فصل: بَاب نِكَاح الْمُتْعَة وَبَيَان أَنَّهُ أُبِيحَ ثُمَّ نُسِخَ ثُمَّ أُبِيحَ ثُمَّ نُسِخَ وَاسْتَقَرَّ تَحْرِيمه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب نَدْبِ مَنْ رَأَى امْرَأَةً فَوَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ فَيُوَاقِعَهَا:

2491- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَرْأَة تُقْبِل فِي صُورَة شَيْطَان وَتُدْبِر فِي صُورَة شَيْطَان فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدكُمْ اِمْرَأَة فَلْيَأْتِ أَهْله فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدّ مَا فِي نَفْسه» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِذَا أَحَدكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَة فَوَقَعَتْ فِي قَلْبه فَلْيَعْمِدْ إِلَى اِمْرَأَته فَلْيُوَاقِعهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدّ مَا فِي نَفْسه». هَذِهِ الرِّوَايَة الثَّانِيَة مُبَيِّنَة لِلْأُولَى.
وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ رَأَى اِمْرَأَة فَتَحَرَّكَتْ شَهْوَته أَنْ يَأْتِي اِمْرَأَته أَوْ جَارِيَته إِنْ كَانَتْ لَهُ، فَلْيُوَاقِعهَا لِيَدْفَع شَهْوَته، وَتَسْكُن نَفْسه، وَيَجْمَع قَلْبه عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَرْأَة تُقْبِل فِي صُورَة شَيْطَان وَتُدْبِر فِي صُورَة شَيْطَان» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: الْإِشَارَة إِلَى الْهَوَى وَالدُّعَاء إِلَى الْفِتْنَة بِهَا لِمَا جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فِي نُفُوس الرِّجَال مِنْ الْمَيْل إِلَى النِّسَاء، وَالِالْتِذَاذ بِنَظَرِهِنَّ، وَمَا يَتَعَلَّق بِهِنَّ، فَهِيَ شَبِيهَة بِالشَّيْطَانِ فِي دُعَائِهِ إِلَى الشَّرّ بِوَسْوَسَتِهِ وَتَزْيِينه لَهُ. وَيُسْتَنْبَط مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهَا أَلَّا تَخْرُج بَيْن الرِّجَال إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ الْغَضّ عَنْ ثِيَابهَا، وَالْإِعْرَاض عَنْهَا مُطْلَقًا.
قَوْله: «تَمْعَس مَنِيئَة» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْمَعْس بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة: الدَّلْك، و(الْمَنِيئَة) بِمِيمِ مَفْتُوحَة ثُمَّ نُون مَكْسُورَة ثُمَّ هَمْزَة مَمْدُودَة ثُمَّ تَاء تُكْتَب هَاء، وَهِيَ عَلَى وَزْن (صَغِيرَة، وَكَبِيرَة، وَذَبِيحَة) قَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ الْجِلْد أَوَّل مَا يُوضَع الدِّبَاغ، وَقَالَ الْكِسَائِيّ: يُسَمَّى مَنِيئَة مَا دَامَ فِي الدِّبَاغ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ فِي أَوَّل الدِّبَاغ مَنِيئَة، ثُمَّ أَفِيق بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الْفَاء، وَجَمْعه أُفُق، كَقَفِيزِ وَقُفُز، ثُمَّ أَدِيم. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى اِمْرَأَة فَأَتَى اِمْرَأَته زَيْنَب، وَهِيَ تَمْعَس مَنِيئَة لَهَا، فَقَضَى حَاجَته، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: إِنَّ الْمَرْأَة تُقْبِل فِي صُورَة شَيْطَان» إِلَى آخِره.
قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا بَيَانًا لَهُمْ، وَإِرْشَادًا لِمَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ، فَعَلَّمَهُمْ بِفِعْلِهِ وَقَوْله. وَفيه أَنَّهُ لَا بَأْس بِطَلَبِ الرَّجُل اِمْرَأَته إِلَى الْوِقَاع فِي النَّهَار وَغَيْره، وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَغِلَة بِمَا يُمْكِن تَرْكه، لِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَتْ عَلَى الرَّجُل شَهْوَة يَتَضَرَّر بِالتَّأْخِيرِ فِي بَدَنه أَوْ فِي قَلْبه وَبَصَره. وَاَللَّه أَعْلَم.

.بَاب نِكَاح الْمُتْعَة وَبَيَان أَنَّهُ أُبِيحَ ثُمَّ نُسِخَ ثُمَّ أُبِيحَ ثُمَّ نُسِخَ وَاسْتَقَرَّ تَحْرِيمه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة:

اِعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِي عِيَاضًا بَسَطَ شَرْح هَذَا الْبَاب بَسْطًا بَلِيغًا، وَأَتَى فيه بِأَشْيَاء نَفِيسَة، وَأَشْيَاء يُخَالَف فيها، فَالْوَجْه أَنْ نَنْقُل مَا ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، ثُمَّ نَذْكُر مَا يُنْكَر عَلَيْهِ وَيُخَالَف فيه، وَنُنَبِّه عَلَى الْمُخْتَار، قَالَ الْمَازِرِيّ: ثَبَتَ أَنَّ نِكَاح الْمُتْعَة كَانَ جَائِزًا فِي أَوَّل الْإِسْلَام، ثُمَّ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمَذْكُورَة هُنَا أَنَّهُ نُسِخَ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاع عَلَى تَحْرِيمه وَلَمْ يُخَالِف فيه إِلَّا طَائِفَة مِنْ الْمُسْتَبْدِعَة، وَتَعَلَّقُوا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا مَنْسُوخَة فَلَا دَلَالَة لَهُمْ فيها، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَل} وَقِرَاءَة اِبْن مَسْعُود هَذِهِ شَاذَّة لَا يُحْتَجّ بِهَا قُرْآنًا وَلَا خَبَرًا، وَلَا يَلْزَم الْعَمَل بِهَا، قَالَ: وَقَالَ زُفَر: مَنْ نَكَحَ نِكَاح مُتْعَة تَأَبَّدَ نِكَاحه، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذِكْر التَّأْجِيل مِنْ بَاب الشُّرُوط الْفَاسِدَة فِي النِّكَاح فَإِنَّهَا تُلْغَى، وَيَصِحّ النِّكَاح، قَالَ الْمَازِرِيّ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة فِي صَحِيح مُسْلِم فِي النَّهْي عَنْ الْمُتْعَة فَفيه أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا يَوْم خَيْبَر، وَفيه: أَنَّهُ نَهَى عَنْهَا يَوْم فَتْح مَكَّة، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ أَجَازَ نِكَاح الْمُتْعَة، وَزَعَمَ أَنَّ الْأَحَادِيث تَعَارَضَتْ، وَأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَاف قَادِح فيها، قُلْنَا: هَذَا الزَّعْم خَطَأ وَلَيْسَ هَذَا تَنَاقُضًا؛ لِأَنَّهُ يَصِحّ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ فِي زَمَن ثُمَّ يَنْهَى عَنْهُ فِي زَمَن آخَر تَوْكِيدًا أَوْ لِيَشْتَهِر النَّهْي وَيَسْمَعهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ أَوَّلًا، فَسَمِعَ بَعْض الرُّوَاة النَّهْي فِي زَمَن، وَسَمِعَهُ آخَرُونَ فِي زَمَن آخَر، فَنَقَلَ كُلّ مِنْهُمْ مَا سَمِعَهُ وَأَضَافَهُ إِلَى زَمَان سَمَاعه. هَذَا كَلَام الْمَازِرِيّ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: رَوَى حَدِيث إِبَاحَة الْمُتْعَة جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة، فَذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ رِوَايَة اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَسَلَمَة بْن الْأَكْوَع وَسَبْرَة بْن مَعْبَد الْجُهَنِيّ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث كُلّهَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْحَضَر، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي أَسْفَارهمْ فِي الْغَزْو عِنْد ضَرُورَتهمْ وَعَدَم النِّسَاء مَعَ أَنَّ بِلَادهمْ حَارَّة وَصَبْرهمْ عَنْهُنَّ قَلِيل، وَقَدْ ذَكَرَ فِي حَدِيث اِبْن أَبِي عُمَر أَنَّهَا كَانَتْ رُخْصَة فِي أَوَّل الْإِسْلَام لِمَنْ اُضْطُرَّ إِلَيْهَا كَالْمَيْتَةِ وَنَحْوهَا، وَعَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا نَحْوه، وَذَكَرَ مُسْلِم عَنْ سَلَمَة بْن الْأَكْوَع إِبَاحَتهَا يَوْم أَوْطَاس، وَمِنْ رِوَايَة سَبْرَة إِبَاحَتهَا يَوْم الْفَتْح، وَهُمَا وَاحِد، ثَمَّ حُرِّمَتْ يَوْمئِذٍ، وَفِي حَدِيث عَلِيّ تَحْرِيمهَا يَوْم خَيْبَر، وَهُوَ قَبْل الْفَتْح، وَذَكَرَ غَيْر مُسْلِم عَنْ عَلِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا فِي غَزْوَة تَبُوك مِنْ رِوَايَة إِسْحَاق بْن رَاشِد عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيّ، وَلَمْ يُتَابِعهُ أَحَد عَلَى هَذَا وَهُوَ غَلَط مِنْهُ، وَهَذَا الْحَدِيث رَوَاهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ، وَسُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ وَالْعُمَرِيّ وَيُونُس وَغَيْرهمْ عَنْ الزُّهْرِيّ، وَفيه (يَوْم خَيْبَر) وَكَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِم عَنْ جَمَاعَة عَنْ الزُّهْرِيّ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث الرَّبِيع بْن سَبْرَة عَنْ أَبِيهِ النَّهْي عَنْهَا فِي حَجَّة الْوَدَاع، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهَذَا أَصَحّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَبْرَة أَيْضًا إِبَاحَتهَا فِي حَجَّة الْوَدَاع، ثُمَّ نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا حِينَئِذٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ: أَنَّهَا مَا حَلَّتْ قَطُّ إِلَّا فِي عُمْرَة الْقَضَاء، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَبْرَة الْجُهَنِيّ أَيْضًا، وَلَمْ يَذْكُر مُسْلِم فِي رِوَايَات حَدِيث سَبْرَة تَعْيِين وَقْت إِلَّا فِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن سَعِيد الدَّارِمِيِّ، وَرِوَايَة إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم وَرِوَايَة يَحْيَى بْن يَحْيَى، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فيها يَوْم فَتْح مَكَّة، قَالُوا: وَذِكْر الرِّوَايَة بِإِبَاحَتِهَا يَوْم حَجَّة الْوَدَاع خَطَأ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمئِذٍ ضَرُورَة وَلَا عُزُوبَة، وَأَكْثَرهمْ حَجُّوا بِنِسَائِهِمْ، وَالصَّحِيح أَنَّ الَّذِي جَرَى فِي حَجَّة الْوَدَاع مُجَرَّد النَّهْي، كَمَا جَاءَ فِي غَيْر رِوَايَة، وَيَكُون تَجْدِيده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْي عَنْهَا يَوْمئِذٍ لِاجْتِمَاعِ النَّاس، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِد الْغَائِب، وَلِتَمَامِ الدِّين، وَتَقَرُّر الشَّرِيعَة كَمَا قَرَّرَ غَيْر شَيْء وَبَيَّنَ الْحَلَال وَالْحَرَام يَوْمئِذٍ، وَبَتَّ تَحْرِيم الْمُتْعَة حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ: «إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِل مَا جَاءَ مِنْ تَحْرِيم الْمُتْعَة يَوْم خَيْبَر، وَفِي عُمْرَة الْقَضَاء وَيَوْم الْفَتْح وَيَوْم أَوْطَاس أَنَّهُ جَدَّدَ النَّهْي عَنْهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِن؛ لِأَنَّ حَدِيث تَحْرِيمهَا يَوْم خَيْبَر صَحِيح لَا مَطْعَن فيه، بَلْ هُوَ ثَابِت مِنْ رِوَايَة الثِّقَات الْأَثْبَات، لَكِنْ فِي رِوَايَة سُفْيَان أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُتْعَة وَعَنْ لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة يَوْم خَيْبَر، فَقَالَ بَعْضهمْ: هَذَا الْكَلَام فيه اِنْفِصَال، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ حَرَّمَ الْمُتْعَة وَلَمْ يُبَيِّن زَمَن تَحْرِيمهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة يَوْم خَيْبَر، فَيَكُون يَوْم خَيْبَر لِتَحْرِيمِ الْحُمُر خَاصَّة، وَلَمْ يُبَيِّن وَقْت تَحْرِيم الْمُتْعَة لِيَجْمَع بَيْن الرِّوَايَات قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَه أَنَّ تَحْرِيم الْمُتْعَة كَانَ بِمَكَّة، وَأَمَّا لُحُوم الْحُمُر فَبِخَيْبَر بِلَا شَكّ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَحْسَن لَوْ سَاعَدَهُ سَائِر الرِّوَايَات عَنْ غَيْر سُفْيَان، قَالَ: وَالْأَوْلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ قَرَّرَ التَّحْرِيم، لَكِنْ يَبْقَى بَعْد هَذَا مَا جَاءَ مِنْ ذِكْر إِبَاحَته فِي عُمْرَة الْقَضَاء وَيَوْم الْفَتْح وَيَوْم أَوْطَاس، فَتَحْتَمِل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَهَا لَهُمْ لِلضَّرُورَةِ بَعْد التَّحْرِيم، ثُمَّ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَيَكُون حَرَّمَهَا يَوْم خَيْبَر وَفِي عُمْرَة الْقَضَاء، ثُمَّ أَبَاحَهَا يَوْم الْفَتْح لِلضَّرُورَةِ، ثُمَّ حَرَّمَهَا يَوْم الْفَتْح أَيْضًا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وَتَسْقُط رِوَايَة إِبَاحَتهَا يَوْم حَجَّة الْوَدَاع؛ لِأَنَّهَا مَرْوِيَّة عَنْ سَبْرَة الْجُهَنِيّ، وَإِنَّمَا رَوَى الثِّقَات الْأَثْبَات عَنْهُ الْإِبَاحَة يَوْم فَتْح مَكَّة، وَاَلَّذِي فِي حَجَّة الْوَدَاع إِنَّمَا هُوَ التَّحْرِيم، فَيُؤْخَذ مِنْ حَدِيثه مَا اِتَّفَقَ عَلَيْهِ جُمْهُور الرُّوَاة، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ غَيْره مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مِنْ النَّهْي عَنْهَا يَوْم الْفَتْح، وَيَكُون تَحْرِيمهَا يَوْم حَجَّة الْوَدَاع تَأْكِيدًا وَإِشَاعَة لَهُ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا قَوْل الْحَسَن: إِنَّمَا كَانَتْ فِي عُمْرَة الْقَضَاء لَا قَبْلهَا وَلَا بَعْدهَا فَتَرُدّهُ الْأَحَادِيث الثَّابِتَة فِي تَحْرِيمهَا يَوْم خَيْبَر وَهِيَ قَبْل عُمْرَة الْقَضَاء، وَمَا جَاءَ مِنْ إِبَاحَتهَا يَوْم فَتْح مَكَّة وَيَوْم أَوْطَاس مَعَ أَنَّ الرِّوَايَة بِهَذَا إِنَّمَا جَاءَتْ عَنْ سَبْرَة الْجُهَنِيّ، وَهُوَ رَاوِي الرِّوَايَات الْأُخَر وَهِيَ أَصَحّ، فَيُتْرَك مَا خَالَفَ الصَّحِيح، وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ: هَذَا مِمَّا تَدَاوَلَهُ التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة وَالنَّسْخ مَرَّتَيْنِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي، وَالصَّوَاب الْمُخْتَار أَنَّ التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة كَانَا مَرَّتَيْنِ، وَكَانَتْ حَلَالًا قَبْل خَيْبَر، ثُمَّ حُرِّمَتْ يَوْم خَيْبَر، ثُمَّ أُبِيحَتْ يَوْم فَتْح مَكَّة وَهُوَ يَوْم أَوْطَاس، لِاتِّصَالِهِمَا، ثُمَّ حُرِّمَتْ يَوْمئِذٍ بَعْد ثَلَاثَة أَيَّام تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَاسْتَمَرَّ التَّحْرِيم. وَلَا يَجُوز أَنْ يُقَال: إِنَّ الْإِبَاحَة مُخْتَصَّة بِمَا قَبْل خَيْبَر، وَالتَّحْرِيم يَوْم خَيْبَر لِلتَّأْبِيدِ، وَأَنَّ الَّذِي كَانَ يَوْم الْفَتْح مُجَرَّد تَوْكِيد التَّحْرِيم مِنْ غَيْر تَقَدُّم إِبَاحَة يَوْم الْفَتْح كَمَا اِخْتَارَهُ الْمَازِرِيّ وَالْقَاضِي، لِأَنَّ الرِّوَايَات الَّتِي ذَكَرهَا مُسْلِم فِي الْإِبَاحَة يَوْم الْفَتْح صَرِيحَة فِي ذَلِكَ، فَلَا يَجُوز إِسْقَاطهَا، وَلَا مَانِع يَمْنَع تَكْرِير الْإِبَاحَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُتْعَة كَانَتْ نِكَاحًا إِلَى أَجَل لَا مِيرَاث فيها، وَفِرَاقهَا يَحْصُل بِانْقِضَاءِ الْأَجَل مِنْ غَيْر طَلَاق، وَوَقَعَ الْإِجْمَاع بَعْد ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمهَا مِنْ جَمِيع الْعُلَمَاء إِلَّا الرَّوَافِض، وَكَانَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُول بِإِبَاحَتِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ نِكَاح الْمُتْعَة الْآن حُكِمَ بِبُطْلَانِهِ سَوَاء كَانَ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْده إِلَّا مَا سَبَقَ عَنْ زُفَر.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب مَالِك: هَلْ يُحَدّ الْوَاطِئ فيه؟ وَمَذْهَبنَا أَنَّهُ لَا يُحَدّ؛ لِشُبْهَةِ الْعَقْد وَشُبْهَة الْخِلَاف، وَمَأْخَذ الْخِلَاف اِخْتِلَاف الْأُصُولِيِّينَ فِي أَنَّ الْإِجْمَاع بَعْد الْخِلَاف هَلْ يَرْفَع الْخِلَاف وَيُصَيِّر الْمَسْأَلَة مُجْمَعًا عَلَيْهَا؟ وَالْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا أَنَّهُ لَا يَرْفَعهُ بَلْ يَدُوم الْخِلَاف وَلَا يُصَيِّر الْمَسْأَلَة بَعْد ذَلِكَ مُجْمَعًا عَلَيْهَا أَبَدًا، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْبَاقِلَّانِيّ، قَالَ الْقَاضِي: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ نَكَحَ نِكَاحًا مُطْلَقًا وَنِيَّته أَلَّا يَمْكُث مَعَهَا إِلَّا مُدَّة نَوَاهَا فَنِكَاحه صَحِيح حَلَال، وَلَيْسَ نِكَاح مُتْعَة، وَإِنَّمَا نِكَاح الْمُتْعَة مَا وَقَعَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُور، وَلَكِنْ قَالَ مَالِك: لَيْسَ هَذَا مِنْ أَخْلَاق النَّاس، وَشَذَّ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: هُوَ نِكَاح مُتْعَة، وَلَا خَيْر فيه. وَاَللَّه أَعْلَم.
2493- قَوْله: «فَقُلْنَا أَلَا نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ» فيه مُوَافَقَة لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق مِنْ تَحْرِيم الْخَصْي؛ لِمَا فيه مِنْ تَغْيِير خَلْق اللَّه، وَلِمَا فيه مِنْ قَطْع النَّسْل، وَتَعْذِيب الْحَيَوَان. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِح الْمَرْأَة بِالثَّوْبِ» أَيْ الثَّوْب وَغَيْره مِمَّا نَتَرَاضَى بِهِ.
قَوْله: (ثُمَّ قَرَأَ عَبْد اللَّه: {يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَات مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ}) فيه إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِد، إِبَاحَتهَا كَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغهُ نَسْخهَا.
2494- قَوْله: عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَسَلَمَة بْن الْأَكْوَع قَالَا: (خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا) وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «عَنْ سَلَمَة وَجَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانَا فَأَذِنَ لَنَا فِي الْمُتْعَة» فَقَوْله فِي الثَّانِيَة: (أَتَانَا) يَحْتَمِل أَتَانَا رَسُوله وَمُنَادِيه كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ.
2495- قَوْله: «وَحَدَّثَنِي أُمَيَّة بْن بَسْطَام الْعَيْشِيّ حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع حَدَّثَنَا رَوْح وَهُوَ اِبْن الْقَاسِم عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ الْحَسَن بْن مُحَمَّد عَنْ سَلَمَة بْن الْأَكْوَع وَجَابِر» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ وَسَقَطَ فِي بَعْضهَا ذِكْر (الْحَسَن بْن مُحَمَّد) بَلْ قَالَ عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ سَلَمَة وَجَابِر، وَذَكَرَ الْمَازِرِيّ أَيْضًا أَنَّ النَّسْخ اُخْتُلِفَ فيه، وَأَنَّهُ ثَبَتَ ذِكْر الْحَسَن فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَانِ، وَسَقَطَ فِي رِوَايَة الْجُلُودِيّ، وَسَبَقَ بَيَان أُمَيَّة بْن بَسْطَام، وَأَنَّهُ يَجُوز صَرْف (بَسْطَام) وَتَرْك صَرْفه، وَأَنَّ الْبَاء تُكْسَر، وَقَدْ تُفْتَح، و(الْعَيْشِيّ) بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة.
2496- قَوْلُهُ: (اسْتَمْتَعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي اسْتَمْتَعَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ.
وَقَوْله (حِينَ نَهَانَا عَنْهُ عُمَرَ) يَعْنِي حِينَ بَلَغَهُ النَّسْخُ، وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاحُ هَذَا.
2497- قَوْله: «كُنَّا نَسْتَمْتِع بِالْقُبْضَةِ مِنْ التَّمْر وَالدَّقِيق» الْقُبْضَة بِضَمِّ الْقَاف وَفَتْحهَا، وَالضَّمّ أَفْصَح، قَالَ الْجَوْهَرِيّ: (الْقُبْضَة) بِالضَّمِّ مَا قَبَضْت عَلَيْهِ مِنْ الشَّيْء، يُقَال: أَعْطَاهُ قُبْضَة مِنْ سَوِيق أَوْ تَمْر، قَالَ: وَرُبَّمَا فُتِحَ.
2498- قَوْله: (حَدَّثَنَا حَامِد بْن عُمَر الْبَكْرَاوِيُّ) ذَكَرْنَا مَرَّات أَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى جَدّه الْأَعْلَى أَبِي بَكْر الصَّحَابِيّ.
2499- قَوْله: «رَخَّصَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام أَوْطَاس فِي الْمُتْعَة ثَلَاثًا ثُمَّ نَهَى عَنْهَا» هَذَا تَصْرِيح بِأَنَّهَا أُبِيحَتْ يَوْم فَتْح مَكَّة، وَهُوَ وَيَوْم أَوْطَاس شَيْء وَاحِد، وَأَوْطَاس وَادٍ بِالطَّائِفِ، وَيُصْرَف وَلَا يُصْرَف، فَمَنْ صَرَفَهُ أَرَادَ الْوَادِي وَالْمَكَان، وَمَنْ لَمْ يَصْرِفهُ أَرَادَ الْبُقْعَة كَمَا فِي نَظَائِره، وَأَكْثَر اِسْتِعْمَالهمْ لَهُ غَيْر مَصْرُوف.
2500- قَوْله: (الرَّبِيع بْن سَبْرَة) هُوَ بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الْبَاء الْمُوَحَّدَة.
قَوْله: (فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَجُل إِلَى اِمْرَأَة مِنْ بَنِي عَامِر كَأَنَّهَا بَكْرَة عَيْطَاء) أَمَّا (الْبَكْرَة) فَهِيَ الْفَتِيَّة مِنْ الْإِبِل أَيْ الشَّابَّة الْقَوِيَّة، وَأَمَّا (الْعَيْطَاء) فَبِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحْت وَبِطَاءٍ مُهْمَلَة وَبِالْمَدِّ، وَهِيَ: الطَّوِيلَة الْعُنُق فِي اِعْتِدَال وَحُسْن قَوَام (وَالْعَيَط) بِفَتْحِ الْعَيْن وَالْيَاء طُول الْعُنُق.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ عِنْده شَيْء مِنْ هَذِهِ النِّسَاء الَّتِي يَتَمَتَّع فَلْيُخَلِّ سَبِيلهَا» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «الَّتِي يَتَمَتَّع فَلْيُخَلِّ» أَيْ يَتَمَتَّع بِهَا، فَحَذَفَ (بِهَا) لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ، أَوْ أَوْقَع يَتَمَتَّع مَوْقِع يُبَاشِر، أَيْ: يُبَاشِرهَا، وَحَذَفَ الْمَفْعُول.
2501- قَوْله: (وَهُوَ قَرِيب مِنْ الدَّمَامَة) هِيَ بِفَتْحِ الدَّال الْمُهْمَلَة، وَهِيَ الْقُبْح فِي الصُّورَة.
قَوْله: (فَبُرْدِي خَلَق) هُوَ بِفَتْحِ اللَّام أَيْ قَرِيب مِنْ الْبَالِي.
قَوْله: (فَتَلَقَّتْنَا فَتَاة مِثْل الْبَكْرَة الْعَنَطْنَطَة) هِيَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة وَبِنُونَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَة وَبِطَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ وَهِيَ كَالْعَيْطَاءِ، وَسَبَقَ بَيَانهَا، وَقِيلَ هِيَ الطَّوِيلَة فَقَطْ، وَالْمَشْهُور الْأَوَّل.
قَوْله: (تَنْظُر إِلَى عِطْفهَا) هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْن أَيْ جَانِبهَا، وَقِيلَ: مِنْ رَأْسهَا إِلَى وَرِكهَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاح الْمُتْعَة وَلِيّ وَلَا شُهُود.
قَوْله: (إِنَّ بُرْد هَذَا خَلَق مَحّ) هُوَ بِمِيمِ مَفْتُوحَة وَحَاء مُهْمَلَة مُشَدَّدَة، وَهُوَ: الْبَالِي، وَمِنْهُ: مَحَّ الْكِتَاب، إِذَا بَلِيَ وَدَرَسَ.
2502- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ كُنْت أَذِنْت لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاع مِنْ النِّسَاء، وَإِنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَمَنْ كَانَ عَنَدَة مِنْهُنَّ شَيْء فَلْيُخَلِّ سَبِيلهَا وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا».
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: التَّصْرِيح بِالْمَنْسُوخِ وَالنَّاسِخ فِي حَدِيث وَاحِد مِنْ كَلَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَحَدِيثِ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور فَزُورُوهَا»، وَفيه: التَّصْرِيح بِتَحْرِيمِ نِكَاح الْمُتْعَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّن تَأْوِيل قَوْله فِي الْحَدِيث السَّابِق أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَتَّعُونَ إِلَى عَهْد أَبِي بَكْر وَعُمَر، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغهُمْ النَّاسِخ كَمَا سَبَقَ. وَفيه: أَنَّ الْمَهْر الَّذِي كَانَ أَعْطَاهَا يَسْتَقِرّ لَهَا، وَلَا يَحِلّ أَخْذ شَيْء مِنْهُ، وَإِنْ فَارَقَهَا قَبْل الْأَجَل الْمُسَمَّى، كَمَا أَنَّهُ يَسْتَقِرّ فِي النِّكَاح الْمَعْرُوف الْمَهْر الْمُسَمَّى بِالْوَطْءِ، وَلَا يَسْقُط مِنْهُ شَيْء بِالْفُرْقَةِ بَعْده.
2504- قَوْله: (فَآمَرَتْ نَفْسهَا سَاعَة) هُوَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَة، أَيْ: شَاوَرَتْ نَفْسهَا وَأَفْكَرَتْ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الْمَلَأ يَأْتَمِرُونَ بِك}.
2508- قَوْله: (إِنَّ نَاسًا أَعْمَى اللَّه قُلُوبهمْ كَمَا أَعْمَى أَبْصَارهمْ يُفْتُونَ بِالْمُتْعَةِ يُعَرِّض بِرَجُلٍ) يَعْنِي: يُعَرِّض بِابْنِ عَبَّاس.
قَوْله: (إِنَّك لَجِلْفٌ جَافٍ) الْجِلْف بِكَسْرِ الْجِيم: قَالَ اِبْن السِّكِّيت وَغَيْره: الْجِلْف هُوَ الْجَافِي، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: إِنَّمَا جَمَعَ بَيْنهمَا تَوْكِيدًا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظ، وَالْجَافِي، هُوَ: الْغَلِيظ الطَّبْع الْقَلِيل الْفَهْم وَالْعِلْم وَالْأَدَب لِبُعْدِهِ عَنْ أَهْل ذَلِكَ.
قَوْله: (فَوَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتهَا لَأَرْجُمَنَّك بِأَحْجَارِك) هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ أَبْلَغَهُ النَّاسِخ لَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَكّ فِي تَحْرِيمهَا، فَقَالَ: إِنْ فَعَلْتهَا بَعْد ذَلِكَ وَوَطِئَتْ فيها كُنْت زَانِيًا وَرَجَمْتُك بِالْأَحْجَارِ الَّتِي يُرْجَم بِهَا الزَّانِي.
قَوْله (فَأَخْبَرَنِي خَالِد بْن الْمُهَاجِر بْن سَيْف اللَّه) (سَيْف اللَّه) هُوَ: خَالِد بْن الْوَلِيد الْمَخْزُومِيّ، سَمَّاهُ بِذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ يَنْكَأ فِي أَعْدَاء اللَّه.
2510- قَوْله: «نَهَى عَنْ مُتْعَة النِّسَاء يَوْم خَيْبَر وَعَنْ أَكْل لُحُوم الْحُمْر الْإِنْسِيَّة»، قَوْله: (الْإِنْسِيَّة) ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدهمَا كَسْر الْهَمْزَة وَإِسْكَان النُّون، وَالثَّانِي فَتْحهمَا جَمِيعًا، وَصَرَّحَ الْقَاضِي بِتَرْجِيحِ الْفَتْح، وَأَنَّهُ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ.
وَفِي هَذَا تَحْرِيم لُحُوم الْحُمُر الْإِنْسِيَّة، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة، إِلَّا طَائِفَة يَسِيرَة مِنْ السَّلَف، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَبَعْض السَّلَف إِبَاحَته، وَرُوِيَ عَنْهُمْ تَحْرِيمه، وَرُوِيَ عَنْ مَالِك كَرَاهَته وَتَحْرِيمه.
قَوْله: (إِنَّك رَجُل تَائِهٌ) هُوَ الْحَائِر الذَّاهِب عَنْ الطَّرِيق الْمُسْتَقِيم. وَاَللَّه أَعْلَم.

.(بَاب تَحْرِيم الْجَمْع بَيْن الْمَرْأَة وَعَمَّتهَا أَوْ خَالَتهَا فِي النِّكَاح):

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُجْمَع بَيْن الْمَرْأَة وَعَمَّتهَا وَلَا بَيْن الْمَرْأَة وَخَالَتهَا»، وَفِي رِوَايَة: «لَا تُنْكَح الْعَمَّة عَلَى بِنْت الْأَخ وَلَا اِبْنَة الْأُخْت عَلَى الْخَالَة» هَذَا دَلِيل لِمَذَاهِب الْعُلَمَاء كَافَّة أَنَّهُ يَحْرُم الْجَمْع بَيْن الْمَرْأَة وَعَمَّتهَا وَبَيْنهَا وَبَيْن خَالَتهَا، سَوَاء كَانَتْ عَمَّة وَخَالَة حَقِيقَة، وَهِيَ أُخْت الْأَب وَأُخْت الْأُمّ، أَوْ مَجَازِيَّة، وَهِيَ أُخْت أَبِي الْأَب وَأَبِي الْجَدّ وَإِنْ عَلَا، أَوْ أُخْت أُمّ الْأُمّ وَأُمّ الْجَدَّة مِنْ جِهَتِيْ الْأُمّ وَالْأَب، وَإِنْ عَلَتْ فَكُلّهنَّ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء يَحْرُم الْجَمْع بَيْنهمَا.
وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْخَوَارِج وَالشِّيعَة: يَجُوز، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ} وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِهَذِهِ الْأَحَادِيث وَخَصُّوا بِهَا الْآيَة وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْأُصُولِيِّينَ جَوَاز تَخْصِيص عُمُوم الْقُرْآن بِخَبَرِ الْوَاحِد، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّن لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ كِتَاب اللَّه.
وَأَمَّا الْجَمْع بَيْنهمَا فِي الْوَطْء بِمِلْكِ الْيَمِين كَالنِّكَاحِ فَهُوَ حَرَام عِنْد الْعُلَمَاء كَافَّة، وَعِنْد الشِّيعَة مُبَاح. قَالُوا: وَيُبَاح أَيْضًا الْجَمْع بَيْن الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِين. قَالُوا: وَقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْن الْأُخْتَيْنِ} إِنَّمَا هُوَ فِي النِّكَاح.
قَالَ: وَقَالَ الْعُلَمَاء كَافَّة: هُوَ حَرَام كَالنِّكَاحِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْن الْأُخْتَيْنِ} وَقَوْلهمْ: إِنَّهُ مُخْتَصّ بِالنِّكَاحِ لَا يُقْبَل، بَلْ جَمِيع الْمَذْكُورَات فِي الْآيَة مُحَرَّمَات بِالنِّكَاحِ وَبِمِلْكِ الْيَمِين جَمِيعًا، وَمِمَّا يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَات مِنْ النِّسَاء إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ} فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مِلْك الْيَمِين يَحِلّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِين لَا نِكَاحهَا، فَإِنَّ عَقْدَ النِّكَاح عَلَيْهَا لَا يَجُوز لِسَيِّدِهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا بَاقِي الْأَقَارِب كَالْجَمْعِ بْن بِنْتِيْ الْعَمّ أَوْ بِنْتِيْ الْخَالَة أَوْ نَحْوهمَا فَجَائِز عِنْدنَا وَعِنْد الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ حَرَّمَهُ. دَلِيل الْجُمْهُور قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ}. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا الْجَمْع بَيْن زَوْجَة الرَّجُل وَبِنْته مِنْ غَيْرهَا فَجَائِز عِنْدنَا وَعِنْد مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالْجُمْهُور، وَقَالَ الْحَسَن وَعِكْرِمَة وَابْن أَبِي لَيْلَى: لَا يَجُوز. دَلِيل الْجُمْهُور قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ} وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُجْمَع بَيْن الْمَرْأَة وَعَمَّتهَا وَلَا بَيْن الْمَرْأَة وَخَالَتهَا» ظَاهِر فِي أَنَّهُ لَا فَرْق بَيْن أَنْ يَنْكِح الْبِنْتَيْنِ مَعًا، أَوْ تُقَدَّم هَذِهِ أَوْ هَذِهِ، فَالْجَمْع بَيْنهمَا حَرَام كَيْف كَانَ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره: «لَا تُنْكَح الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى» لَكِنْ إِنْ عَقَدَ عَلَيْهِمَا مَعًا بِعَقْدٍ وَاحِد فَنِكَاحهمَا بَاطِل، وَإِنْ عَقَدَ عَلَى إِحْدَاهُمَا ثُمَّ الْأُخْرَى فَنِكَاح الْأُولَى صَحِيح، وَنِكَاح الثَّانِيَة بَاطِل، وَاَللَّه أَعْلَم.
2514- سبق شرحه بالباب.
2515- سبق شرحه بالباب.
2516- سبق شرحه بالباب.
2517- سبق شرحه بالباب.
2518- سبق شرحه بالباب.
2519- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَخْطُب الرَّجُل عَلَى خِطْبَة أَخِيهِ وَلَا يَسُوم عَلَى سَوْم أَخِيهِ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (وَلَا يَسُوم) بِالْوَاوِ، وَهَكَذَا (يَخْطُب) مَرْفُوع، وَكِلَاهُمَا لَفْظه لَفْظ الْخَبَر، وَالْمُرَاد بِهِ النَّهْي، وَهُوَ أَبْلُغ فِي النَّهْي، لِأَنَّ خَبَر الشَّارِع لَا يُتَصَوَّر وُقُوع خِلَافه، وَالنَّهْي قَدْ تَقَع مُخَالَفَته، فَكَانَ الْمَعْنَى: عَامِلُوا هَذَا النَّهْي مُعَامَلَة الْخَبَر الْمُتَحَتِّم.
وَأَمَّا حُكْم الْخِطْبَة فَسَيَأْتِي فِي بَابهَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَكَذَلِكَ السَّوْم فِي كِتَاب الْبَيْع.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَسْأَل الْمَرْأَة طَلَاق أُخْتهَا لِتَكْتَفِئ صَحْفَتهَا وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّمَا لَهَا مَا كَتَبَ اللَّه لَهَا» يَجُوز فِي (تَسْأَل) الرَّفْع وَالْكَسْر الْأَوَّل عَلَى الْخَبَر الَّذِي يُرَاد بِهِ النَّهْي وَهُوَ الْمُنَاسِب لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْله: «لَا يَخْطُب وَلَا يَسُوم».
وَالثَّانِي: عَلَى النَّهْي الْحَقِيقِيّ.
وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: نَهْي الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة أَنْ تَسْأَل الزَّوْج طَلَاق زَوْجَته، وَأَنْ يَنْكِحهَا وَيَصِير لَهَا مِنْ نَفَقَته وَمَعْرُوفه وَمُعَاشَرَته وَنَحْوهَا مَا كَانَ لَلْمُطَلَّقَة. فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِاكْتِفَاءِ مَا فِي الصَّحِيفَة مَجَازًا.
قَالَ الْكِسَائِيّ: وَأَكْفَأْت الْإِنَاء كَبَبْته، وَكَفَأْته وَأَكْفَأْته أَمَلْته، وَالْمُرَاد بِأُخْتِهَا غَيْرهَا سَوَاء كَانَتْ أُخْتهَا مِنْ النَّسَب أَوْ أُخْتهَا فِي الْإِسْلَام أَوْ كَافِرَة.
2520- سبق شرحه بالباب.
2521- سبق شرحه بالباب.

.بَاب تَحْرِيم نِكَاح الْمُحْرِم وَكَرَاهَة خِطْبَته:

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِح الْمُحْرِم، وَلَا يُنْكَح وَلَا يَخْطُب» ثُمَّ ذَكَرَ مُسْلِم الِاخْتِلَاف أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَة وَهُوَ مُحْرِم، أَوْ وَهُوَ حَلَال، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي نِكَاح الْمُحْرِم، فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ: لَا يَصِحّ نِكَاح الْمُحْرِم، وَاعْتَمَدُوا أَحَادِيث الْبَاب.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ: يَصِحّ نِكَاحه لِحَدِيثِ قِصَّة مَيْمُونَة، وَأَجَابَ الْجُمْهُور عَنْ حَدِيث مَيْمُونَة بِأَجْوِبَةٍ أَصَحّهَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا حَلَالًا هَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَر الصَّحَابَة.
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: وَلَمْ يَرْوِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا مُحْرِمًا إِلَّا اِبْن عَبَّاس وَحْده، وَرَوَتْ مَيْمُونَة وَأَبُو رَافِع وَغَيْرهمَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَهُمْ أَعْرَف بِالْقَضِيَّةِ لِتَعَلُّقِهِمْ بِهِ، بِخِلَافِ اِبْن عَبَّاس، وَلِأَنَّهُمْ أَضْبَط مِنْ اِبْن عَبَّاس وَأَكْثَر.
الْجَوَاب الثَّانِي: تَأْوِيل حَدِيث اِبْن عَبَّاس عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي الْحَرَم وَهُوَ حَلَال، وَيُقَال لِمَنْ هُوَ فِي الْحَرَم مُحْرِم وَإِنْ كَانَ حَلَالًا، وَهِيَ لُغَة شَائِعَة مَعْرُوفَة، وَمِنْهُ الْبَيْت الْمَشْهُور قَتَلُوا اِبْن عَفَّانَ الْخَلِيفَة مُحْرِمًا أَيْ فِي حَرَم الْمَدِينَة.
وَالثَّالِث: أَنَّهُ تَعَارَضَ الْقَوْل وَالْفِعْل، وَالصَّحِيح حِينَئِذٍ عِنْد الْأُصُولِيِّينَ تَرْجِيح الْقَوْل لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْغَيْر، وَالْفِعْل قَدْ يَكُون مَقْصُورًا عَلَيْهِ.
وَالرَّابِع جَوَاب جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج فِي حَال الْإِحْرَام، وَهُوَ مِمَّا خُصَّ بِهِ دُون الْأُمَّة، وَهَذَا أَصَحّ الْوَجْهَيْنِ عِنْد أَصْحَابنَا. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنَّهُ حَرَام فِي حَقّه كَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ مِنْ الْخَصَائِص.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَنْكِح» فَمَعْنَاهُ لَا يُزَوِّج اِمْرَأَة بِوِلَايَةٍ وَلَا وَكَالَة.
قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَبه أَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ فِي مُدَّة الْإِحْرَام مِنْ الْعَقْد لِنَفْسِهِ صَارَ كَالْمَرْأَةِ فَلَا يَعْقِد لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَظَاهِر هَذَا الْعُمُوم أَنَّهُ لَا فَرْق بَيْن أَنْ يُزَوِّج بِوِلَايَةِ خَاصَّة كَالْأَبِ وَالْأَخ وَالْعَمّ وَنَحْوهمْ، أَوْ بِوِلَايَةٍ عَامَّة وَهُوَ السُّلْطَان وَالْقَاضِي وَنَائِبه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْدنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا: وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يَجُوز أَنْ يُزَوِّج الْمُحْرِم بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّة لِأَنَّهَا يُسْتَفَاد بِهَا مَا لَا يُسْتَفَاد بِالْخَاصَّةِ، وَلِهَذَا يَجُوز لِلْمُسْلِمِ تَزْوِيج الذِّمِّيَّة بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّة دُون الْخَاصَّة.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّهْي عَنْ النِّكَاح وَالْإِنْكَاح فِي حَال الْإِحْرَام نَهْي تَحْرِيم، فَلَوْ عَقَدَ لَمْ يَنْعَقِد سَوَاء كَانَ الْمُحْرِم هُوَ الزَّوْج وَالزَّوْجَة أَوْ الْعَاقِد لَهُمَا بِوِلَايَةٍ أَوْ وَكَالَة، فَالنِّكَاح بَاطِل فِي كُلّ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجَانِ وَالْوَلِيّ مُحِلِّينَ، وَوَكَّلَ الْوَلِيّ أَوْ الزَّوْج مُحْرِمًا فِي الْعَقْد لَمْ يَنْعَقِد.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَخْطُب» فَهُوَ نَهْي تَنْزِيه لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَكَذَلِكَ يُكْرَه لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكُون شَاهِدًا فِي نِكَاح عَقَدَهُ الْمُحِلُّونَ.
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: لَا يَنْعَقِد بِشَهَادَتِهِ لِأَنَّ الشَّاهِد رُكْن فِي عَقْد النِّكَاح كَالْوَلِيِّ. وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور اِنْعِقَاده.
قَوْله: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَحْيَى عَنْ مَالِك عَنْ نَافِع عَنْ نُبَيْه بْن وَهْب أَنَّ عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه أَرَادَ أَنْ يُزَوِّج طَلْحَة بْن عُمَر بِنْت شَيْبَة بْن جُبَيْر) ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْد ذَلِكَ مِنْ رِوَايَة حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ أَيُّوب عَنْ نَافِع عَنْ نُبَيْه قَالَ: بَعَثَنِي عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن مَعْمَر، وَكَانَ يَخْطُب بِنْت شَيْبَة بْن عُثْمَان عَلَى اِبْنه. هَكَذَا قَالَ أَحْمَد عَنْ أَيُّوب فِي رِوَايَة بِنْت شَيْبَة بْن عُثْمَان، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّد بْن رَاشِد بْن عُثْمَان بْن عَمْرو الْقُرَشِيّ، وَزَعَمَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنه أَنَّهُ الصَّوَاب، وَأَنَّ مَالِكًا وَهَمَ فيه.
وَقَالَ الْجُمْهُور: بَلْ قَوْل مَالِك هُوَ الصَّوَاب؛ فَإِنَّهَا بِنْت شَيْبَة بْن جُبَيْر بْن عُثْمَان الحَجَبِيّ كَذَا حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: شَيْبَة بْن عُثْمَان نَسَبَه إِلَى جَدّه فَلَا يَكُون خَطَأ، بَلْ الرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ إِحْدَاهُمَا حَقِيقَة، وَالْأُخْرَى مَجَاز وَذَكَرَ الزُّبَيْر بْن بَكَّار أَنَّ هَذِهِ الْبِنْت تُسَمَّى أَمَة الْحُمَيْد.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي إِسْنَاد رِوَايَة حَمَّاد عَنْ أَيُّوب رِوَايَة أَرْبَعَة تَابِعِيِّينِ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض وَهُمْ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ وَنَافِع وَنُبَيْه وَأَبَان بْن عُثْمَان، وَقَدْ نَبَّهْت عَلَى نَظَائِر كَثِيرَة لِهَذَا سَبَقَتْ فِي هَذَا الْكِتَاب، وَقَدْ أَفْرَدْتهَا فِي جُزْء مَعَ رُبَاعِيَّات الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
2522- سبق شرحه بالباب.
2523- سبق شرحه بالباب.
2524- سبق شرحه بالباب.
2525- سبق شرحه بالباب.
2526- قَوْله: (فَقَالَ لَهُ أَبَان: أَلَا أُرَاكَ عِرَاقِيًّا جَافِيًا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا (عِرَاقِيًّا) وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْض الرِّوَايَات (عِرَاقِيًّا) وَفِي بَعْضهَا (أَعْرَابِيًّا) قَالَ: وَهُوَ الصَّوَاب، أَيْ جَاهِلًا بِالسُّنَّةِ. وَالْأَعْرَابِيّ هُوَ سَاكِن الْبَادِيَة، قَالَ: (وَعِرَاقِيًّا) هُنَا خَطَأ إِلَّا أَنْ يَكُون قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَب أَهْل الْكُوفَة حِينَئِذٍ جَوَاز نِكَاح الْمُحْرِم فَيَصِحّ عِرَاقِيًّا أَيْ آخِذًا بِمَذْهَبِهِمْ فِي هَذَا جَاهِلًا بِالسُّنَّةِ وَاَللَّه أَعْلَم.
2527- سبق شرحه بالباب.
2528- سبق شرحه بالباب.
2529- سبق شرحه بالباب.