فصل: باب مِنْ فَضَائِلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب مِنْ فَضَائِلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:

4403- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَا الْمَنَام: «وَمَرَّ عُمَر وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ قَالُوا: مَا أَوَّلْت ذَلِكَ يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: الدِّين» قَالَ أَهْل الْعِبَارَة: الْقَمِيصُ فِي النَّوْم الدِّين، وَجَرُّهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاء آثَاره الْجَمِيلَة وَسُنَنه الْحَسَنَة فِي الْمُسْلِمِينَ بَعْد وَفَاته لِيُقْتَدَى بِهِ.
4404- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْت قَدَحًا أُتِيت بِهِ فيه لَبَن، فَشَرِبْت مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيّ يَخْرُج مِنْ أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْت فَضْلِي عُمَر بْن الْخَطَّاب قَالُوا: فَمَا أَوَّلْت ذَلِكَ يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: الْعِلْم» وَأَمَّا تَفْسِير اللَّبَن بِالْعِلْمِ فَلِاشْتِرَاكِهِمَا فِي كَثْرَة النَّفْع، وَفِي أَنَّهُمَا سَبَب الصَّلَاح، فَاللَّبَن غِذَاء الْأَطْفَال، وَسَبَب صَلَاحهمْ، وَقُوت لَلْأَبَدَانِ بَعْد ذَلِكَ، وَالْعِلْم سَبَبٌ لِصَلَاحِ الْآخِرَة وَالدُّنْيَا.
4405- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْو، فَنَزَعْت مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّه، ثُمَّ أَخَذَهَا اِبْن أَبِي قُحَافَة، فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعه وَاَللَّه يَغْفِرُ لَهُ ضَعْف، ثُمَّ اِسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَأَخَذَهَا اِبْن الْخَطَّاب، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنْ النَّاس يَنْزِعُ نَزْع عُمَر بْن الْخَطَّاب حَتَّى ضَرَبَ النَّاس بِعَطَنٍ» أَمَّا الْقَلِيبُ فَهِيَ الْبِئْر غَيْر الْمَطْوِيَّة.
وَالدَّلْو يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.
وَالذَّنُوب بِفَتْحِ الذَّال الدَّلْو الْمَمْلُوءَة، وَالْغَرْب بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الرَّاء، وَالدَّلْو الْعَظِيمَة.
وَالنَّزْع الِاسْتِقَاء.
وَالضُّعْف بِضَمِّ الضَّاد وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، الضَّمُّ أَفْصَح.
وَمَعْنَى (اِسْتَحَالَتْ) صَارَتْ وَتَحَوَّلَتْ مِنْ الصِّغَر إِلَى الْكِبَر.
وَأَمَّا (الْعَبْقَرِيّ) فَهُوَ السَّيِّد، وَقِيلَ: الَّذِي لَيْسَ فَوْقه شَيْء.
وَمَعْنَى: «ضَرَبَ النَّاس بِعَطَنٍ» أَيْ أَرْوَوْا إِبِلهمْ ثُمَّ آوَوْهَا إِلَى عَطَنِهَا، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُسَاقُ إِلَيْهِ بَعْد السَّقْيِ لِتَسْتَرِيحَ.
قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا الْمَنَام مِثَال وَاضِح لِمَا جَرَى لِأَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي خِلَافَتهمَا، وَحُسْن سِيرَتِهِمَا، وَظُهُور آثَارهمَا، وَانْتِفَاع النَّاس بِهِمَا، وَكُلّ ذَلِكَ مَأْخُوذ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ بَرَكَتِهِ، وَآثَار صُحْبَتِهِ. فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَاحِب الْأَمْر، فَقَامَ بِهِ أَكْمَلَ قِيَام، وَقَرَّرَ قَوَاعِد الْإِسْلَام، وَمَهَّدَ أُمُوره، وَأَوْضَحَ أُصُوله وَفُرُوعه، وَدَخَلَ النَّاس فِي دِين اللَّه أَفْوَاجًا، وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ} ثُمَّ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَنَتَيْنِ وَأَشْهُرًا، وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ»، وَهَذَا شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي، وَالْمُرَاد ذَنُوبَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى. وَحَصَلَ فِي خِلَافَته قِتَال أَهْل الرِّدَّة وَقَطْعِ دَابِرهمْ، وَاتِّسَاع الْإِسْلَام. ثُمَّ تُوُفِّيَ فَخَلَفَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَاتَّسَعَ الْإِسْلَام فِي زَمَنه، وَتَقَرَّرَ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامه مَا لَمْ يَقَعْ مِثْله. فَعَبَّرَ بِالْقَلِيبِ عَنْ أَمْر الْمُسْلِمِينَ لِمَا فيها مِنْ الْمَاء الَّذِي بِهِ حَيَاتُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ، وَشَبَّهَ أَمِيرهمْ بِالْمُسْتَقِي لَهُمْ، وَسَقْيُهُ هُوَ قِيَامُهُ بِمَصَالِحِهِمْ وَتَدْبِير أُمُورهمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ» سَبَقَ تَفْسِيره.
قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِره أَنَّهُ عَائِد إِلَى خِلَافَة عُمَر خَاصَّة.
4406- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَفِي نَزْعه ضُعْف فَلَيْسَ فيه حَطّ مِنْ فَضِيلَة أَبِي بَكْر، وَلَا إِثْبَات فَضِيلَة لِعُمَر عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَنْ مُدَّةِ وِلَايَتِهِمَا، وَكَثْرَة اِنْتِفَاع النَّاس فِي وِلَايَة عُمَر لِطُولِهَا، وَلِاتِّسَاعِ الْإِسْلَام، وَبِلَاده، وَالْأَمْوَال وَغَيْرهَا مِنْ الْغَنَائِم وَالْفُتُوحَات، وَمَصَّرَ الْأَمْصَار، وَدَوَّنَ الدَّوَاوِين.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَللَّه يَغْفِر لَهُ» فَلَيْسَ فيه تَنْقِيص لَهُ، وَلَا إِشَارَة إِلَى ذَنْب، وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَة كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَدْعَمُونَ بِهَا كَلَامهمْ، وَنِعْمَتْ الدِّعَامَة، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيث فِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّهَا كَلِمَة كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَهَا: اِفْعَلْ كَذَا، وَاَللَّه يَغْفِر لَك.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَفِي كُلّ هَذَا إِعْلَام بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْر وَعُمَر، وَصِحَّة وِلَايَتهمَا، وَبَيَان صِفَتهَا، وَانْتِفَاع الْمُسْلِمِينَ بِهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَجَاءَنِي أَبُو بَكْر فَأَخَذَ الدَّلْو مِنْ يَدِي لِيُرَوِّحَنِي» قَالَ الْعُلَمَاء: فيه إِشَارَة إِلَى نِيَابَة أَبِي بَكْر عَنْهُ، وَخِلَافَته بَعْده، وَرَاحَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَفَاتِهِ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» الْحَدِيث، و:َ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ»، وَ«لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيك بَعْدَ الْيَوْم».
4407- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنْ النَّاس يَفْرِي فَرْيه» أَمَّا (يَفْرِي) فَبِفَتْحِ الْيَاء وَإِسْكَان الْفَاء وَكَسْر الرَّاء، وَأَمَّا (فَرْيه) فَرُوِيَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا فَرْيه بِإِسْكَانِ الرَّاء وَتَخْفِيف الْيَاء، وَالثَّانِيَة كَسْر الرَّاء وَتَشْدِيد الْيَاء، وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَأَنْكَرَ الْخَلِيل التَّشْدِيد وَقَالَ: هُوَ غَلَط. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ أَرَ سَيِّدًا يَعْمَل عَمَله، وَيَقْطَع قَطْعه، وَأَصْل الْفَرْي بِالْإِسْكَانِ الْقَطْع. يُقَال: فَرَيْت الشَّيْء أَفْرِيه فَرْيًا قَطَعْته لِلْإِصْلَاحِ، فَهُوَ مَفْرِيّ، فَرِيَ وَأْفَرَيْته إِذَا شَقَقْته عَلَى جِهَة الْإِفْسَاد، وَتَقُول الْعَرَب: تَرَكْته يَفْرِي الْفَرْي إِذَا عَمَلَ الْعَمَل بِإِجَادَةٍ، وَمِنْهُ حَدِيث حَسَّان: لَأَفْرِيَنَّهُمْ فَرْيَ الْأَدِيمِ أَيْ أَقْطَعُهُمْ بِالْهِجَاءِ كَمَا يَقْطَعُ الْأَدِيمَ.
وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى خِلَافَة أَبِي بَكْر وَعُمَر جَمِيعًا، لِأَنَّ بِنَظَرِهِمَا وَتَدْبِيرِهِمَا وَقِيَامِهِمَا بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ تَمَّ هَذَا الْأَمْر، وَضَرَبَ النَّاس بِعَطَنٍ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْر قَمَعَ أَهْل الرِّدَّة، وَجَمَعَ شَمْل الْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّفَهُمْ، وَابْتَدَأَ الْفُتُوح، وَمَهَّدَ الْأُمُور، وَتَمَّتْ ثَمَرَات ذَلِكَ وَتَكَامَلَتْ فِي زَمَن عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنِّي أَنْزِعُ بِدَلْوِ بَكْرَة» هِيَ بِإِسْكَانِ الْكَاف وَفَتْحهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى رُوِيَ النَّاس» هُوَ بِكَسْرِ الْوَاو وَالْمُخَفَّفَة، أَيْ أَخَذُوا كِفَايَتهمْ.
4410- قَوْله: (عَنْ صَالِح عَنْ اِبْن شِهَاب قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْد الْحَمِيد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد أَنَّ مُحَمَّد بْن سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ سَعْدًا قَالَ: اِسْتَأْذَنَ عُمَر) هَذَا الْحَدِيث اِجْتَمَعَ فيه أَرْبَعَة تَابِعِيُّونَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، وَهُمْ صَالِح، وَابْن شِهَاب، وَعَبْد الْحَمِيد، وَمُحَمَّد.
وَقَدْ رَأَى عَبْد الْحَمِيد اِبْن عَبَّاس.
قَوْله: «وَعِنْده نِسَاء مِنْ قُرَيْش يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى: «يَسْتَكْثِرْنَهُ» يَطْلُبْنَ كَثِيرًا مِنْ كَلَامه وَجَوَابه بِحَوَائِجِهِنَّ وَفَتَاوِيهنَّ. وَقَوْله: «عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا قَبْل النَّهْي عَنْ رَفْع الصَّوْت فَوْق صَوْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ عُلُوّ أَصْوَاتهنَّ إِنَّمَا كَانَ بِاجْتِمَاعِهَا لَا أَنَّ كَلَام كُلّ وَاحِدَة بِانْفِرَادِهَا أَعْلَى مِنْ صَوْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله: «قُلْنَ: أَغْلَظَ وَأَفَظّ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْفَظّ الْغَلِيظ بِمَعْنًى، وَهُوَ عِبَارَة عَنْ شِدَّة الْخُلُق وَخُشُونَة الْجَانِب.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَيْسَتْ لَفْظَة أَفْعَل هُنَا لِلْمُفَاضَلَةِ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى فَظّ غَلِيظ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ يَصِحُّ حَمْلهَا عَلَى الْمُفَاضَلَة، وَأَنَّ الْقَدْر الَّذِي مِنْهَا فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَا كَانَ مِنْ إِغْلَاظه عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وَكَانَ يَغْضَب وَيُغْلِظ عِنْد اِنْتَهَاك حُرُمَات اللَّه تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَضْل لِين الْجَانِب وَالْحِلْم وَالرِّفْق مَا لَمْ يُفَوِّتْ مَقْصُودًا شَرْعِيًّا.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَك لِلْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} وَقَالَ تَعَالَى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَك الشَّيْطَان قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْر فَجّك» الْفَجّ الطَّرِيق الْوَاسِع، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَكَان الْمُنْخَرِق بَيْن الْجَبَلَيْنِ، وَهَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى ظَاهِره أَنَّ الشَّيْطَان مَتَى رَأَى عُمَر سَالِكًا فَجًّا هَرَبَ هَيْبَة مِنْ عُمَر، وَفَارَقَ ذَلِكَ الْفَجّ، وَذَهَبَ فِي فَجّ آخَر لِشِدَّةِ خَوْفه مِنْ بَأْس عُمَر أَنْ يَفْعَلَ فيه شَيْئًا.
قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ ضَرَبَ مَثَلًا لِبُعْدِ الشَّيْطَان وَإِغْوَائِهِ مِنْهُ، وَأَنَّ عُمَرَ فِي جَمِيع أُمُوره سَالِك طَرِيق السَّدَاد خِلَاف مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَان، وَالصَّحِيح الْأَوَّل.
4411- قَوْله عَنْ اِبْن وَهْب عَنْ إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول: «قَدْ كَانَ يَكُون فِي الْأُمَم مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَد فَإِنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب مِنْهُمْ قَالَ اِبْن وَهْب: تَفْسِير مُحَدَّثُونَ مُلْهَمُونَ» هَذَا الْإِسْنَاد مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم، وَقَالَ: الْمَشْهُور فيه عَنْ إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَة قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ مِنْ هَذَا الطَّرِيق عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة. وَاخْتَلَفَ تَفْسِير الْعُلَمَاء لِلْمُرَادِ بِمُحَدَّثُونَ، فَقَالَ اِبْن وَهْب: مُلْهَمُونَ، وَقِيلَ: مُصِيبُونَ، وَإِذَا ظَنُّوا فَكَأَنَّهُمْ حَدَّثُوا بِشَيْءٍ فَظَنُّوا، وَقِيلَ: تُكَلِّمُهُمْ الْمَلَائِكَة، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «مُتَكَلِّمُونَ» وَقَالَ الْبُخَارِيّ: يَجْرِي الصَّوَابُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَفيه إِثْبَات كَرَامَات الْأَوْلِيَاء.
4412- قَوْله: «قَالَ عُمَر: وَافَقْت رَبِّي فِي ثَلَاث: فِي مَقَام إِبْرَاهِيم، وَفِي الْحِجَاب، وَفِي أُسَارَى بَدْر» هَذَا مِنْ أَجَلِّ مَنَاقِب عُمَر وَفَضَائِله رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَهُوَ مُطَابِق لِلْحَدِيثِ قَبْله، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ مُسْلِم بِهِ، وَجَاءَ فِي هَذِهِ الرِوَايَة: «وَافَقْت رَبِّي فِي ثَلَاثٍ»، وَفَسَّرَهَا بِهَذِهِ الثَّلَاث. وَجَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى فِي الصَّحِيح: «اِجْتَمَعَ نِسَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الْغَيْرَة، فَقُلْت: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ الْآيَة بِذَلِكَ». وَجَاءَ فِي الْحَدِيث الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا مُوَافَقَته فِي مَنْعِ الصَّلَاة عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَنُزُول الْآيَة بِذَلِكَ، وَجَاءَتْ مُوَافَقَته فِي تَحْرِيم الْخَمْر. فَهَذِهِ سِتٌّ، وَلَيْسَ فِي لَفْظه مَا يَنْفِي زِيَادَة الْمُوَافَقَة. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4413- قَوْله: «لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بْن سَلُول» هَكَذَا صَوَابه أَنْ يُكْتَبَ (اِبْن سَلُول) بِالْأَلْفِ، وَيُعْرَب بِإِعْرَابِ عَبْد اللَّه؛ فَإِنَّهُ وَصْف ثَانٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ، وَهُوَ عَبْد اللَّه بْن سَلُول أَيْضًا، فَأُبِيّ أَبُوهُ، وَسَلُول أُمّه، فَنُسِبَ إِلَى أَبَوَيْهِ جَمِيعًا، وَوُصِفَ بِهِمَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا وَنَظَائِره فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث الْمِقْدَاد حِين قَتَلَ مَنْ أَظْهَرَ الشَّهَادَة، وَأَوْضَحْنَا هُنَاكَ وُجُوههَا.
قَوْله: «إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ قَمِيصه لِيُكَفِّنَ فيه أَبَاهُ الْمُنَافِق» قِيلَ: إِنَّمَا أَعْطَاهُ قَمِيصه وَكَفَّنَهُ فيه تَطْيِيبًا لِقَلْبِ اِبْنه؛ فَإِنَّهُ كَانَ صَحَابِيًّا صَالِحًا، وَقَدْ سَأَلَ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: مُكَافَأَة لِعَبْدِ اللَّه الْمُنَافِق الْمَيِّت؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَلْبَسَ الْعَبَّاسَ حِينَ أُسِرَ يَوْم بَدْر قَمِيصًا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان عَظِيم مَكَارِم أَخْلَاق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَدْ عَلِمَ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِق مِنْ الْإِيذَاء، وَقَابَلَهُ بِالْحُسْنَى، فَأَلْبَسَهُ قَمِيصًا كَفَنًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وَفيه تَحْرِيم الصَّلَاة، وَالدُّعَاء لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالْقِيَام عَلَى قَبْره لِلدُّعَاءِ.

.باب مِنْ فَضَائِلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

4414- قَوْلهَا: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجَعَا فِي بَيْته، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْر، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَال إِلَى آخِره» هَذَا الْحَدِيث مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْمَالِكِيَّة وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَقُول: لَيْسَتْ الْفَخِذُ عَوْرَةً. وَلَا حُجَّة فيه؛ لِأَنَّهُ مَشْكُوك فِي الْمَكْشُوف هَلْ هُوَ السَّاقَانِ أَمْ الْفَخِذَانِ؟ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ كَشْف الْفَخِذ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَازُ تَدَلُّل الْعَالِم وَالْفَاضِل بِحَضْرَةِ مَنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ فُضَلَاء أَصْحَابه، وَاسْتِحْبَاب تَرْك ذَلِكَ إِذَا حَضَرَ غَرِيب أَوْ صَاحِب يَسْتَحْيِ مِنْهُ.
قَوْله: «دَخَلَ أَبُو بَكْر فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا: «تَهْتَشُّ» بِالتَّاءِ بَعْد الْهَاء، وَفِي بَعْض النُّسَخ الطَّارِئَة بِحَذْفِهَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَعَلَى هَذَا فَالْهَاء مَفْتُوحَة، يُقَال: هَشَّ يَهَشّ، كَشَمَّ يَشَمُّ.
وَأَمَّا الْهَشّ الَّذِي هُوَ خَبْطُ الْوَرَق مِنْ الشَّجَر، فَيُقَال مِنْهُ: هَشَّ يَهُشُّ بِضَمِّهَا.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأَهُشُّ بِهَا} قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْهَشَاشَة وَالْبَشَاشَة بِمَعْنَى طَلَاقَة الْوَجْه وَحُسْن اللِّقَاء. وَمَعْنَى: «لَمْ تُبَالِهِ» لَمْ تَكْتَرِثْ بِهِ، وَتَحْتَفِلْ لِدُخُولِهِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَسْتَحْي مِنْ رَجُل تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَة» هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَة: «أَسْتَحْي» بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال اِسْتَحْيِي يَسْتَحْيِي بِيَاءَيْنِ، وَاسْتَحَى يَسْتَحْيِ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، لُغَتَانِ، الْأُولَى أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآن. وَفيه فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُثْمَان وَجَلَالَته عِنْد الْمَلَائِكَة، وَأَنَّ الْحَيَاءَ صِفَةٌ جَمِيلَةٌ مِنْ صِفَات الْمَلَائِكَة.
4415- قَوْله: «لَابِس مِرْط عَائِشَة» هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم، وَهُوَ كِسَاء مِنْ صُوف.
وَقَالَ الْخَلِيل: كِسَاء مِنْ صُوف أَوْ كَتَّان أَوْ غَيْره.
وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَأَبُو زَيْد: هُوَ الْإِزَار.
قَوْلهَا: «مَا لِي لَمْ أَرَك فَزِعْت لِأَبِي بَكْر وَعُمَر كَمَا فَزِعْت لِعُثْمَان» أَيْ اِهْتَمَمْت لَهُمَا، وَاحْتَفَلْت بِدُخُولِهِمَا. هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا: «فَزِعْت» بِالزَّايِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ.
قَالَ: وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ: فَرَغْت بِالرَّاءِ وَالْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَهُوَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى الْأَوَّل.
4416- قَوْله: (عَنْ عُثْمَان بْن غِيَاث) هُوَ بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَالثَّاء الْمُثَلَّثَة.
قَوْله: «فِي حَائِطٍ» هُوَ الْبُسْتَان.
قَوْله: «يَرْكُزُ بِعُودٍ» هُوَ بِضَمِّ الْكَاف أَيْ يَضْرِبُ بِأَسْفَلِهِ لِيُثَبِّتَهُ فِي الْأَرْض.
قَوْله: «اِسْتَفْتَحَ رَجُل فَقَالَ اِفْتَحْ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» وَفِي رِوَايَة: «أَمَرَنِي أَنْ أَحْفَظَ الْبَاب»، وَفِي رِوَايَة: «لَأَكُوَنَنَّ بَوَّاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكُون بَوَّابًا فِي جَمِيع ذَلِكَ الْمَجْلِس لِيُبَشِّرَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ بِالْجَنَّةِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِحِفْظِ الْبَاب أَوَّلًا إِلَى أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَيَتَوَضَّأ؛ لِأَنَّهَا حَالَة يَسْتَتِر فيها، ثُمَّ حَفِظَ الْبَاب أَبُو مُوسَى مِنْ تِلْقَاء نَفْسه. وَفيه فَضِيلَة هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْجَنَّة، وَفَضِيلَة لِأَبِي مُوسَى، وَفيه جَوَاز الثَّنَاء عَلَى الْإِنْسَان فِي وَجْهه إِذَا أَمِنْت عَلَيْهِ فِتْنَة الْإِعْجَاب وَنَحْوه، وَفيه مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِخْبَارِهِ بِقِصَّةِ عُثْمَان وَبِالْبَلْوَى، وَأَنَّ الثَّلَاثَة يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِيمَان وَالْهُدَى.
قَوْله: «وَاَللَّه الْمُسْتَعَان» فيه اِسْتِحْبَابه عِنْد مِثْل هَذَا الْحَال.
4417- قَوْله: «فَخَرَجَ وَجَّهَ هَا هُنَا» الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة: «وَجَّهَ» بِتَشْدِيدِ الْجِيم، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِإِسْكَانِهَا، وَحَكَى الْقَاضِي الْوَجْهَيْنِ وَنَقَلَ الْأَوَّل عَنْ الْجُمْهُور، وَرَجَّحَ الثَّانِي لِوُجُودِ: «خَرَجَ» أَيْ قَصَدَ هَذِهِ الْجِهَة قَوْله: «جَلَسَ عَلَى بِئْر أَرِيسٍ وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا» أَمَّا (أَرِيس) فَبِفَتْحِ الْهَمْزَة مَصْرُوف، وَأَمَّا (الْقُفُّ) فَبِضَمِّ الْقَاف، وَهُوَ حَافَّة الْبِئْر، وَأَصْله الْغَلِيظ الْمُرْتَفِع مِنْ الْأَرْض.
قَوْله: «عَلَى رِسْلك» بِكَسْرِ الرَّاء وَفَتْحهَا، لُغَتَانِ، الْكَسْر أَشْهَرُ، وَمَعْنَاهُ تَمَهَّلْ، وَتَأَنَّ، قَوْله فِي أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُمَا دَلَّيَا أَرْجُلهمَا فِي الْبِئْر كَمَا دَلَّاهُمَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها هَذَا فَعَلَاهُ لِلْمُوَافَقَةِ، وَلِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي بَقَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَالَتِهِ وَرَاحَتِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَفْعَلَاهُ، فَرُبَّمَا اِسْتَحْيَا مِنْهُمَا، فَرَفَعَهُمَا. وَفِي هَذَا دَلِيل لِلُّغَةِ الصَّحِيحَة أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: دَلَّيْت الدَّلْو فِي الْبِئْر، وَدَلَّيْت رِجْلِي وَغَيْرهَا فيه كَمَا يُقَالُ: أَدْلَيْت.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ الْأَوَّلَ، وَهَذَا الْحَدِيث يَرُدُّ عَلَيْهِ.
قَوْله: «فَجَلَسَ وِجَاهَتَهُمْ» بِكَسْرِ الْوَاوِ وَضَمّهَا أَيْ قِبَالَتهمْ.
قَوْله: (قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب: فَأَوَّلْتهَا قُبُورهمْ) يَعْنِي أَنَّ الثَّلَاثَة دُفِنُوا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَعُثْمَان فِي مَكَانٍ بَائِنٍ عَنْهُمْ، وَهَذَا مِنْ بَاب الْفِرَاسَةِ الصَّادِقَة.

.باب مِنْ فَضَائِلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

4418- قَوْله: (عَنْ يُوسُف بْن الْمَاجِشُونِ) وَفِي بَعْض النُّسَخ: (يُوسُف الْمَاجِشُونِ) بِحَذْفِ لَفْظَة (اِبْن)، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَهُوَ أَبُو سَلَمَة يُوسُف بْن يَعْقُوب بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَلَمَة، وَاسْم أَبِي سَلَمَة دِينَار، وَالْمَاجِشُون لَقَب يَعْقُوب، وَهُوَ لَقَب جَرَى عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَاده وَأَوْلَاد أَخِيهِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْجِيم، وَضَمّ الشِّين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ لَفْظ فَارِسِيّ، وَمَعْنَاهُ الْأَحْمَر الْأَبْيَض الْمُوَرَّدَة، سُمِّيَ يَعْقُوب بِذَلِكَ لِحُمْرَةِ وَجْهه وَبَيَاضه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُون مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي» قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْحَدِيث مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ الرَّوَافِض وَالْإِمَامِيَّة وَسَائِر فِرَق الشِّيعَة فِي أَنَّ الْخِلَافَة كَانَتْ حَقًّا لِعَلِيٍّ، وَأَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِهَا.
قَالَ: ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَكَفَّرَتْ الرَّوَافِض سَائِر الصَّحَابَة فِي تَقْدِيمهمْ غَيْره، وَزَادَ بَعْضهمْ فَكَفَّرَ عَلِيًّا لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِي طَلَب حَقّه بِزَعْمِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ أَسْخَف مَذْهَبًا وَأَفْسَد عَقْلًا مِنْ أَنْ يُرَدَّ قَوْلهمْ، أَوْ يُنَاظَرَ.
وَقَالَ الْقَاضِي: وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ مَنْ قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَفَّرَ الْأُمَّةَ كُلّهَا وَالصَّدْر الْأَوَّل فَقَدْ أَبْطَلَ نَقْل الشَّرِيعَة، وَهَدَمَ الْإِسْلَام، وَأَمَّا مَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ الْغُلَاة فَإِنَّهُمْ لَا يَسْلُكُونَ هَذَا الْمَسْلَكَ. فَأَمَّا الْإِمَامِيَّةُ وَبَعْض الْمُعْتَزِلَة فَيَقُولُونَ: هُمْ مُخْطِئُونَ فِي تَقْدِيم غَيْره لَا كُفَّار. وَبَعْض الْمُعْتَزِلَة لَا يَقُولُ بِالتَّخْطِئَةِ لِجَوَازِ تَقْدِيم الْمَفْضُول عِنْدهمْ. وَهَذَا الْحَدِيث لَا حُجَّةَ فيه لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ فيه إِثْبَات فَضِيلَة لِعَلِيٍّ، وَلَا تَعَرُّض فيه لِكَوْنِهِ أَفْضَل مِنْ غَيْره أَوْ مِثْله، وَلَيْسَ فيه دَلَالَة لِاسْتِخْلَافِهِ بَعْده، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِعَلِيٍّ حِين اِسْتَخْلَفَهُ فِي الْمَدِينَة فِي غَزْوَة تَبُوك، وَيُؤَيِّد هَذَا أَنَّ هَارُون الْمُشَبَّه بِهِ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَة بَعْد مُوسَى، بَلْ تُوُفِّيَ فِي حَيَاة مُوسَى، وَقَبْل وَفَاة مُوسَى بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سَنَة عَلَى مَا هُوَ مَشْهُور عِنْد أَهْل الْأَخْبَار وَالْقَصَص. قَالُوا: وَإِنَّمَا اِسْتَخْلَفَهُ حِين ذَهَبَ لِمِيقَاتِ رَبّه لِلْمُنَاجَاةِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ عِيسَى بْن مَرْيَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ فِي آخِر الزَّمَان نَزَلَ حَكَمًا مِنْ حُكَّام هَذِهِ الْأُمَّة، يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَنْزِلُ نَبِيًّا، وَقَدْ سَبَقَتْ الْأَحَادِيث الْمُصَرِّحَة بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب الْإِيمَان.
قَوْله: «فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِلَّا فَاسْتَكَّتَا» هُوَ بِتَشْدِيدِ الْكَافد أَيْ صُمَّتَا.
4419- سبق شرحه بالباب.
4420- قَوْله: (إِنَّ مُعَاوِيَة قَالَ لِسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاص: مَا مَنَعَك أَنْ تَسُبَّ أَبَا تُرَاب؟) قَالَ الْعُلَمَاء: الْأَحَادِيث الْوَارِدَة الَّتِي فِي ظَاهِرهَا دَخَل عَلَى صَحَابِيّ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا. قَالُوا: وَلَا يَقَعُ فِي رِوَايَات الثِّقَات إِلَّا مَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ. فَقَوْل مُعَاوِيَة هَذَا لَيْسَ فيه تَصْرِيح بِأَنَّهُ أَمَرَ سَعْدًا بِسَبِّهِ، وَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ السَّبَب الْمَانِع لَهُ مِنْ السَّبّ، كَأَنَّهُ يَقُول: هَلْ اِمْتَنَعْت تَوَرُّعًا، أَوْ خَوْفًا، أَوْ غَيْر ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ تَوَرُّعًا وَإِجْلَالًا لَهُ عَنْ السَّبَب فَأَنْتَ مُصِيب مُحْسِن، وَإِنْ كَانَ غَيْر ذَلِكَ فَلَهُ جَوَاب آخَر، لَعَلَّ سَعْدًا قَدْ كَانَ فِي طَائِفَة يَسُبُّونَ فَلَمْ يَسُبَّ مَعَهُمْ، وَعَجَزَ عَنْ الْإِنْكَار، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، فَسَأَلَهُ هَذَا السُّؤَال. قَالُوا: وَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا آخَر أَنَّ مَعْنَاهُ مَا مَنَعَك أَنْ تُخَطِّئَهُ فِي رَأْيه وَاجْتِهَاده، وَتُظْهِرَ لِلنَّاسِ حُسْن رَأْينَا وَاجْتِهَادنَا، وَأَنَّهُ أَخْطَأَ؟.
4421- سبق شرحه بالباب.
4422- قَوْله: «فَتَسَاوَرْت لَهَا» هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَبِالْوَاوِ ثُمَّ الرَّاء، وَمَعْنَاهُ تَطَاوَلْت لَهَا كَمَا صَرَّحَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، أَيْ حَرَصْت عَلَيْهَا، أَيْ أَظْهَرْت وَجْهِي، وَتَصَدَّيْت لِذَلِكَ لِيَتَذَكَّرَنِي.
قَوْله: «فَمَا أَحْبَبْت الْإِمَارَة إِلَّا يَوْمئِذٍ» إِنَّمَا كَانَتْ مَحَبَّته لَهَا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِمَارَة مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَحَبَّتهمَا لَهُ، وَالْفَتْح عَلَى يَدَيْهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِمْشِ وَلَا تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَح اللَّه عَلَيْك فَسَارَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ وَقَفَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَصَرَخَ: يَا رَسُول اللَّه، عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاس؟» هَذَا الِالْتِفَات يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره أَيْ لَا تَلْتَفِتْ بِعَيْنَيْك لَا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، بَلْ اِمْضِ عَلَى جِهَةِ قَصْدِك. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَاد الْحَثّ عَلَى الْإِقْدَام وَالْمُبَادَرَة إِلَى ذَلِكَ، وَحَمَلَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى ظَاهِره، وَلَمْ يَلْتَفِتْ بِعَيْنِهِ حِين اِحْتَاجَ، وَفِي هَذَا أَمَرَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ظَاهِره.
وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَادَ لَا تَنْصَرِفُ بَعْد لِقَاء عَدُوِّك حَتَّى يَفْتَحَ اللَّه عَلَيْك. وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُعْجِزَات ظَاهِرَات لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلِيَّة وَفِعْلِيَّة، فَالْقَوْلِيَّة إِعْلَامه بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَفْتَح عَلَى يَدَيْهِ، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَالْفِعْلِيَّة بُصَاقه فِي عَيْنه، وَكَانَ أَرْمَد، فَبَرَأَ مِنْ سَاعَته. وَفيه فَضَائِل ظَاهِرَة لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَبَيَان شَجَاعَته، وَحُسْن مُرَاعَاته لِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُبّه اللَّه وَرَسُوله، وَحُبّهمَا إِيَّاهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْك دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «اُدْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَام» هَذَا الْحَدِيث فيه الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام قَبْل الْقِتَال، وَقَدْ قَالَ بِإِيجَابِهِ طَائِفَة عَلَى الْإِطْلَاق، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب آخَرِينَ أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَة الْإِسْلَام وَجَبَ إِنْذَارهمْ قَبْل الْقِتَال، وَإِلَّا فَلَا يَجِب، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة مَبْسُوطَة فِي أَوَّل الْجِهَاد، وَلَيْسَ فِي هَذَا ذِكْر الْجِزْيَة وَقَبُولهَا إِذَا بَذَلُوهَا، وَلَعَلَّهُ كَانَ قَبْل نُزُول آيَة الْجِزْيَة. وَفيه دَلِيل عَلَى قَبُول الْإِسْلَام سَوَاء كَانَ فِي حَال الْقِتَال أَمْ فِي غَيْره. وَحِسَابه عَلَى اللَّه تَعَالَى وَمَعْنَاهُ أَنَّا نَكُفُّ عَنْهُ فِي الظَّاهِر، وَأَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ كَانَ صَادِقًا مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَة، وَنَجَا مِنْ النَّار كَمَا نَفَعَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا فَلَا يَنْفَعُهُ، بَلْ يَكُونُ مُنَافِقًا مِنْ أَهْل النَّار. وَفيه أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّة الْإِسْلَام النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَخْرَس، أَوْ فِي مَعْنَاهُ كَفَتْهُ الْإِشَارَة إِلَيْهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4423- قَوْله: «فَبَاتَ النَّاس يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيّهمْ يُعْطَاهَا» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ وَالرِّوَايَات: «يَدُوكُونَ» بِضَمِّ الدَّال الْمُهْمَلَة وَبِالْوَاوِ أَيْ يَخُوضُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ فِي ذَلِكَ. وَفِي بَعْض النُّسَخ: «يَذْكُرُونَ» بِإِسْكَانِ الذَّال الْمُعْجَمَة وَبِالرَّاءِ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَوَاَللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّه بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَكُونَ لَك حُمْرُ النَّعَم» هِيَ الْإِبِلُ الْحُمْر، وَهِيَ أَنْفُسُ أَمْوَال الْعَرَب، يَضْرِبُونَ بِهَا الْمَثَل فِي نَفَاسَةِ الشَّيْء، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَعْظَم مِنْهُ.
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ تَشْبِيهَ أُمُور الْآخِرَة بِأَعْرَاضِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ لِلتَّقْرِيبِ مِنْ الْأَفْهَام، وَإِلَّا فَذَرَّةٌ مِنْ الْآخِرَة الْبَاقِيَة خَيْرٌ مِنْ الْأَرْض بِأَسْرِهَا، وَأَمْثَالهَا مَعَهَا لَوْ تُصُوِّرَتْ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان فَضِيلَة الْعِلْم، وَالدُّعَاء إِلَى الْهُدَى، وَسَنّ السُّنَن الْحَسَنَة.
4425- قَوْله: «مَاء يُدْعَى خُمًّا بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة» هُوَ بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْمِيم، وَهُوَ اِسْم لِغَيْضَةِ عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال مِنْ الْحَسَنَة، عِنْدهَا غَدِير مَشْهُور يُضَافُ إِلَى الْغَيْضَةِ فَيُقَالُ: غَدِير خُمّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا تَارِك فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ فَذَكَرَ كِتَاب اللَّه، وَأَهْل بَيْته» قَالَ الْعُلَمَاء: سُمِّيَا ثَقَلَيْنِ لِعِظَمِهِمَا وَكَبِير شَأْنهمَا، وَقِيلَ: لِثِقَلِ الْعَمَل بِهِمَا.
قَوْله: «وَلَكِنْ أَهْل بَيْته مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَة» هُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاء، وَالْمُرَاد بِالصَّدَقَةِ الزَّكَاة، وَهِيَ حَرَام عِنْدنَا عَلَى بَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب، وَقَالَ مَالِك: بَنُو هَاشِم فَقَطْ، وَقِيلَ: بَنُو قُصَيّ، وَقِيلَ: قُرَيْشُ كُلّهَا.
قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَقُلْنَا: مِنْ أَهْل بَيْته نِسَاؤُهُ قَالَ: لَا» هَذَا دَلِيل لِإِبْطَالِ قَوْل مَنْ قَالَ: هُمْ قُرَيْش كُلُّهَا؛ فَقَدْ كَانَ فِي نِسَائِهِ قُرَشِيَّات، وَهُنَّ عَائِشَة، وَحَفْصَة، وَأُمّ سَلَمَة، وَسَوْدَة، وَأُمّ حَبِيبَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُنَّ وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْل بَيْته، وَلَكِنْ أَهْل بَيْته مَنْ حَرُمَ الصَّدَقَة» قَالَ: وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: فَقُلْنَا: «مِنْ أَهْل بَيْته نِسَاؤُهُ قَالَ: لَا» فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ ظَاهِرهمَا التَّنَاقُض، وَالْمَعْرُوف فِي مُعْظَم الرِّوَايَات فِي غَيْر مُسْلِم أَنَّهُ قَالَ نِسَاؤُهُ لَسْنَ مِنْ أَهْل بَيْته، فَتَتَأَوَّل الرِّوَايَة الْأُولَى عَلَى أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُنَّ مِنْ أَهْل بَيْته الَّذِينَ يُسَاكِنُونَ، وَيَعُولُهُمْ، وَأَمَرَ بِاحْتِرَامِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، وَسَمَّاهُمْ ثَقَلًا وَوَعَظَ فِي حُقُوقهمْ، وَذَكَرَ، فَنِسَاؤُهُ دَاخِلَات فِي هَذَا كُلِّهِ، وَلَا يَدْخُلْنَ فِيمَنْ حَرُمَ الصَّدَقَة، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا فِي الرِّوَايَة الْأُولَى بِقَوْلِهِ: «نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْل بَيْته، وَلَكِنْ أَهْل بَيْته مَنْ حَرُمَ الصَّدَقَة»، فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَتَانِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْل اللَّه» قِيلَ الْمُرَاد بِحَبْلِ اللَّه عَهْدُهُ، وَقِيلَ: السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ، وَقِيلَ: هُوَ نُورُهُ الَّذِي يَهْدِي بِهِ.
قَوْله: «الْمَرْأَة تَكُون مَعَ الرَّجُل الْعَصْر مِنْ الدَّهْر» أَيْ الْقِطْعَة مِنْهُ.
4426- قَوْلهَا: «فَخَرَجَ وَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ مِنْ الْقَيْلُولَة، وَهِيَ النَّوْمُ نِصْفَ النَّهَار وَفيه جَوَازُ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ، وَاسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الْغَضْبَان، وَمُمَازَحَتِهِ، وَالْمَشْي إِلَيْهِ لِاسْتِرْضَائِهِ.

.باب فِي فَضْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

4427- قَوْلُهَا: «أَرِقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات لَيْلَة» هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْقَاف، أَيْ سَهِرَ وَلَمْ يَأْتِهِ نَوْم، وَالْأَرَقُ السَّهَرُ، وَيُقَالُ: أَرَّقَنِي الْأَمْر بِالتَّشْدِيدِ تَأْرِيقًا أَيْ أَسْهَرَنِي، وَرَجُل أَرِق عَلَى وَزْن فَرِح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي» فيه جَوَاز الِاحْتِرَاس مِنْ الْعَدُوِّ، وَالْأَخْذ بِالْحَزْمِ، وَتَرْك الْإِهْمَال فِي مَوْضِع الْحَاجَة إِلَى الِاحْتِيَاط.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَكَانَ هَذَا الْحَدِيث قَبْل نُزُول قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّهُ يَعْصِمُك مِنْ النَّاسِ} لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الِاحْتِرَاس حِين نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة، وَأَمَرَ أَصْحَابه بِالِانْصِرَافِ عَنْ حِرَاسَته، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيث الْأَوَّل كَانَ فِي أَوَّل قُدُومه الْمَدِينَة، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ بَعْد ذَلِكَ بِأَزْمَانٍ.
قَوْلهَا: «حَتَّى سَمِعْت غَطِيطه» هُوَ بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَة، وَهُوَ صَوْت النَّائِم الْمُرْتَفِع.
4428- قَوْلُهَا: «سَمِعْنَا خَشْخَشَة سِلَاح» أَيْ صَوْت سِلَاح صَدَمَ بَعْضُهُ بَعْضًا.
4429- قَوْله: «سَمِعْت عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُولُ: مَا جَمَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ غَيْرِ سَعْد بْن مَالِك؛ فَإِنَّهُ جَعَلَ يَقُول: اِرْمِ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي» وَفِي رِوَايَة عَنْ سَعْد قَالَ: جَمَعَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ يَوْم أُحُد فَقَالَ: «اِرْمِ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي» فيه جَوَازُ التَّفْدِيَةِ بِالْأَبَوَيْنِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَكَرِهَهُ بَعْضهمْ فِي التَّفْدِيَة بِالْمُسْلِمِ مِنْ أَبَوَيْهِ. وَالصَّحِيح الْجَوَاز مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فيه حَقِيقَةُ فِدَاء، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام وَأَلْطَاف وَإِعْلَام بِمَحَبَّتِهِ لَهُ، وَمَنْزِلَته، وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِالتَّفْدِيَةِ مُطْلَقًا وَأَمَّا قَوْله: «مَا جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِغَيْرِ سَعْد»، وَذَكَرَ بَعْدُ أَنَّهُ جَمَعَهُمَا لِلزُّبَيْرِ، وَقَدْ جَاءَ جَمْعُهُمَا لِغَيْرِهِمَا أَيْضًا، فَيُحْمَلُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى نَفْيِ عِلْمِ نَفْسِهِ، أَيْ لَا أَعْلَمُهُ جَمَعَهُمَا إِلَّا لِسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاص، وَهُوَ سَعْد بْن مَالِك. وَفيه فَضِيلَة الرَّمْي وَالْحَثّ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاء لِمَنْ فَعَلَ خَيْرًا.
قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى وَابْن بَشَّار قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَة وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا وَكِيع وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب وَإِسْحَاق الْحَنْظَلِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن بِشْر عَنْ مِسْعَر وَحَدَّثَنَا اِبْن أَبِي عُمَر حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ مِسْعَر كُلّهمْ عَنْ سَعْد بْن إِبْرَاهِيم) قَالَ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ وَأَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ وَغَيْرهمَا هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِم قَالُوا، وَأَسْقَطَ مِنْ رِوَايَته سُفْيَان الثَّوْرِيّ بَيْن وَكِيع وَمِسْعَر، لِأَنَّ أَبَا بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة إِنَّمَا رَوَاهُ فِي مُسْنَده وَالْمَغَازِي وَغَيْره مَوْضِع عَنْ وَكِيع عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ مِسْعَر، وَادَّعَى بَعْضهمْ أَنَّ وَكِيعًا لَمْ يُدْرِكْ مِسْعَرًا، وَهَذَا خَطَأ ظَاهِر، فَقَدْ ذَكَرَ اِبْن أَبِي حَاتِم وَغَيْره وَكِيعًا فِيمَنْ رَوَى عَنْ مِسْعَر، وَلِأَنَّ وَكِيعًا أَدْرَكَ نَحْو سِتّ وَعِشْرِينَ سَنَة مِنْ حَيَاة مِسْعَر مَعَ أَنَّهُمَا كُوفِيَّانِ.
قَالَ أَبُو نُعَيْم الْفَضْل بْن دُكَيْن وَالْبُخَارِيّ وَغَيْرهمَا: تُوُفِّيَ مِسْعَر سَنَة خَمْس وَخَمْسِينَ وَمِائَة، وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَغَيْره: وُلِدَ وَكِيع سَنَة تِسْع وَعِشْرِينَ وَمِائَة فَلَا يَمْنَع أَنْ يَكُونَ وَكِيع سَمِعَ هَذَا الْحَدِيث مِنْ مِسْعَر، وَكَوْن اِبْن أَبِي شَيْبَة رَوَاهُ عَنْ وَكِيع عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ مِسْعَر لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَنْع سَمَاعه مِنْ مِسْعَر كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي نَظَائِره. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4430- سبق شرحه بالباب.
4431- قَوْله: «كَانَ رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ» أَيْ أَثْخَنَ فيهمْ، وَعَمِلَ فيهمْ نَحْو عَمَل النَّار.
قَوْله: «فَنَزَعْت لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فيه نَصْل، فَأَصَبْت جَنْبه، فَسَقَطَ، وَانْكَشَفَتْ عَوْرَته، فَضَحِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَظَرْت إِلَى نَوَاجِذه».
فَقَوْله: «نَزَعْت لَهُ بِسَهْمٍ» أَيْ رَمَيْته بِسَهْمٍ لَيْسَ فيه زَجّ.
وَقَوْله: «فَأَصَبْت جَنْبه» بِالْجِيمِ وَالنُّون. هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ، وَفِي بَعْضهَا: «حَبَّته» بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَبَاء مُوَحَّدَة مُشَدَّدَة ثُمَّ مُثَنَّاة فَوْق أَيْ حَبَّة قَلْبه.
وَقَوْله: «فَضَحِكَ» أَيْ فَرَحًا بِقَتْلِهِ عَدُوّهُ، لَا لِانْكِشَافِهِ.
وَقَوْله: «نَوَاجِذه» بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَيْ أَنْيَابه، وَقِيلَ: أَضْرَاسه، وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ.
4432- قَوْله: «أَرَدْت أَنْ أُلْقِيَهُ فِي الْقَبْض» هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة الْمَوْضِع الَّذِي يُجْمَعُ فيه الْغَنَائِم.
وَقَدْ سَبَقَ شَرْح أَكْثَر هَذَا الْحَدِيث مُفَرَّقًا. وَالْحَشّ بِفَتْحِ الْحَاء وَضَمّهَا الْبُسْتَان.
قَوْله: «شَجَرُوا فَاهَا بِعَصًا ثُمَّ أَوْجَرُوهَا» أَيْ فَتَحُوهُ، ثُمَّ صَبُّوا فِي فيها الطَّعَام. إِنَّمَا شَجَرُوهَا بِالْعَصَا لِئَلَّا تُطْبِقَهُ فَيَمْتَنِع وُصُول الطَّعَام جَوْفهَا. وَهَكَذَا صَوَابه بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَالْجِيم وَالرَّاء، وَهَكَذَا فِي جَمِيع النُّسَخ.
قَالَ الْقَاضِي: وَيُرْوَى: «شَحَوْا فَاهَا» بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَحَذْف الرَّاء، وَمَعْنَاهُ قَرِيب مِنْ الْأَوَّل، أَيْ أَوْسَعُوهُ وَفَتَحُوهُ، وَالشَّحْو التَّوْسِعَة، وَدَابَّة شَحْو وَاسِعَة الْخَطْو وَيُقَال: أَوْجَرَهُ وَوَجَره لُغَتَانِ، الْأُولَى أَفْصَح وَأَشْهَر.
قَوْله: «ضَرَبَ بِهِ أَنْفَهُ فَفَزَرَهُ» هُوَ بِزَايٍ ثُمَّ رَاءٍ يَعْنِي شَقَّهُ، وَكَانَ أَنْفه مَفْزُورًا أَيْ مَشْقُوقًا.