه، ولا تأثير للخلوة انتهى‏.‏

قلت هذا الإختلاف في تطهير الرجل بفضل المرأة وأما تطهير المرأة بفضل الرجل فقال النووي جائز بالإجماع، وتعقبه الحافظ بأن الطحاوي قد أثبت فيه الخلاف، واعلم أن الإمام أحمد ومن تبعه حملوا حديث ميمونة على أنها لم تخل به قال ابن تيمية في المنتقى أكثر أهل العلم على الرخصة للرجل من فضل طهور المرأة والإخبار بذلك أصح وكرهه أحمد وإسحاق إذا خلت به وهو قول عبد الله بن سرجس، وحملوا حديث ميمونة على أنها لم تخل به جمعاً بينه وبين حديث الحكم انتهى‏.‏

قلت‏:‏ في هذا الحمل نظر فإن الخلوة عند الإمام أحمد كما في المغنى لابن قدامة استعمالها للماء من غير مشاركة الرجل في استعماله لأن أحمد قال إذا خلت به فلا يعجبني أن يغتسل به وإذا شرعا فيه جميعاً فلا بأس به، وظاهر أن ميمونة رضي الله عنها خلت به كيف هو وقد قالت أجنبت فاغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلخ كما في رواية الدارقطني، فكيف يصح حمل حديث ميمونة على أنها لم تخل به وأما ما نقل الميموني عن أحمد من أنه قال الأحاديث من الطرفين مضطربة فأجاب عنه الحافظ بأنه إنما يصار إليه عند تعذر الجمع، وهو ممكن بأن يحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء والجواز على ما بقي من الماء أو يحمل النهي على التنزيه جمعاً بين الأدلة انتهى‏.‏

قلت‏:‏ حمل النهي على التنزيه هو أولى والله تعالى أعلم‏.‏

49- بابُ مَا جَاءَ أَنّ الْمَاءَ لاَ يُنَجّسُهُ شَيْء

66- حدثَنا هَنّادٌ و الحسَنُ بن علِيّ الخَلاّلُ وغَيْرُ واحِدٍ قالوا‏:‏ حدثنا أبو أُسامَةَ عن الْوَليدِ بنِ كَثِيرٍ عن مُحَمّدِ بن كَعْبٍ عن عُبَيْدِ الله بن عَبْدِ الله بن رَافعِ بن خَدِيجٍ عنْ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيّ قال ‏"‏قيلَ‏:‏ يا رسول الله، أنَتوَضّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعةَ، وهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فيها الْحِيَضُ ولُحُومُ الْكِلاَبِ والنّتْنُ‏؟‏ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنّ المَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجّسُهُ شَيْءٌ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حَسَنٌ، وقَدْ جَوّدَ أبو أُسامَةَ هذا الْحَديثَ، فَلمْ يَرْوِ أحَدٌ حديثَ أبي سعيدٍ في بَئْرَ بُضَاعةَ أحْسَنَ مِمّا رَوَى أبو أُسامَةَ‏.‏ وقَدْ رُوِىَ هذا الحديثُ مِنْ غَيْرِ وجْهٍ عنْ أبي سعيدٍ‏.‏

وفي البابِ عنِ ابن عبّاسٍ وعَائِشَةَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والحسن بن علي الخلال‏)‏ الحلواني الريحاني المكي روى عن عبد الرزاق ووكيع وعبد الصمد وخلق وعنه الأئمة الستة، كان ثقة ثبتاً متقناً توفي بمكة سنة 242 اثنتين وأربعين ومائتين ‏(‏نا أبو أسامة‏)‏ هو حماد بن أسامة القرشي مولاهم الكوفي، مشهور بكنيته، ثقة ثبت ربما دلس وكان بآخره يحدث من كتب غيره، من كبار التاسعة مات سنة 201 إحدى ومائتين وهو ابن ثمانين ‏(‏عن الوليد بن كثير‏)‏ المدني ثم الكوفي وثقة ابن معين وأبو داود ‏(‏عن محمد بن كعب‏)‏ بن سليم بن أسد القرظي المدني، وكان قد نزل الكوفة مدة، ثقة عالم من الثالثة ولد سنة 40 أربعين على الصحيح، ووهم من قال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كذا في التقريب‏.‏

‏(‏عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج‏)‏ قال الحافظ في التقريب‏:‏ عبيد الله ابن عبد الله بن رافع بن خديج يأتي في عبيد الله بن عبد الرحمن، ثم قال فيه‏:‏ عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري ويقال ابن عبد الله هو راوي حديث بئر بضاعة، مستور من الرابعة انتهى‏.‏

قلت‏:‏ فالحق أنه ليس بمستور كما ستعرف ‏(‏عن أبي سعيد الخدري‏)‏ بضم الخاء المعجمة اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري له ولأبيه صحبة استصغر بأحد ثم شهد ما بعدها، وروى الكثير مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين كذا في التقريب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قيل يا رسول الله أنتوضأ‏)‏ كذا في النسخ الحاضرة بالنون والتاء بصيغة المتكلم مع الغير، وقال الحافظ في التلخيص‏:‏ قوله أنتوضأ بتائين خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم انتهى‏.‏

قلت والظاهر هو ما قال الحافظ، ففي رواية قاسم بن أصبغ في مصنفه‏:‏ قالوا يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة‏.‏ الحديث ‏(‏من بئر بضاعة‏)‏ بضم الباء الموحدة وأجيز كسرها وبالضاد المعجمة وحكى بالصاد المهملة وهي بئر معروفة بالمدينة قاله ابن الملك، وقال الطيبي نقلاً عن التوربشتي بضاعة دار بني ساعدة بالمدينة وهم بطن من الخزرج وأهل اللفة يضمون الباء ويكسرونها والمحفوظ في الحديث الضم ‏(‏وهي بئر يلقى فيها الحيض‏)‏ بكسر الحاء المهملة وفتح التحتية جمع حيضة بكسر الحاء وسكون التحتية وهي الخرقة التي تستعمل في دم الحيض ‏(‏ولحوم الكلاب والنتن‏)‏ بفتح النون وسكون التاء وتكسر وهي الرائحة الكريهة، والمراد ههنا الشيء النتن كالعذرة والجيفة‏.‏

قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود وينبغي أن يضبط بفتح النون وكسر التاء وهو الشيء الذي له رائحة كريهة من قولهم نتن الشيء بكسر التاء ينتن بفتحها فهو نتن انتهى‏.‏

قال الطيبي معنى قوله يلقي فيها أن البئر كانت بمسيل من بعض الأدوية التي يحتمل أن ينزل فيها أهل البادية فتلقي تلك القاذورات بأفنية منازلهم فيكسحها السيل فيلقيها في البئر فعبر عنه القائل بوجه يوهم أن الإلقاء من الناس لقلة تدينهم، وهذا مما لا يجوزه مسلم، فأنى يظن ذلك بالذين هم أفضل القرون وأزكاهم‏.‏ انتهى‏.‏

قلت كذلك قال غير واحد من أهل العلم وهو الظاهر المتعين ‏(‏إن الماء طهور‏)‏ أي طاهر مطهر، قال القاري في المرقاة قيل الألف واللام للعهد الخارجي، فتأويله إن الماء الذي تسألون عنه وهو ماء بئر بضاعة فالجواب مطابقى لا عموم كلي كما قاله الإمام مالك انتهى‏.‏

وإن كان الألف واللام للجنس فالحديث مخصوص بالإتفاق كما ستقف ‏(‏لا ينجسه شيء‏)‏ لكثرته فإن بئر بضاعة كان بئراً كثيراً الماء يكون ماؤها أضعاف قلتين لا يتغير بوقوع هذه الأشياء، والماء الكثير لا ينجسه شيء ما لم يتغير‏.‏

قال العلامة الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء معناه المعادن لا تنجس بملاقاة النجاسة إذا أخرجت ورميت ولم يتغير أحد أوصافه ولم تفحش، وهل يمكن أن يظن ببئر بضاعة أنها كانت تستقر فيها النجاسات كيف وقد جرت عادة بني آدم بالاجتناب عما هذا شأنه فكيف يستقي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت تقع فيها النجاسات من غير أن يقصد إلقاؤها كما تشاهد من آبار زماننا ثم تخرج تلك النجاسات، فلما جاء الإسلام سألوا عن الطهارة الشرعية الزائدة على ما عندهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء، يعني لا ينجس نجاسة غير ما عندكم انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن وقد جود أبو أسامة هذا الحديث‏)‏ أي رواه بسند جيد وصححه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو محمد بن حزم قاله الحافظ في التلخيص وزاد في البدر المنير والحاكم وآخرون من الأئمة الحفاظ‏.‏

فإن قلت‏:‏ في سند هذا الحديث عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج وهو مستور كما قال الحافظ في التقريب، فكيف يكون هذا الحديث صحيحاً أو حسناً‏.‏

قلت‏:‏ صحح هذا الحديث أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وهما إماماً الجرح والتعديل، وأيضاً صحح هذا الحديث الحاكم وغيره، وذكر ابن حبان عبيد الله هذا في الثقات، فثبت أنه لم يكن عند هؤلاء الأئمة مستوراً والعبرة لقول من عرف لا بقول من جهل‏.‏

فإن قلت‏:‏ قال ابن القطان في كتابه الوهم والإبهام‏:‏ إن في إسناده اختلافاً فقوم يقولون عبيد الله بن عبد الله بن رافع وقوم يقولون عبد الله بن عبد الله بن رافع، ومنهم من يقول عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، ومنهم من يقول عبد الله، ومنهم من يقول عن عبد الرحمن بن رافع فيحصل فيه خمسة أقوال وكيف ما كان فهو لا يعرف له حال ولا عين كذا في تخريج الهداية للزيلعي‏.‏

وقال الحافظ في التلخيص‏:‏ وأعله ابن القطان بجهالة راوية عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه‏.‏

قلت‏:‏ أما إعلاله بجهالة الراوي عن أبي سعيد فليس بشيء فإنه إن جهله ابن القطان فقد عرفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما، وأما إعلاله باختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه فهو أيضاً ليس بشيء لأن اختلاف الرواة في السند أو المتن لا يوجب الضعف إلا بشرط استواء وجوه الإختلاف، فمتى رجح أحد الأقوال قدم ولا يعل الصحيح بالمرجوح، وههنا وجوه الإختلاف ليست بمستوية بل رواية الترمذي وغيره التي وقع فيها عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج راجحة، وباقي الروايات مرجوحة، فإن مدار تلك الروايات على محمد بن إسحاق وهو مضطرب فيها، وتلك الروايات مذكورة في سنن الدراقطني، فهذه الرواية الراجحة تقدم على تلك الروايات المرجوحة ولا تعل هذه بتلك‏.‏

‏(‏وفي الباب عن ابن عباس وعائشة‏)‏ أما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان بلفظ‏:‏ إن الماء لا ينجسه شيء ورواه أصحاب السنن بلفظ‏:‏ إن الماء لا يجنب وفيه قصة‏.‏

وقال الحازمي لا يعرف مجوداً إلا من حديث سِمَاك بن حرب عن عكرمة، وسِمَاك مختلف فيه وقد احتج به مسلم كذا في التلخيص‏.‏

وأما حديث عائشة فأخرجه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى والبزار وأبو علي بن السكن في صحاحه من حديث شريك بلفظ إن الماء لا ينجسه شيء، ورواه أحمد من طريق أخرى صحيحة لكنه موقوف كذا في التلخيص‏.‏

قلت‏:‏ وفي الباب أيضاً عن جابر بلفظ إن الماء لا ينجسه شيء، وفيه قصة أخرجه ابن ماجه وفي إسناده أبو سفيان طريف بن شهاب وهو ضعيف متروك، وقد اختلف فيه على شريك الراوي عنه‏.‏

وههنا فوائد متعلقة بحديث الباب فلنا أن نذكرها‏.‏

الفائدة الأولى‏:‏ اعلم أن بئر بضاعة كانت بئر معروفة بالمدينة ولم تكن غديراً أو طريقاً للماء إلى البساتين والدليل على ذلك أنها لو كانت غديراً أو طريقاً للماء إلى البساتين لم تسم بئراً قال في القاموس‏.‏ بئر بضاعة بالضم وقد يكسر بالمدينة، قطر رأسها ستة أذرع انتهى‏.‏

وقال في النهاية‏:‏ هي بئر معروفة بالمدينة انتهى‏.‏

وقال أبو داود في سننه سمعت قتيبة بن سعيد قال سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها قال أكثر ما يكون الماء إلى العانة، قلت فإذا نقصت قال دون العورة، قال أبو داود وقدرت أنا بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه هل غير بناؤها قال لا ورأيت فيها ماء متغير اللون انتهى‏.‏

وأما قول صاحب الهداية إن ماء بئر بضاعة كان جارياً بين البساتين وكذا زعم الطحاوي أن بئر بضاعة كانت طريقاً للماء إلى البساتين فغلط لا دليل عليه‏.‏

قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية‏:‏ وقول صاحب الكتاب إن ماءها كان جارياً إلى البساتين هذا رواه الطحاوي في شرح الآثار عن الواقدي، فقال أخبرنا أبو جعفر محمد بن أبي أحمد بن أبي عمران عن أبي عبد الله محمد بن شجاع الثلجي عن الواقدي قال كانت بئر بضاعة طريقاً للماء إلى البساتين انتهى‏.‏

وهذا سند ضعيف مرسل ومدلوله على جريانه غير ظاهر‏.‏

قال البيهقي في المعرفة‏:‏ وزعم الطحاوي أن بئر بضاعة كان ماؤها جارياً لا يستقر وأنها كانت طريقاً إلى البساتين ونقل ذلك عن الواقدي والواقدي لا يحتج بما يسند فضلاً عما يرسله‏.‏ وحال بئر بضاعة مشهور بين أهل الحجاز بخلاف ما حكاه انتهى ما في نصب الراية- وقال الحافظ ابن حجر في الدراية‏.‏ وأما قوله إن ماء بئر بضاعة كان جارياً بين البساتين فهو كلام مردود على من قاله وقد سبق إلى دعوى ذلك وجزم به الطحاوي، فأخرج عن أبي جعفر بن أبي عمران عن محمد بن شجاع الثلجي عن الواقدي قال‏:‏ كانت بئر بضاعة طريقاً للماء إلى البساتين وهذا إسنادواه جداً، ولو صح لم يثبت به المراد لاحتمال أن يكون المراد أن الماء كان ينقل منها بالسانية إلى البساتين ولو كانت سيحاً جارياً لم تسم بئراً انتهى كلام الحافظ‏.‏

قلت‏:‏ العجب من الطحاوي أنه أسنده من طريق محمد بن شجاع الثلجي عن الواقدي وجزم به، محمد بن شجاع الثلجي كذاب، قال الذهبي في الميزان‏:‏ محمد بن شجاع الثلجي الفقيه البغدادي أبو عبد الله صاحب التصانيف، قال ابن عدي كان يضع الحديث في التشبيه وينسبها إلى أهل الحديث يثلبهم بذلك، قال الذهبي جاء من غير وجه أنه كان ينال من أحمد وأصحابه يقول أيش قام به أحمد، وقال زكريا الساجي محمد بن شجاع كذاب احتال في إبطال الحديث نصرة للرأي انتهى كلام الحافظ الذهبي‏.‏

والواقدي متروك قد استقر الإجماع على وهنه، ومع هذا لم يدرك عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عصر الصحابة رضي الله عنهم فإنه مات سنة سبع ومائتين ولم يذكر من أخذ هذا عنه فكيف يعبأ بقوله هذا‏.‏

ثم قول الواقدي هذا معارض بقوله الاَخر فحكى البلاذري في تاريخه عن الواقدي أنه قال تكون بئر بضاعة سبعاً في سبع وعيونها كثيرة فهي لا تنزح انتهى‏.‏

الفائدة الثانية‏:‏ حديث الباب قد استدل به الظاهرية على ما ذهبوا إليه من أن الماء لا يتنجس مطلقاً وأن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بوقوع النجاسة فيه‏.‏ وأما غيرهم فكلهم خصصوه أما المالكية فبحديث أبي أمامة مرفوعاً‏:‏ إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه أخرجه ابن ماجه‏.‏ ومذهبهم أن الماء لا يتنجس إلا ما تغير لونه أو طعمه أو ريحه، وأما الشافعية فبحديث القلتين وهو حديث صحيح كما ستعرف، ومذهبهم أن الماء إن كان قلتين لا يتنجس إلا أن تغير ريحه أو طعمه أو لونه وإن كان دون القلتين يتنجس وإن لم يتغير أحد أوصافه، وأما الحنفية فبالرأي، ولهم في هذا الباب أثنا عشر مذهباً‏:‏ الأول التحديد بالتحريك، قال الإمام محمد في موطئه ص 66 إذا كان الحوض عظيماً إن حركت منه ناحية لم تتحرك به الناحية الأخرى لم يفسد ذلك الماء ما ولغ فيه سبع ولا ما وقع فيه من قذر إلا أن يغلب على ريح أو طعم، فإذا كان حوضاً صغيراً إن حركت منه ناحية تحركت الناحية الأخرى فولغ فيه السباع أو وقع فيه القذر لا يتوضأ منه، قال وهذا كله قول أبي حنيفة انتهى كلامه‏.‏

قلت‏:‏ وهو مذهب أصحابه القدماء- والثاني التحديد بالكدرة- والثالث التحديد بالصبغ- والرابع التحديد بالسبع في السبع- والخامس التحديد بالثمانية في الثمانية- والسادس عشرين في عشرين- والسابع العشر في العشر، وهو مذهب جمهور الحنفية المتأخرين، والثامن خمسة عشر في خمسة عشر، والتاسع اثنا عشر في اثنا عشر، قال صاحب التعليق الممجد بعد ذكر مذهب الظاهرية‏:‏ ومذهب المالكية ومذهب الشافعية وهذه المذاهب الأثنى عشر للحنفية ما لفظه‏:‏ ولقد خضت في بحار هذه المباحث وطالعت لتحقيقها كتب أصحابنا يعني الحنفية وكتب غيرهم المعتمدة فوضح لنا ما هو الأرجح منها وهو الثاني، يعني مذهب المالكية، ثم الثالث يعني مذهب الشافعية، ثم الرابع وهو مذهب قدماء أصحابنا وأئمتنا، والباقية مذاهب ضعيفة انتهى كلامه‏.‏

قلت‏:‏ والمذهب الرابع أعني مذهب قدماء الحنفية أيضاً ضعيف لم يقم عليه دليل صحيح‏.‏ فإن قلت‏:‏ قد احتج الإمام محمد على هذا المذهب بما رواه بإسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع فقال عمر بن الخطاب يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا- قال الحنفية إن غرض عمر من قوله لا تخبرنا أنك لو أخبرتنا لضاق الحال فلا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا ولا يضرنا ورودها عند عدم علمنا ولا يلزمنا الاستفسار من ذلك‏.‏ ولو كان سؤر السباع طاهراً لما منع صاحب الحوض عن الإخبار لأن إخباره لا يضر، قالوا والحوض كان صغيراً يتنجس بملاقاة النجاسة وإلا فلو كان كبيراً لما سأل فكيف قلتم إن المذهب الرابع لم يقم عليه دليل صحيح‏.‏

قلت‏:‏ يحتمل أن يكون غرض عمر من قوله لا تخبرنا أن كل ذلك عندنا سواء أخبرتنا أو لم تخبرنا فلا حاجة إلى إخبارك، وعلى هذا حمل المالكية والشافعية قوله لا تخبرنا لم يقم وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ثم هذا الاستدلال موقوف على نجاسة سئور السباع وهي ليست بمتفق عليها بل المالكية والشافعية قائلون بطهارته‏.‏ وقد ورد بذلك بعض الأحاديث المرفوعة‏.‏

قال ابن الأثير في جامع الأصول‏:‏ زاد رزين قال زاد بعض الرواة في قول عمر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لها ما أخذت في بطونها وما بقي فهو لنا طهور وشراب انتهى‏.‏

وروى ابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة منها فقال‏:‏ لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور‏.‏

وروى الدارقطني في سننه عن جابر قيل يا رسول الله انتوضأ بما أفضلت الحمر‏؟‏ قال‏:‏ نعم وبما أفضلت السباع، وهذه الأحاديث تؤيد ما قال المالكية والشافعية من أن غرض عمر من قوله لا تخبرنا أن كل ذلك عندنا سواء أخبرتنا أو لم تخبرنا فلا حاجة إلى إخبارك فتفكر‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الاستدلال بقول عمر المذكور على المذهب الرابع ليس بمستقيم، على أنه ليس فيه ما يدل على ما في المذهب الرابع من التحريك وتحديده‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف قلتم إن المذهب الرابع أيضاً ضعيف لم يقم عليه دليل صحيح‏.‏ وقد أقام عليه الحنفية دلائل من الكتاب والسنة‏.‏

قال صاحب البحر الرائق استدل أبو حنيفة على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ويحرم عليهم الخبائث‏"‏ والنجاسات لا محالة من الخبائث فحرمها الله تعالى تحريماً مبهماً ولم يفرق بين حالة اختلاطها وانفرادها بالماء فوجب تحريم كل ما تيقنا فيه جزءاً من النجاسة ويكون جهة الحظر من النجاسة أولى من جهة الإباحة لأن الأصل أنه إذا اجتمع المحرم والمبيح قدم المحرم، ويدل عليه من السنة قوله صلى الله عليه وسلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة وفي لفظ آخر ولا يغتسل فيه من جنابة ومعلوم أن البول القليل في الماء الكثير لا يغير لونه ولا طعمه ولا رائحته، ويدل أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده، فأمر بغسل اليد احتياطاً من نجاسة أصابته من موضع الاستنجاء، ومعلوم أنها لا تغير الماء ولولا أنها مفسدة عند التحقيق لما كان للأمر بالاحتياط معنى، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم، بنجاسته بولوغ الكلب بقوله طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعاً وهو لا يغير وهذا كلام الرازي‏.‏

والحاصل أنه حيث غلب على الظن وجود نجاسة في الماء لا يجوز استعماله لهذه الدلائل لا فرق بين أن يكون قلتين أو أكثر أو أقل تغير أو لا وهذا هو مذهب أبي حنيفة والتقدير بشيء دون شيء لا بد من نص ولم يوجد انتهى كلام صاحب البحر الرائق‏:‏

وقال أيضاً وما صرنا إليه يشهد له الشرع والعقل، أما الشرع فقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك‏.‏

وأما العقل فإنه إذا لم يتيقن بعدم النجاسة إلى الجانب الاَخر أو يغلب على ظننا والظن كاليقين فقد استعملت الماء الذي فيه نجاسة يقيناً، وأبو حنيفة لم يقدر ذلك بشيء بل اعتبر غلبة ظن المكلف فهذا دليل عقلي مؤيد بالأحاديث الصحيحة المتقدمة، فكان العمل به متعيناً انتهى‏.‏

قلت‏:‏ هذه الدلائل كلها غير مفيدة‏:‏ أما الاستدلال بآية ‏"‏ويحرم عليهم الخبائث‏"‏ فلأن هذه الاَية تفيد تحريم أكل الخبائث لا مطلق استعمالها، بقرينة ما قبله، وهو قوله تعالى ‏"‏ويحل لهم الطيبات‏"‏ فإن الحل والحرمة غالباً يستعملان في المأكولات ولذا فسر المفسرون الخبائث بالميتة والدم والخنزير وأمثال ذلك‏.‏ فالمعنى يحل لهم أكل الطيبات ويحرم أكل الخبائث فإذن لا تفيد الاَية إلا حرمة النجاسة المخلوطة بالماء أكلاً لا حرمة مطلق استعمالها، ولئن سلمنا أن المراد تحريم استعمال مطلق النجاسة فلا يفيد أيضاً إذا الماء سيال بالطبع مغير لما اختلط به إلى نفسه إذا غلب عليه فإذا وقعت النجاسة في ماء ولم يغلب ريحه أو لونه أو طعمه عليه حصل العلم بأن تلك النجاسة فيه قد تغيرت إلى طبيعة الماء الغالب ولم تبق نجاسة وخبيثة فينبغي الوضوء حينئذ سواء تحرك جانب منه بتحريك جانب منه أو لم يتحرك بخلاف ما إذا غلب ريحه أو طعمه أو لونه فإنه ح يعلم مغلوبية الماء وبقاء النجاسة على حالها فلا يجوز الوضوء ح وأما الاستدلال بحديث لا يبولن فلأنه بعد تسليم دلالته على التحريم والتنجس إنما يفيد تنجس الماء الدائم في الجملة لا على تنجس كل ماء، ولو حمل على الكلية للزم تنجس الحوض الكبير أيضاً بالبول ولا قائل به، وكذا الاستدلال بحديث الاستييقاظ فإنه لا يدل إلا على تنجس الماء في الجملة لا على الكلية، فلا ينتهض هذا وأمثاله إلا إلزاما على من قال بالطهارة مطلقاً لا تحقيقاً لمذهب أبي حنيفة، وكذا حديث ولوغ الكلب وأمثاله‏.‏

وأما شهادة العقل فتعارضه شهادة أخرى وهي ما مر من كون الماء مغيراً إلى نفسه، وبالجملة الدلائل لا تثبت التحديد بالتحريك، وأما التحديد بالقلتين فقد ثبت من كلام الشارع بنفسه، وكذا التحديد بالغير وعدمه ثابت من كلامه الشارع ومؤيد بشهادة العقل أيضاً، والقياسات العقلية والاستنباطات الفقهية من الاَيات المبهمة والأحاديث المطلقة لا تعارض هذه التحديدات المصرحة، كذا أجاب صاحب السعاية حاشية شرح الوقاية وهو من العلماء الحنفية‏.‏ وقد أجاد وأصاب ثم قال‏:‏ والذي أظن أن هذه الأخبار لم تصل إلى الإمام أبي حنيفة أو وصلته وحملها على معنى لاح له وإلا لقال بها حتماً ولم يحتج إلى الاستنباط قطعاً، ولقوة دليل الشافعية والمالكية في هذا الباب جوز أصحابنا تقليدهم في ذلك، بل قلدهم أبو يوسف في بعض الوقائع مع كونه مجتهداً، قد صرحوا بأن المجتهد يحرم عليه التقليد كما في الطريقة المحمدية وشرحها الحديقة الندية، وقد جوز أئمتنا الحنفية الأخذ في باب الطهارة بمذهب الغير ولو كان الأخذ بعد صدور الفعل فاسداً في مذهبه، كما حكى أن أبا يوسف اغتسل ليوم الجمعة وصلى بالناس إماماً ببغداد فوجدوا في البئر اغتسل من مائه فأرة ميتة فأخبر بذلك فقال‏:‏ نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة تمسكاً بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً‏.‏ كذا في التاتار خانية وغيرها، ولعل حرمة التقليد للمجتهد مقيدة بما إذا لم يكن ما قلده حكماً قوياً موافقاً للقياس داخلا في ظاهر النص، فإذا كان حكماً ضعيفاً مخالفاً للقياس غير داخل في ظاهر النص يحرم تقليد المجتهد فيه لمجتهد آخرو هذه المسألة الحكم فيها قوي لأن عدم التغير بوقوع النجاسة دليل على بقاء الطهارة موافق للقياس داخل في ظاهر النص وهو حديث القلتين انتهى كلامهما ملخصاً انتهى كلام صاحب السعاية‏.‏

الفائدة الثالثة‏:‏ تمسك الظاهرية بحديث الباب على أن البئر لا تتنجس بوقوع النجاسة فيها قليلاً كان الماء فيها أو كثيرا تغير لونه أو طعمه أو ريحه أو لم يتغير، وقد عرفت أن حديث الباب وما في معناه ليس على إطلاقه وعمومه بل هو مخصوص بأحاديث أخرى صحيحة‏.‏

ولنا أن نذكر ههنا مذاهب أخرى في طهارة البئر ونجاستها‏:‏ فاعلم أنهم اختلفوا فيما إذا وقعت نجاسة في البئر هل تتنجس أم لا على مذاهب‏.‏

الأول‏:‏ مذهب الظاهرية وقد ذكرناه آنفاً‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه يتنجس وإلا لا، وهو مذهب المالكية وتمسكوا بحديث‏:‏ الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما تغير لونه أو طعمه أو ريحه وقد تقدم تخريجه‏.‏

والثالث‏:‏ أن الماء في البئر إن كان دون القلتين يتنجس وإن كان قدر القلتين فصاعداً لا يتنجس إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه وهو مذهب الشافعية، وتمسكوا بحديث القلتين وهو المذهب الراجح وبه عمل الإمام أبو يوسف في بغداد كما عرفت أن أبا يوسف اغتسل يوم الجمعة وصلى بالناس إماماً ببغداد فوجدوا في البئر الذي اغتسل من مائه فأرة ميتة فأخبر بذلك فقال نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة تمسكاً بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال‏:‏ إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً‏.‏ كذا في التتارخانية وغيرها‏.‏

والرابع‏:‏ إن كان غديراً عظيماً بحيث لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الاَخر لم يتنجس وإلا تنجس وهو مذهب المتقدمين من الحنفية‏.‏

الخامس‏:‏ إن كان عشراً في عشر لا يتنجس وإلا يتنجس وهو مسلك أكثر المتأخرين من الحنفية، وقد مر في الفائدة الثانية أن للحنفية في الماء أربعة عشر مذهباً فكلها تجري ههنا‏.‏ وها هنا مذهب آخر زائد على مامر خاص بالاَبار وهو‏:‏ ما روي عن محمد أنه قال اجتمع رأيي ورأي أبي يوسف على أن ماء البئر في حكم الماء الجاري لأنه ينبع من أسفله ويؤخذ من أعلاه فهو كحوض الحمام يصب من جانب ويخرج من جانب آخر فلا يتنجس، كذا نقله في الغنية وفتح القدير وغيرهما‏.‏

ثم إذا تنجس ماء البئر هل يطهر بنزح الماء أم لا‏؟‏ فقال بشر المريسى إنه لا يطهر أبداً لأنه وإن نزح جميع ما فيها يبقى الطين والحجارة نجساً فيتنجس الماء الجديد فلا سبيل إلى طهارته‏.‏ كذا حكاه ابن الهمام والعيني وغيرهما عنه، وقال غير بشر المريسى من أهل العلم يطهر البئر بنزح الماء‏.‏

واستدل الحنفية على تنجس ماء البئر وإن كان زائداً على قدر القلتين وطهارته بنزح الماء‏:‏ بما رواه الطحاوي وابن أبي شيبة عن عطاء أن حبشياً وقع في زمزم فمات فأمر ابن الزبير فنزح ماءها فجعل الماء لا ينقطع فنظر فإذا عين تجري من قبل الحجر الأسود فقال ابن الزبير حسبكم، قالوا إسناد هذا الأثر صحيح ويردون به حديث القلتين‏.‏

قلت‏:‏ سلمنا أن إسناده صحيح لكن قد تقرر أن صحة الإسناد لا تستلزم صحة المتن، ولو سلم صحة المتن فيحتمل أن يكون نزح لنجاسة ظهرت على وجه الماء أو تطييباً للقلوب وتنظيفاً للماء، فإن زمزم للشرب لا من جهة الوجوب الشرعي، وقد اعترف به صاحب السعاية من الحنفية حيث قال فيها‏:‏ ص 422 وما روى عنهم من النزح لا يدل على النجاسة بل يحتمل التنظيف والتنزه انتهى، وأما ما قال صاحب الجوهر النقي من أن الراوي جعل علة نزحها موته دون علبة دمه لقوله مات فأمر أن تنزح كقوله زنى ماعز فرجم انتهى ففيه نظر، فإنه ليس فيه دليل على أن الموت كان علة للنزح، إنما فيه أن الزنجي مات في زمزم فأمر بعد ذلك أن تنزح، وأما أن علة النزح هل هي الموت أو أمر آخر فلا يدل عليه لفظ مات فأمر أن تنزح كما قال الطحاوي في شرح الآثار ليس في حديث أبي الدرداء وثوبان‏:‏ قاء فأفطر، دليل على أن القيء كان مفطراً له إنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك انتهى وقال الشيخ العلامة محدث الهند الشاه ولي الله في كتابه حجة الله البالغة ص 241 ج 1 وقد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر والعشر في العشر والماء الجاري وليس في كل ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة، وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين كأثر ابن الزبير في الزنجي وعلى في الفأرة والنخعي والشعبي في نحو السنور فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى، وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطيباً للقلوب وتنظيفاً للماء لا من جهة الوجوب الشرعي كما ذكر في كتب المالكية ودون نفي هذا الاحتمال خرط القتاد‏.‏ وبالجملة فليس فيهذا الباب شيء يعتد به ويجب العمل عليه، وحديث القلتين أثبت من ذلك كله بغير شبهة، ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات وهي مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى ثم لا ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم نصاً جلياً ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم ولا حديث واحد فيه انتهى كلامه‏.‏ وقال الحافظ ابن حجر في الدراية‏:‏ روى البيهقي من طريق ابن عيينة‏:‏ كنت أنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر صغيراً ولا كبيراً يعرف حديث الزنجي ولا سمعت أحداً يقول نزحت زمزم، وقال الشافعي إن ثبت هذا عن ابن عباس فلعل نجاسته ظهرت على وجه الماء أو نزحها للتنظيف انتهى‏.‏ قال البيهقي في السنن الكبرى بعد ذكر قول الشافعي وابن عيينة‏:‏ وعن أبي عبيدة قال‏:‏ وكذلك لا ينبغي لأن الآثار جاءت في نعتها أنها لا تنزح ولا تذم انتهى‏.‏ قلت فهذه الآثار أيضاً تخدش في صحة واقعة نزح زمزم فإن صحتها تخالف قوله لا تنزح وكذلك تخالف قوله لا تذم، فأي مذمة لزمزم تكون أقبح من أن يكون ماؤها نجساً خبيثاً‏.‏ فإن قلت أجاب عن ذلك صاحب الجوهر النقي حيث قال‏:‏ ليس فيه أن ابن عباس وابن الزبير قدراً على استئصال الماء بالنضح حتى يكون مخالفاً للاَثار التي ذكرها أبو عبيد بل صرح في رواية ابن أبي شيبة بأن الماء لم ينقطع، وفي رواية البيهقي بأن العين غلبتهم حتى دست بالقباطي والمطارف انتهى‏.‏ قلت ظن صاحب الجوهر النقي أن نزح البئر لا يكون إلا باستئصال مائها وليس كذلك، ففي القاموس نزح البئر استقى ماءها حتى ينفد أو يقل انتهى‏.‏

وأما قول بعضهم عدم علمهما لا يصح دليلاً فإنهما لم يدركا ذلك الوقت وبينه وبينهما قريب من مائه وخمسين سنة‏.‏

ففيه‏:‏ أن وقوع الزنجي في زمزم وموته فيها ثم نزحها من الوقائع العظام والحوادث الجسام فلو كان هذا صحيحاً لم يكن في ذلك الوقت نسيا منسياً بحيث لا يعرفه أحد من أهل مكة لا صغير ولا كبير إذ بعيد كل البعد أن يحدث مثل هذه الحادثة بمكة في زمن ابن عباس وابن الزبير وهما من صغار الصحابة ثم لا يعرفه أحد من أهل مكة في زمن سفيان بن عيينة وهو من أوساط التابعين، ولو سلم ثبوت واقعة نزح زمزم فلا تدل على أن نزحها كان لنجاسة كما قد عرفت‏.‏

50- بابٌ مِنْهُ آخَر

67- حدثنا هَنّادٌ حدثنا عَبْدَةُ عن مُحَمدِ بن إِسْحَاقَ عن مُحَمدِ بن جَعْفَرِ بن الزّبَيْرِ عن عُبَيْدِ الله بن عَبْدِ الله بن عُمَرَ عن ابن عُمَرَ قال‏:‏ ‏"‏سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهُوَ يُسْأَلُ عنِ المَاءِ يَكونُ في الْفَلاَةِ مِنَ الارْضِ ومَا يَنُوبُهُ مِنَ السّباعِ والدّوَابّ‏؟‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا كَانَ المَاءُ قُلّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ‏"‏‏.‏

‏(‏قال عَبْدةُ‏)‏‏:‏ قال مُحّمدُ بنُ إِسْحَاقَ‏؟‏ القُلّةُ هِيَ الْجِرارُ، والقُلةُ التِي يُسْتَقَى فِيها‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وهُوَ قَوْلُ الشافِعِيّ وأحْمَدَ وإِسْحَاقَ، قالوا‏:‏ إذَا كاَنَ الْمَاءُ قُلّتَيْنِ لَمْ يُنَجّسْهُ شيءٌ، ما لم يَتَغَيّرْ رِيحُهُ أوْ طَعْمُهُ، وقالوا‏:‏ يَكونُ نَحْواً مِنْ خَمْسِ قِربٍ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن محمد بن إسحاق‏)‏ هو إمام المغازي صدوق يدلس كذا في التقريب، وقال ابن الهمام في فتح القدير أما ابن إسحاق فثقة لا شبهة عندنا ولا عند محققي المحدثين انتهى وقال العيني في عمدة القاري‏:‏ ابن إسحاق من الثقات الكبار عند الجمهور انتهى، وتقدم ترجمته في باب الرخصة في استقبال القبلة بغائط أو بول بأبسط من هذا ‏(‏عن محمد بن جعفر بن الزبير‏)‏ بن العوام الأسدي ثقة ‏(‏عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر‏)‏ بن الخطاب شقيق سالم ثقة

قوله‏:‏ ‏(‏وهو يسأل‏)‏ بصيغة المجهول جملة حالية ‏(‏عن الماء يكون في الفلاة من الأرض‏)‏ قال في القاموس‏:‏ الفلاة القفر أو المفازة لا ماء فيها أو الصحراء الواسعة ج فلا وفلوات وفلى وفلى ‏(‏وما ينوبه من السباع والدواب‏)‏ عطف على الماء، يقال ناب المكان وأنابه إذا تردد إليه مرة بعد أخرى ‏(‏قال‏)‏ صلى الله عليه وسلم ‏"‏إذا كان الماء قلتين‏"‏ تثنية القلة وسيأتي بيان معنى القلة ‏(‏لم يحمل الخبث‏)‏ بفتحتين النجس، أي لم ينجس بوقوع النجاسة فيه، وفي رواية لأبي داود إذا كان الماء قلتين فإنه لا ينجس، ولفظ الحاكم فقال إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء‏.‏ قال القاضي‏:‏ الحديث بمنطوقه يدل على أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس بملاقاة النجاسة، فإن معنى لم يحمل لم يقبل النجاسة‏.‏ كما يقال فلان لا يقبل ضيماً إذا امتنع عن قبوله‏.‏ وذلك إذا لم يتغير فإن تغير نجس، ويدل بمفهومه على أنه إذا كان أقل ينجس بالملاقاة وهذا المفهوم يخصص حديث ‏"‏خلق الماء طهوراً‏"‏ عند من قال بالمفهوم ومن لم يقل به أجراه على عمومه كما لك، فإن الماء قل أو كثر لا ينجس عنده إلا بالتغير، وقال الحافظ في التلخيص‏:‏ قوله لم يحمل الخبث معناه لم ينجس بوقوع النجاسة فيه كما فسره في الرواية الأخرى التي رواها أبو داود وابن حبان وغيرهما ‏"‏إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس‏"‏ والتقدير لا يقبل النجاسة بل يدفعها عن نفسه، ولو كان المعنى يضعف عن حمله لم يكن للتقييد معنى، فإن ما دونها أولى بذلك، وقيل معناه لا يقبل حكم النجاسة، كما في قوله تعالى ‏"‏مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً‏"‏ أي لم لم يقبلوا حكمها‏.‏ انتهى كلام الحافظ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال محمد بن إسحاق القلة هي الجرار‏)‏ جمع جرة بفتح الجيم بالفارسية سوى وقال في القاموس‏:‏ القلة بالضم الحب العظيم والجرة العظيمة أو عامة أو من الفخار والكوز الصغار ضدج كصرد وجبال انتهى‏.‏ والحب بضم الحاء المهملة بالفارسية خم وقال الجزري في النهاية القلة الحب العظيم والجمع قلال وهي معروفة بالحجار انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء ما لم يتغير ريحه أو طعمه‏)‏ أي أو لونه، واستدلوا بحديث الباب وهو حديث صحيح قابل للاحتجاج، وضعفه جماعة لكن الحق أنه صحيح، قال الحافظ أبو الفضل العراقي في أماليه قد صحح هذا الحديث الجم الغفير من أئمة الحفاظ الشافعي وأبو عبيد وأحمد وإسحاق ويحيى بن معين وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والدارقطني وابن منده والحاكم والخطابي والبيهقي وابن حزم وآخرون كذا في قوت المغتذي، وقال الحافظ في فتح الباري‏:‏ رواته ثقات وصححه جماعة من أهل العلم انتهى، وقال فيه أيضاً‏:‏ الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، وقال في بلوغ المرام‏:‏ صححه ابن خزيمة وابن حبان انتهى‏.‏

وقال في التلخيص‏:‏ قال الحاكم صحيح على شرطهما وقد احتجا بجميع رواته، وقال ابن منده إسناده على شرط مسلم، وقال ابن معين الحديث جيد الإسناد، وقال ابن دقيق العيد هذا الحديث قد صححه بعضهم وهو صحيح على طريق الفقهاء‏.‏ لأنه وإن كان مضطرب الإسناد مختلفاً في بعض ألفاظه فإنه يجاب عنه بجواب صحيح بأن يمكن الجمع بين الروايات انتهى ما في التلخيص‏.‏ والذين لم يقولوا بحديث القلتين فمنهم من اعترف بصحة واعتذر من العمل به بالإجمال في معنى القلة‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ قول من لا يعتبر إلا التغير وعدمه قوي لكن الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك لكنه اعتذر من القول به فإن القلة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة كالجرة ولم يثبت من الحديث تقديرهما فيكون مجملاً فلا يعمل به‏.‏ وقواه ابن دقيق العيد، لكن استدل له غيرهما فقال أبو عبيد القاسم بن سلام المراد القلة الكبيرة إذ لو أراد الصغيرة لم يحتج لذكر العدد فإن الصغير بين قدر واحدة كبيرة ويرجع في الكبيرة إلى العرف عند أهل الحجاز‏.‏

والظاهر أن الشاع عليه السلام ترك تحديدها على سبيل التوسعة والعلم محيط بأنه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمون فانتهى الإجمال، انتهى كلام الحافظ‏.‏

وقال الزيلعي في نصب الراية‏:‏ قال البيهقي في كتاب المعرفة‏:‏ وقلال هجر كانت مسهورة عند أهل الحجاز ولشهرتها عندهم شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ليلة المعراج من نبق سدرة المنتهى بقلال هجر فقال في حديث مالك بن صعصعة ‏"‏رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها مثل آذان الفيلة وإذا نبقها مثل قلال هجر‏"‏ قال واعتذار الطحاوي في ترك الحديث أصلاً بأنه لا يعلم مقدار القلتين لا يكون عذراً عند من علمه انتهى‏.‏

وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر كلام البيهقي هذا‏:‏ فإن قيل أي ملازمة بين هذا التشبيه وبين ذكر القلة في حد الماء‏؟‏ فالجواب أن التقييد بها في حديث المعراج دال على أنها كانت معلومة عندهم بحيث يضرب بها المثل في الكبر كما أن التقييد المطلق إنما ينصرف إلى التقييد المعهود‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ القلال مختلفة في قرى العرب وقلال هجراً أكبرها وقلال هجر مشهورة الصنعة معلومة المقدار والقلة لفظ مشترك وبعد صرفها إلى أحد معلوماتها وهي الأواني تبقى مترددة بين الكبار والصغار، والدليل على أنها من الكبار جعل الشارع الحد مقدارا بعدد فدل على أنه أشار إلى أكبرها لأنه لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين مع القدرة على تقديره بواحدة كبيرة انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وقد جاء في حديث ضعيف تقييد القلتين بقلال هجر، وهو ما روى ابن عدي من حديث ابن عمر ‏"‏إذا بلغ الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء‏"‏ قال الحافظ في التلخيص‏:‏ في إسناده المغيرة بن صقلاب وهو منكر الحديث، قال النفيلي لم يكن مؤتمناً على الحديث‏.‏ وقال ابن عدي لا يتابع على عامة حديثه انتهى‏.‏

قلت‏:‏ قال الذهبي في الميزان في ترجمة المغيرة بن صقلاب‏.‏ قال أبو حاتم صالح الحديث وقال أبو زرعة لا بأس به انتهى‏.‏

فالإعتذار من القول بحديث القلتين بزعم الإجمال في معنى القلة اعتذار بارد، ومن الذين لم يقولوا به اعتذروا بأن الحديث ضعيف مضطرب الإسناد، قالوا إن محمد بن إسحاق يروي تارة عن محمد بن جعفر عن عبيد الله عن ابن عمر كما رواه الترمذي وغيره، وتارة عن الزهري عن سالم عن ابن عمر، وتارة عنه عن عبيد الله عن أبي هريرة، ثم وقع الإختلاف في شيخ محمد بن جعفر‏.‏ فقال مرة عن عبد الله بن عبد الله المكبر ومرة عن عبيد الله بن عبد الله المصغر‏.‏

قلت‏:‏ هذا الإعتذار أيضاً بارد، فإن هذا الإختلاف ليس قادحاً مورثاً لضعف الحديث، فإن وجوه الإختلاف ليست بمستوية فإن الرواية الصحيحة المخفوظة هي رواية ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن عبيد الله عن ابن عمر كما رواها الترمذي وغيره‏.‏ كذلك رواها جماعة كثيرة عن ابن إسحاق قال الدارقطني في سننه‏:‏ رواه إبراهيم ابن سعد وحماد بن سلمة ويزيد بن زريع وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن نمير وعبد الرحيم ابن سليمان وأبو معاوية الضرير ويزيد بن هارون واسماعيل بن عياش وأحمد بن خالد الوهبي وسفيان الثوري وسعيد بن زيد أخو حماد بن زيد وزائدة بن قدامة عن محمد ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى‏.‏

وقال الدارقطي فيه‏:‏ ورواه عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان في هذه الرواية قوة لرواية محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن أبيه انتهى‏.‏

وأما رواية ابن إسحاق عن الزهري عن سالم عن ابن عمر فمدارها على عبد الوهاب ابن عطاء وهو مدلس ورواها عن ابن إسحاق بالعنعنة فهي ضعيفة لمظنة التدليس، على أنه قد خالف جميع أصحاب ابن إسحاق‏.‏

وأما روايته عن الزهري عن عبيد الله عن أبي هريرة فليست بمحفوظة، قال الدارقطني نا أبو سهل أحمد بن محمد بن زياد وعمر بن عبد العزيز بن دينار قالا حدثنا أبو إسماعيل الترمذي نا محمد بن وهب المسلمي نا ابن عياش عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن القليب، الحديث‏.‏

قال الدارقطني كذا رواه محمد بن وهب عن إسماعيل بن عياش بهذا الإسناد والمحفوظ عن ابن عياش عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن أبيه انتهى‏.‏

وقد اعتذروا أيضاً بأن الحديث مضطرب المتن ففي بعضها قلتين، وفي بعضها قلتين أو ثلاثاً‏.‏

وفي رواية موقوفة أربعين قلة، وكذلك في رواية مرفوعة أربعين قلة‏.‏

قلت‏:‏ هذا الاعتذار أيضاً بارد فإن هذا الإختلاف أيضاً ليس قادحاً مورثاً للضعف فإن رواية أربعين قلة التي هي مرفوعة ضعيفة جداً، فإن في سندها القاسم بن عبد الله العمري، قال ابن التركماني في الجوهر النقي حكى البيهقي عن القاسم بن عبد الله العمري كان ضعيفاً كثير الخطأ‏.‏

وفي كتاب ابن الجوزي‏:‏ قال أحمد ليس هو عندي بشيء كان يكذب ويضع الحديث ترك الناس حديثه، وقال يحي ليس بشيء وقال مرة كذاب خبيث، وقال الرازي والنسائي والأزدي متروك الحديث، وقال أبو زرعة لا يساوي شيئاً متروك الحديث انتهى‏.‏

وقال الزيلعي في نصب الراية‏.‏ روى الدارقطني في سننه وابن عدي في الكامل والعقيلي في كتابه عن القاسم بن عبد الله العمري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا بلغ الماء أربعين قلة فإنه لا يحمل الخبث انتهى‏.‏

قال الدارقطني كذا رواه القاسم العمري عن ابن المنكدر عن جابر ووهم في إسناده وكان ضعفاً كثير الخطأ، وخالفه روح بن القاسم وسفيان الثوري ومعمر بن راشد رووه عن ابن المنكدر عن عبد الله بن عمرو موقوفاً، ورواه أيوب السختياني عن محمد بن المنكدر من قوله لم يجاوزه، ثم روى بأسناد صحيح من جهة روح بن القاسم عن محمد بن المنكدر عن عبد الله بن عمرو قال إذا بلغ الماء أربعين قلة لم ينجس انتهى‏.‏

فرواية أربعين قلة التي هي مرفوعة لشدة ضعفها لا تساوي رواية قلتين‏.‏

وأما رواية أربعين قلة التي هي موقوفة فهي قول عبد الله بن عمرو وقوله هذا وإن كان صحيحاً من جهة السند فهو لا يساوي رواية قلتين التي هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما رواية قلتين أو ثلاثاً فقد قال البيهقي في المعرفة‏:‏ قوله أو ثلاث شك وقع لبعض الرواة انتهى‏.‏

فرواية قلتين أو ثلاثاً بالشك ترجع إلى رواية قلتين التي هي خالية عن الشك‏.‏

والظاهر أن الشك من حماد بن سلمة فإن بعض أصحابه يروون عنه قلتين وبعضهم قلتين أو ثلاثاً‏.‏

أو من عاصم بن المنذر فإن كل من روى هذا الحديث غيره عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر إنما رواه بلفظ قلتين بغير شك والله تعالى أعلم‏.‏

وقد اعتذروا أيضاً بأن الحديث مضطرب من جهة المعنى فإن القلة مشترك بين رأس الرجل ورأس الجبل والجرة والقربة وغير ذلك، ولم يتعين معناها، وإن أريد بها الأواني كالجرة والخابية فلم يثبت مقدارها مع أنها متقاربة جداً‏.‏

قلت‏:‏ هذا الإعتذار أيضاً ليس بشيء فإن القلة بمعنى رأس الرجل أو رأس الجبل لا يحصل بها التحديد البتة‏.‏

والمقصود من الحديث ليس إلا التحديد فلا يجوز أن يراد من القلة رأس الرجل أو رأس الجبل فتعين أن المراد من القلة الأواني‏.‏

ولما كانت قلال هجر مشهورة معروفة المقدار عند العرب كثيرة الاستعمال في أشعارهم ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم نبق سدرة المنتهى بقلال هجر تعين أن تكون هي مرادة في الحديث وقد تقدم ما يتعلق بهذا فتذكر‏.‏

والحاصل‏:‏ أن حديث الباب صحيح قابل للاحتجاج وكل ما اعتذروا به عن العمل والقول به فهو مدفوع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقالوا يكون نحواً من خمس قرب‏)‏ جمع قربة أي يكون مقدار القلتين قريباً من خمس قرب وذلك نحو خمسمائة رطل كما في السبل‏.‏

وقال الجزري في النهاية‏:‏ القاسة الحب العظيم والجمع قلال وهي معروفة بالحجاز ومنه الحديث في صفة سدرة المنتهى نبقها مثل قلال هجر‏.‏

وهجر قرية قريبة من المدينة وليست هجر البحرين وكانت تعمل بها القلال تأخذ الواحدة منها مزادة من الماء، سميت قلة لأنها تقل أي ترفع وتحمل انتهى كلام الجزري‏.‏

وقال الشيخ محمد طاهر في مجمع البحار‏:‏ القلة جرة عظيمة تسع خمسمائة رطل انتهى‏.‏

51- بابُ ‏(‏مَا جَاءَ فِي‏)‏ كَرَاهِيَةِ الْبَوْلِ فِي الْمَاء الرّاكِد

باب كراهية البول في الماء الراكد أي الساكن الذي لا يجري

68- حدثنا محمودُ بن غَيْلاَنَ حدثنا عبْدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عنْ هَمّامِ بن مُنبهٍ عَنْ أَبي هُرَيرةَ عنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لاَ يَبُولَنّ أحدُكُمْ في الْمَاءِ الدّائِمِ ثُمّ يَتَوَضّأُ منهُ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ‏.‏

وفي البابِ عَنْ جَابِرٍ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن همام بن منبه‏)‏ بن كامل الإبناوي الصنعاني اليماني عن أبي هريرة نسخة صحيحة، ومعاوية وابن عباس وطائفة، وعنه أخوه وهب ومعمر، وثقه ابن معين، قال ابن سعد مات سنة إحدى وثلاثين ومائة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يبولن‏)‏ بفتح اللام وبنون التأكيد الثقيلة ‏(‏في الماء الدائم‏)‏ زاد في رواية البخاري الذي لا يجري، وهو تفسير للدائم وإيضاح لمعناه ‏(‏ثم يتوضأ منه‏)‏ كذا في رواية الترمذي وأحمد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن حبان‏.‏

وفي رواية الشيخين وغيرهما‏:‏ ثم يغتسل فيه، قال الحافظ في الفتح بضم اللام على المشهور، وقال ابن مالك يجوز الجزم عطفاً على يبولن لأنه مجزوم الموضع بلا الناهية ولكنه بني على الفتح لتوكيده بالنون‏.‏

ومنع ذلك القرطبي فقال لو أريد النهي يقال ثم لا يغتسلن فحينئذ يتساوى الأمران في النهي عنهما لأن المحل الذي تواردا عليه شيء واحد وهو الماء، قال فعدو له عن ذلك يدل على أنه لم يرد العطف بل نبه على مآل الحال والمعنى أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه فتمتنع عليه استعماله، ومثله يقوله صلى الله عليه وسلم لا يضربن أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها، فإنه لم يروه أحد بالجزم لأن المراد النهي عن الضرب لأنه يحتاج في مال حاله إلى مضاجعتها فنمتنع لإساءته إليها فلا يحصل له مقصود، وتقدير اللفظ ثم هو يضاجعها، وفي حديث الباب ثم هو يغتسل منه‏.‏

وتعقب‏:‏ بأنه لا يلزم من تأكيد النهي أن لا يعطف عليه نهي آخر غير مؤكد لاحتمال أن يكون للتأكيد في أحدهما معنى ليس للاَخر‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ولا يجوز النصب إذ لا تضمر أن بعد ثم وأجازه ابن مالك بإعطاء ثم حكى الواو‏.‏

وتعقبه النووي‏:‏ بأن ذلك يقتضي أن يكون النهي عنه الجمع بين الأمرين دون إفراد أحدهما‏.‏

وضعفه ابن دقيق العيد بأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث أن تثبيت رواية النصب ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر‏.‏

قال الحافظ وهو ما رواه مسلم من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البول في الماء الراكد، وعنده من طريق أبي السائب عن أبي هريرة بلفظ لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، وروى أبو داود النهي عنهما في حديث واحد ولفظه‏:‏ لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغسل فيه من الجنابة انتهى كلام الحافظ‏.‏

فكل ما ذكر في يغتسل من الإعراب يجري في يتوضأ‏.‏

والحديث بظاهره يدل على تنجس الماء الراكد مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً لكنه ليس بمجهول على ظاهره بالإتفاق، قال العيني في عمدة القاري‏:‏ هذا الحديث عام فلا بد من تخصيصه اتفاقاً بالماء المتبحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الاَخر أو بحديث القلتين كما ذهب إليه الشافعي أو بالعمومات الدالة على طهورية الماء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة كما ذهب إليه مالك رحمه الله انتهى‏.‏

وقال الحافظ في الفتح لا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول الاَدمي وغيره خلافاً لبعض الحنابلة ولا بين أن يبول في الماء أو يبول في ماء ثم يصبه فيه خلافاً للظاهرية، وهذا كله محمول على الماء القليل عند أهل العلم على اختلافهم في حد القليل، وقد تقدم قول من لا يعتبر وعدمه وهو قوي، لكن الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه انتهى‏.‏

قلت‏:‏ الأمر عندي كما قال الحافظ والله تعالى أعلم، قال‏:‏ ونقل عن مالك أنه حمل النهي على التنزيه فيما لا يتغير، وهو قول الباقين في الكثير، وقال القرطبي يمكن حمله على التحريم مطلقاً على قاعدة سد الذريعة يفضي إلى تنجيس الماء انتهى‏.‏

قلت‏:‏ ما قال القرطبي حسن جيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه البخاري بلفظ لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه، وأخرجه مسلم بهذا اللفظ إلا أن فيه ‏"‏منه‏"‏ مكان فيه وأخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن جابر‏)‏ أخرجه مسلم مرفوعاً بلفظ أنه نهي أن يبال في الماء الراكد‏.‏

وفي الباب أيضاً عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ لا يبولن أحدكم في الماء الناقع‏.‏

52- بابُ مَا جَاءَ فِي مَاء الْبَحْر أَنّهُ طهُور

69- حدثنا قُتَيْبَةُ عن مَالِكٍ ح وحدثنا الأنْصَارِىّ ‏(‏إسْحَاقُ بنُ مُوسَى‏)‏ حدثنا مَعنٌ حدثنا مَالِكٌ عنْ صَفْوَانَ بن سُلَيْمٍ عنْ سَعيدِ بن سَلمَةَ مِنْ آلِ ابن الأزْرَقِ أنّ المُغِيرَةَ بن أبي بُرْدَةَ- وهوَ مِنْ بَنِي عبد الدّار- أخْبَرَهُ أنّهُ سَمِعَ أبا هريْرة يَقولُ‏:‏ ‏"‏سأَلَ رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ‏:‏ يا رسول الله إنّا نَرْكَبُ الْبحْرَ ونَحْمِلُ مَعَنا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ‏:‏ فَإِنْ تَوَضّأْنا بهِ عَطِشْنا، أفَنَتَوَضّأُ مِنْ ‏(‏مَاءِ‏)‏ البَحْرِ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هوَ الطهّورُ مَاؤُهُ، الْحِلّ مَيْتَتُه‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وفي البابِ عن جَابِرٍ، والفِراسِيّ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ‏.‏

وهُوَ قَوْلُ أَكْثَر الْفُقَهَاءِ مِنْ أصْحابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، مِنْهُمْ‏:‏ أبو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وابن عبّاسٍ‏:‏ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بمَاءِ الْبَحْرِ‏.‏

وقَدْ كَرِهَ بَعْضُ أصْحابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم الوُضُوءَ بمَاءِ الْبَحْرِ، مِنْهُمْ‏:‏ ابن عْمَرَ، وعَبْدُ الله بن عَمْرٍو‏.‏ وقالَ عَبْدُ الله بنُ عَمْرو، هوَ نَارٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحدثنا الأنصاري‏)‏ هو إسحاق بن موسى الأنصاري وقد تقدم في باب ما جاء في فضل الطهور أن الترمذي إذا قال الأنصاري يريد به إسحاق بن موسى الأنصاري ‏(‏عن صفوان بن سليم‏)‏ بضم السين وفتح اللام الزهري مولاهم المدني، روى عن ابن عمر وأبي أمامة بن سهل ومولاه حميد بن عبد الرحمن‏.‏ وعنه مالك والليث بن سعد وخلق، قال أحمد ثقة من خيار عباد الله الصالحين يستشفي بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره وقال أنس بن عياض رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له غداً القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة، مات سنة 132 اثنتين وثلاثين ومائة كذا في الخلاصة، قلت هو من رجال الكتب الستة ‏(‏عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق‏)‏ وثقه النسائي ‏(‏أن المغيرة بن أبي بردة‏)‏ الكناني روى عن أبي هريرة وعنه سعيد بن سلمة وثقه النسائي كذا في الخلاصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سأل رجل‏)‏ سمى ابن بشكوال السائل عبد الله المدلجي‏.‏

وقال النووي في شرح المهذب اسمه عبيد، وقيل عبد قال‏:‏ وأما قول السمعاني في الأنساب اسمه العركي ففيه إيهام أن العركي اسم علم له وليس كذلك بل العركي وصف له وهو ملاح السفينة كذا في قوت المغتذي‏.‏

‏(‏نا نركب البحر‏)‏ زاد الحاكم نريد الصيد قال الزرقاني المراد من البحر الملح لأنه المتوهم فيه لأنه مالح ومر وريحه منتن انتهى‏.‏

‏(‏ونحمل معنا القليل من الماء‏)‏ وفي رواية أحمد والحاكم والبيهقي قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فجاء صياد فقال يا رسول الله إنا ننطلق في البحر نريد الصيد فيحمل أحدنا معه الإداوة وهو يرجو أن يأخذ الصيد قريباً فربما وجده كذلك وربما لم يجد الصيد حتى يبلغ من البحر مكاناً لم يظن أن يبلغه فلعله يحتلم أو يتوضأ فإن اغتسل أو توضأ بهذا الماء فلعل أحدنا يهلكه العطش فهل ترى في ماء البحر أن نغتسل به أو نتوضأ إذا خفنا ذلك ‏(‏عطشنا‏)‏ بكسر الطاء ‏(‏هو الطهور‏)‏ بفتح الطاء أي المطهر قال ابن الأثير في النهاية وقال المجد في القاموس‏:‏ الطهور المصدر واسم ما يتطهر به أو الطاهر المطهر انتهى‏.‏

قلت المراد ههنا هو المعنى الأخير قال الزرقاني أي البالغ في الطهارة، ومنه قوله تعالى ‏"‏وأنزلنا من السماء ماء طهوراً‏"‏ أي طاهراً في ذاته مطهراً لغيره، قال ولم يقل في جوابه نعم مع حصول الغرض به ليقرن الحكم بعلته وهي الطهورية المتناهية في بابها انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ماؤه‏)‏ بالرفع فاعل الطهور ‏(‏الحل‏)‏ أي الحلال كما في رواية الدارقطني عن جابر وأنس وابن عمرو ‏(‏ميتته‏)‏ بالرفع فاعل الحل‏.‏

قال الرافعي لما عرف صلى الله عليه وسلم اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته وقد يبتلي بها راكب ابحر فعقب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة‏.‏

وقال غيره سأله عن مائه فأجابه عن مائه وطعامه لعلمه بأنه قد يعوزهم الزاد فيه كما يعوزهم الماء فلما جمعتهم الحاجة انتظم الجواب بهما‏.‏

وقال ابن العربي وذلك من محاسن الفتوى أن يجاء في الجواب بأكثر مما يسئل عنه تتميماً للفائدة وأفادة لعلم آخر غير مسؤل عنه، ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم كما هنا لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفاً، قال الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير في السبل‏:‏ المراد بالميتة ما مات فيه من دوابه مما لا يعيش إلا فيه لا ما مات فيه مطلقاً فإنه وأن صدق عليه لغة أنه ميتة بحر فمعلوم أنه لا يراد إلا ما ذكرنا، قال وظاهره حل كل ما مات فيه ولو كان كالكلب والخنزير انتهى‏.‏

قلت‏:‏ اختلف أهل العلم في حل غير السمك من دواب البحر‏.‏

فقال الحنفية يحرم أكل ما سوى السمك‏.‏

وقال أحمد يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح‏.‏

وقال ابن أبي ليلى ومالك يباح كل ما في البحر‏.‏

وذهب جماعة إلى أن ماله نظير من البر يؤكل نظيره من حيوان البحر مثل بقر الماء ونحوه ولا يؤكل نظيره في البر مثل كلب الماء وخنزير الماء فلا يحل أكله‏.‏

وعن الشافعية أقوال‏:‏ قال الحافظ في الفتح لا خلاف بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواعه وإنما اختلف فيما كان على صورة حيوان البركا لاَدمي والكلب والخنزير والثعبان، فعند الحنفية وهو قول الشافعية يحرم ما عدا السمك، وعن الشافعية الحل مطلقاً على الأصح المنصوص وهو مذهب المالكية إلا الخنزير في رواية‏.‏

وحجبتهم قوله تعالى ‏"‏أحل لكم صيد البحر‏"‏ وحديث هو الطهور ماؤه الحل ميتته أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم‏.‏

وعن الشافعية ما يؤكل نظيره في البر حلال وما لا فلا واستثنوا على الأصح ما يعيش في البحر والبر، وهو نوعان‏.‏

النوع الأول‏:‏ ما ورد في منع أكله شيء يخصه كالضفدع وكذا استثناه أحمد للنهي عن قتله ومن المستثنى أيضاً التمساح لكونه يعدو بنابه ومثله القرش في البحر الملح خلافاً لما أفتى به المحب الطبري والثعبان والعقرب والسرطان والسلحفاة للاستخباث والضرر اللاحق من السم‏.‏

النوع الثاني‏:‏ ما لم يرد فيه مانع فيحل أكله بشرط التذكية كالبط وطير الماء‏.‏ انتهى كلام الحافظ باختصار‏.‏

وقال العيني في عمدة القاري ص 30 ج 1 وعندنا يكره أكل ما سوى السمك من دواب البحر كالسلحفاة والضفدع وخنزير الماء‏.‏

واحتجوا بقوله تعالى ‏"‏يحرم عليهم الخبائث‏"‏ وما سوى السمك خبيث انتهى كلام العيني‏.‏

وأجاب الحنفية عن قوله الحل ميتته بأن المراد من الميتة السمك لا غيره بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالجراد والحوت وأما الدمان فالطحال والكبد، أخرجه أحمد وابن ماجه‏.‏

وقالوا في تفسير قوله تعالى ‏"‏أحل لكم صيد البحر وطعامه‏"‏ إن المراد من صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل والمراد من طعامه ما يطعم من صيده، والمعنى أحل لكم الإنتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده‏.‏

وقال من ذهب إلى حل جميع ما في البحر من دوابه مطلقاً أو مستثنياً بعضها في تفسير قوله تعالى هذا إن المراد بصيد البحر ما صيد من البحر والمراد من طعامه ما قذفه البخر ورماه إلى الساحل والمعنى أحل لكم أكل جميع ما صدتم من البحر وما قذفه البحر، قال الخازن في تفسيره المراد بالصيد ما صيد من البحر فأما طعامه فاختلفوا فيه فقيل ما قذفه البحر ورمى به إلى الساحل ويروي ذلك عن أبي بكر وعمرو ابن عمر وأيوب وقتادة‏.‏

وقيل صيد البحر طريه وطعامه مالحه ويروى ذلك عن سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والسدي ويروى عن ابن عباس ومجاهد كالقولين‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الإمام البخاري في صحيحه‏:‏ قال عمر صيده ما أصطيد وطعامه ما رمي به‏.‏

قال الحافظ في الفتح‏:‏ وصله المصنف في التاريخ وعبد بن حميد عن أبي هريرة قال لما قدمت البحرين سألني أهلها عما قذف البحر فأمرتهم أن يأكلوه فلما قدمت على عمر فذكر قصة قال‏:‏ فقال عمر قال الله عز وجل في كتابه ‏"‏أحل لكم صيد البحر وطعامه‏"‏ فصيده ما صيد وطعامه ما قذف فإذا عرفت هذا كله فاعلم أن السمك بجميع أنواعه حلال بلا شك، وأما غير السمك من سائر دواب البحر فما كان منه ضاراً يضر أكله أو مستخبثاً أو ورد نص في منع أكله فهو حرام‏.‏

وأما ما لم يثبت بنص صريح أكله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة رضي الله عنهم مع وجوده في ذلك العهد فالإقتداء بهم في عدم الأكل هو المتعين، هذا ما عندي والله تعالى أعلم‏.‏

تنبيه‏:‏

قال صاحب العرف الشذي ما لفظ‏:‏ قال مولانا محمود حسن إن الحل أي في قوله ‏"‏الحل ميتته‏"‏ بمعنى الطاهر وثبت الحل بمعنى الطهارة كما في قصة صفية بنت حي حلت بالصهباء أي طهرت من الحيض انتهى‏.‏

قلت‏:‏ القول بأن المراد من الحل في قوله صلى الله عليه وسلم الحل ميتته بمعنى الطاهر غير محمود بل هو باطل جداً، أما أولاً فلأنه لم يقل به أحد ممن قبله من أهل العلم الذين عليهم الإعتماد، وأما ثانياً فلأنه يلزم على هذا أن يكون لفظ الحل حشواً لا طائل تحته فإنه يكفي أن يقول هو الطهور ماؤه وميتته‏.‏

وأما ثالثاً فلأن ابن عمر أحد رواة هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قد فهم هو من لفظ الحل الحلال دون الطهارة‏.‏

ففي التلخيص‏:‏ وروى الدارقطني من طريق عمرو بن دينار عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن أبي هريرة أنه سأل ابن عمر آكل ما طفى على الماء قال إن طافيه ميتته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن ماءه طهور وميتته حل، فانظر أن ابن عمر أراد من لفظ الحلال ضد الحرام دون معنى الطاهر، وقد تقرر أن راوي الحديث أدرى بمعناه‏.‏

وقال‏:‏ أيضاً‏:‏ والمراد بالميتة غير المذبوح فلا يدل على حل الطافي، قال وأثر أبي بكر الصديق في الطافي مضطرب اللفظ انتهى‏.‏

قلت‏:‏ القول بأن المراد بالميتة غير المذبوح لئلا يدل على حل الطافي مما لا يصغي إليه فإن الطافي حلال عند الجمهور وهو الحق والصواب، يدل على حله ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمرو أنه سمع جابراً يقول غزونا جيش الخبط وأمر علينا أبو عبيدة فجعنا جوعاً شديداً فألقى البحر حوتاً ميتاً لم ير مثله يقال له العنبر فأكلنا منه نصف شهر، الحديث، ورواه مسلم أيضاً وفي رواية عندهما فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كلوا رزقاً أخرجه الله أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بعضو فأكله، قال الحافظ يستفاد منه إباحة ميتة البحر سواء مات بنفسه أو مات بالإصطياد وهو قول الجمهور انتهى‏.‏

وقد تقدم قول عمر صيده ما أصطيد وطعامه ما رمى‏.‏

وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه الطافي حلال ذكره البخاري معلقاً قال الحافظ وصله أبو بكر بن أبي شيبة والطحاوي والدارقطني من رواية عبد الملك ابن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس، قال أشهد على أبي بكر أنه قال السمكة الطافية حلال زاد الطحاوي لمن أراد أكله، وللدارقطني من وجه آخر عن ابن عباس من أبي بكر إن الله ذبح لكم ما في البحر فكلوه كله فإنه ذكي‏.‏

وأما حديث جابر ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه أخرجه أبو داود فالصحيح أنه موقوف كما حققه الحافظ في الفتح وقال‏:‏ وإذا لم يصح إلا موقوفاً فقد عارضه قول أبي بكر وغيره والقياس يقتضي حله لأنه سمك لو مات في البر لأكل بغير تذكية ولو نضب عنه الماء أو قتلته سمكة أخرى فمات لأكل فكذلك إذا مات وهو في البحر انتهى‏.‏

وأما قوله وأثر أبي بكر الصديق مضطرب اللفظ فعجيب جداً فإنه لم يرو عنه أثر خلاف قوله‏:‏ الطافي حلال البتة، وأما أثره بلفظ إن الله ذبح لكم ما في البحر إلخ فهو ليس ينافي أثره الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن جابر‏)‏ هو ابن عبد الله ‏(‏والفراسي‏)‏ بكسر الفاء وتخفيف الراء وبالمهملة صحابي‏.‏

أما حديث جابر فأخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم من طريق عبيد الله بن مقسم عنه، قال أبو علي بن السكن حديث جابر أصح ما روى في هذا الباب، ورواه الطبراني في الكبير والدارقطني والحاكم من حديث المعافي بن عمران عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر وإسناده حسن ليس فيه إلا ما يخشى من التدليس‏.‏

أما حديث الفراسي فأخرجه البيهقي‏.‏

وفي الباب أيضاً عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب وغيرهم رضي الله عنهم ذكر أحاديثهم الحافظ في التلخيص مع الكلام عليها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ وقد صحح هذا الحديث غير الترمذي ابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن منده وأبو محمد البغوي كذا في قوت المغتذي، والحديث أخرجه أيضاً مالك والشافعي عنه والأربعة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه البخاري فيما حكى عنه الترمذي كذا في التلخيص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلخ‏)‏ وهذا هو الحق يدل عليه أحاديث الباب ‏(‏وقد كره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء بماء البحر منهم ابن عمر وعبد الله بن عمرو‏)‏ لم يقم على الكراهة دليل صحيح، قال الزرقاني التطهير بماء البحر حلال صحيح كما عليه جمهور السلف والخلف وما نقل عن بعضهم من عدم الإجزاء به مزيف أو مؤل بأنه أراد بعدم الإجزاء على وجه الكمال عنده ‏(‏وقال عبد الله بن عمرو وهو نار‏)‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي أراد به طبق النار لأنه ليس بنار في نفسه انتهى‏.‏

وقيل إنه أراد أنه ضار يورث المرض‏.‏

قلت‏:‏ ما قال ابن العربي هو الراجح وهو الظاهر، قال الشوكاني في النيل فإن قيل كيف شكوا في جواز الوضوء بماء البحر قلنا يحتمل أنهم لما سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم لا تركب البحر إلا حاجاً أو معتمراً أو غازياً في سبيل الله فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحر أخرجه أبو داود وسعيد بن منصور في سننه عن ابن عمر مرفوعاً ظنوا أنه لا يجزيء التطهر به وقد روى موقوفاً على ابن عمر بلفظ ماء البحر لا يجزيء من وضوء ولا جنابة إن تحت البحر ناراً ثم ماء ثم ناراً حتى عد سبعة أبحر وسبغ أنيار، وروى أيضاً عن ابن عمرو بن العاص أنه لا يجزيء التطهر به ولا حجة في أقوال الصحابة لا سيما إذا عارضت المرفوع والإجماع، وحديث ابن عمر المرفوع قال أبو داود رواته مجهولون وقال الخطابي ضعفوا إسناده وقال البخاري ليس هذا الحديث بصحيح وله طريق أخرى عند البزار وفيها ليث بن أبي سليم وهو ضعيف‏.‏

قال في البدر المنير في الحديث جواز الطهارة بماء البحر وبه قال جميع العلماء إلا ابن عبد البر وابن عمر وسعيد بن المسيب وروى مثل ذلك عن أبي هريرة وروايته ترده وكذا رواية عبد الله بن عمر وتعريف الطهور بلام الجنسية المفيدة للحصر لا ينفي طهورية غيره من المياه لوقوع ذلك جواً بالسؤال من شك في طهورية ماء البحر من غير قصد للحصر وعلى تسليم أنه لا تخصيص بالسبب ولا يقصر الخصاب العام عليه فمفهوم الحصر المفيد لنفي الطهورية عن غير مائه عموم مخصص بالمنطوقات الصحيحة الصريحة القاضية باتصاف غيره بها انتهى وقال ابن قدامة في المغني وقولهم هو نار إن أريد به أنه نار في الحال فهو خلاف الحس وإن أريد به أنه يصير ناراً لم يمنع ذلك الوضوء به حال كونه ماء انتهى‏.‏