فصل: 2- كتاب الصلاة عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري ***


110- بابُ مَا جَاء فِي التّيَمّم

‏(‏باب ما جاء في التيمم‏)‏ التيمم في اللغة القصد، قال امرؤ القيس‏:‏

تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي

أي قصدتها، وفي الشرع القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة ونحوها، قال ابن السكيت قوله ‏"‏فتيمموا صعيداً‏"‏ أي اقصدوا الصعيد، ثم كثر استعمالهم حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب انتهى، فعلى هذا هو مجاز لغوي وعلى الأول حقيقة شرعية‏.‏ واختلف في التيمم هل هو عزيمة أو رخصة وفصل بعضهم فقال هو لعدم الماء عزيمة، وللعذر رخصة كذا في الفتح

144- حدثنا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بنُ عَليّ الفَلاّسُ حدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ حدثنَا سَعيدٌ عَنْ قَتادَةَ عنْ عَزْرَةَ عَنْ سَعِيدٌ بْن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْن أَبْزَى عنْ أبيهِ عَنْ عَمّارِ بنِ ياسِرٍ ‏"‏أَنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالتّيَمّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفّينِ‏"‏‏.‏

‏(‏قَالَ‏)‏‏:‏ وفي البابِ عَن عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبّاسٍ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حَدِيثُ عَمّارٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ‏.‏ وَقَدْ روُيِ عَنْ عَمّارٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ‏.‏

وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، مِنْهُمْ‏:‏ عَلِيّ، وَعمّارٌ، وَابنُ عَبّاسٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ التّابِعِينَ، مِنْهُمُ‏:‏ الشعْبِيّ، وَعَطاءٌ وَمكْحُولٌ، قَالُوا‏:‏ التّيَمّمُ ضَرْبَةٌ لِلوَجهِ وَالْكفّينِ‏.‏

وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ، وَإسْحاقُ‏.‏

وَقالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ، قَالُوا‏:‏ التّيَمّمُ ضَربَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرفَقَيْنِ‏.‏

وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ ‏(‏الثّوْرِيّ‏)‏، وَمَالِكٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشّافعِيّ‏.‏

وَقَدْ رُوىَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَمّارٍ فِي التّيَمّمِ أَنّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏لِلوَجْهِ وَالْكَفّيْنِ‏"‏‏.‏ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ‏.‏

وَقَدْ رُويَ عَنْ عمّارٍ أَنّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏تَيَمّمْنَا مَعَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المَنَاكِبِ وَالاَبَاطِ‏"‏‏.‏

فَضَعّفَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ حَدِيثَ عَمّارٍ عَنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فِي التّيَمّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفّينِ لمّا رُويَ عَنْهُ حَدِيثُ الْمَنَاكِبِ وَالاَْبَاطِ‏.‏

قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ‏(‏بنِ مَخْلَدٍ الْحَنْظَليّ‏)‏ حديثُ عَمّارٍ فِي التّيَمّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفّيْنِ‏:‏ هُوَ حَدِيثٌ ‏(‏حَسَنٌ‏)‏ صَحِيحٌ، وَحَدِيثُ عَمّارٍ ‏"‏تَيَمّمْنَا مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالاَبَاطِ‏"‏‏:‏ لَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ لِحَدِيثِ الْوَجْهِ وَالْكَفّيْنِ، لأِنّ عَمّاراً لَمْ يَذْكُرْ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنّمَا قَالَ‏:‏ ‏"‏فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا‏"‏ فَلَمّا سَأَلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالْوَجْهِ وَالْكَفّيْنِ ‏(‏فَانْتَهَى إِلَى مَا عَلّمَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الْوَجْهِ وَالْكَفيْنِ‏)‏، وَالدّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ‏:‏ مَا أَفْتَى بِهِ عَمّارٌ بَعْدَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فِي التّيَمّمِ أَنّه قَالَ‏:‏ ‏"‏الْوَجْهِ وَالْكَفّيْنِ‏"‏ فَفِي هَذَا دَلاَلةٌ أَنّهُ انْتَهَى إلَى مَا عَلّمَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ‏(‏فَعَلّمَهُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفّيْنِ‏)‏‏.‏

‏(‏قَالَ‏:‏ وَسَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ عُبَيْدَ الله بْنَ عَبْدِ الْكَرِيمِ يَقُولُ‏:‏ لمْ أَرَ بِالْبَصْرَةِ أَحْفَظَ مِنْ هَؤُلاَءِ الثّلاَثَةِ‏:‏ عَلِيّ بنِ المَدِينيّ، وَابْنِ الشّاذَ كُونِي، وَعَمْرِو بْنِ عَليّ الفَلاّسِ‏)‏‏.‏

‏(‏قَالَ أَبُو زُرْعةَ‏:‏ وَرَوَى عَفّانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَليٍ حَدِيثاً‏)‏‏.‏

145- حَدثّنا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَليْمَانَ حَدّثَنا هُشَيْمٌ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ خَالِدٍ القُرَشِيّ عَنْ دَاوُدَ بنِ حُصَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْن عَبّاسٍ‏:‏ ‏"‏أَنه سئِلَ عَنِ التّيَمّمِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إنّ الله قَالَ فِي كِتَابِهِ حِينَ ذَكَرَ الْوُضُوءَ‏:‏ ‏{‏فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ‏}‏، وَقَالَ فِي التّيَمّمِ‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا‏}‏ فَكَانَتِ السّنّةُ فِي الْقَطْعِ الْكَفّيْنِ، إِنّمَا هُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفّانِ، يَعْنِي التّيَمّمَ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو حفص عمرو بن علي الفلاس‏)‏ الصير في الباهلي البصري ثقة حافظ، روى عنه الأئمة الستة وغيرهم مات سنة 249 تسع وأربعين ومائتين ‏(‏نا سعيد‏)‏ هو ابن أبي عروبة ثقة حافظ وكان من أثبت الناس في قتادة ‏(‏عن عزرة‏)‏ بفتح العين المهملة وسكون الزاي المعجمة هو ابن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي الكوفي شيخ لقتادة ثقة ‏(‏عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى‏)‏ الخزاعي مولاهم الكوفي وثقة النسائي ‏(‏عن أبيه‏)‏ أي عبد الرحمن بن أبزى بفتح المهزة وسكون الموحدة وبالزاي مقصوراً صحابي صغير قاله الحافظ ‏(‏عن عمار بن ياسر‏)‏ صحابي جليل مشهور من السابقين الأولين بدري قتل مع علي بصفين 37 سنة سبع وثلاثين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمره بالتيمم للوجه والكفين‏)‏ وفي رواية أبي داود سألت النبي صلى الله عليه وسلم وسلم عن التيمم فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين، وفي رواية الشيخين إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه‏.‏ ووجهه، والحديث يدل على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين وقد ذهب إلى ذلك عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق، قال في الفتح ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره، وهو قول عامة أهل الحديث كذا في النيل‏.‏ وقال الحافظ في الفتح الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار وما عداهما فضعيف ومختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه، فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملاً وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين وبذكر المرفقين في السنن، وفي رواية إلى نصف الذراع وفي رواية إلى الاَباط، فأما رواية المرفقين وكذا نصف الذراع ففيهما مقال‏.‏ وأما رواية الاَباط فقال الشافعي وغيره إن كان وقع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فكل تيمم صح للنبي صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمره به، ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار كان يفتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره ولا سيما الصحابي المجتهد انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن عائشة وابن عباس‏)‏ أما حديث عائشة فأخرجه البزار في مسنده عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في التيمم‏:‏ ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وفيه الحريش بن الخريت ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة والبخاري كذا في مجمع الزوائد‏.‏ وذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية بإسناده ثم قال قال البزار لا نعلمه يروي عن عائشة إلا من هذا الوجه والحريش رجل من أهل البصرة أخو الزبير بن الخريت‏.‏ انتهى ورواه ابن عدي في الكامل وأسنده عن البخاري أنه قال حريش بن الخريت فيه نظر قال وأنا لا أعرف حاله فإني لم أعتبر حديثه انتهى كلامه‏.‏ وأما حديث ابن عباس فأخرجه الحاكم والبيهقي وعبد الرزاق والطبراني‏.‏ كذا في شرح سراج أحمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث عمار حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أحمد وأبو داود وسكت عنه هو والمنذري، وروى الشيخان عن عمار بن ياسر قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال‏:‏ إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه وهذا اللفظ لمسلم وفي رواية للبخاري وضرب بكفيه الأرض نفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم علي عمار وابن عباس وغير واحد من التابعين منهم الشعبي وعطاء ومكحول قالوا التيمم ضربة للوجه والكفين وبه يقول أحمد وإسحاق‏)‏ قال ابن قدامة في المغنى‏:‏ المسنون عند أحمد التيمم بضربة واحدة‏.‏ فإن تيمم بضربتين جاز‏.‏ قال الأثرم قلت لأبي عبد الله التيمم ضربة واحدة، فقال نعم ضربة للوجه والكفين، ومن قال بضربتين فإنما هو شيء زاده انتهى‏.‏ وقد عرفت فيما مر آنفاً أن الحافظ قال في فتح الباري الاكتفاء بضربة واحدة نقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره انتهى‏.‏ وقال الشوكاني في النيل‏:‏ وهو قول عامة أهل الحديث انتهى‏.‏ واستدلوا على ذلك بحديث عمار المذكور في الباب وبحديثه المروي في الصحيحين الذي ذكرنا لفظه ‏(‏وقال بعض أهل العلم منهم ابن عمرو جابر وإبراهيم والحسن التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وبه يقول سفيان الثوري ومالك وابن المبارك والشافعي‏)‏ وهو قول أبي حنيفة وأصحابه‏.‏

واستدلوا بأحاديث لا يخلو واحد منها من المقال‏.‏

فمنها‏:‏ حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، رواه الدارقطني‏.‏

وفيه أن الصحيح أنه موقوف، قال الحافظ في بلوغ المرام صحح الأئمة وقفه‏.‏

ومنها‏:‏ حديث عمار قال كنت في القوم حين نزلت الرخصة في المسح بالتراب إذا لم نجد الماء فأمرنا فضربنا واحدة للوجه ثم ضربة أخرى لليدين إلى المرفقين رواه البزار‏.‏ قال الحافظ في الدراية بإسناد حسن‏.‏

وفيه أن الحافظ قال في الدراية ص 73 بعد قوله بإسناد حسن‏:‏ ولكن أخرجه أبو داود علته فقال إلى المناكب، وذكر أبو داود والاختلاف فيه ثم ذكر الحافظ حديث أبي هريرة في الضربتين وقال سيأتي الكلام عليه، ثم قال‏:‏ ويعارضه ما ثبت في الصحيحين عن عمار قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك، وفي رواية ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه، وروى أحمد من طريق أخرى عن عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في التيمم ضربة للوجه والكفين انتهى ما قال الحافظ في الدراية‏.‏

قلت‏:‏ فظهر من كلام الحافظ أن حديث عمار الذي رواه البزار لا يصلح للاحتجاج وإن كان سنده حسناً‏.‏ وقد تقرر أن حسن الإسناد أو صحته لا يستلزم حسن الحديث أو صحته‏.‏ وقد استدل صاحب آثار السنن بحديث عمار الذي رواه البزار ونقل من الدراية قول الحافظ بإسناد حسن ولم ينقل قوله الباقي الذي يثبت منه ضعفه‏.‏ وكذلك فعل صاحب العرف الشذي وليس هذا من شأن أهل العلم‏.‏

ومنها‏:‏ حديث جابر من طريق عثمان بن محمد الأنماطي عن حرمي بن عمارة عن عزرة بن ثابت عن أبي الزبير عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين، رواه الدارقطني والحاكم وصححه، وقال الحافظ في الدراية وأخرجه الدارقطني والحاكم نحو حديث ابن عمر المذكور من حديث جابر بإسناد حسن انتهى‏.‏

وفيه أن حديث جابر هذا اختلف في رفعه ووقفه والصحيح أنه موقوف، قال الدارقطني بعد ما أخرجه‏:‏ رجاله كلهم ثقات والصواب موقوف انتهى‏.‏ وقال الحافظ في التلخيص‏:‏ ضعف ابن الجوزي هذا الحديث بعثمان بن محمد، وقال إنه متكلم فيه وأخطأ في ذلك، قال ابن دقيق العيد‏:‏ لم يتكلم فيه أحد نعم روايته شاذة لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوفاً‏.‏ أخرجه الدارقطني والحاكم أيضاً انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وأخرجه الطحاوي أيضاً في شرح الآثار حدثنا فهد قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عزرة بن ثابت عن أبي الزبير عن جابر قال أتاه رجل فقال أصابتني جنابة وإني تمعكت في التراب فقال أصرت حماراً وضرب بيديه إلى الأرض فمسح وجهه ثم ضرب بيديه إلى الأرض فمسح بيديه إلى المرفقين، وقال هكذا التيمم‏.‏

تنبيه‏:‏

قال صاحب العرف الشذي‏:‏ وقفها الطحاوي وعندي أنها مرفوعة، واختلط على الموقفين لفظ أتاه فإنهم زعموا أن مرجع الضمير المنصوب هو جابر بن عبد الله والحال أن المرجع هو النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الحافظ العيني انتهى‏.‏

قلت‏:‏ قوله إن المرجع هو النبي صلى الله عليه وسلم باطل جداً فإنه ليس في هذه الرواية ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً لا قبل الضمير ولا بعده، ولذلك لم يقل به أحد من المحدثين، بل أو قفوه وأرجعوا الضمير إلى جابر وقوله كما قال الحافظ العيني ليس بصحيح فإن العيني لم يقل به بل قال في شرح البخاري بعد ذكر حديث جابر المرفوع ما لفظه‏:‏ وأخرجه الطحاوي وابن أبي شيبة موقوفاً‏.‏

فإن قلت عثمان بن محمد ثقة لم يخالفه أحد من أصحاب عزرة غير أبي نعيم وزيادة الثقة مقبولة فكيف تكون روايته المرفوعة شاذة‏.‏

قلت‏:‏ عثمان بن محمد وإن كان ثقة لكن أبا نعيم أوثق منه وأتقن وأحفظ‏.‏ قال الحافظ في التقريب في ترجمة عثمان بن محمد مقبول، وقال الذهبي في الميزان في ترجمتة شيخ حدث عنه إبراهيم الحلي صويلح وقد تكلم فيه انتهى، وقال الحافظ في ترجمة أبي نعيم ثقة ثبت، وقال الخزرجي في الخلاصة في ترجمة أبي نعيم قال أحمد ثقة يقظان عارف بالحديث، وقال الفسوي أجمع أصحابنا على أن أبا نعيم كان غاية في الإتقان انتهى، فظهر أن رواية محمد بن عثمان المرفوعة شاذة‏.‏

ومنها‏:‏ حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في التيمم‏.‏ ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين‏.‏ رواه الطبراني‏.‏

وفيه أنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، قال العيني في شرح البخاري في إسناده جعفر بن الزبير، قال شعبة وضع أربعمائة حديث انتهى‏.‏

ومنها‏:‏ حديث عائشة الذي أشار إليه الترمذي وقد عرفت أنه أيضاً ضعيف لا يصلح للاحتجاج، وقال العيني في شرح البخاري بعد ذكره في إسناده الحريش بن خريت ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة انتهى، وفي الباب أحاديث أخرى غير هذه الأحاديث المذكورة وكلها ضعيفة‏.‏

قال الشوكاني أحاديث الضربتين لا تخلو جميع طرقها من مقال ولو صحت لكان الأخذ بها متعيناً لما فيها من الزيادة‏.‏ فالحق الوقوف على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار من الإقتصار على ضربة حتى يصح ذلك المقدار انتهى‏.‏

تنبيه‏:‏

قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات‏:‏ عدم صحة أحاديث الضربتين في زمن الأئمة الذين استدلوا بها محل منع، إذ يحتمل أن تطرق الضعف والوهن فيها بعدهم من جهة لين بعض الرواة الذين رووها بعد زمن الأئمة‏.‏ فالمتأخرون من المحدثين الذين جاءوا بعدهم أو ردوها في السنن دون الصحاح، فلا يلزم من وجود الضعف في الحديث عن المتأخرين وجوده عند المتقدمين، مثلاً رجال الإسناد في زمن أبي حنيفة كان واحداً من التابعين يروي عن الصحابي أو اثنين أو ثلاثة إن لم يكونوا منهم وكانوا ثقات من أهل الضبط والإتقان ثم روى ذلك الحديث من بعده من لم يكن في تلك الدرجة فصار الحديث عند علماء الحديث مثل البخاري ومسلم والترمذي وأمثالهم ضعيفاً، ولا يضر ذلك في الاستدلال به عند أبي حنيفة فتدبر، وهذه نكتة جيدة انتهى كلام الشيخ‏.‏

قلت‏:‏ قد تدبرنا فعلمنا أنه لا يثبت بهذه النكتة صحة أحاديث الضربتين الضعيفة ألبتة‏.‏

أما أولاً‏:‏ فلأنا سلّمنا أنه يحتمل أن تطرق الضعف في أحاديث الضربتين بعد زمن الإمام أبي حنيفة وغيره من الأئمة المتقدمين القائلين بالضربتين‏.‏ ولكن هذا احتمال محض، وبالاحتمال لا يثبت صحة هذه الأحاديث الضعيفة التي ثبت ضعفها عند المتأخرين من حفاظ المحدثين الماهرين بفنون الحديث مثل البخاري ومسلم والترمذي وأمثالهم‏.‏

وأما ثانياً‏:‏ فلأنا لا نسلم أن من قال بالتيمم بالضربتين كالإمام أبي حنيفة وغيره استدل بهذه الأحاديث الضعيفة حتى يثبت باستدلاله بها صحتها‏.‏ بل نقول يحتمل أن هذه الأحاديث الضعيفة لم تبلغه وإنما استدل ببعض آثار الصحابة رضي الله عنهم، فما لم يثبت استدلاله بهذه الأحاديث الضعيفة لا يثبت بالنكتة المذكورة صحة هذه الأحاديث الضعيفة‏.‏

وأما ثالثاً‏:‏ فلأنه لو سلم أنه استدل بهذه الأحاديث الضعيفة فعلى هذا التقدير أيضاً لا يلزم صحتها‏.‏ لجواز أنه لم يبلغه في هذا الباب غير هذه الأحاديث الضعاف فاستدل بها وعمل بمقتضاها مع العلم بضعفها‏.‏ قال النووي في التقريب وعمل العالم وفتياه على وفق حديث ليس حكماً بصحته ولا مخالفتة قدح في صحته ولا في روايته انتهى، قال السيوطي في التدريب‏:‏ وقال ابن كثير في القسم الأول نظر إذا لم يكن في الباب غير ذلك الحديث، وتعرض للاحتجاج به في فتياه أو حكمه أو استشهد به عند العمل بمقتضاه، قال العراقي‏:‏ والجواب أنه لا يلزم من كون ذلك الباب ليس فيه غير هذا الحديث أن لا يكون ثم دليل آخر من قياس أو إجماع، ولا يلزم المفتي أو الحاكم أن يذكر جميع أدلته بل ولا بعضها‏.‏ ولعل له دليلاً آخر واستأنس بالحديث الوارد في الباب، وربما كان يرى العمل بالضعيف وتقديمه على القياس انتهى‏.‏

وأما رابعاً‏:‏ فلأن هذه النكتة ليست بجيدة بل هي فاسدة‏.‏ فإن حاصلها أنه لا يلزم من وجود الضعف في الحديث في الزمن المتأخر وجوده فيه في الزمن المتقدم، وعلى هذا يلزم صحة كل حديث ضعيف ثبت ضعفه في الزمن المتأخر لضعف بعض رواته‏.‏ فإن الراوي الضعيف إما أن يكون تابعياً أو غيره ممن دونه، فعلى الأول يقال إن الحديث كان في زمن الصحابة صحيحاً والضعف إنما حدث في زمن التابعي، وعلى الثاني يقال إن الحديث كان صحيحاً في الزمن التابعي والضعف إنما حدث في زمن غير التابعي ممن دونه، واللازم باطل فالملزوم كذلك فتدبر وتفكر‏.‏

تنبيه آخر‏:‏ قال الشيخ الأجل الشاه ولي الله في المسوى شرح الموطأ تحت أثر ابن عمر أنه كان يتيمم إلى المرفقين‏.‏ إن هذين الحديثين يعني أثر ابن عمر وحديث عمار ليسا متعارضين عندي‏.‏ فإن فعل ابن عمر كمال التيمم وفعله صلى الله عليه وسلم أقل التيمم، كما أن لفظ يكفيك يرشد إليه فكما أن أصل الوضوء غسل الأعضاء مرة مرة وكماله غسلها ثلاث مرات ثلاث مرات كذلك أصل التيمم ضربة واحدة والمسح إلى الكفين وكماله ضربتان والمسح إلى المرفقين انتهى كلامه معرياً‏.‏

قلت‏:‏ لو كان حديث الضربتين والمسح إلى المرفقين مرفوعاً صحيحاً لتم ما قال الشيخ الأجل الدهلوي ولكن قد عرفت أن أحاديث الضربتين والمرفقين ضعيفة أو مختلفة في الرفع والوقف، والراجح هو الوقف‏.‏ وأما حديث عمار المرفوع فمتفق عليه وكان يفتي به عمار بعد النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يصح القول بأن فعل ابن عمر كمال التيمم وفعله صلى الله عليه وسلم أقل التيمم‏.‏ وأما مجرد فعل ابن عمر فلا يدل على أنه كمال التيمم، ألا ترى أن ابن المنذر قد روى بإسناد صحيح أن ابن عمر كان يغسل رجليه في الوضوء سبع مرات، ذكره الحافظ في الفتح فهل يقال إن غسل ابن عمر الرجلين سبع مرات كمال غسل الرجلين كلا ثم كلا‏.‏

تنبيه آخر‏:‏ اعلم أن العلماء الحنفية وغيرهم ممن قال بالتيمم بالضربتين وبمسح الوجه واليدين إلى المرفقين قد أعتذروا عن العمل بروايات عمار الصحيحة القاضية بالتيمم بضربة واحدة وبمسح الوجه والكفين بأعذار كلها باردة ذكرها صاحب السعاية من العلماء الحنفية مع الكلام عليها فنحن نذكر عبارته ههنا فإنها كافية لرد أعذارهم‏.‏

قال‏:‏ اعلم أن نزاعهم في مقامين‏:‏ الأول في كيفية مسح الأيدي هل هو إلى الإبط أم إلى المرفق أم إلى الرسغ‏.‏ والثاني في توحد الضربة للوجه واليدين وتعددها، أما النزاع الأول فأضعف الأقوال فيه هو القول الأول وأقوى الأقوال فيه من حيث الدليل هو الاكتفاء بمسح اليدين إلى الرسغين لما ثبت في روايات حديث عمار الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كيفية التيمم حين بلغه تمعكه في التراب واكتفى فيه على مسح الوجه والكفين، قال وأجيب عنه بوجوه‏:‏

أحدها أن تعليمه لعمار وقع بالفعل وقد ورد في الأحاديث القولية المسح إلى المرفقين، ومن المعلوم أن القول مقدم على الفعل‏.‏

وفيه نظر‏:‏ أما أولاً فلأن تعليمه وإن كان بالفعل لكنه انضم معه قوله إنما كان يكفيك هذا فصار الحديث في حكم الحديث القولي‏.‏ وأما ثانياً فلأنه ورد في رواية لمسلم إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك، وفي رواية للبخاري يكفيك الوجه والكفان، وهذا يدل على أن التعليم وقع بالقول أيضاً‏.‏

وثانيهما‏:‏ ما ذكره النووي والعيني وغيرهما من أن مقصوده صلى الله عليه وسلم بيان صورة الضرب وكيفية التعليم لا بيان جميع ما يحصل به التيمم، فلا يدل ذلك على عدم افتراض ما عدا المذكور فيه‏.‏

وفيه أيضاً نظر‏:‏ أما أولاً فلأن سياق الروايات شاهد بأن المراد بيان جميع ما يحصل به التيمم وإلا لم يقل صلى الله عليه وسلم إنما كان يكفيك، فحمله على مجرد تعليم صورة الضرب حمل بعيد‏.‏ وأما ثانية فلأنه لو لم يكن المقصود من التعليم بيان جميع ما يحصل به التيمم لزم السكوت في معرض الحاجة وهو غير جائز من صاحب الشريعة، وذلك لأن عماراً لم يكن يعلم كيفية التيمم المشروعة، ولم يكن تحقق عنده ما يكفي في التيمم ولذلك تمعك في التراب تمعك الدابة، فلما ذكر ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بد من بيان جميع ما يحصل به التيمم لاحتياج عمار إليه غاية الحاجة والاكتفاء في تعليمه عند ذلك ببيان صورة الضرب فقط مضر بالمقصود لبقاء جهالة ما وراءه‏.‏

وثالثها‏:‏ أن المراد بالكفين في تلك الروايات اليدان‏.‏

وفيه نظر ظاهر‏:‏ فإن ذكر اليد وإرادة بعض منها واقع شائع كما في قوله تعالى ‏{‏السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف‏}‏ الاَية‏.‏ حيث ذكر فيها اليد وأريد به بعضها وهو الكف والرسغ، وأما إطلاق الكف وإرادة اليد فغير شائع، وهو مجاز غير متعارف فلا يحمل عليه إلا عند تعذر الحقيقة وهو مفقود ههنا، على أنه لو أريد منه اليد وهو اسم من الأصابع إلى المناكب لزم ثبوت لزوم مسح اليد إلى المناكب ولا قائل به‏.‏

ورابعاً‏:‏ أنه لما تعارضت الأحاديث رجعنا إلى آثار الصحابة فوجدنا كثيراً منهم أفتوا بالمسح إلى المرفقين فأخذنا به‏.‏

وفيه أن الرجوع إلى آثار الصحابة إنما يفيد إذا كان بينهم اتفاق، ولا كذلك ههنا فإن عماراً منهم قد أفتى بالوجه والكفين وأصرح منه ما أفتى به ابن عباس وشيده بذكر النظير كما أخرجه الترمذي‏.‏

وخامسها‏:‏ ما ذكره الطحاوي وارتضى به العيني في عمدة القاري من أن حديث عمار لا يصلح حجة في كون التيمم إلى الكوعين أو المرفقين أو المنكبين أو الإبطين لاضطرابه‏.‏

وفيه‏:‏ أن الاضطراب في هذا المقام غير مضر لكون روايات المرفقين والمنكبين مرجوحة ضعيفة بالنسبة إلى غيرها فسقط الاعتبار بها، وروايات الاَباط قصتها مقدمة على قصة روايات الكفين، فلا تعارضها فبقيت روايات الكفين سالمة عن القدح والمعارضة انتهى كلام صاحب السعاية مختصراً‏.‏

تنبيه آخر‏:‏ قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات‏:‏ إن الأحاديث وردت في الباب متعارضة جاءت في بعضها ضربتين وفي بعضها ضربة واحدة وفي بعضها مطلق الضرب وفي بعضها كفين وفي بعضها يدين إلى المرفقين وفي بعضها يدين مطلقاً، والأخذ بأحاديث الضربتين والمرفقين أخذ بالاحتياط وعمل بأحاديث الطرفين لإشتمال الضربتين على ضربة ومسح الذراعين إلى المرفقين على مسح الكفين دون العكس، أيضاً التيمم طهارة ناقصة فلو كان محله أكثر بأن يستوعب إلى المرفقين وكان للوجه واليدين ضربة على حدة لكان أحسن وأولى وإلى الاحتياط أقرب وأدنى‏.‏ لا يقال إلى الاَباط أقرب إلى الاحتياط لأن حديث الاَباط ليس بصحيح انتهى كلام الشيخ‏.‏

قلت‏:‏ أحاديث الضربتين والمرفقين ضعيفة أو مختلفة في الرفع والوقف والراجح هو الوقف، ولم يصح من أحاديث الباب سوى حديثين أحدهما حديث أبي جهيم بذكر اليدين مجملاً وثانيها حديث عمار بذكر ضربة واحدة للوجه والكفين وهما حديثان صحيحان متفق عليهما كما عرفت، هذا كله في كلام الحافظ ولا تعارض بينهما، فإن الأول محمول على الثاني فالأخذ بأحاديث الضربتين والمرفقين ليس أخذاً بالأحتياط، كيف وهل يكون في أخذ المرجوح وترك الراجح احتياطا، كلا بل الأحتياط في أخذ حديث ضربة واحدة للوجه والكفين بل هو المتعين‏.‏ وأما قوله التيمم طهارة ناقصة إلخ ففيه أنه لم يثبت كون التيمم طهارة ناقصة بدليل صحيح، بل الثابت أن التيمم عند عدم وجدان الماء وضوء المسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين‏:‏ الحديث رواه البزار وصححه ابن القطان، ولكن صوب الدار قطني إرساله وللترمذي عن أبي ذر نحوه وصحّحه فالتيمم عند عدم وجدان الماء وضوء المسلم ومن ادعى أنه وضوء ناقص فعليه الدليل ولو سلم أن التيمم طهارة ناقصة فالأخذ بأحاديث الضربتين والمرفقين لا يكون أولى ولا إلى الأحتياط أقرب لأنها ليست بصحيحة، كما أن الأخذ بحديث الاَباط ليس أولى ولا إلى الأحتياط أقرب عند الشيخ الدهلوي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد روى هذا الوجه عن عمار‏)‏ وفي نسخة قلمية صحيحة وقد روى هذا الحديث عن عمار وهو الظاهر ‏(‏أنه قال الوجه والكفين‏)‏ بالجر على الحكاية ‏(‏من غير وجه‏)‏ أي من غير طريق واحد بل من طرق كثيرة ‏(‏فضعف بعض أهل العلم حديث عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم في التيمم للوجه والكفين لما روى عنه حديث المناكب والاَباط‏)‏ فظن أن حديث المناكب والاَباط مخالف لحديث الوجه والكفين ومعارض له فضعفه للأختلاف والأضطراب ‏(‏قال إسحاق بن إبراهيم‏)‏ أي في الجواب عن تضعيف بعض أهل العلم، وحاصل الجواب أن تيممهم إلى المناكب والاَباط لم يكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التيمم للوجه والكفين فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه فلا تعارض بين الحديثين، وإسحق بن إبراهيم هذا هو إسحاق بن راهويه ‏(‏ففي هذا دلالة على أنه انتهى إلى ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ قال أبو الطيب السندي في شرح الترمذي أي إن عماراً انتهى إلى أن التيمم للوجه والكفين فكان هو آخر الأمرين، فالأول ما فهموا من إطلاق اليد في الكتاب في آية التيمم والثاني ما انتهوا إليه بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم فكان الثاني هو المعتبر والمعمول به، ويدل على جواز الأجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأن عماراً رضي الله عنه اجتهد أولاً ثم لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم ترك انتهى كلام أبي الطيب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكانت السنة في القطع الكفين‏)‏ قال أبو الطيب السندي أي الطريقة في الدين قطع الكفين للسرقة يعني بسبب إطلاق اليد في آية السرقة فكذا التيمم يكفي فيه مسح الوجه والكفين لإطلاق اليد في التيمم، ومطلق اليد الكفان بدليل آية السرقة انتهى‏.‏ وقال ابن العربي في العارضة تحت أثر ابن عباس هذا ما لفظه‏:‏ هذه إشارة حبر الأمة وترجمان القرآن وكان كلام المتقدمين من قبل إشارة وبسطه‏:‏ أن الله حدد الوضوء إلى المرفقين فوقفنا عند تحديده وأطلق القول في اليدين فحملت على ظاهر مطلق اسم اليد وهو الكفان كما فعلنا في السرقة، فهذا أخذ للظاهر لا قياس للعبادة على العقوبة انتهى ‏(‏إنما هو الوجه والكفين‏)‏ تقرير للمطلوب بعد الفراغ من تقرير الدليل والظاهر أن يقول الكفان لأنه خبر لهو بطريق العطف، إلا أن يقال إنه بحذف المضاف وإبقاء جر المضاف إليه على حاله أي إنما هو مسح الوجه والكفين وهو قليل، ولكنه وارد كقراءة ابن جماز ‏"‏والله يريد الاَخرة‏"‏ بجر الاَخرة أي عوض الاَخرة أي متاعها قاله أبو الطيب السندي‏.‏

111- بابُ ‏(‏مَا جَاءَ‏)‏ فِي الرّجُلِ يَقْرأُ الْقُرْانَ عَلَى كُلّ حَالٍ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبا

146- حدثنَا أَبُو سَعِيدٍ ‏(‏عَبْدُ الله بْنُ سَعِيدٍ‏)‏ الأَشَجّ حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَ عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالاَ‏:‏ حَدّثَنَا الأَعْمَشُ وَ ابْنُ أَبِي لَيلَى عَنْ عَمْرِو بن مُرّةَ عَنْ عَبْدِ الله بن سلِمَةَ عَنْ عَلِيّ قالَ‏:‏ ‏"‏كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُنَا الْقُرْانَ عَلَى كُلّ حَالٍ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُباً‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حَدِيثُ عَلِيّ ‏(‏هَذَا‏)‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ‏.‏

وَبِهِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْم أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَالتّابِعِينَ‏.‏

قَالُوا‏:‏ يَقْرَأُ الرّجُلُ الْقُرْانَ عَلَى غَيْر وُضُوءٍ، وَلاَ يَقْرَأُ في المُصْحَفِ إِلاّ وَهُوَ طَاهِرٌ‏.‏

وَبِهِ يَقُولُ سْفيَانُ الثّوْرِيّ، وَالشّافِعِيّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو سعيد الأشج‏)‏ اسمه عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي الكوفي أحد الأئمة، روى عن عبد السلام بن حرب وأبي خالد الأحمر وغيرهما، وعنه الأئمة الستة، قال أبو حاتم ثقة إمام أهل زمانه قيل مات سنة 257 سبع وخمسين ومائتين ‏(‏وعقبة بن خالد‏)‏ بن عقبة السكوني أبو مسعود الكوفي المجدر بالجيم المفتوحة، روى عن هشام والأعمش وعنه أحمد وإسحاق وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم، وثقة أبو حاتم مات سنة 188 ثمان وثمانين ومائة ‏(‏وابن أبي ليلى‏)‏ اعلم أن ابن أبي ليلى يطلق على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعلى أبيه وعلى أخيه عيسى وعلى ابن أخيه عبد الله بن عيسى، والمراد ههنا هو الأول وهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن، صدوق سيء الحفظ جداً قاله الحافظ في التقريب، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته روى عن أخيه عيسى وابن أخيه عبد الله بن عيسى ونافع مولى ابن عمر وعمر وبن مرة وذكر كثيراً من شيوخه وتلامذته ثم ذكر أقوال الحفاظ فيه ما محصلها‏:‏ أنه صدوق سيء الحفظ فقيه وقال أحمد بن حنبل فقهه أحب إلينا من حديثه ‏(‏عن عمرو بن مرة‏)‏ بن عبد الله بن طارق الجملى المرادي الكوفي الأعمى، ثقة عابد كان لا يدلس ورمي بالإرجاء ‏(‏عن عبد الله بن سلمة‏)‏ بكسر اللام المرادي الكوفي صدوق تغير حفظه من الثانية، روى عن عمر وعلي ومعاذ وغيرهم، وعنه عمرو بن مرة وأبو إسحاق السبيعي وأبو الزبير، قال البخاري لا يتابع في حديثه وثقه العجلي كذا في التقريب وفي الخلاصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقرئنا القرآن‏)‏ من الإقراء أي يعلمنا ‏(‏على كل حال‏)‏ أي متوضئا كان أو غير متوضئ ‏(‏ما لم يكن جنباً‏)‏ وفي رواية أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجبه أو قال يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة‏.‏

فإن قيل‏:‏ حديث عائشة الذي رواه مسلم عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه وعلقه البخاري يخالف حديث علي هذا فإنه يدل بظاهره على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ حال الجنابة أيضاً، فإن قولها على كل أحيانه يشمل حالة الجنابة أيضاً، وقولها يذكر الله يشمل تلاوة القرآن أيضاً‏.‏

يقال‏:‏ إن حديث عائشة يخصص بحديث علي هذا فيراد بذكر الله غير تلاوة القرآن، قال العيني حديث عائشة لا يعارض حديث علي لأنها أرادت الذكر الذي غير القرآن انتهى‏.‏ وقال صاحب سبل السلام حديث عائشة قد خصصه حديث علي عليه السلام وأحاديث أخرى‏.‏ وكذلك هو مخصص بحالة الغائط والبول والجماع، والمراد بكل أحيانه معظمها كما قال الله تعالى ‏{‏يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‏}‏ انتهى وقال في شرح حديث الباب أخرج أبو يعلي من حديث علي عليه السلام قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئاً من القرآن ثم قال‏:‏ هكذا لمن ليس بجنب لأنه نهى وأما الجنب فلا ولا آية‏.‏ قال الهيثمي رجاله موثوقون، وهو يدل على التحريم لأنه نهى وأصله ذلك ويعاضدما سلف انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث علي حديث حسن صحيح‏)‏ وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وقال المنذري وذكر أبو بكر البزار أنه لا يروي عن على إلا من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة، وحكى البخاري عمرو بن مرة كان عبد الله يعني ابن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر وكان قد كبر لا يتابع في حديثه، وذكر الإمام الشافعي رضي الله عنه هذا الحديث وقال لم يكن أهل الحديث يثبتونه قال البيهقي وإنما توقف الشافعي في ثبوت هذا الحديث لأن مداره على عبد الله بن سلمة الكوفي، وكان قد كبر وأنكر من حديثه وعقله بعض النكرة وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر، قاله شعبة هذا آخر كلامه، وذكر الخطابي أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يوهن حديث على هذا ويضعف أمر عبد الله بن سلمة انتهى كلام المنذري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالوا يقرأ الرجل القرآن على غير وضوء‏)‏ أي يجوز له أن يقرأ على غير وضوء، واستدلوا على ذلك بحديث الباب ‏(‏ولا يقرأ في المصحف‏)‏ أي أخذاً بيده وما شابه فإنه إذا لم يمسه ويقرأ ناظراً فيه فهو جائز ‏(‏إلا وهو طاهر‏)‏ أي متوضئ ‏(‏وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق‏)‏ وهو قول أبي حنيفة وبه يقول مالك، قال في الموطأ ولا يحمل أحد المصحف بعلاقته ولا على وسادة إلا وهو طاهر ولو جاز ذلك لحل في خبيئته‏.‏ قال وإنما كره ذلك لمن يحمله وهو غير طاهر إكراماً للقرآن وتعظيماً له انتهى‏.‏ واستدلوا على ذلك بحديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً وكان فيه لا يمس القرآن إلا طاهر‏.‏ رواه الأثرم والدارقطني، وهو لمالك في الموطأ مرسلاً عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر‏.‏ وقال الأثرم واحتج أبو عبد الله يعني أحمد بحديث ابن عمر ولا يمس المصحف إلا على طهارة كذا في المنتقى‏.‏ قال ابن عبد البر لاخلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث‏.‏ وقد روى مسنداً من وجه صالح وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف عند أهل العلم معرفة يستغني بها في شهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول، ولا يصح عليهم تلقي مالا يصح انتهى‏.‏ قلت لا شك في أن هذا الحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهراً ولكن الطاهر يطلق بالإشتراك على المؤمن والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ومن ليس على بدنه نجاسة، ويدل لإطلاقه على الأول قول الله تعالى ‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة المؤمن لا ينجس، وعلى الثاني ‏"‏وإن كنتم جنباً فاطهروا‏"‏ وعلى الثالث قوله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين‏.‏ وعلى الرابع الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهراً وقد ورد إطلاق ذلك في كثير، والذي يترجح أن المشترك مجمل في معانيه فلا يعمل به حتى يبين وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمس المصحف‏.‏ وخالف في ذلك داود‏.‏ وأما المحدث حدثاً أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك إلى أنه يجوز له مس المصحف‏.‏ وقال القاسم وأكثر الفقهاء لا يجوز‏.‏ كذا في النيل‏.‏ قلت القول الراجح عندي‏:‏ قول أكثر الفقهاء وهو الذي يقتضه تعظيم القرآن واكرامه‏.‏ والمتبادر من لفظ الطاهر في هذا الحديث هو المتوضئ وهو الفرد الكامل للطاهر والله تعالى أعلم‏.‏ وقال القاري في شرح قوله لا يمس القرآن إلا طاهر ما لفظه‏.‏ بخلاف غيره كالجنب والمحدث فإنه ليس له أن يمسه إلا بغلاف متجاف‏.‏ وكره بالكم‏.‏ قال الطيبي بيان لقوله تعالى ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ فإن الضمير إما للقرآن والمراد نهي الناس عن مسه إلا على الطهارة وإما للوح‏.‏ ولا نافية ومعنى المطهرون الملائكة فإن الحديث كشف أن المراد هو الأول ويعضده مدح القرآن بالكرم وبكونه ثابتاً في اللوح المحفوظ فيكون الحكم بكونه لا يمسه مرتباً على الوصفين المتناسبين للقرآن انتهى ما في المرقاة‏.‏

تنبيه‏:‏

قال الحافظ في بلوغ المرام بعد ذكر الحديث المذكور الذي استدل به الأكثرون على عدم جواز مس القرآن لغير المتوضئ ما لفظه‏:‏ رواه مالك مرسلاً ووصله النسائي وابن حبان وهو معلول انتهى‏.‏ قال صاحب السبل‏:‏ وإنما قال المصنف إن هذا الحديث معلول لأنه من رواية سليمان بن داود وهو متفق على تركه كما قاله ابن حزم، ووهم في ذلك فإنه ظن أنه سليمان بن داود اليماني وليس كذلك، بل هو سليمان بن داود الخولاني وهو ثقة اثنى عليه أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول قال ابن عبد البر إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول، وقال يعقوب بن سفيان لا أعلم كتاباً أصح من هذا الكتاب فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم، وقال الحاكم قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة بهذا الكتاب‏.‏ وفي الباب من حديث حكيم بن حزام لا يمس القرآن إلا طاهر وإن كان في إسناده مقال إلا أنه ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث عبد الله بن عمر أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمس القرآن إلا طاهر، قال الهيثمي رجاله موثوقون وذكر له شاهدين انتهى‏.‏

112- بابُ مَا جاءَ فِي الْبَوْلِ يُصِيبُ الأَرْض

147- حَدّثَنَا ابن أَبِي عُمَرَ وَ سِعيدُ بن عَبْدِ الرّحمَنِ المَخْرومِيّ قَالاَ‏:‏ حَدّثَنَا سفْيَانُ بن عُيَيْنَةَ عَنِ الزّهْرِيّ عَنْ سعِيدِ بن المُسَيّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ قَالَ‏:‏ ‏"‏دَخَلَ أَعْرَابِيّ الْمَسْجِدَ، وَالنّبيّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَصَلّى، فَلَمّا فَرَغَ قَالَ‏:‏ اللّهُمّ ارْحَمْنِي وَمُحَمّداً وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَداً، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ لَقَدْ تحجّرْتَ وَاسِعاً، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ النّاسُ، فَقالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ، أَوْ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ‏"‏، ثُمّ قَالَ‏:‏ إِنّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسّرين‏"‏‏.‏

148- قَالَ سَعِيدٌ‏:‏ قَالَ سفْيانُ‏:‏ وَحَدّثَنِي يَحْيَى بن سَعيدٍ عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ نَحْوَ هَذَا‏.‏

‏(‏قَالَ‏)‏‏:‏ وفي البابِ عَنْ عبْدِ الله بن مَسْعُودٍ، وابنِ عَبّاس، وَوَاثِلَةَ بن الأْسقَع‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ ‏(‏و‏)‏ هذَا حَدِيثٌ ‏(‏حَسَنٌ‏)‏ صَحِيحٌ‏.‏

وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ‏.‏ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَإسْحاقَ‏.‏

وَقَدْ رَوَى يُونُسُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عَنْ أبي هُرَيْرَةَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دخل أعرابي‏)‏ بفتح الهمزة منسوب إلى الأعراب وهم سكان البوادي ووقعت النسبة إلى الجمع دون الواحد‏.‏ فقيل أعرابي لأنه جرى مجرى القبيلة كأنها واحد لأنه لو نسب إلى الواحد وهو عرب لقيل عربي فيشتبه المعنى‏.‏ لأن العربي كل من هو من ولد إسمعيل عليه السلام سواء كان ساكناً في البادية أو بالقرى وهذا غير المعنى الأول قاله الشيخ تقي الدين‏.‏ وقد جاء في تسمية هذا الأعرابي وتعيينه روايات مختلفة ولم أر في هذا رواية صحيحة خالية عن الكلام‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي في العارضة رواه الدارقطني فقال‏:‏ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير فقال يا محمد متى الساعة فقال له ما أعددت لها فقال لا والذي يعثك بالحق ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله قال فأنت مع من أحببت‏.‏ قال فذهب الشيخ فأخذ يبول في المسجد فمر عليه الناس فأقاموه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه عسى أن يكون من أهل الجنة فصبوا على بوله الماء‏.‏ فبين أن البائل في المسجد هو السائل عن الساعة المشهود له بالجنة انتهى كلام ابن العربي‏.‏

قلت‏:‏ في إسناده المعلي المالكي قال الدارقطني بعد روايته المعلي مجهول‏.‏ وقال الحافظ في الفتح حكى أبو بكر التاريخي عن عبد الله بن نافع المزني أنه الأقرع بن حابس التميمي‏.‏ قال وأخرج أبو موسى المديني في الصحابة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار قال اطلع ذو الخويصرة اليماني وكان رجلاً جافياً‏.‏ وهو مرسل وفي إسناده أيضاً مبهم بين محمد بن إسحاق وبين محمد بن عمرو بن عطاء وهو عنده من طريق الأصم عن أبي زرعة الدمشقي عن أحمد بن خالد الذهبي عنه، وهو في جمع مسنداً بن إسحاق لأبي زرعة الدمشقي من طريق الشاميين عنه بهذا السند‏.‏ لكن قال في أوله اطلع ذو الخويصرة التميمي وكان جافياً والتميمي هو حرقوس بن زهير الذي صار بعد ذلك من رؤوس الخوارج، وقد فرق بعضهم بينه وبين اليماني لكن له أصل أصيل قال ونقل عن أبي الحسن بن فارس أنه عيينة بن حصن والعلم عند الله تعالى انتهى كلام الحافظ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقد تحجرت واسعاً‏)‏ بصيغة الخطاب من باب تفعل أي ضيقت ما وسعه الله وخصصت به نفسك دون غيرك‏.‏ وأصل الحجر المنع ومنه الحجر على السفيه ‏(‏فأسرع إليه الناس‏)‏ وفي رواية للبخاري فزجره الناس‏.‏ ولمسلم فقال الصحابة مه مه وله في رواية أخرى فصاح الناس به ‏(‏أهريقوا عليه‏)‏ أي صبوا عليه قال الطيبي أمر من أهراق يهريق بسكون الهاء إهراقاً نحوا سطاعاً‏.‏ وأصله أراق فأبدلت الهمزة هاء ثم جعل عوضاً عن ذهاب حركة العين فصارت كأنها من نفس الكلمة ثم أدخل عليه الهمزة أي صبوا ‏(‏سجلاً‏)‏ بفتح السين المهملة وسكون الجيم الدلو الملاَى ماء ‏(‏أودلوا‏)‏ شك من الراوي‏.‏ قال أبو بكر بن العربي في العارضة‏:‏ السجل الدلو والدلو مؤنثة والسجل مذكر فإن لم يكن فيها ماء فليست بسجل كما أن القدح لا يقال له كأس إلا إذا كان فيه ماء يقال له دلو سجيلة أي ضخمة وكذلك الذنوب الدلو الملاَى ماء مثله ولكنها مؤنثة والغرب الدلو العظيمة بإسكان الراء فإن فتحتها فهو الماء السائل من البئر والحوض وغير ذلك أيضاً انتهى‏:‏

قلت‏:‏ وقال ابن دريد السجل دلو واسعة‏.‏ وفي الصحاح الدلو الضخمة‏.‏ قال العيني في شرح البخاري ص 886 ج1 في رواية الترمذي أهريقوا عليه سجلاً من ماء أو دلوا من ماء‏.‏ إعتبار الأداء باللفظ وإن كان الجمهور على عدم اشتراطه، وأن المعنى كاف، ويحمل ههنا على الشك ولا معنى للتنويع ولا للتخيير ولا للعطف فلو كان الراوي يرى جواز الرواية بالمعنى لا قتصر على أحدهما‏.‏ فلما تردد في التفرقة بين الدلو والسجل وهما بمعنى علم أن ذلك التردد لموافقة اللفظ قاله الحافظ القشيري‏.‏ قال العيني‏:‏ ولقائل أن يقول إنما يتم هذا أن لو اتحد المعنى في السجل والدلو لغة لكنه غير متحد فالسجل الدلو الضخمة المملوءة ولا يقال لها فارغة سجل انتهى كلام العيني ‏(‏إنما بعثتم ميسرين‏)‏ أي مسهلين على الناس‏.‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ وفي الحديث دليل على تطهير الأرض النجسة بالمكاثرة بالماء، واستدل بالحديث أيضاً على أنه يكتفي بإفاضة الماء ولا يشترط نقل التراب من المكان بعد ذلك‏.‏ خلافاً لمن قال به‏.‏ ووجه الاستدلال بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه في هذا الحديث الأمر بنقل التراب، وظاهر ذلك الاكتفاء بصب الماء فإنه لو وجب لأمر به ولو أمر به لذكر وقد ورد في حديث آخر الأمر بنقل التراب ولكنه تكلم فيه‏.‏ وأيضاً لو كان نقل التراب واجباً في التطهير لا كتفى به فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون زيادة تكليف وتعب من غير منفعة تعود إلى المقصود وهو تطهير الأرض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال سعيد قال سفيان وحدثني يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك نحو هذا‏)‏ حديث يحيى بن سعيد عن أنس أخرجه الشيخان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وواثلة بن الأسقع‏)‏ أما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه أبو يعلي عنه قال‏:‏ جاء أعرابي فبال في المسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمكانه فاحتفر وصب عليه دلواً من ماء، وفيه سمعان بن مالك وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد، وقال الحافظ في التلخيص رواه الدارمي والدارقطني وفيه سمعان بن مالك وليس بالقوي قاله أبو زرعة وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة هو حديث منكر وكذا قال أحمد وقال أبو حاتم لا أصل له انتهى‏.‏ وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو يعلي والبزار والطبراني عنه أنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فبايعه ثم انصرف فقام ففشج فبال فهم الناس به الحديث‏.‏ وفيه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فصب على بوله‏.‏ قال الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح‏.‏ وأما حديث واثله بن الأسقع فأخرجه ابن ماجه في الطهارة وفي إسناده عبيد الله بن أبي حميد الهزلي وهو ضعيف وأخرجه أيضاً أحمد والطبراني قال الحافظ في التلخيص وفيه عبيد الله بن أبي حميد الهزلي وهو منكر الحديث قاله البخاري وأبو حاتم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن صحيح‏)‏ أخرجه الجماعة إلا مسلماً كذا في المنتقي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد إسحاق‏)‏ قال الشوكاني في النيل‏:‏ استدل به يعني بحديث الباب على أن تطهير الأرض المتنجسة يكون بالماء لا بالجفاف بالريح والشمس لأنه لو كفي ذلك لما حصل التكليف بطلب الماء وهو مذهب العترة والشافعي ومالك وزفر‏:‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف هما مطهران لأنهما يحيلان الشيء انتهى‏.‏ وقال النووي في شرح مسلم‏:‏ وفيه أن الأرض تطهر بصب الماء عليها ولا يشترط حفرها وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة لا تطهر إلا بحفرها انتهى‏.‏ قال الحافظ في الفتح ص 261 ج1 كذا أطلق النووي وغيره، والمذكور في كتب الحنفية التفصيل بين ما إذا كانت رخوة بحيث يتخللها الماء حتى يغمرها فهذه لا تحتاج إلى حفر وبين ما إذا كانت صلبة فلا بد من حفرها وإلقاء التراب لأن الماء لم يغمر أعلاها وأسفلها انتهى كلام الحافظ‏.‏

قلت‏:‏ الأمر كما قال الحافظ، قال العيني في شرح البخاري، قال أصحابنا يعني الحنفية إذا أصابت الأرض نجاسة رطبة فإن كانت الأرض رخوة صب عليها الماء حتى يتسفل فيها وإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفل الماء يحكم بطهارتها ولا يعتبر فيها العدد وإنما هو على اجتهاده وما هو في غالب ظنه أنها طهرت ويقوم التسفل في الأرض مقام العصر فيما لا يحتمل العصر وعلى قياس ظاهر الرواية يصب عليها الماء ثلاث مرات ويتسفل في كل مرة وإن كانت الأرض صلبة فإن كانت صعوداً يحفر في أسفلها حفيرة ويصب الماء عليها ثلاث مرات ويتسفل إلى الحفيرة ثم تكبس الحفيرة وإن كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا يغسل لعدم الفائدة في الغسل بل تحفر، وعن أبي حنيفة لا تطهر الأرض حتى تحفر إلى الموضع الذي وصلت إليه النداوة وينقل التراب انتهى كلام العيني، وقال في شرح الوقاية والأرض والاَجر المفروش باليبس وذهاب الأثر للصلاة لا للتيمم انتهى‏.‏

واستدل الحنفية على أن تطهير الأرض المتنجسة يكون بالجفاف واليبس بحديث زكاة الأرض يبسها‏.‏

وأجيب‏:‏ بأن هذا الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكره لا أصل له في المرفوع، نعم ذكره ابن أبي شيبة موقوفاً عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر رواه عبد الرزاق عن أبي قلابة من قوله بلفظ‏:‏ جفوف الأرض طهورها انتهى‏.‏

وبحديث ابن عمر قال‏:‏ كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شاباً عزباً وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون من ذلك، أخرجه أبو داود وبوب عليه بقوله باب في طهور الأرض إذا يبست، قال الحافظ في الفتح استدل أبو داود بهذا الحديث على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، يعني أن قوله لم يكونوا يرشون يدل على نفي صب الماء من باب الأولى فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك ولا يخفى ما فيه انتهى كلام الحافظ‏.‏

قلت‏:‏ استدلال أبي داود بهذا الحديث على أن أن الأرض تطهر بالجفاف صحيح ليس فيه عندي خدشة إن كان فيه لفظ تبول محفوظاً ولا مخالفة بين هذا الحديث وبين حديث الباب فإنه يقال إن الأرض تطهر بالوجهين أعني بصب الماء عليها وبالجفاف واليبس بالشمس أو الهواء والله تعالى أعلم‏.‏

واستدل من قال إن الأرض لا تطهر إلا بالحفر بروايات جاء فيها ذكر الحفر، قال الزيلعي في نصب الراية 111 ج1 ورد فيه الحفر من طريقين مسندين وطريقين مرسلين فالمسندان أحدهما عن سمعان بن مالك عن أبي وائل عن عبد الله قال جاء أعرابي فبال في المسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمكانه فاحتفر وصب عليه دلواً من ماء انتهى، وذكر ابن أبي حاتم في علله أنه سمع أبا زرعة يقول في هذا الحديث إنه منكر ليس بالقوي انتهى، أخرجه الدارقطني في سننه‏:‏ الثاني أخرجه الدارقطني أيضاً عن الجبار بن العلاء عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن أنس أن أعرابياً بال في المسجد فقال عليه السلام احفروا مكانه ثم صبوا عليه ذنوباً من ماء قال الدارقطني وهم عبد الجبار علي ابن عيينة لأن أصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه عنه عن يحيى بن سعيد بدون الحفر وإنما روى ابن عيينة هذا عن طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال احفروا مكانه مرسلاً انتهى‏.‏ وأما المرسلان فأحدهما هذا الذي أشار إليه الدارقطني رواه عبد الرزاق في مصنفه‏.‏ والثاني رواه أبو داود في سننه عن عبد الله بن معقل قال صلى أعرابي فذكر القصة وفي آخره فقال عليه السلام خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء، قال أبو داود هذا مرسل فإن ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم انتهى ما في نصب الراية، وقال الحافظ في الفتح‏:‏ واحتجوا فيه بحديث جاء من ثلاث طرق أحدها موصول عن ابن مسعود أخرجه الطحاوي لكن إسناده ضعيف قاله أحمد وغيره والاَخران مرسلان أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن مقرن والاَخر من طريق سعيد بن منصور من طريق طاوس ورواتهما ثقات وهو يلزم من يحتج بالمرسل مطلقاً وكذا من يحتج به إذا اعتضد مطلقاً والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين وكان من أرسل إذا سمى لا يسمي إلا ثقة وذلك مفقود في المرسلين المذكورين على ما هو ظاهر من سنديهما انتهى كلام الحافظ‏.‏

قلت‏:‏ الأحاديث المرفوعة المتصلة الصحيحة خالية عن حفر الأرض، وأما الأحاديث التي جاء فيها ذكر حفر الأرض فمنها ما هو موصول فهو ضعيف لا يصلح للاستدلال، ومنها ما هو مرسل فهو أيضاً ضعيف عند من لا يحتج بالمرسل، وأما من يحتج به فعند بعضهم أيضاً ضعيف لا يصلح للاستدلال كالإمام الشافعي فقول من قال إن الأرض لا تطهر إلا بالحفر ونقل التراب قول ضعيف إلا عند من يحتج بالمرسل مطلقاً وعند من يحتج به إذا اعتضد مطلقاً‏.‏

واحتج من قال إن الأرض تطهر بصب الماء عليها بحديث الباب وهذا القول هو‏.‏ أصح الأقوال وأقواها من حيث الدليل، ثم قول من قال إنها تطهر بالجفاف بالشمس أو الهواء إن كان لفظ تبول في حديث ابن عمر المذكور محفوظاً، وأما قول من قال إنها لا تطهر إلا بالحفر ونقل التراب فمستنده الروايات التي وقع فيها ذكر الحفر وقد عرفت ما في تلك الروايات من المقال ثم هي إن دلت على أن الأرض النجسة لا تطهر إلا بالحفر ونقل التراب فهي معارضة بحديث ابن عمر المذكور وبحديث الباب هذا ما عندي والله أعلم

2- كتاب الصلاة عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

113- بابُ مَا جَاءَ فِي مَواقِيتِ الصّلاَةِ عن النبي صلى الله عليه وسلم

‏(‏باب في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ جمع ميقات وهو مفعال من الوقت، وهو القدر المحدود من الزمان أو المكان

149- حدثنَا هَنّادُ ‏(‏بنُ السّريّ‏)‏ حدّثَنَا عبْدُ الرّحْمَنِ بنُ أَبي الزّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ الْحَارثِ بنِ عَيّاشِ بن أبي رَبِيعَةَ عنْ حَكِيمِ بنِ حَكيم، وَهُوَ ابنُ عبّادِ بنِ حُنَيْفٍ، أَخْبَرَني نَافِعُ بنُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ قَالَ أخْبَرَني ابنُ عبّاسٍ أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ ‏"‏أَمّنِي جِبْرِيلُ ‏(‏عليهِ السّلاَمُ‏)‏ عنْدَ الْبَيْتِ مَرّتَيْنِ، فَصَلّى الظّهْرَ فِي الاْولَى مِنْهُما حينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشّرَاكِ، ثمّ صلّى الْعَصْرَ حينَ كَانَ كُلّ شَيْءٍ مِثْلَ ظِلهِ، ثُمّ صَلّى الْمَغْرِب حِينَ وَجَبَتِ الشّمْسُ وَأفْطَرَ الصّائِمُ، ثَمّ صَلّى الْعِشاءَ حينَ غابَ الشْفقُ، ثُمّ صَلى الْفجْرَ حينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرمَ الطّعَامُ عَلَى الصّائِمِ‏.‏ وَصَلّى المَرّةَ الثّانِيَةَ الظّهْرَ حينَ كَانَ ظِلّ كلّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالأمْسِ، ثَمّ صَلّى العَصْرَ حينَ كانَ ظِلّ كُلّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثَمّ صَلّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتهِ الأَوْلِ، ثُمّ صلى الْعِشاءَ الاَخِرَةَ حينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ، ثُمّ صَلى الصّبْحَ حينَ أسْفَرَتِ الأَرْضُ، ثُمّ الْتَفَتَ إِلَيّ جِبْرِيلُ فَقالَ‏:‏ يا مُحَمّدُ، هَذا وَقْتُ الأَنْبِياءِ منْ قبْلكَ وَالْوَقْتُ فيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْن‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وفي البابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبُرَيْدَةَ وَأَبِي مُوسَى، وَأَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيّ وَأَبِي سَعِيدٍ، وجَابِرٍ، وَعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَالبَرَاءِ، وَأَنَسٍ‏.‏

150- ‏(‏أَخْبَرَني‏)‏ أَحْمَدُ بن مُحَمّدِ بن مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن المُبَارَكِ أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ بن عَليّ بن حُسَيْنٍ أَخْبَرَنِي وَهْبُ بنُ كَيْسَانَ عَنْ جَابِر بن عَبْدِ الله عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏أَمّنِي جِبْرِيلُ‏"‏ فَذَكَرَ نَحوَ حديث ابنِ عباسٍ بمعناهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ‏"‏لِوَقْتِ العَصْر بِالأَمْسِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسنٌ صحيح غَرِيبٌ‏)‏‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ حَدِيثُ ابن عَبّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ ‏(‏صَحِيحٌ‏)‏‏.‏

وَقَالَ مُحَمّدٌ‏:‏ أَصَحّ شَيْءٍ فِي الْمَواقِيتِ حَدِيثُ جَابِرٍ عَنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قَالَ‏:‏ وَحَديثُ جَابِرٍ فِي الْمَواقِيتِ قَدْ رَوَاهُ عَطاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏(‏عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة‏)‏ قال في التقريب عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي أبو الحارث المدني صدوق له أوهام ‏(‏عن حكيم بن حكيم وهو ابن عباد بن حنيف‏)‏ الأنصاري الأوسي صدوق قاله الحافظ وذكره ابن حبان في الثقات قاله الخزرجي ‏(‏قال أخبرني نافع بن جبير بن مطعم‏)‏ النوفلي أبو محمد أو أبو عبد الله المدني ثقة فاضل من الثانية مات سنة 99 تسع وتسعين وهو من رجال الكتب الستة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمني جبريل عند البيت‏)‏ أي عند بيت الله، وفي رواية في الأم للشافعي عند باب الكعبة ‏(‏مرتين‏)‏ أي في يومين ليعرفني كيفية الصلاة وأوقاتها ‏(‏فصلى الظهر في الأولى منهما‏)‏ أي المرة الأولى من المرتين، قال الحافظ في الفتح بين ابن إسحاق في المغازي أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة وهو ليلة الإسراء قال ابن إسحاق وحدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير وقال عبد الرزاق عن ابن جريج قال قال نافع بن جبير وغيره لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زالت الشمس ولذلك سميت الأولى أي صلاة الظهر فأمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى به جبريل وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس فذكر الحديث انتهى ‏(‏حين كان الفيء‏)‏ هو ظل الشمس بعد الزوال ‏(‏مثل الشراك‏)‏ أي قدره قال ابن الأثير الشراك أحد سيور النعل التي تكون على وجهها انتهى‏.‏ وفي رواية أبي داود حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، قال ابن الأثير قدره ههنا ليس على معنى التحديد ولكن زوال الشمس لا يبين إلا بأقل ما يرى من الظل وكان حينئذ بمكة هذا القدر‏.‏ والظل يختلف بإختلاف الأزمنة والأمكنة وإنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلاد التي يقل فيها الظل فإذا كان طول النهار واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير بشيء من جوانبها ظل فكل بلد يكون أقرب إلى خط الاستواء ومعدل النهار يكون الظل فيه أقصر وكل ما بعد عنهما إلى جهة الشمال يكون الظل أطول انتهى‏.‏ ‏(‏ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله‏)‏ أي سوى ظله الذي كان عند الزوال‏.‏ يدل عليه ما رواه النسائي من حديث جابر بن عبد الله بلفظ‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس وكان الفيء قدر الشراك ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر الشراك وظل الرجل ‏(‏ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس‏)‏ أي غربت ‏(‏وأفطر الصائم‏)‏ أي دخل وقت إفطاره بأن غابت الشمس فهو عطف تفسير ‏(‏ثم صلى العشاء حين غاب الشفق‏)‏ أي الأحمر على الأشهر قاله القاري، وقال النووي في شرح مسلم المراد بالشفق الأحمر هذا مذهب الشافعي وجمهور الفقهاء وأهل اللغة وقال أبو حنيفة والمزني رضي الله عنهما وطائفة من الفقهاء وأهل اللغة المراد الأبيض والأول هو الراجح المختار انتهى كلام النووي‏.‏

قلت‏:‏ وإليه ذهب صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد وقالا الشفق هو الحمرة وهو رواية عن أبي حنيفة بل قال في النهر وإليه رجع الإمام، وقال في الدر الشفق هو الحمرة عندهما وبه قالت الثلاثة وإليه رجع الإمام كما هو في شروح المجمع وغيره فكان هو المذهب، قال صدر الشريعة وبه يفتي كذا في حاشية النسخة الأحمدية، ولا شك في أن المذهب الراجح المختار هو أن الشفق الحمرة يدل عليه حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشفق الحمرة رواه الدارقطني وصححه ابن خزيمة وغيره ووقفه على ابن عمر كذا في بلوغ المرام، قال محمد بن إسمعيل الأمير في سبل السلام البحث لغوي والمرجع فيه إلى أهل اللغة وابن عمر من أهل اللغة ومخ العرب فكلامه حجة وإن كان موقوفاً عليه انتهى، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم‏:‏ وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق قال الجزري في النهاية أي انتشاره وثوران حمرته من ثار الشيء يثور إذا انتشر وارتفع انتهى، وفي البحر الرائق من كتب الحنفية قال الشمني هو ثوران حمرته انتهى، ووقع في رواية أبي داود وقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق، قال الخطابي هو بقية حمرة الشفق في الأفق وسمي فوراً بفورانه وسطوعه وروى أيضاً ثور الشفق وهو ثوران حمرته انتهى، وقال الجزري في النهاية هو بقية حمرة الشمس في الأفق الغربي سمي فوراً لسطوعه وحمرته ويروى بالثاء وقد تقدم انتهى ‏(‏ثم صلى الفجر حين برق الفجر‏)‏ أي طلع ‏(‏وصلى المرة الثانية‏)‏ أي في اليوم الثاني ‏(‏حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس‏)‏ أي فرغ من الظهر جينئذ كما شرع في العصر في اليوم الأول حينئذ قال الشافعي وبه يندفع اشتراكهما في وقت واحد على ما زعمه جماعة ويدل له خبر مسلم وقت الظهر ما لم يحضر العصر ‏(‏ثم صلى المغرب لوقته الأول‏)‏ استدل به من قال إن لصلاة المغرب وقتاً واحداً وهو عقب غروب الشمس بقدر ما يتطهر ويستر عورته ويؤذن ويقيم فإن أخر الدخول في الصلاة عن هذا الوقت أثم وصارت قضاء وهو قول الشافعية‏.‏ قال النووي وذهب المحققون من أصحابنا إلى ترجيح القول بجواز تأخيرها ما لم يغب الشفق وأنه يجوز ابتداؤها في كل وقت من ذلك ولا يأثم بتأخيرها عن أول الوقت وهذا هو الصحيح والصواب الذي لا يجوز غيره‏.‏ والجواب عن حديث جبريل عليه السلام حين صلى المغرب في اليومين حين غربت الشمس من ثلاثة أوجه‏.‏

الأول‏:‏ أنه اقتصر على بيان وقت الإختيار ولم يستوعب وقت الجواز وهذا جار في الصلوات سوى الظهر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه متقدم في أول الأمر بمكة وأحاديث امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أواخر الأمر بالمدينة، فوجب اعتمادها‏.‏

والثالث‏:‏ أن هذه الأحاديث أصح إسناداً من حديث بيان جبريل‏.‏ فوجب تقديمها انتهى كلام النووي ‏(‏فقال يا محمد هذا‏)‏ أي ما ذكر من الأوقات الخمسة ‏(‏وقت الأنبياء من قبلك‏)‏ قال ابن العربي في عارضة الأحوذي‏:‏ ظاهره يوهم أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لمن قبلهم من الأنبياء‏.‏ وليس كذلك، وإنما معناه أن هذا وقتك المشروع لك يعني الوقت الموسع المحدود بطرفين الأول والاَخر، وقوله وقت الأنبياء قبلك يعني ومثله وقت الأنبياء قبلك أي صلاتهم كانت واسعة الوقت وذات طرفين، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا لهذه الأمة خاصة‏.‏ وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها‏.‏ وقد روى أبو داود في حديث العشاء‏:‏ أعتموا بهذه الصلاة فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، وكذا قال ابن سيد الناس‏.‏ وقال يريد في التوسعة عليهم في أن الوقت أولاً وآخراً لا أن الأوقات هي أوقاتهم بعينها‏.‏ كذا في قوت المغتذي ‏(‏والوقت فيما بين هذين الوقتين‏)‏ قال ابن سيد الناس يريد هذين وما بينهما، أما إرادته أن الوقتين الذين أوقع فيهما الصلاة وقت لها‏.‏ فتبين بفعله وأما الإعلام بأن ما بينهما أيضاً وقت فبينه قوله عليه الصلاة والسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن أبي هريرة وبريدة وأبي موسى وأبي مسعود وأبي سعيد وجابر وعمرو بن حزم والبراء وأنس‏)‏ أما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن السكن والحاكم، وأما حديث بريدة فأخرجه الترمذي‏.‏ وأما حديث أبي موسى فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأبو عوانة، وأما حديث أبي مسعود فأخرجه مالك في الموطأ وإسحاق بن راهويه وأصله في الصحيحين من غير تفصيل وفصله أبو داود، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أحمد والطحاوي، وأما حديث جابر فأخرجه أحمد والترمذي والنسائي، وأما حديث عمرو بن حزم فأخرجه إسحاق بن راهويه وأما حديث البراء فذكره ابن أبي خيثمة، وأما حديث أنس فأخرجه الدارقطني وابن السكن في صحيحه والإسماعيلي في معجمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث ابن عباس حديث حسن‏)‏ وصححه ابن عبد البر وأبو بكر بن العربي، قال إن عبد البر‏:‏ إن الكلام في إسناده لا وجه له، والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال محمد أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ قال ابن القطان حديث جابر يجب أن يكون مرسلاً لأن جابراً لم يذكر من حديثه بذلك ولم يشاهد ذلك صبيحة الإسراء لما علم من أنه أنصاري إنما صحب بالمدينة، قال وابن عباس وأبو هريرة اللذان رويا أيضاً قصة إمامة جبريل فليس يلزم في حديثهما من الإرسال ما في رواية جابر لأنهما قالا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك وقصه عليهما‏.‏ كذا في قوت المغتذي‏.‏

114- بابُ ‏(‏مِنْهُ‏)‏

‏(‏باب منه‏)‏ أي مما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الباب كالفصل من الباب المتقدم

151- حدثنا هَنّادٌ حدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنّ لِلصّلاَةِ أَوّلاً وآخِراً، وإنّ أَوّلَ وَقْتِ صَلاَةِ الظّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشّمْسُ، وآخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَإِنّ أَوّلَ وَقْتِ صَلاَةِ العصْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُهَا، وَإِنّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَصْفَرّ الشّمْسُ، وَإِن أَوّلَ وَقْتِ المَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشّمْسُ، وَإِنّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَغيبُ الأُفُقُ، وَإِنّ أَوّلَ وَقْتِ العِشَاءِ الاَخِرَةِ حِينَ يَغِيبُ الاْفُقُ، وإِنّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَنْتَصِفُ الّليْلُ، وإِنّ أَوّلَ وَقْتِ الفَجْرِ حِيْنَ يَطْلُعُ الفَجْرُ، وَإِنّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَطْلُعُ الشّمْسُ‏"‏‏.‏

‏(‏قَالَ‏)‏‏:‏ وفي البابِ عن عَبْد الله بْنِ عَمْرٍو‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ ‏(‏وَ‏)‏ سَمِعْتُ مُحَمّداً يَقُولُ‏:‏ حَدِيثُ الأَعْمَشِ عن مُجَاهِدٍ فِي الْمَواقِيتِ‏:‏ أَصَحّ مِنْ حديث مُحَمّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنِ الأَعْمَشِ، وَحَدِيثُ مُحَمّدِ بْنِ فُضِيْلٍ خَطَأٌ، أَخْطَأَ فِيهِ مُحَمّدُ بْنُ فُضَيْلِ‏.‏

حدثنا هَنّادٌ حدثنا أَبُو أُسَامةَ عن ‏(‏أَبِي إِسْحاقَ‏)‏ الْفَزارِيّ عَنِ الأَعْمَشِ عن مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ كَان يُقَال‏:‏ إِنّ لِلصّلاَةِ أَوّلاً وآخِراً، فذَكَرَ نَحْوَ حَديثِ مُحَمّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عنِ الأَعْمَشِ، نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ‏.‏

152- حَدّثَنَا أَحْمَدُ بن مُنِيعٍ وَ الْحَسَنُ بن الصّبّاحِ البَزّارُ وَ أَحْمَدُ بن مُحمّدِ بن مُوسَى، الْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالُوا‏:‏ حَدّثَنَا إسْحاقُ بن يُوسُفَ الأَزْرَقُ عَنْ سُفْيَانَ ‏(‏الثّوْرِيّ‏)‏ عَنْ عَلْقَمَةَ بن مَرْثَدٍ عَنْ سُليْمانَ بن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ ‏"‏أتَى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَسَأَلهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصّلاَةِ فَقَالَ‏:‏ أَقِمْ مَعَنا إِنْ شاءَ الله، فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَقامَ حِينَ طلعَ الْفَجْرُ، ثُمّ أَمَرَهَ فَأَقامَ حِينَ زَالَتِ الشّمْسُ فَصَلّى الظّهْرَ، ثُمّ أَمَرَهُ فَأَقامَ فَصَلّى العَصْرَ وَالشّمْسُ بَيْضَاءُ مُرْتَفِعَةٌ، ثَمّ أَمَرَهُ بِالْمَغْرِبِ حِينَ وَقَعَ حَاجِبُ الشّمْسِ، ثُمّ أَمَرَهُ بِالعِشَاءِ فَأَقامَ حينَ غَابَ الشّفَقُ، ثُمّ أَمَرَهُ مِنَ الغَدِ فَنَوّرَ بِالفَجْرِ، ثُمّ أَمَرَهُ بالظّهْرِ فَأَبْرَدَ وَأَنْعمَ أَنْ يُبْرِدَ، ثُمّ أَمَرَهُ بِالْعَصْرِ فَأَقامَ وَالشّمسُ آخِرَ وَقْتِها فَوْقَ مَا كانَتْ ثُمّ أَمَرَهُ فَأخّرَ المَغْرِبَ إِلَى قُبَيْلِ أَنْ يَغِيبَ الشّفَقُ، ثُمّ أَمَرَهُ بِالعِشاءِ فَأَقامَ حينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ‏.‏ ثُمْ قالَ‏:‏ أَيْنَ السّائِلُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصّلاَةِ‏؟‏ فَقالَ الرّجُلُ‏:‏ أَنَا، فَقالَ‏:‏ مَوَاقِيتُ الصّلاَةِ كما بَيْنَ هَذِيْنِ‏"‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ هذَا حديثٌ حسنٌ غَرِيبٌ صحيحٌ‏.‏

‏(‏قالَ‏)‏‏:‏ وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ علْقَمَةَ بنِ مَرْثَدٍ أَيضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نا محمد بن فضيل‏)‏ بن غزوان الضبي مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي صدوق عارف رمي بالتشيع كذا في التقريب، قال في الخلاصة قال النسائي ليس به بأس قال البخاري مات سنة 195 خمس وتسعين ومائة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها‏)‏ كأن وقته كان معلوماً عندهم ‏(‏وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس‏)‏ أي آخر وقتها المختار والمستحب وإلا فآخر وقتها إلى غروب الشمس ‏(‏وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل‏)‏ أي آخر وقتها اختياراً، أما وقت الجواز فيمتد إلى طلوع الفجر الثاني لحديث أبي قتادة‏:‏ ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، وقال الإصطخري إذا ذهب نصف الليل صارت قضاء، ودليل الجمهور حديث أبي قتادة قاله النووي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن عبد الله بن عمرو‏)‏ أخرجه مسلم عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت الصلاة المغرب ما لم تغب الشمس ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت محمداً يقول حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصح من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش‏)‏ حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت رواه الترمذي بعد هذا ‏(‏وحديث محمد بن فضيل خطأ أخطأ فيه محمد بن الفضيل‏)‏ أي أخطأ في الإسناد حيث روى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وإنما هو عن الأعمش عن مجاهد‏.‏ قال كان يقال إلخ قال الحافظ في التلخيص‏.‏ ورواه الحاكم من طريق أخرى عن محمد بن عباد بن جعفر أنه سمع أبا هريرة وقال صحيح الإسناد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والحسن بن الصباح‏)‏ بتشديد الموحدة ‏(‏البزار‏)‏ بفتح الموحدة وتشديد الزاي المعجمة وبعدها راء مهملة‏.‏ أبو على الواسطي ثم البغدادي أحد أعلام السنة‏.‏ روى عن إسحاق الأزرق ومعن بن عيسى وغيرهما، وعنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي‏.‏ وقال ليس بالقوي‏.‏ وقال أحمد ثقة مات سنة 249 تسع وأربعين ومائتين‏.‏ كذا في الخلاصة، وقال في التقريب صدوق يهم وكان عابداً فاضلاً انتهى ‏(‏وأحمد بن محمد بن موسى‏)‏ أبو العباس السمسار المعروف بمردويه ثقة حافظ من العاشرة‏.‏ كذا في التقريب ‏(‏قالوا ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق‏)‏ المخزومي الواسطي‏.‏ ثقة قيل لأحمد‏:‏ أثقة هو قال إي والله ‏(‏عن سفيان‏)‏ هو الثوري ‏(‏عن سليمان بن بريدة‏)‏ بن الحصيب الأسلمي المروزي‏.‏ ثقة وثقه ابن معين وأبو حاتم قال الحاكم لم يذكر سماعاً من أبيه قال الخزرجي حديثه عن أبيه في مسلم في عدة مواضع ‏(‏عن أبيه‏)‏ هو بريدة بن الحصيب بمهملتين مصغراً صحابي أسلم قبل بدر مات سنة 63 ثلاث وستين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال أقم معنا إن شاء الله‏)‏ قال أبو الطيب السندي‏:‏ كأنه للتبرك وإلا فلم يعرف تقييد الأمر بمثل هذا الشرط، وفي رواية لمسلم صَلّ معنا هذين يعني اليومين ‏(‏فأمر بلالاً فأقام حين طلع الفجر‏)‏ وفي رواية لمسلم فأمر بلالاً فأذن بغلس فصلى الصبح فأمره فأقام حين زالت الشمس أي عن حد الاستواء‏.‏ وفي رواية لمسلم حين زالت الشمس عن بطن السماء فصلى العصر ‏(‏والشمس بيضاء مرتفعة‏)‏ أي لم تختلط بها صفرة أي فصلى العصر في أول وقته ‏(‏ثم أمره بالمغرب حين وقع حاجب الشمس‏)‏ أي طرفها الأعلى كذا في مجمع البحار، وفي رواية لمسلم حين غابت الشمس ‏(‏فنور بالفجر‏)‏ من التنوير أي أسفر بصلاة الفجر ‏(‏فأبرد وأنعم أن يبرد‏)‏ أي أبرد بصلاة الظهر وزاد وبالغ في الإبراد، يقال أحسن إلى فلان وأنعم‏.‏ أي زاد في الإحسان وبالغ‏.‏ قال الخطابي‏:‏ الإبراد، أن يتفيأ الأفياء وينكسر وهج الحر فهو برد بالنسبة إلى حر الظهيرة ‏(‏فأقام والشمس آخر وقتها فوق ما كانت‏)‏ أي فأقام العصر والحال أن الشمس آخر وقتها في اليوم الثاني فوق الوقت الذي كانت الشمس فيه في اليوم الأول، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العصر في اليوم الثاني حين صار ظل الشيء مثليه وقد كان صلاها في اليوم الأول، حين كان ظل الشيء مثله، وفي رواية لمسلم وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان قال القاري في المرقاة‏:‏ أخر بالتشديد أي أخر صلاة العصر في اليوم الثاني فوق التأخير الذي وجد في اليوم الأول بأن أوقعها حين صار ظل الشيء مثليه كما بينته الروايات الأخر، يريد أن صلاة العصر كانت مؤخرة عن الظهر لأنها كانت مؤخرة عن وقتها انتهى ‏(‏فقال الرجل أنا ههنا حاضر فقال مواقيت الصلاة كما بين هذين‏)‏ الكاف زائدة وفي رواية وقت صلاتكم بين ما رأيتم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا حديث حسن غريب صحيح‏)‏ وأخرجه مسلم أيضاً‏.‏

115- بابُ مَا جَاءَ فِي التّغْلِيسِ بِالْفَجْر

‏(‏باب ما جاء في التغليس بالفجر‏)‏ أي أداء صلاة الفجر في الغلس والغلس ظلمة آخر الليل

153- حدثنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنْسٍ قَالَ‏:‏ وَحدثنا الأْنْصَاريّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عنْ عَمْرَةَ عنْ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏"‏إِنْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَيُصَلي الصّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النّسَاءُ قَالَ الأْنْصَارِيّ‏:‏ فَيَمُرّ النّسَاءُ مُتَلَفّفَاتٍ بمُروطِهِنّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ‏"‏ وَقَالَ قُتَيْبَةَ‏:‏ ‏(‏مُتَلَفّعَاتٍ‏)‏‏.‏

‏(‏قَالَ‏)‏‏:‏ وفي البابِ عَنِ ابنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَقيْلَةِ بِنْتِ مَخرَمَةَ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حَديثُ عَائِشَةَ حدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ‏.‏

‏(‏وَقَدْ رَوَاهُ الزّهْرِيّ عَنْ عُروَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ‏)‏‏.‏

وَهُوَ الّذِي اخْتَارَه غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم، مِنْهُمْ‏:‏ أَبُو بَكرٍ، وَعُمَرُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التّابِعينَ‏.‏

وَبِهِ يَقُولُ الشّافِعِيّ، وَأَحْمَدُ، وَإسْحاقُ‏:‏ يَسْتَحِبّونَ التّغْلِيسَ بِصَلاَةِ الْفَجْرِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ونا الأنصاري‏)‏ هو إسحاق بن موسى الأنصاري والترمذي قد يقول الأنصاري وقد يصرح باسمه ‏(‏نا معن‏)‏ هو ابن عيسى بن يحيى الأشجعي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن كان‏)‏ إن مخففة من المثقلة أي إنه كان ‏(‏قال الأنصاري‏)‏ أي في روايته ‏(‏فتمر النساء متلففات‏)‏ بالنصب على الحالية من التلفف بالفائين ‏(‏بمروطهن‏)‏ المروط جمع مرط بكسر ميم وسكون راء وهو كساء معلم من خز أو صوف أو غير ذلك‏.‏ كذا قال الحافظ وغيره أي فتمر النساء حال كونهن مغطيات رؤوسهن وأبدانهن بالأكسية ‏(‏ما يعرفن‏)‏ على البناء للمفعول وما نافية أي لا يعرفهن أحد ‏(‏من الغلس‏)‏ من تعليلية أي لأجل الغلس‏.‏ قال الحافظ في فتح الباري‏:‏ قال الداودي معناه لا يعرفن أنساء أم رجال‏.‏ لا يظهر للرأئي إلا الأشباح خاصة، وقيل لا يعرف أعيانهن فلا يفرق بين خديجة وزينب‏.‏ وضعفه النووي بأن المتلففة في النهار لا تعرف عينها فلا يبقى في الكلام فائدة‏.‏

وتعقب بأن المعرفة إنما تتعلق بالأعيان فلو كان المراد الأول لعبر بنفي العلم، وما ذكره من أن المتلففة بالنهار لا تعرف عينها فيه نظر لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب‏.‏ ولو كان بدنها مغطى‏.‏ وقال الباجي هذا يدل على أنهن كن سافرات إذ لو كن متنقبات لمنع تغطية الوجه من معرفتهن لا الغلس‏.‏ قال الحافظ وفيه ما فيه لأنه مبني على الأشتباه الدي أشار إليه النووي‏.‏ وأما إذا قلنا إن لكل واحدة منهن هيئة غالباً فلا يلزم ما ذكر انتهى كلام الحافظ‏.‏ وقال ولا معارضة بين هذا وبين حديث أبي برزة أنه كان ينصرف من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه لأن هذا إخبار عن رؤية المتلفعة على بعد‏.‏ وذلك إخبار عن رؤية الجليس انتهى ‏(‏وقال قتيبة‏)‏ أي روايته ‏(‏متلفعات‏)‏ من التلفع‏.‏ قال الجزري في النهاية أي متلففات بأكسيتهن‏.‏ واللفاع ثوب يجلل به الجسد كله كساء كان أو غيره‏.‏ وتلفع بالثوب إذا اشتمل به انتهى، وقال الحافظ في الفتح قال الأصمعي التلفع أن تشتمل بالثوب حتى تجلل به جسدك‏.‏ وفي شرح الموطأ لابن حبيب التلفع لا يكون إلا بتغطية الرأس والتلفف يكون بتغطية الرأس وكشفه انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن ابن عمر وأنس وقيلة بنت مخرمة‏)‏ أما حديث ابن عمر فأخرجه ابن ماجة ويأتي لفظه، وله حديث آخر أخرجه أحمد عن أبي الربيع قال كنت مع ابن عمر فقلت له إني أصلي معك ثم ألتفت فلا أرى وجه جليسي، ثم أحياناً تسفر، فقال كذلك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأحببت أن أصليها كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها، قال الشوكاني في إسناده أبو الربيع قال الدارقطني مجهول انتهى‏.‏ وأما حديث أنس فأخرجه البخاري عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت تسحرا فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة فقلنا لأنس كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة قال قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية‏.‏ وأما حديث قيلة بنت مخرمة فلينظر من أخرجه‏.‏ وفي الباب أيضاً عن جابر بن عبد الله وأبي برزة الأسلمي وأبي مسعود الأنصاري، أما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه الشيخان عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي قال سألنا جابر بن عبد الله عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كان يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس حية والمغرب إذا وجبت والعشاء إذا كثر الناس عجل وإذا قلوا أخر والصبح بغلس‏.‏ وأما حديث أبي برزة فأخرجه الشيخان أيضاً وفيه وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وأما حديث أبي مسعود الأنصاري فسيأتي تخريجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث عائشة حديث حسن صحيح‏)‏ أخرجه الجماعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو الذي أختاره غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعمرو من بعدهم من التابعين وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق يستحبون التغليس بصلاة الفجر‏)‏ وهو قول مالك، قال ابن قدامة في المغني‏:‏ وأما صلاة الصبح فالتغليس بها أفضل وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق‏.‏ قال ابن عبد البر صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون، ومحال أن يتركوا الأفضل ويأتوا الدون وهم النهاية في إتيان الفضائل انتهى، واستدلوا بأحاديث الباب، قال الحازمي في كتاب الأعتبار‏:‏ تغليس النبي صلى الله عليه وسلم ثابت وأنه داوم عليه إلى أن فارق الدنيا ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يداوم إلا على ما هو الأفضل وكذلك أصحابه من بعده تأسياً به صلى الله عليه وسلم، وروى بإسناده عن أبي مسعود قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر قال هذا طرف من حديث طويل في شرح الأوقات وهو حديث ثابت مخرج في الصحيح بدون هذه الزيادة، وهذا إسناد رواته عن آخره ثقات والزيادة عن الثقة مقبولة‏.‏ وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا الحديث ورأوا التغليس أفضل روينا ذلك عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم وعن ابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأبي مسعود الأنصاري، وعبد الله بن الزبير وعائشة وأم سلمة رضوان الله عليهم أجمعين، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وإليه ذهب مالك وأهل الحجاز والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق انتهى‏.‏

قلت‏:‏ حديث أبي مسعود الذي ذكره الحازمي بإسناده أخرجه أيضاً أبو داود وغيره كذا قال الحافظ في الفتح، وقال المنذري في تلخيص السنن‏:‏ والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه بنحوه ولم يذكروا رؤيته لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الزيادة في قصة الإسفار رواتها عن آخرهم ثقات والزيادة من الثقة مقبولة انتهى كلام المنذري، وقال الخطابي هو صحيح الإسناد وقال ابن سيد الناس إسناد حسن وقال الشوكاني رجاله في سنن أبي داود رجال الصحيح‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف يكون إسناد أبي مسعود المذكور صحيحاً أو حسناً وفيه أسامة بن زيد الليثي، وقد ضعفه غير واحد، قال أحمد ليس بشيء فراجعه ابنه عبد الله فقال إذا تدبرت حديثه تعرف فيه النكرة وقال النسائي ليس بالقوي وقال يحيى القطان ترك حديثه بآخره، وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به كذا في الميزان‏.‏

ولو سلم أنه ثقة فزيادته المذكورة شاذة غير مقبولة فإنّهُ قد تفرد بها، والحديث رواه غير واحد من أصحاب الزهري ولم يذكروا هذه الزيادة غيره والثقة إذا خالف الثقات في الزيادة فزيادته لا تقبل وتكون غير محفوظة‏.‏

قلت‏:‏ أسامة بن زيد الليثي وإن تكلم فيه لكن الحق أنه ثقة صالح للاحتجاج، قال إمام هذا الشان يحيى بن معين ثقة حجة وقال ابن عدي لا بأس به كذا في الميزان ولذلك ذكره الحافظ الذهبي في كتابه ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق حيث قال فيه‏:‏ أسامة بن زيد الليثي لا العدوي صدوق قوي الحديث أكثر مسلم إخراج حديث ابن وهب ولكن أكثرها شواهد أو متابعات، والظاهر أنه ثقة، وقال النسائي وغيره ليس بالقوي انتهى وأما قول أحمد إذا تدبرت حديثه تعرف فيه النكرة فالظاهر أنه ليس مراده الإطلاق بل أراد حديثه الذي روي عن نافع، ففي الجوهر النقي قال أحمد بن حنبل روى عن نافع أحاديث مناكير فقال له ابنه عبد الله وهو حسن الحديث‏.‏ فقال أحمد إن تدبرت حديثه فستعرف فيه النكرة على أن قول أحمد في رجل روى مناكير لا يستلزم ضعفه، فقد قال في محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي في حديثه شيء يروي أحاديث مناكير وقد احتج به الجماعة‏؟‏ وكذا قال في بريد بن عبد الله بن أبي بردة روى مناكير وقد احتج به الأئمة كلهم كذا في مقدمة فتح الباري وأما قول يحيى القطان ترك حديثه بآخره فغير قادح فإنه متعنت جداً في الرجال كما صرح به الذهبي في الميزان في ترجمة سفيان بن عيينة، وقال الحافظ الزيلعي في نصب الراية ص 734 ج1 في توثيق معاوية بن صالح احتج به مسلم في صحيحه وكون يحيى بن سعيد لا يرضاه غير قادح فإن يحيى شرطه شديد في الرجال انتهى، أما قول أبي حاتم لا يحتج به من غير بيان السبب فغير قادح أيضاً، قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية في توثيق معاوية بن صالح وقول أبي حاتم لا يحتج به غير قادح فإنه لم يذكر السبب وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب الصحيح الثقات الأثبات من غير بيان السبب كخالد الحذاء وغيره انتهى كلام الزيلعي‏.‏ وأما قول النسائي ليس بالقوي فغير قادح أيضاً فإنه مجمل مع أنه متعنت وتعنته مشهور، فالحق أن أسامة بن زيد الليثي ثقة صالح للاحتجاج وزيادته المذكورة مقبولة كما صرح به الحافظ الحازمي وغيره، فإنها ليست منافية لرواية غيره من الثقات الذين لم يذكروها وزيادة الثقة إنما تكون شاذة إذا كانت منافية لرواية غيره من الثقات، وقد حققناه في كتابنا أبكار المنن في نقد آثار السنن في باب وضع اليدين على الصدر، وقال الحافظ بن حجر في فتح الباري‏:‏ وقد وجدت ما يعضد رواية أسامة بن زيد ويزيد عليها أن البيان من فعل جبريل وذلك فيما رواه الباغندي في مسند عمر بن عبد العزيز والبيهقي في السنن الكبرى من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي بكر بن حزم أنه بلغه عن أبي مسعود فذكره منقطعاً، لكن رواه الطبراني من وجه آخر عن أبي بكر عن عروة فرجع الحديث إلى عروة، ووضح أن له أصلاً وأن في رواية مالك ومن تابعه اختصاراً، وبذلك جزم ابن عبد البر وليس في رواية مالك ومن تابعه ما ينفي الزيادة المذكورة فلا توصف والحالة هذه بالشذوذ انتهى كلام الحافظ‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيد زيادة أسامة بن زيد المذكورة ما رواه ابن ماجه قال حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي ثنا نهيك بن يريم الأوزاعي ثنا مغيث بن سمي قال صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح بغلس فلما سلم أقبلت على ابن عمر فقلت ما هذه الصلاة قال هذه صلاتنا كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما طعن عمر أسفر بها عثمان وإسناده صحيح ورواه الطحاوي أيضاً، قال في شرح الآثار‏:‏ حدثنا سليمان بن شعيب قال ثنا بشر بن بكر قال حدثني الأوزاعي ح وحدثنا فهد قال ثنا محمد بن كثير قال ثنا الأوزاعي بإسناد ابن ماجه بنحوه، وإذا عرفت هذا كله ظهر لك أن حديث أسامة بن زيد المذكور صحيح وزيادته المذكورة مقبولة‏.‏

116- بابُ مَا جَاءَ فِي الإِسْفَارِ بِالْفَجْر

154- حَدثنا هَنّادٌ حَدثنا عَبْدُهُ ‏(‏هُوَ ابنُ سُلَيْمانَ‏)‏ عَنْ مُحَمّدِ بن إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْن عُمَرَ بن قتَادَةَ عَنْ محمودِ بن لبِيدٍ عنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ سَمْعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فإِنّهُ أَعْظَمُ لِلأجْرِ‏"‏‏.‏

‏(‏قَالَ‏)‏‏:‏ وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ وَالثّوْرِيّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ محمد بْن أَسْحَاقَ‏.‏

‏(‏قَالَ‏)‏‏:‏ وَرَوَاهُ محمدُ بْنُ عَجْلاَنَ أَيْضاً عَنْ عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ‏.‏

‏(‏قَالَ‏)‏‏:‏ وفي البابِ عنْ أَبي بَرْزَةَ ‏(‏الأسْلَمِيّ‏)‏ وَجَابرٍ، وَبِلاَلٍ‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ حَديثُ رَافعِ بن خَديجٍ حَديثٌ حَسَنٌ ‏(‏صحيحٌ‏)‏‏.‏

وَقَدْ رَأَى غَيْرُ وَاحدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصحَاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وَالتّابِعِينَ الإسْفَارَ بصلاَةِ الْفَجْرِ‏.‏

وَبِهِ يقُولُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ‏.‏

وَقَالَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ‏:‏ مَعْنَى الاْسْفَار‏:‏ أَنْ يَضِحَ الْفَجْرُ فَلاَ يُشَكّ فِيهِ، وَلَمْ يَرَوْا أَنّ مَعْنَى الاْسْفَارِ تَأْخِيرُ الصّلاَةِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عاصم بن عمر بن قتادة‏)‏ الأوسي الأنصاري المدني، ثقة عالم بالمغازي من الرابعة، مات بعد العشرين ومائة وهو من رجال الكتب الستة ‏(‏عن محمود بن لبيد‏)‏ بن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي المدني صحابي صغير جل روايته عن الصحابة مات سنة 96 ست وتسعين وقبل سبع وله تسع وتسعون سنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أسفروا بالفجر‏)‏ أي صلوا صلاة الفجر إذا أضاء الفجر وأشرق قال الجزري في النهاية أسفر الصبح إذا انكشف وأضاء وقال في القاموس سفر الصبح يسفر أضاء وأشرق كأسفر انتهى ‏(‏فإنه‏)‏ أي الإسفار بالفجر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي الباب عن أبي برزة وجابر‏)‏ لم أقف على من أخرج حديثهما في الإسفار وقد أخرج الشيخان عنهما التغليس، قال الحافظ في الدراية وعن جابر وأبي برزة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس متفق عليهما ‏(‏وبلال‏)‏ أخرج حديثه البزار في مسنده بنحو حديث رافع بن خديج وفي سنده أيوب بن يسار وهو ضعيف، قال البخاري فيه منكر الحديث وقال النسائي متروك الحديث، وذكر الحافظ الزيلعي سنده بتمامه في نصب الراية، وفي الباب أيضاً عن محمود بن لبيد وأبي هريرة وأنس بن مالك وبلال وغيرهم رضي الله عنهم ذكر أحاديث هؤلاء الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد مع الكلام عليها، وعامة هذه الأحاديث ضعاف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد روى شعبة والثوري هذا الحديث عن محمد بن إسحاق‏)‏ فتابعا عبدة ‏(‏ورواه محمد بن عجلان أيضاً عن عاصم بن عمر بن قتادة‏)‏ فتابع محمد بن عجلان محمد بن إسحاق فلا يقدح عنعنته في صحة الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح‏)‏ قال الحافظ في فتح الباري رواه أصحاب السنن وصححه غير واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين الإسفار بصلاة الفجر وبه يقول سفيان الثوري‏)‏ وهو قول الحنفية، واستدلوا بأحاديث الباب واستدل لهم أيضاً بحديث عبد الله بن مسعود قال ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء وصلى الفجر قبل ميقاتها رواه الشيخان، قال ابن التركماني في الجوهر النقي معناه قبل وقتها المعتاد إذ فعلها قبل طلوع الفجر غير جائز، فدل على أن تأخيرها كان معتاداً للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه عجل بها يومئذ قبل وقتها المعتاد انتهى‏.‏

وفيه‏:‏ أن هذا الحديث إنما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قام بصلاة الفجر في مزدلفة خلاف عادته أول ما بزغ الفجر بحيث يقول قائل طلع الفجر، وقال قائل لم يطلع وهذا لا يثبت منه ألبتة أن القيام لصلاة الفجر بعد الغلس في الإسفار كان معتاداً للنبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ في فتح الباري لا حجة فيه لمن منع التغليس بصلاة الصبح لأنه ثبت عن عائشة وغيرها كما تقدم في المواقيت التغليس بها، بل المراد هنا أنه كان إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته ثم يخرج فصلى الصبح مع ذلك بغلس وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى إن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه‏.‏ وهو بين في رواية إسمعيل حيث قال ثم صلى الفجر حين طلع الفجر وقائل يقول لم يطلع انتهى كلام الحافظ، فالاستدلال بحديث عبد الله بن مسعود هذا على استحباب الإسفار بصلاة الفجر ليس بشيء‏.‏

وأجيب‏:‏ من قبل من قال باستحباب الإسفار عن أحاديث التغليس بأجوبة كلها مخدوشة‏.‏

فمنها‏:‏ أن التغليس كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ‏.‏

وفيه هذا مجرد دعوى لا دليل عليها وقد ثبت تغليسه صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر إلى وفاته كما تقدم، قال بعضهم بعد ذكر هذا الجواب فيه أنه نسخ اجتهادي مع ثبوت حديث الغلس إلى وفاته صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنها‏:‏ أن الإسفار كان معتاداً للنبي صلى الله عليه وسلم وتمسكوا في ذلك بحديث عبد الله بن مسعود المذكور‏.‏

وفيه‏:‏ أن القول بأن الإسفار كان معتاداً له صلى الله عليه وسلم باطل جداً بل معتاده صلى الله عليه وسلم كان هو التغليس كما يدل عليه حديث عائشة وحديث أبي مسعود وغيرهما، وأما التمسك بحديث ابن مسعود المذكور فقد عرفت ما فيه‏.‏

ومنها‏:‏ أن التغليس لو كان مستحباً لما اجتمع الصحابة رضي الله عنهم على الإسفار وقد روى الطحاوي عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ ما أجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما أجتمعوا على التنوير‏.‏

وفيه‏:‏ أن دعوى إجماع الصحابة على الإسفار باطلة جداً كيف وقد قال الترمذي في باب التغليس وهو الذي اختاره غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعمر إلخ وقال الحافظ ابن عبد البر صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون كما عرفت في كلام ابن قدامة وروى الطحاوي في شرح الآثار ص 104 عن جابر بن عبد الله قال كانوا يصلون الصبح بغلس‏.‏ وروى عن المهاجر أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى أن صل الصبح بسواد أو قال بغلس وأطل القراءة‏.‏ ثم قال الطحاوي أفلا تراه يأمرهم أن يكون دخولهم فيها بغلس وأن يطيلوا القراءة فكذلك عندنا أراد منه أن يدركوا الإسفار فكذلك كل من روينا عنه في هذا شيئاً سوى عمر قد كان ذهب إلى هذا المذهب أيضاً‏.‏ ثم ذكر أثر أبي بكر في تغليسه في صلاة الفجر وتطويله القراءة فيها‏.‏ ثم قال فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد دخل فيها في وقت غير الإسفار ثم مد القراءة فيها حتى خيف عليه طلوع الشمس وهذا بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقرب عهدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفعله لا ينكر ذلك عليه منكر‏.‏ فذلك دليل على متابعتهم له ثم فعل ذلك عمر من بعده فلم ينكره عليه من حضره منهم انتهى‏.‏ فلما عرفت هذا كله ظهر لك ضعف قول إبراهيم النخعي المذكور ‏(‏وقال الشافعي وأحمد وإسحاق معنى الإسفار أن يضح الفجر فلا يشك فيه ولم يروا أن معنى الإسفار تأخير الصلاة‏)‏ يقال وضح الفجر إذا أضاء قاله الحافظ في التلخيص‏.‏ قال ابن الأثير في النهاية‏:‏ قالوا يحتمل أنهم حين أمرهم بتغليس صلاة الفجر في أول وقتها كانوا يصلونها عند الفجر الأول حرصا ورغبة فقال أسفروا بها أي أخروها إلى أن يطلع الفجر الثاني ويتحقق، ويقوي ذلك أنه قال لبلال نور بالفجر قدر ما يبصر القوم مواقع نبلهم انتهى‏.‏

قلت‏:‏ هذا جواب الشافعي وغيره عن حديث الإسفار‏.‏

وفيه نظر‏:‏ قال ابن الهمام تأويل الإسفار بتيقن الفجر حتى لا يكون شك في طلوعه ليس بشيء إذا ما لم يتبين لم يحكم بصحة الصلاة فضلاً عن إثابة الأجر على أن في بعض رواياته ما ينفيه وهو‏:‏ أسفروا بالفجر‏.‏ فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر انتهى‏.‏ وقال الحافظ في الدراية في هذا التأويل‏:‏ فقد أخرج الطبراني وابن عدي من رواية هرمز بن عبد الرحمن سمعت جدي رافع بن خديج يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال يا بلال نور بصلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع نبلهم من الإسفار‏.‏ وقد ذكر الزيلعي روايات أخرى تدل على نفي هذا التأويل‏.‏

وقيل‏:‏ إن الأمر بالإسفار خاص في الليالي المقمرة لأن أول الصبح لا يتبين فيها فأمروا بالإسفار احتياطاً كذا في النهاية‏.‏ وحمله بعضهم على الليالي المعتمة‏.‏

وحمله بعضهم على الليالي القصيرة لإدراك النوام الصلاة‏.‏ قال معاذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال‏:‏ إذا كان في الشتاء فغلس بالفجر وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس ولا تملهم وإذا كان في الصيف فأسفر بالفجر فإن الليل قصير والناس نيام فأمهلهم حتى يدركوا كذا نقله القاري في المرقاة عن شرح السنة‏.‏ قلت ورواه بقي بن مخلد‏.‏

قلت‏:‏ أسلم الأجوبة وأولاها ما قال الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين بعد ذكر حديث رافع بن خديج ما لفظه‏:‏ وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار دواماً لا ابتداء فيدخل فيها مغلسا ويخرج منها مسفرا كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقوله موافق لفعله لا مناقض له، وكيف يظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه انتهى كلام ابن القيم‏.‏ وهذا هو الذي اختاره الطحاوي في شرح الآثار وقد بسط الكلام فيه وقال في آخره فالذي ينبغي الدخول في الفجر في وقت التغليس والخروج منها في وقت الإسفار على موافقة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن انتهى كلام الطحاوي‏.‏

فإن قلت‏:‏ يخدش هذا الجمع حديث عائشة ففيه أن النساء ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس رواه الجماعة والبخاري‏.‏ ولا يعرف بعضهن بعضاً‏:‏

قلت‏:‏ نعم لكن يمكن أن يقال إنه كان أحياناً ويدل عليه حديث أبي برزة ففيه وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ويقرأ بالستين إلى المائة رواه البخاري‏.‏ ومال الحافظ الحازمي في كتاب الإعتبار إلى نسخ أفضلية الإسفار فإنه عقد باباً بلفظ بيان نسخ الأفضلية بالإسفار ثم ذكر فيه حديث أبي مسعود قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر‏.‏ قال الحازمي هذا إسناد رواته عن آخره ثقات والزيادة من الثقة مقبولة انتهى‏.‏ وقد تقدم حديث أبي مسعود هذا مع ذكر ما يعضده فتذكر، وقد رجح الشافعي حديث التغليس على حديث الإسفار بوجوه ذكرها الحازمي في كتاب الإعتبار‏:‏

قلت‏:‏ لا شك في أن أحاديث التغليس أكثر وأصح وأقوى من أحاديث الإسفار، ومذهب أكثر أهل العلم أن التغليس هو الأفضل فهو الأفضل والأولى‏.‏

تنبيه‏:‏

قال صاحب العرف الشذي في ترجيح الإسفار ما لفظه‏:‏ ولنا قوله عليه السلام والحديث القولي مقدم أي أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر‏.‏ فصار الترجيح لمذهب الأحناف انتهى‏.‏

قلت‏:‏ القولي إنما يقدم إذا لم يمكن الجمع بين الحديث القولي والفعلي وفيما نحن فيه يمكن الجمع كما أوضحه الطحاوي وابن القيم فلا وجه لتقديم الحديث القولي‏.‏ ثم كيف يكون الترجيح لمذهب الأحناف فإنه خلاف ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من التغليس ولذلك قال السرخسي الحنفي في مبسوطه يستحب الغلس وتعجيل الظهر إذا اجتمع الناس كما نقله صاحب العرف عنه والله تعالى أعلم‏.‏