فصل: (بَاب إِرْضَاءُ السُّعَاة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.(بَاب إِرْضَاءُ السُّعَاة):

وَهُمْ الْعَامِلُونَ عَلَى الصَّدَقَات.
1651- قَوْله: «إِنَّ نَاسًا مِنْ الْمُتَصَدِّقِينَ يَأْتُونَنَا فَيَظْلِمُونَنَا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ» الْمُصَدِّقُونَ- بِتَخْفِيفِ الصَّاد- وَهُمْ السُّعَاة الْعَامِلُونَ عَلَى الصَّدَقَات.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ» مَعْنَاهُ: بِبَذْلِ الْوَاجِب وَمُلَاطَفَتهمْ وَتَرْك مَشَاقِّهِمْ، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى ظُلْم لَا يَفْسُق بِهِ السَّاعِي، إِذْ لَوْ فَسَقَ لَانْعَزَلَ وَلَمْ يَجِب الدَّفْع إِلَيْهِ، بَلْ لَا يُجْزِي. وَالظُّلْم قَدْ يَكُون بِغَيْرِ مَعْصِيَة فَإِنَّهُ مُجَاوَزَة الْحَدّ، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْمَكْرُوهَات.

.باب تَغْلِيظِ عُقُوبَةِ مَنْ لاَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ:

1652- قَوْله: «لَمْ أَتَقَارّ» أَيْ لَمْ يُمْكِنِّي الْقَرَارُ وَالثَّبَاتُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» ثُمَّ فَسَّرَ: «هُمْ» فَقَالَ: «هُمْ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا مِنْ بَيْن يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفه وَعَنْ يَمِينه وَعَنْ شِمَاله وَقَلِيل مَا هُمْ» فيه: الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة فِي وُجُوه الْخَيْر، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَصَر عَلَى نَوْع مِنْ وُجُوه الْبِرّ، بَلْ يُنْفِق فِي كُلّ وَجْه مِنْ وُجُوه الْخَيْر يَحْضُرُ. وَفيه: جَوَاز الْحَلِفِ بِغَيْرِ تَحْلِيف، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبّ إِذَا كَانَ فيه مَصْلَحَة كَتَوْكِيدِ أَمْر وَتَحْقِيقه وَنَفْي الْمَجَاز عَنْهُ.
وَقَدْ كَثُرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي حَلِف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا النَّوْع لِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَمَّا إِشَارَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُدَّام وَوَرَاء وَالْجَانِبَيْنِ فَمَعْنَاهَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُنْفِق مَتَى حَضَرَ أَمْر مُهِمّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (نَفِدَتْ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة (وَنَفَذَتْ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَفَتْح الْفَاء، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.

.باب التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ:

1654- قَوْله: «سَمِعْت لَغَطًا» هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن وَإِسْكَانهَا لُغَتَانِ، أَيْ جَلَبَةً وَصَوْتًا غَيْر مَفْهُوم.
1655- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرّ» فيه مُنَادَاةُ الْعَالِمِ وَالْكَبِيرِ صَاحِبَهُ بِكُنْيَتِهِ إِذَا كَانَ جَلِيلًا.
قَوْله: «مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتك لَا يُشْرِك بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّة، قُلْت: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» فيه: دَلَالَة لِمَذْهَبِ أَهْل الْحَقّ: أَنَّهُ لَا يَخْلُد أَصْحَاب الْكَبَائِر فِي النَّار خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَة، وَخَصَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَة بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَفْحَشِ الْكَبَائِر، وَهُوَ دَاخِل فِي أَحَادِيث الرَّجَاء.
قَوْله: «فَالْتَفَتَ فَرَآنِي فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: أَبُو ذَرّ» فيه: جَوَاز تَسْمِيَة الْإِنْسَان نَفْسه بِكُنْيَتِهِ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا بِهَا دُون اِسْمه، وَقَدْ كَثُرَ مِثْله فِي الْحَدِيث.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّه خَيْرًا فَنَفَحَ فيه يَمِينه وَشِمَاله وَبَيْن يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ وَعَمِلَ فيه خَيْرًا» الْمُرَاد بِالْخَيْرِ الْأَوَّل الْمَال، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْر} أَيْ الْمَال، وَالْمُرَاد بِالْخَيْرِ الثَّانِي: طَاعَة اللَّه تَعَالَى، وَالْمُرَاد بِيَمِينِهِ وَشِمَاله مَا سَبَقَ أَنَّهُ جَمِيع وُجُوه الْمَكَارِم وَالْخَيْر. وَنَفَحَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة أَيْ ضَرَبَ يَدَيْهِ فيه بِالْعَطَاءِ. وَالنَّفْح: الرَّمْي وَالضَّرْب.
قَوْله: «فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّة» هِيَ الْأَرْض الْمُلْبَسَة حِجَارَة سَوْدَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْت: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْر» فيه تَغْلِيظ تَحْرِيم الْخَمْر.

.باب فِي الْكَنَّازِينَ لِلأَمْوَالِ وَالتَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ:

1656- قَوْله: «فَبَيْنَا أَنَا فِي حَلْقَة فيها مَلَأ مِنْ قُرَيْش» الْمَلَأ: الْأَشْرَاف، وَيُقَال أَيْضًا لِلْجَمَاعَةِ، وَالْحَلْقَة بِإِسْكَانِ اللَّام، وَحَكَى الْجَوْهَرِيّ لُغَيَّةً رَدِيئَة فِي فَتْحهَا.
وَقَوْله: «بَيْنَا أَنَا فِي حَلْقَة» أَيْ بَيْن أَوْقَات قُعُودِي فِي الْحَلْقَة.
قَوْله: «إِذْ جَاءَ رَجُل أَخْشَن الثِّيَاب أَخْشَن الْجَسَد أَخْشَن الْوَجْه» هُوَ بِالْخَاءِ وَالشِّين الْمُعْجَمَتَيْنِ فِي الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي هَكَذَا عَنْ الْجُمْهُور، وَهُوَ مِنْ الْخُشُونَة قَالَ: وَعِنْد اِبْن الْحَذَّاء فِي الْأَخِير خَاصَّة حُسْن الْوَجْه مِنْ الْحُسْن، وَرَوَاهُ الْقَابِسِيّ فِي الْبُخَارِيّ حَسَن الشَّعْر وَالثِّيَاب وَالْهَيْئَة، مِنْ الْحُسْن، وَلِغَيْرَهِ: خَشِن مِنْ الْخُشُونَة وَهُوَ أَصْوَب.
قَوْله: «فَقَامَ عَلَيْهِمْ» أَيْ وَقَفَ.
قَوْله: «عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ: بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَار جَهَنَّم فَيُوضَع عَلَى حَلَمَة ثَدْي أَحَدهمْ حَتَّى يَخْرُج مِنْ نُغْضِ كَتِفيه وَيُوضَع عَلَى نُغْضِ كَتِفيه حَتَّى يَخْرُج مِنْ حَلَمَة ثَدْيَيْهِ يَتَزَلْزَل» أَمَّا قَوْله: «بَشِّرْ الْكَانِزِينَ» فَظَاهِره أَنَّهُ أَرَادَ الِاحْتِجَاج لِمَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الْكَنْز كُلّ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَة الْإِنْسَان، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف مِنْ مَذْهَب أَبِي ذَرّ، وَرُوِيَ عَنْهُ غَيْره، وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّ الْكَنْز هُوَ الْمَال الَّذِي لَمْ تُؤَدَّ زَكَاته، فَأَمَّا إِذَا أُدِّيَتْ زَكَاته فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، سَوَاء كَثُرَ أَمْ قَلَّ، وَقَالَ الْقَاضِي: الصَّحِيح أَنَّ إِنْكَاره إِنَّمَا هُوَ عَلَى السَّلَاطِين الَّذِينَ يَأْخُذُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ بَيْت الْمَال وَلَا يُنْفِقُونَهُ فِي وُجُوهه، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي بَاطِل؛ لِأَنَّ السَّلَاطِين فِي زَمَنه لَمْ تَكُنْ هَذِهِ صِفَتهمْ وَلَمْ يَخُونُوا فِي بَيْت الْمَال، إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنه أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَتُوُفِّيَ فِي زَمَن عُثْمَان سَنَة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ.
قَوْله: «بِرَضْفٍ» هِيَ الْحِجَارَة الْمُحْمَاة. وَقَوْله: «يُحْمَى عَلَيْهِ» أَيْ يُوقَد عَلَيْهِ. وَفِي جَهَنَّم مَذْهَبَانِ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّة أَحَدهمَا: أَنَّهُ اِسْم عَجَمِيٌّ فَلَا يَنْصَرِف لِلْعُجْمَةِ وَالْعِلْمِيَّة، قَالَ الْوَاحِدِيّ: قَالَ يُونُس وَأَكْثَر النَّحْوِيِّينَ: هِيَ أَعْجَمِيَّة لَا تَنْصَرِف لِلتَّعْرِيفِ وَالْعُجْمَة، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اِسْم عَرَبِيّ سُمِّيَتْ بِهِ لِبُعْدِ قَعْرهَا، وَلَمْ يَنْصَرِف لِلْعِلْمِيَّةِ وَالتَّأْنِيث، قَالَ قُطْرُب عَنْ رُؤْبَة يُقَال: بِئْر جِهْنَام أَيْ بَعِيدَة الْقَعْر، وَقَالَ الْوَاحِدِيّ فِي مَوْضِع آخَر: قَالَ بَعْض أَهْل اللُّغَة: هِيَ مُشْتَقَّة مِنْ الْجُهُومَة وَهِيَ الْغِلَظ، يُقَال: جَهَنَّم الْوَجْه أَيْ غَلِيظُهُ، وَسُمِّيَتْ جَهَنَّم لِغِلَظِ أَمْرِهَا فِي الْعَذَاب.
وَقَوْله: «ثَدْي أَحَدهمْ» فيه جَوَاز اِسْتِعْمَال الثَّدْي فِي الرَّجُل وَهُوَ الصَّحِيح، وَمَنْ أَهْل اللُّغَة مَنْ أَنْكَرَهُ وَقَالَ: لَا يُقَال ثَدْي إِلَّا لِلْمَرْأَةِ، وَيُقَال فِي الرَّجُل: ثُنْدُؤَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا مَبْسُوطًا فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث الرَّجُل الَّذِي قَتَلَ نَفْسه بِسَيْفِهِ فَجَعَلَ ذُبَابَهُ بَيْن ثَدْيَيْهِ، وَسَبَقَ أَنَّ الثَّدْي يُذَكَّر وَيُؤَنَّث.
قَوْله: «نُغْض كَتِفيه» هُوَ بِضَمِّ النُّون وَإِسْكَان الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَبَعْدهَا ضَاد مُعْجَمَة، وَهُوَ الْعَظْم الرَّقِيق الَّذِي عَلَى طَرَف الْكَتِف، وَقِيلَ: هُوَ أَعْلَى الْكَتِف، وَيُقَال لَهُ أَيْضًا: النَّاغِض. وَقَوْله: «يَتَزَلْزَل» أَيْ يَتَحَرَّك، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ بِسَبَبِ نُضْجه يَتَحَرَّك لِكَوْنِهِ يَهْتَرِي، قَالَ: وَالصَّوَاب أَنَّ الْحَرَكَة وَالتَّزَلْزُل إِنَّمَا هُوَ لِلرَّضْفِ، أَيْ يَتَحَرَّك مِنْ نُغْض كَتِفه حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَة ثَدْيه.
وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ: «عَلَى حَلَمَة ثَدْي أَحَدهمْ إِلَى قَوْله: حَتَّى يَخْرُج مِنْ حَلَمَة ثَدْيَيْهِ». بِإِفْرَادِ الثَّدْي فِي الْأَوَّل، وَتَثْنِيَته فِي الثَّانِي، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله: «لَا تَعْتَرِيهِمْ» أَيْ تَأْتِيهِمْ وَتَطْلُب مِنْهُمْ، يُقَال: عَرَوْته وَاعْتَرَيْته وَاعْتَرَرْته إِذَا أَتَيْته تَطْلُب مِنْهُ حَاجَة.
قَوْله: «لَا أَسْأَلُهُمْ عَنْ دُنْيَا وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِين» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول: «عَنْ دُنْيَا»، وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا» بِحَذْفِ (عَنْ) وَهُوَ الْأَجْوَد. أَيْ لَا أَسْأَلهُمْ شَيْئًا مِنْ مَتَاعهَا.
1657- قَوْله: (حَدَّثَنَا خُلَيْد الْعَصْرِيّ) هُوَ بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفَتْح اللَّام وَإِسْكَان الْيَاء، وَالْعَصْرِيّ بِفَتْحِ الْعَيْن وَالصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ مَنْسُوب إِلَى بَنِي عَصْر.

.باب الْحَثِّ عَلَى النَّفَقَةِ وَتَبْشِيرِ الْمُنْفِقِ بِالْخَلَفِ:

1658- قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: «أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك» هُوَ مَعْنَى قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يَخْلُفُهُ} فَيَتَضَمَّن الْحَثّ عَلَى الْإِنْفَاق مَعْنَى فِي وُجُوه الْخَيْر وَالتَّبْشِير بِالْخُلْفِ مِنْ فَضْل اللَّه تَعَالَى.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِين اللَّه مَلْأَى». وَقَالَ اِبْن نُمَيْر: «مَلَآنِ» هَكَذَا وَقَعَتْ رِوَايَة اِبْن نُمَيْر بِالنُّونِ. قَالُوا: وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، وَصَوَابه (مَلْأَى)، كَمَا فِي سَائِر الرِّوَايَات، ثُمَّ ضَبَطُوا رِوَايَة اِبْن نُمَيْر مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: إِسْكَان اللَّام وَبَعْدهَا هَمْزَة، وَالثَّانِي: (مَلَان) بِفَتْحِ اللَّام بِلَا هَمْزَة.
1659- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِين اللَّه مَلْأَى سَحَّاء لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ضَبَطُوا (سَحَّاء) بِوَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: سَحَّاء بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْمَصْدَر، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحّ الْأَشْهُر، وَالثَّانِي: حَكَاهُ الْقَاضِي (سَحَّاء) بِالْمَدِّ عَلَى الْوَصْف، وَوَزْنه فَعَلَاء صِفَة لِلْيَدِ، وَالسَّحّ: الصَّبّ الدَّائِم، وَاللَّيْل وَالنَّهَار فِي هَذِهِ الرِّوَايَة مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْف. وَمَعْنَى: «لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ» أَيْ لَا يَنْقُصهَا، يُقَال: غَاضَ الْمَاء وَغَاضَهُ اللَّه، لَازِم وَمُتَعَدٍّ.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيّ: هَذَا مِمَّا يُتَأَوَّل؛ لِأَنَّ الْيَمِين إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْمُنَاسِبَة لِلشِّمَالِ لَا يُوصَف بِهَا الْبَارِي سُبْحَانه وَتَعَالَى؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّن إِثْبَات الشِّمَال، وَهَذَا يَتَضَمَّن التَّحْدِيد، وَيَتَقَدَّس اللَّه سُبْحَانه عَنْ التَّجْسِيم وَالْحَدّ، وَإِنَّمَا خَاطَبَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَفْهَمُونَهُ، وَأَرَادَ الْإِخْبَار بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَنْقُصُهُ الْإِنْفَاق، وَلَا يُمْسِك خَشْيَة الْإِمْلَاق جَلَّ اللَّه عَنْ ذَلِكَ. وَعَبَّرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَوَالِي النِّعَم بِسَحِّ الْيَمِين؛ لِأَنَّ الْبَاذِل مِنَّا يَفْعَل ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِذَلِكَ أَنَّ قُدْرَة اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى عَلَى الْأَشْيَاء عَلَى وَجْه وَاحِد لَا يَخْتَلِف ضَعْفًا وَقُوَّة، وَأَنَّ الْمَقْدُورَات تَقَع بِهَا عَلَى جِهَة وَاحِدَة، وَلَا تَخْتَلِف قُوَّة وَضَعْفًا كَمَا يَخْتَلِف فِعْلنَا بِالْيَمِينِ وَالشِّمَال تَعَالَى اللَّه عَنْ صِفَات الْمَخْلُوقِينَ وَمُشَابَهَة الْمُحْدَثِينَ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْض» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ قُدْرَته سُبْحَانه وَتَعَالَى وَاحِدَة فَإِنَّهُ يَفْعَل بِهَا الْمُخْتَلِفَات وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِينَا لَا يُمْكِن إِلَّا بِيَدَيْنِ، عَبَّرَ عَنْ قُدْرَته عَلَى التَّصَرُّف فِي ذَلِكَ بِالْيَدَيْنِ لِيُفْهِمَهُمْ الْمَعْنَى الْمُرَاد بِمَا اِعْتَادُوهُ مِنْ الْخِطَاب عَلَى سَبِيل الْمَجَاز. هَذَا آخِر كَلَام الْمَازِرِيّ.
قَوْله فِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن رَافِع: «لَا يَغِيضهَا سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ: نَصْب اللَّيْل وَالنَّهَار وَرَفْعهمَا، النَّصْب عَلَى الظَّرْف، وَالرَّفْع عَلَى أَنَّهُ فَاعِل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْض يَخْفِض وَيَرْفَع» ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: (الْفَيْض) بِالْفَاءِ وَالْيَاء الْمُثَنَّاة تَحْتُ.
وَالثَّانِي: (الْقَبْض) بِالْقَافِ وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ بِالْقَافِ، وَهُوَ الْمَوْجُود لِأَكْثَرِ الرُّوَاة، قَالَ: وَهُوَ الْأَشْهَر وَالْمَعْرُوف، قَالَ: وَمَعْنَى الْقَبْض الْمَوْت، وَأَمَّا الْفَيْض- بِالْفَاءِ- فَالْإِحْسَان وَالْعَطَاء وَالرِّزْق الْوَاسِع، قَالَ: وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى الْقَبْض بِالْقَافِ أَيْ الْمَوْت، قَالَ الْبَكْرَاوِيّ: وَالْفَيْض: الْمَوْت.
قَالَ الْقَاضِي قَيْس: يَقُولُونَ: فَاضَتْ نَفْسه- بِالضَّادِ- إِذَا مَاتَ، وَطَيٌّ يَقُولُونَ: فَاظَتْ نَفْسه بِالظَّاءِ.
وَقِيلَ: إِذَا ذُكِرَتْ النَّفْس فَبِالضَّادِ، وَإِذَا قِيلَ: فَاظَ مِنْ غَيْر ذِكْر النَّفْس فَبِالظَّاءِ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: «وَبِيَدِهِ الْمِيزَان يَخْفِض وَيَرْفَع». فَقَدْ يَكُون عِبَارَة عَنْ الرِّزْق وَمَقَادِيره، وَقَدْ يَكُون عِبَارَة عَنْ جُمْلَة الْمَقَادِير. وَمَعْنَى: «يَخْفِض وَيَرْفَع» قِيلَ: هُوَ عِبَارَة عَنْ تَقْدِير الرِّزْق يَقْتُرهُ عَلَى مَنْ يَشَاء، وَيُوسِعُهُ عَلَى مَنْ يَشَاء، وَقَدْ يَكُونَانِ عِبَارَة عَنْ تَصَرُّف الْمَقَادِير بِالْخَلْقِ بِالْعِزِّ وَالذُّلّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(بَاب فَضْل النَّفَقَة عَلَى الْعِيَال وَالْمَمْلُوك وَإِثْم مَنْ ضَيَّعَهُمْ أَوْ حَبَسَ نَفَقَتَهُمْ عَنْهُمْ):

مَقْصُود الْبَاب: الْحَثّ عَلَى النَّفَقَة عَلَى الْعِيَال، وَبَيَان عِظَمِ الثَّوَاب فيه؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَجِب نَفَقَته بِالْقَرَابَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُون مَنْدُوبَةً وَتَكُون صَدَقَةً وَصِلَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُون وَاجِبَة بِمِلْكِ النِّكَاح أَوْ مِلْك الْيَمِين، وَهَذَا كُلّه فَاضِل مَحْثُوث عَلَيْهِ، وَهُوَ أَفْضَل مِنْ صَدَقَة التَّطَوُّع، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَة اِبْن أَبِي شَيْبَة: «أَعْظَمهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْته عَلَى أَهْلِك» مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ قَبْله النَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه وَفِي الْعِتْق وَالصَّدَقَة، وَرَجَّحَ النَّفَقَة عَلَى الْعِيَال عَلَى هَذَا كُلّه لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَزَادَهُ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِس عَمَّنْ يَمْلِك قُوتَهُ» فَقُوتُهُ مَفْعُولُ يَحْبِسَ.
1662- قَوْله: (حَدَّثَنَا سَعِيد بْن مُحَمَّد الْجَرْمِيّ) هُوَ بِالْجِيمِ.
قَوْله (قَهْرَمَان) بِفَتْحِ الْقَاف وَإِسْكَان الْهَاء وَفَتْح الرَّاء وَهُوَ الْخَازِن الْقَائِم بِحَوَائِج الْإِنْسَان، وَهُوَ بِمَعْنَى الْوَكِيل، وَهُوَ بِلِسَانِ الْفُرْس.

.(بَاب الِابْتِدَاء فِي النَّفَقَة بِالنَّفْسِ ثُمَّ أَهْلِهِ ثُمَّ الْقَرَابَة):

فيه حَدِيث جَابِر: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَك مَال غَيْره؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْم بْن عَبْد اللَّه الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَم، فَجَاءَ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اِبْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا؛ فَإِنْ فَضَلَ شَيْء فَلِأَهْلِك، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِك شَيْء فَلِذِي قَرَابَتك، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ قَرَابَتك شَيْء فَهَكَذَا وَهَكَذَا يَقُول فَبَيْن يَدَيْك، وَعَنْ يَمِينك وَعَنْ شِمَالِك».
فِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا: الِابْتِدَاء فِي النَّفَقَة بِالْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيب، وَمِنْهَا: أَنَّ الْحُقُوق وَالْفَضَائِل إِذَا تَزَاحَمَتْ قُدِّمَ الْأَوْكَد فَالْأَوْكَد، وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَفْضَل فِي صَدَقَة التَّطَوُّع أَنْ يُنَوِّعهَا فِي جِهَات الْخَيْر وَوُجُوه الْبِرّ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَة، وَلَا يَنْحَصِر فِي جِهَة بِعَيْنِهَا، وَمِنْهَا: دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي جَوَاز بَيْع الْمُدَبَّر، وَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه: لَا يَجُوز بَيْعه إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى السَّيِّد دَيْن فَيُبَاع فيه. وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح أَوْ ظَاهِر فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَاعَهُ لِيُنْفِقَهُ سَيِّدُهُ عَلَى نَفْسه، وَالْحَدِيث صَرِيح أَوْ ظَاهِر فِي هَذَا، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِبْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا...» إِلَى آخِره. وَاَللَّه أَعْلَم.
1663- سبق شرحه بالباب.

.باب فَضْلِ النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى الأَقْرَبِينَ وَالزَّوْجِ وَالأَوْلاَدِ وَالْوَالِدَيْنِ وَلَوْ كَانُوا مُشْرِكِينَ:

1664- قَوْله: «وَكَانَ أَحَبّ أَمْوَاله إِلَيْهِ بَيْرُحَاء» اِخْتَلَفُوا فِي ضَبْط هَذِهِ اللَّفْظَة عَلَى أَوْجُهٍ: قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه: رُوِّينَا هَذِهِ اللَّفْظَة عَنْ شُيُوخنَا بِفَتْحِ الرَّاء وَضَمِّهَا مَعَ كَسْر الْبَاء، وَبِفَتْحِ الْبَاء وَالرَّاء، قَالَ الْبَاجِيّ: قَرَأْت هَذِهِ اللَّفْظَة عَلَى أَبِي ذَرّ الْبَرَوِيّ بِفَتْحِ الرَّاء عَلَى كُلّ حَال قَالَ: وَعَلَيْهِ أَدْرَكْت أَهْل الْعِلْم وَالْحِفْظ بِالْمَشْرِقِ وَقَالَ لِي الصُّورِيّ: هِيَ بِالْفَتْحِ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ مَنْ رَفَعَ الرَّاء وَأَلْزَمَهَا حُكْم الْإِعْرَاب فَقَدْ أَخْطَأَ.
قَالَ: وَبِالرَّفْعِ قَرَأْنَاهُ عَلَى شُيُوخنَا بِالْأَنْدَلُسِ، وَهَذَا الْمَوْضِع يُعْرَف بِقَصْرِ بَنِي جَدِيلَة قِبْلِي الْمَسْجِد، وَذَكَرَ مُسْلِم رِوَايَة حَمَّاد بْن سَلَمَة هَذَا الْحَرْف (بَرِيحَاء) بِفَتْحِ الْبَاء وَكَسْر الرَّاء، وَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ أَبِي بَجَر عَنْ الْعُذْرِيّ وَالسَّمَرْقَنْدِيّ، وَكَانَ عِنْد اِبْن سَعِيد عَنْ الْبَحْرِيّ مِنْ رِوَايَة حَمَّاد (بِيرَحَاء) بِكَسْرِ الْبَاء وَفَتْح الرَّاء، وَضَبَطَهُ الْحُمَيْدِيّ مِنْ رِوَايَة حَمَّاد (بَيْرَحَاء) بِفَتْحِ الْبَاء وَالرَّاء، وَوَقَعَ فِي كِتَاب أَبِي دَاوُدَ: جَعَلْت أَرْضِي (بَارِيحَا لِلَّهِ). وَأَكْثَر رِوَايَاتهمْ فِي هَذَا الْحَرْف بِالْقَصْرِ، وَرُوِّينَاهُ عَنْ بَعْض شُيُوخنَا بِالْوَجْهَيْنِ، وَبِالْمَدِّ وَجَدْته بِخَطِّ الْأَصِيلِيّ، وَهُوَ حَائِط يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْم، وَلَيْسَ بِئْر وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي.
قَوْله: «قَامَ أَبُو طَلْحَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه» إِلَى آخِره. فيه دَلَالَة لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيح وَقَوْل الْجُمْهُور أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُقَال: إِنَّ اللَّه يَقُول، كَمَا يُقَال: إِنَّ اللَّه قَالَ.
وَقَالَ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه بْن شِخِّيرٍ التَّابِعِيّ لَا يُقَال: اللَّه يَقُول، وَإِنَّمَا يُقَال: قَالَ اللَّه، أَوْ اللَّه قَالَ، وَلَا يُسْتَعْمَل مُضَارِعًا. وَهَذَا غَلَط وَالصَّوَاب جَوَازه، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَشَرْت إِلَى طَرَف مِنْهَا فِي كِتَاب الْأَذْكَار، وَكَأَنَّ مَنْ كَرِهَهُ ظَنَّ أَنَّهُ يَقْتَضِي اِسْتِئْنَاف الْقَوْل، وَقَوْل اللَّه تَعَالَى قَدِيم، وَهَذَا ظَنٌّ عَجِيبٌ، فَإِنَّ الْمَعْنَى مَفْهُوم وَلَا لَبْس فيه.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب الْإِنْفَاق مِمَّا يُحِبُّ، وَمُشَاوَرَة أَهْل الْعِلْم وَالْفَضْل فِي كَيْفِيَّة الصَّدَقَات وَوُجُوه الطَّاعَات وَغَيْرهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَخٍ ذَلِكَ مَال رَابِح ذَلِكَ مَال رَابِح» قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: (بَخٍ) بِإِسْكَانِ الْخَاء وَتَنْوِينَهَا مَكْسُورَة، وَحَكَى الْقَاضِي الْكَسْر بِلَا تَنْوِينٍ، وَحَكَى الْأَحْمَر التَّشْدِيد فيه.
قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ فَإِذَا كُرِّرَتْ فَالِاخْتِيَار تَحْرِيك الْأَوَّل مُنَوَّنًا، وَإِسْكَان الثَّانِي قَالَ اِبْن دُرَيْدٍ: مَعْنَاهُ تَعْظِيم الْأَمْر وَتَفْخِيمه، وَسُكِّنَتْ الْخَاء فيه كَسُكُونِ اللَّام فِي هَلْ وَبَلْ. وَمَنْ قَالَ: (بَخٍ) بِكَسْرِهِ مُنَوَّنًا شَبَّهَهُ بِالْأَصْوَاتِ كَصَهٍ وَمَهٍ، قَالَ اِبْن السِّكِّيت: بَخٍ بَخٍ. وَبَهٍ بَهٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ الدَّاوُدِيّ: بَخٍ كَلِمَة تُقَال إِذَا حُمِدَ الْفِعْل، وَقَالَ غَيْره: تُقَال عِنْد الْإِعْجَاب.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَالٌ رَابِحٌ». فَضَبَطْنَاهُ هُنَا بِوَجْهَيْنِ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة وَبِالْمُوَحَّدَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي: رِوَايَتُنَا فيه فِي كِتَاب مُسْلِم: بِالْمُوَحَّدَةِ، وَاخْتَلَفَتْ الرُّوَاة فيه عَنْ مَالِك فِي الْبُخَارِيّ وَالْمُوَطَّأ وَغَيْرهمَا، فَمَنْ رَوَاهُ بِالْمُوَحَّدَةِ فَمَعْنَاهُ ظَاهِر، وَمَنْ رَوَاهُ (رَايِحٌ) بِالْمُثَنَّاةِ فَمَعْنَاهُ رَايِحٌ عَلَيْك أَجْرُهُ وَنَفْعُهُ فِي الْآخِرَة.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَة عَلَى الْأَقَارِب أَفْضَل مِنْ الْأَجَانِب إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ.
وَفيه أَنَّ الْقَرَابَة يُرْعَى حَقُّهَا فِي صِلَة الْأَرْحَام وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعُوا إِلَّا فِي أَب بَعِيدٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا طَلْحَة أَنْ يَجْعَلَ صَدَقَتَهُ فِي الْأَقْرَبِينَ فَجَعَلَهَا فِي أُبَيّ بْن كَعْب وَحَسَّان بْن ثَابِت، وَإِنَّمَا يَجْتَمِعَانِ مَعَهُ فِي الْجَدّ السَّابِع.
1666- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّة مَيْمُونَة حِين أَعْتَقَتْ الْجَارِيَة: «لَوْ أَعْطَيْتهَا أَخْوَالَك كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِك» فيه: فَضِيلَة صِلَة الْأَرْحَام، وَالْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب وَأَنَّهُ أَفْضَل مِنْ الْعِتْق، وَهَكَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة فِي صَحِيح مُسْلِم: «أَخْوَالك» بِاللَّامِ، وَوَقَعَتْ فِي رِوَايَة غَيْر الْأَصِيلِيّ فِي الْبُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ: «أَخَوَاتك» بِالتَّاءِ، قَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّهُ أَصَحّ، بِدَلِيلِ رِوَايَة مَالِك فِي الْمُوَطَّإِ: «أَعْطَيْتهَا أُخْتك»، قُلْت: الْجَمِيع صَحِيح وَلَا تَعَارُض، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ كُلّه.
وَفيه: الِاعْتِنَاء بِأَقَارِب الْأُمّ إِكْرَامًا بِحَقِّهَا وَهُوَ زِيَادَة فِي بِرِّهَا. وَفيه: جَوَاز تَبَرُّع الْمَرْأَة بِمَالِهَا بِغَيْرِ إِذْن زَوْجهَا.
1667- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَر النِّسَاء تَصَدَّقْنَ» فيه: أَمْر وَلِيّ الْأَمْر رَعِيَّتَهُ بِالصَّدَقَةِ وَفِعَال الْخَيْر، وَوَعْظُهُ النِّسَاءَ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ فِتْنَة. وَالْمَعْشَر: الْجَمَاعَة الَّذِينَ صِفَتهمْ وَاحِدَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَإِسْكَان اللَّام مُفْرَد، وَأَمَّا الْجَمْع فَيُقَال بِضَمِّ الْحَاء وَكَسْرِهَا وَاللَّام مَكْسُورَة فيهمَا وَالْيَاء مُشَدَّدَة.
قَوْلهَا: «فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي عَنِّي» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء أَيْ يَكْفِي، وَكَذَا قَوْلهَا بَعْد: أَتَجْزِي الصَّدَقَة عَنْهُمَا؟ بِفَتْحِ التَّاء.
وَقَوْلهَا: «أَتُجْزِئُ الصَّدَقَة عَنْهُمَا عَلَى زَوْجَيْهِمَا» هَذِهِ أَفْصَحُ اللُّغَات، فَيُقَال: عَلَى زَوْجَيْهِمَا، وَعَلَى زَوْجهمَا، وَعَلَى أَزْوَاجهمَا وَهِيَ أَفْصَحُهُنَّ، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآن الْعَزِيز فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وَكَذَا قَوْلهَا: «وَعَلَى أَيْتَام فِي حُجُورهمَا» وَشِبْه ذَلِكَ مِمَّا يَكُون لِكُلِّ وَاحِد مِنْ الِاثْنَيْنِ مِنْهُ وَاحِد.
قَوْلهمَا: «وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِمَا» قَدْ يُقَال: إِنَّهُ إِخْلَافٌ لِلْوَعْدِ، وَإِفْشَاءٌ لِلسِّرِّ. وَجَوَابه: أَنَّهُ عَارَضَ ذَلِكَ جَوَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَوَابه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِب مُحَتَّم لَا يَجُوز تَأْخِيره، وَلَا يُقَدَّم عَلَيْهِ غَيْره، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِح بُدِئَ بِأَهَمِّهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَهُمَا أَجْرَانِ أَجْر الْقَرَابَة وَأَجْر الصَّدَقَة».
فيه: الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة عَلَى الْأَقَارِب، وَصِلَة الْأَرْحَام وَأَنَّ فيها أَجْرَيْنِ.
قَوْله: (فَذَكَرْت لِإِبْرَاهِيم فَحَدَّثَنِي عَنْ أَبِي عُبَيْدَة) الْقَائِل فَذَكَرْت لِإِبْرَاهِيم هُوَ الْأَعْمَش، وَمَقْصُوده أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ شَيْخَيْنِ: شَقِيق وَأَبِي عُبَيْدَة، وَهَذَا الْمَذْكُور فِي حَدِيث اِمْرَأَة اِبْن مَسْعُود وَالْمَرْأَة الْأَنْصَارِيَّة، مِنْ النَّفَقَة عَلَى أَزْوَاجهمَا وَأَيْتَام فِي حُجُورهمَا وَنَفَقَة أُمّ سَلَمَة عَلَى بَنِيهَا، الْمُرَاد بِهِ كُلّه صَدَقَة تَطَوُّعٍ، وَسِيَاق الْأَحَادِيث يَدُلّ عَلَيْهِ.
1669- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُسْلِم إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْله نَفَقَة يَحْتَسِبهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَة» فيه: بَيَان أَنَّ الْمُرَاد بِالصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَة الْمُطْلَقَة فِي بَاقِي الْأَحَادِيث إِذَا اِحْتَسَبَهَا، وَمَعْنَاهُ أَرَادَ بِهَا وَجْه اللَّه تَعَالَى. فَلَا يَدْخُل فيه مَنْ أَنْفَقَهَا ذَاهِلًا، وَلَكِنْ يَدْخُل الْمُحْتَسِب، وَطَرِيقه فِي الِاحْتِسَاب أَنْ يَتَذَكَّر أَنَّهُ يَجِب عَلَيْهِ الْإِنْفَاق عَلَى الزَّوْجَة وَأَطْفَال أَوْلَاده وَالْمَمْلُوك وَغَيْرهمْ مِمَّنْ تَجِب نَفَقَته عَلَى حَسَب أَحْوَالهمْ. وَاخْتِلَاف الْعُلَمَاء فيهمْ، وَأَنَّ غَيْرهمْ مِمَّنْ يُنْفَق عَلَيْهِ مَنْدُوب إِلَى الْإِنْفَاق عَلَيْهِمْ فَيُنْفِق بِنِيَّةِ أَدَاء مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَدْ أُمِرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
1670- قَوْله: «عَنْ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر قَالَتْ: قَدِمَت عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاهِبَة أَوْ رَاغِبَة» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «رَاغِبَة» بِلَا شَكّ. وَفيها: وَهِيَ مُشْرِكَة، فَقُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَأَصِل أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ. صِلِي أُمَّك.
قَالَ الْقَاضِي: الصَّحِيح (رَاغِبَة) بِلَا شَكّ.
قَالَ: قِيلَ: مَعْنَاهُ رَاغِبَة عَنْ الْإِسْلَام وَكَارِهَة لَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ طَامِعَة فِيمَا أَعْطَيْتهَا. وَحَرِيصَة عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ: «قَدِمَت عَلَيَّ أُمِّي رَاغِبَة فِي عَهْد قُرَيْش، وَهِيَ رَاغِمَة مُشْرِكَة» فَالْأَوَّل: (رَاغِبَة) بِالْبَاءِ أَيْ طَامِعَة طَالِبَة صِلَتِي. وَالثَّانِيَة: بِالْمِيمِ مَعْنَاهُ كَارِهَة لِلْإِسْلَامِ سَاخِطَته.
وَفيه: جَوَاز صِلَة الْقَرِيب الْمُشْرِك، وَأُمّ أَسْمَاء اِسْمهَا (قَيْلَة) وَقِيلَ: (قَتِيلَة) بِالْقَافِ وَتَاء مُثَنَّاة مِنْ فَوْق، وَهِيَ قَيْلَة بِالْقَافِ وَتَاء مُثَنَّاة مِنْ فَوْق، وَهُوَ قَيْلَة بِنْت عَبْد الْعُزَّى الْقُرَشِيَّة الْعَامِرِيَّة، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَنَّهَا أَسْلَمَتْ أَمْ مَاتَتْ عَلَى كُفْرهَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَوْتهَا مُشْرِكَة.

.باب وُصُولِ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ عَنِ الْمَيِّتِ إِلَيْهِ:

1672- قَوْله: «يَا رَسُول اللَّه إِنَّ أُمِّي اِفْتَلَتَتْ نَفْسهَا» ضَبَطْنَاهُ: نَفْسهَا وَنَفْسهَا بِنَصَبِ السِّين وَرَفْعهَا، فَالرَّفْع عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله، وَالنَّصْب عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول ثَانٍ.
قَالَ الْقَاضِي: أَكْثَر رِوَايَتنَا فيه بِالنَّصْبِ. وَقَوْله: «اِفْتَلَتَتْ» بِالْفَاءِ، هَذَا هُوَ صَوَاب الَّذِي رَوَاهُ أَهْل الْحَدِيث وَغَيْرهمْ، وَرَوَاهُ اِبْن قُتَيْبَة: «اِقْتَتَلَتْ نَفْسهَا» بِالْقَافِ، قَالَ: وَهِيَ كَلِمَة يُقَال لِمَنْ مَاتَ فَجْأَة، وَيُقَال أَيْضًا لِمَنْ قَتَلَهُ الْجِنّ وَالْعِشْق. وَالصَّوَاب الْفَاء. قَالُوا: وَمَعْنَاهُ مَاتَتْ فَجْأَة، وَكُلّ شَيْء فُعِلَ بِلَا تَمَكُّثٍ فَقَدْ اُفْتُلِتَ، وَيُقَال: اُفْتُلِتَ الْكَلَام وَاقْتَرَحَهُ وَاقْتَضَبَهُ إِذَا اِرْتَجَلَهُ.
وَقَوْلهَا: «أَفَلَهَا أَجْر إِنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.» فَقَوْله: «إِنَّ تَصَدَّقَتْ» هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَة مِنْ (إِنْ) وَهَذَا لَا خِلَاف فيه، قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا الرِّوَايَة فيه، قَالَ: وَلَا يَصِحّ غَيْره، لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَفْعَلهُ بَعْدُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ الصَّدَقَة عَنْ الْمَيِّت تَنْفَع الْمَيِّت وَيُصَلِّهِ ثَوَابهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء، وَكَذَا أَجْمَعُوا عَلَى وُصُول الدُّعَاء وَقَضَاء الدِّين بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَة فِي الْجَمِيع، وَيَصِحّ الْحَجّ عَنْ الْمَيِّت إِذَا كَانَ حَجّ الْإِسْلَام، وَكَذَا إِذَا وَصَى بِحَجِّ التَّطَوُّع عَلَى الْأَصَحّ عِنْدنَا، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الصَّوَاب إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْم، فَالرَّاجِح جَوَازه عَنْهُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة فيه. وَالْمَشْهُور فِي مَذْهَبنَا أَنَّ قِرَاءَة الْقُرْآن لَا يَصِلُهُ ثَوَابهَا، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا: يَصِلُهُ ثَوَابهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل.
وَأَمَّا الصَّلَاة وَسَائِر الطَّاعَات فَلَا تَصِلُهُ عِنْدنَا وَلَا عِنْد الْجُمْهُور، وَقَالَ أَحْمَد: يَصِلُهُ ثَوَاب الْجَمِيع كَالْحَجِّ.

.باب بَيَانِ أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَعْرُوفِ:

1673- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلّ مَعْرُوف صَدَقَة» أَيْ لَهُ حُكْمهَا فِي الثَّوَاب.
وَفيه بَيَان مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّرْجَمَة، وَفيه: أَنَّهُ لَا يَحْتَقِر شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوف، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَبْخَل بِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْضِرهُ.
1674- قَوْله: (ذَهَبَ أَهْل الدُّثُور بِالْأُجُورِ) الدُّثُور بِضَمِّ الدَّال جَمْع دَثْر بِفَتْحِهَا، وَهُوَ الْمَال الْكَثِير.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّه لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلّ تَكْبِيرَة صَدَقَة، وَكُلّ تَحْمِيدَة صَدَقَة، وَكُلّ تَهْلِيلَة صَدَقَة، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصَدَّقُونَ» فَالرِّوَايَة فيه بِتَشْدِيدِ الصَّاد وَالدَّال جَمِيعًا، وَيَجُوز فِي اللُّغَة تَخْفِيف الصَّاد.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكُلّ تَكْبِيرَة صَدَقَة، وَكُلّ تَحْمِيدَة صَدَقَة وَكُلّ تَهْلِيلَة صَدَقَة» فَرَوَيْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ: رَفْع: «صَدَقَة» وَنَصْبُهُ، فَالرَّفْع عَلَى الِاسْتِئْنَاف، وَالنَّصْب عَطْف عَلَى أَنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَة صَدَقَة، قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل تَسْمِيَتهَا صَدَقَة أَنَّ لَهَا أَجْرًا كَمَا لِلصَّدَقَةِ أَجْر، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّاعَات تُمَاثِل الصَّدَقَاتِ فِي الْأُجُور، وَسَمَّاهَا صَدَقَة عَلَى طَرِيق الْمُقَابَلَة وَتَجْنِيس الْكَلَام، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهَا صَدَقَة عَلَى نَفْسه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمْر بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَة وَنَهْي عَنْ مُنْكَر صَدَقَة» فيه: إِشَارَة إِلَى ثُبُوت حُكْم الصَّدَقَة فِي كُلّ فَرْد مِنْ أَفْرَاد الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر، وَلِهَذَا نَكَّرَهُ، وَالثَّوَاب فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر أَكْثَر مِنْهُ فِي التَّسْبِيح وَالتَّحْمِيد وَالتَّهْلِيل؛ لِأَنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَرْض كِفَايَة، وَقَدْ يَتَعَيَّن وَلَا يُتَصَوَّر وُقُوعه نَفْلًا، وَالتَّسْبِيح وَالتَّحْمِيد وَالتَّهْلِيل نَوَافِل، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَجْر الْفَرْض أَكْثَر مِنْ أَجْر النَّفْل لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاء مَا اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة.
وَقَدْ قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْحَابنَا عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء: إِنَّ ثَوَاب الْفَرْض يَزِيد عَلَى ثَوَاب النَّافِلَة بِسَبْعِينَ دَرَجَة. وَاسْتَأْنَسُوا فيه بِحَدِيثٍ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي بُضْع أَحَدكُمْ صَدَقَة» هُوَ بِضَمِّ الْبَاء، وَيُطْلَق عَلَى الْجِمَاع، وَيُطْلَق عَلَى الْفَرْج نَفْسه، وَكِلَاهُمَا تَصِحّ إِرَادَته هُنَا، وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَات تَصِير طَاعَات بِالنِّيَّاتِ الصَّادِقَات، فَالْجِمَاع يَكُون عِبَادَة إِذَا نَوَى بِهِ قَضَاء حَقّ الزَّوْجَة وَمُعَاشَرَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ، أَوْ طَلَبَ وَلَدٍ صَالِحٍ، أَوْ إِعْفَافَ نَفْسِهِ أَوْ إِعْفَاف الزَّوْجَة وَمَنْعَهُمَا جَمِيعًا مِنْ النَّظَر إِلَى حَرَام، أَوْ الْفِكْر فيه، أَوْ الْهَمّ بِهِ، أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِد الصَّالِحَة.
قَوْله: «قَالُوا: يَا رَسُول اللَّه أَيَأْتِي أَحَدنَا شَهْوَته وَيَكُون لَهُ فيها أَجْر؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَام أَكَانَ عَلَيْهِ فيها وِزْر، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَال كَانَ لَهُ أَجْر» فيه: جَوَاز الْقِيَاس وَهُوَ مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة، وَلَمْ يُخَالِف فيه إِلَّا أَهْل الظَّاهِر وَلَا يُعْتَدُّ بِهِمْ.
وَأَمَّا الْمَنْقُول عَنْ التَّابِعِينَ وَنَحْوِهِمْ مِنْ ذَمّ الْقِيَاس، فَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ الْقِيَاس الَّذِي يَعْتَمِدُهُ الْفُقَهَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَهَذَا الْقِيَاس الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث هُوَ مِنْ قِيَاس الْعَكْس، وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي الْعَمَل بِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِمَنْ عَمِلَ بِهِ، وَهُوَ الْأَصَحّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَضِيلَة التَّسْبِيح، وَسَائِر الْأَذْكَار، وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر، وَإِحْضَار النِّيَّة فِي الْمُبَاحَات، وَذَكَرَ الْعَالِم دَلِيلًا لِبَعْضِ الْمَسَائِل الَّتِي تَخْفَى وَتَنْبِيه الْمُفْتَى عَلَى مُخْتَصَر الْأَدِلَّة، وَجَوَاز سُؤَال الْمُسْتَفْتِي عَنْ بَعْض مَا يَخْفَى مِنْ الدَّلِيل إِذَا عَلِمَ مِنْ حَال الْمَسْئُول أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فيه سُوء أَدَب. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَال كَانَ لَهُ أَجْر» ضَبَطْنَا (أَجْرًا) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْع وَهُمَا ظَاهِرَانِ.
1675- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقَ كُلّ إِنْسَان مِنْ بَنِي آدَم عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثمِائَةِ مَفْصِل» هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر الصَّاد.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَدَد تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثمِائَةِ السُّلَامَى» قَدْ يُقَال: وَقَعَ هُنَا إِضَافَة ثَلَاث إِلَى مِائَة مَعَ تَعْرِيف الْأَوَّل وَتَنْكِير الثَّانِي، وَالْمَعْرُوف لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّة عَكْسه، وَهُوَ تَنْكِير الْأَوَّل وَتَعْرِيف الثَّانِي، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا وَالْجَوَاب عَنْهُ وَكَيْفِيَّة قِرَاءَته فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث حُذَيْفَة فِي حَدِيث: «اِحْصُوا لِي كَمْ يَلْفِظ بِالْإِسْلَامِ قُلْنَا: أَتَخَافُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ بَيْن السِّتّمِائَةِ» وَأَمَّا السُّلَامَى- فَبِضَمِّ السِّين الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف اللَّام- وَهُوَ الْمَفْصِل، وَجَمْعُهُ سَلَامَيَات، بِفَتْحِ الْمِيم وَتَخْفِيف الْيَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَحْزَحَ نَفْسه عَنْ النَّار» أَيْ بَاعَدَهَا.
قَوْله: «فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسه عَنْ النَّار» قَالَ أَبُو تَوْبَة: وَرُبَّمَا قَالَ: «يُمْسِي»، وَوَقَعَ لِأَكْثَر رُوَاة كِتَاب مُسْلِم الْأَوَّل: «يَمْشِي» بِفَتْحِ الْيَاء وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَالثَّانِي بِضَمِّهَا وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَة، وَلِبَعْضِهِمْ عَكْسه، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
وَأَمَّا قَوْله بَعْده فِي رِوَايَة الدَّارِمِيِّ: «وَقَالَ: إِنَّهُ يُمْسِي» فَبِالْمُهْمَلَةِ لَا غَيْر.
وَأَمَّا قَوْله بَعْده فِي حَدِيث أَبِي بَكْر بْن نَافِع: «وَقَالَ: فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمئِذٍ» فَبِالْمُعْجَمَةِ بِاتِّفَاقِهِمْ.
1676- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ» الْمَلْهُوف عِنْد أَهْل اللُّغَة يُطْلَق عَلَى الْمُتَحَسِّر، وَعَلَى الْمُضْطَرّ، وَعَلَى الْمَظْلُوم. وَقَوْلهمْ: يَا لَهْف نَفْسِي عَلَى كَذَا. كَلِمَة يُتَحَسَّر بِهَا عَلَى مَا فَاتَ، وَيُقَال: (لَهِفَ) بِكَسْرِ الْهَاء يَلْهَف بِفَتْحِهَا لَهْفًا بِإِسْكَانِهَا أَيْ حَزِنَ وَتَحَسَّرَ، كَذَلِكَ التَّلَهُّف.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَمَسَّكْ عَنْ الشَّرّ فَإِنَّهَا صَدَقَة» مَعْنَاهُ: صَدَقَة عَلَى نَفْسه كَمَا فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة، وَالْمُرَاد أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ عَنْ الشَّرّ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ لَهُ أَجْر عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ لِلْمُتَصَدِّقِ بِالْمَالِ أَجْرًا.
1677- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلّ سُلَامَى مِنْ النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَة كُلّ يَوْم تَطْلُع فيه الشَّمْس» قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد صَدَقَة نَدْبٍ وَتَرْغِيبٍ لَا إِيجَابٍ وَإِلْزَامٍ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعْدِل بَيْن الِاثْنَيْنِ صَدَقَة» أَيْ يُصْلِح بَيْنهمَا بِالْعَدْلِ.