فصل: باب كُتُبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُلُوكِ الْكُفَّارِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين:

3317- قَوْله: «نَادَى فِينَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم اِنْصَرَفَ عَنْ الْأَحْزَاب أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الظُّهْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة فَتَخَوَّفَ نَاس فَوْت الْوَقْت فَصَلَّوْا دُون بَنِي قُرَيْظَة، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْت فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ» هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِم: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الظُّهْر»، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي بَاب صَلَاة الْخَوْف مِنْ رِوَايَة اِبْن عُمَر أَيْضًا قَالَ: «قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَاب: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة، فَأَدْرَكَ بَعْضهمْ الْعَصْر فِي الطَّرِيق، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضهمْ: بَلْ نُصَلِّي وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ مِنَّا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّف وَاحِدًا مِنْهُمْ» أَمَّا جَمْعهمْ بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ فِي كَوْنهَا الظُّهْر وَالْعَصْر، فَمَحْمُول عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْر كَانَ بَعْد دُخُول وَقْت الظُّهْر وَقَدْ صَلَّى الظُّهْر بِالْمَدِينَةِ بَعْضهمْ دُون بَعْض، فَقِيلَ لِلَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا الظُّهْر: لَا تُصَلُّوا الظُّهْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة، وَلِلَّذِينَ صَلَّوْا بِالْمَدِينَةِ: لَا تُصَلُّوا الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ قِيلَ لِلْجَمِيعِ: وَلَا تُصَلُّوا الْعَصْر وَلَا الظُّهْر إِلَى فِي بَنِي قُرَيْظَة وَيَحْتَمِل أَنَّهُ قِيلَ لِلَّذِينَ ذَهَبُوا أَوَّلًا: لَا تُصَلُّوا الظُّهْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة، وَلِلَّذِينَ ذَهَبُوا بَعْدهمْ: لَا تُصَلُّوا الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا اِخْتِلَاف الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي الْمُبَادَرَة بِالصَّلَاةِ عِنْد ضِيق وَقْتهَا، وَتَأْخِيرهَا، فَسَبَبه أَنَّ أَدِلَّة الشَّرْع تَعَارَضَتْ عِنْدهمْ بِأَنَّ الصَّلَاة مَأْمُور بِهَا فِي الْوَقْت، مَعَ أَنَّ الْمَفْهُوم مِنْ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الظُّهْر أَوْ الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة» الْمُبَادَرَة بِالذَّهَابِ إِلَيْهِمْ، وَأَلَّا يُشْتَغَل عَنْهُ بِشَيْءٍ لَا أَنَّ تَأْخِير الصَّلَاة مَقْصُود فِي نَفْسه مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَأْخِير، فَأَخَذَ بَعْض الصَّحَابَة بِهَذَا الْمَفْهُوم نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى لَا إِلَى اللَّفْظ، فَصَلَّوْا حِين خَافُوا فَوْت الْوَقْت، وَأَخَذَ آخَرُونَ بِظَاهِرِ اللَّفْظ وَحَقِيقَته فَأَخَّرُوهَا، وَلَمْ يُعَنِّف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ، فَفيه: دَلَالَة لِمَنْ يَقُول بِالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاس، وَمُرَاعَاة الْمَعْنَى، وَلِمَنْ يَقُول بِالظَّاهِرِ أَيْضًا.
وَفيه: أَنَّهُ لَا يُعَنَّف الْمُجْتَهِد فِيمَا فَعَلَهُ بِاجْتِهَادِهِ إِذَا بَذَلَ وُسْعه فِي الِاجْتِهَاد، وَقَدْ يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب، وَلِلْقَائِلِ الْآخَر أَنْ يَقُول لَمْ يُصَرِّح بِإِصَابَةِ الطَّائِفَتَيْنِ، بَلْ تَرَكَ تَعْنِيفهمْ، وَلَا خِلَاف فِي تَرْك تَعْنِيف الْمُجْتَهِد وَإِنْ أَخْطَأَ إِذَا بَذَلَ وُسْعه فِي الِاجْتِهَاد. وَاَللَّه أَعْلَم.

.رَدّ الْمُهَاجِرينَ إِلَى الْأَنْصَار مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارهمْ:

3318- قَوْلُهُ: «لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّة الْمَدِينَة قَدَمُوا وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْء، وَكَانَ الْأَنْصَار أَهْل الْأَرْض وَالْعَقَار فَقَاسَمَهُمْ الْأَنْصَار عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ أَنْصَاف ثِمَار أَمْوَالهمْ كُلّ عَام، وَيَكْفُونَهُمْ الْعَمَل وَالْمَئُونَة» ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَال أَهْل خَيْبَر، وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَة رَدّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَار مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارهمْ، قَالَ الْعُلَمَاء: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ آثَرَهُمْ الْأَنْصَار بِمَنَائِحَ مِنْ أَشْجَارهمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهَا مَنِيحَة مَحْضَة، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَعْمَل فِي الشَّجَر وَالْأَرْض وَلَهُ نِصْف الثِّمَار، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسه أَنْ يَقْبَلَهَا مَنِيحَة مَحْضَة، هَذَا لِشَرَفِ نُفُوسهمْ وَكَرَاهَتهمْ أَنْ يَكُونُوا كَلًّا، وَكَانَ هَذَا مُسَاقَاة، وَفِي مَعْنَى الْمُسَاقَاة، فَلَمَّا فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ خَيْبَر اِسْتَغْنَى الْمُهَاجِرُونَ بِأَنْصِبَائِهِمْ فيها عَنْ تِلْكَ الْمَنَائِح، فَرَدُّوهَا إِلَى الْأَنْصَار، فَفيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لِلْأَنْصَارِ فِي مُوَاسَاتهمْ وَإِيثَارهمْ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ حُبّ الْإِسْلَام، وَإِكْرَام أَهْله، وَأَخْلَاقهمْ الْجَمِيلَة، وَنُفُوسهمْ الطَّاهِرَة، وَقَدْ شَهِدَ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار وَالْإِيمَان مِنْ قَبْلهمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} الْآيَة.
قَوْله: «وَكَانَ الْأَنْصَار أَهْل الْأَرْض وَالْعَقَار» أَرَادَ بِالْعَقَارِ هُنَا النَّخْل، قَالَ الزَّجَّاج: الْعَقَار كُلّ مَا لَهُ أَصْل، قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّ النَّخْل خَاصَّة يُقَال لَهُ: الْعَقَار.
قَوْله: «وَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمّ أَنَس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِذَاقًا لَهَا» هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْن جَمْع عَذْق بِفَتْحِهَا، وَهِيَ النَّخْلَة، كَكَلْبِ وَكِلَاب وَبِئْر وَبِئَار.
قَوْله: «فَأَعْطَاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ أَيْمَن» هَذَا دَلِيل لِمَا قَدَّمْنَا عَنْ الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلّ مَا أَعْطَتْ الْأَنْصَار عَلَى الْمُسَاقَاة، بَلْ كَانَ فيه مَا هُوَ مَنِيحَة وَمُوَاسَاة وَهَذَا مِنْهُ، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهَا أَعْطَتْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِمَارهَا يَفْعَل فيها مَا شَاءَ مِنْ أَكْله بِنَفْسِهِ وَعِيَاله وَضَيْفه وَإِيثَاره بِذَلِكَ لِمَنْ شَاءَ، فَلِهَذَا آثَرَ بِهَا أُمّ أَيْمَن، وَلَوْ كَانَتْ إِبَاحَة لَهُ خَاصَّة لَمَا أَبَاحَهَا لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُبَاح لَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُبِيح ذَلِكَ الشَّيْء لِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْمَوْهُوب لَهُ نَفْس رَقَبَة الشَّيْء فَإِنَّهُ يَتَصَرَّف فيه كَيْف شَاءَ.
قَوْله: «رَدّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَار مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارهمْ» هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَنَائِح ثِمَار، أَيْ: إِبَاحَة لَا تَمْلِيك لِأَرْقَابِ النَّخْل، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ هِبَة لِرَقَبَةِ النَّخْل لَمْ يَرْجِعُوا فيها؛ فَإِنَّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة بَعْد الْقَبْض لَا يَجُوز، وَإِنَّمَا كَانَتْ إِبَاحَة كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْإِبَاحَة يَجُوز الرُّجُوع فيها مَتَى شَاءَ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَرْجِعُوا فيها حَتَّى اِتَّسَعَتْ الْحَال عَلَى الْمُهَاجِرِينَ بِفَتْحِ خَيْبَر، وَاسْتَغْنَوْا عَنْهَا، فَرَدُّوهَا عَلَى الْأَنْصَار فَقَبِلُوهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ.
قَوْله: (قَالَ اِبْن شِهَاب: وَكَانَ مِنْ شَأْن أُمّ أَيْمَن أُمّ أُسَامَة بْن زَيْد أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَة لِعَبْدِ اللَّه بْن عَبْد الْمُطَّلِب وَكَانَتْ مِنْ الْحَبَشَة) هَذَا تَصْرِيح مِنْ اِبْن شِهَاب أَنَّ أُمّ أَيْمَن أُمّ أُسَامَة بْن زَيْد حَبَشِيَّة وَكَذَا قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْره، وَيُؤَيِّدهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْض الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ سَبْي الْحَبَشَة أَصْحَاب الْفِيل، وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَبَشِيَّة، وَإِنَّمَا الْحَبَشِيَّة اِمْرَأَة أُخْرَى، وَاسْم أُمّ أَيْمَن الَّتِي هِيَ أُمّ أُسَامَة بَرَكَة، كُنِّيَتْ بِابْنِهَا أَيْمَن بْن عُبَيْد الْحَبَشِيّ صَحَابِيّ اُسْتُشْهِدَ يَوْم خَيْبَر، قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَغَيْره، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْر قِطْعَة مِنْ أَحْوَال أُمّ أَيْمَن فِي بَاب الْقَافَة.
3319- قَوْله فِي قِصَّة أُمّ أَيْمَن (إِنَّهَا اِمْتَنَعَتْ مِنْ رَدّ تِلْكَ الْمَنَائِح حَتَّى عَوَّضَهَا عَشَرَة أَمْثَاله) إِنَّمَا فَعَلَتْ هَذَا لِأَنَّهَا ظَنَّتْ أَنَّهَا كَانَتْ هِبَة مُؤَبَّدَة وَتَمْلِيكًا لِأَصْلِ الرَّقَبَة، وَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتِطَابَة قَلْبهَا فِي اِسْتِرْدَاد ذَلِكَ، فَمَا زَالَ يَزِيدهَا فِي الْعِوَض حَتَّى رَضِيَتْ، وَكُلّ هَذَا تَبَرُّع مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِكْرَام لَهَا، لِمَا لَهَا مِنْ حَقّ الْحَضَانَة وَالتَّرْبِيَة.
قَوْله: «وَاَللَّه لَا نُعْطِيكَاهُنَّ» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «نُعْطِيكَاهُنَّ» بِالْأَلِفِ بَعْد الْكَاف، وَهُوَ صَحِيح، فَكَأَنَّهُ أَشْبَعَ فَتْحَة الْكَاف فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا أَلِف، وَفِي بَعْض النُّسَخ: «وَاَللَّه مَا نُعْطَاكَهُنَّ» وَفِي بَعْضهَا: «لَا نُعْطِيكَهُنَّ»، وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب أَخْذِ الطَّعَامِ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ:

3320- فيه: حَدِيث عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل: «أَنَّهُ أَصَابَ جِرَابًا مِنْ شَحْم يَوْم خَيْبَر» وَفِي رِوَايَة: «قَالَ رُمِيَ إِلَيْنَا جِرَاب فيه طَعَام وَشَحْم».
أَمَّا (الْجِرَاب) فَبِكَسْرِ الْجِيم وَفَتْحهَا لُغَتَانِ الْكَسْر أَفْصَح وَأَشْهَر، وَهُوَ وِعَاء مِنْ جِلْد، وَفِي هَذَا إِبَاحَة أَوَّل طَعَام الْغَنِيمَة فِي دَار الْحَرْب، قَالَ الْقَاضِي: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز أَكْل طَعَام الْحَرْبِيِّينَ مَا دَامَ الْمُسْلِمُونَ فِي دَار الْحَرْب، فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ قَدْر حَاجَاتهمْ، وَيَجُوز بِإِذْنِ الْإِمَام وَبِغَيْرِ إِذْنه، وَلَمْ يَشْتَرِط أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء اِسْتِئْذَانه إِلَّا الزُّهْرِيّ، وَجُمْهُورهمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يُخْرِج مَعَهُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَى عِمَارَة دَار الْإِسْلَام، فَإِنْ أَخْرَجَهُ لَزِمَهُ رَدّه إِلَى الْمَغْنَم، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَلْزَمهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز بَيْع شَيْء مِنْهُ فِي دَار الْحَرْب وَلَا غَيْرهَا، فَإِنْ بِيعَ مِنْهُ شَيْء لِغَيْرِ الْغَانِمِينَ كَانَ بَدَله غَنِيمَته، وَيَجُوز أَنْ يُرْكَب دَوَابّهمْ، وَيُلْبَس ثِيَابهمْ، وَيُسْتَعْمَل سِلَاحهمْ فِي حَال الْحَرْب بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَفْتَقِر إِلَى إِذْن الْإِمَام، وَيَشْرِط الْأَوْزَاعِيُّ إِذْنه، وَخَالَفَ الْبَاقِينَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلِيل لِجَوَازِ أَكْل شُحُوم ذَبَائِح الْيَهُود وَإِنْ كَانَتْ شُحُومهَا مُحَرَّمَة عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالْجُمْهُور: لَا كَرَاهَة فيها، قَالَ مَالِك: هِيَ مَكْرُوهَة، قَالَ أَشْهَب وَابْن الْقَاسِم الْمَالِكِيَّانِ وَبَعْض أَصْحَاب أَحْمَد: هِيَ مُحَرَّمَة، وَحُكِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ مَالِك، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَام الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب حِلّ لَكُمْ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَاد بِهِ الذَّبَائِح، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا شَيْئًا لَا لَحْمًا وَلَا شَحْمًا وَلَا غَيْره.
وَفيه: حِلّ ذَبَائِح أَهْل الْكِتَاب، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَلَمْ يُخَالِف إِلَّا الشِّيعَة، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور: إِبَاحَتهَا سَوَاء سَمَّوْا اللَّه تَعَالَى عَلَيْهَا أَمْ لَا.
وَقَالَ قَوْم: لَا يَحِلّ إِلَّا أَنْ يُسَمُّوا اللَّه تَعَالَى، فَأَمَّا إِذَا ذَبَحُوا عَلَى اِسْم الْمَسِيح أَوْ كَنِيسَة وَنَحْوهَا فَلَا تَحِلّ تِلْكَ الذَّبِيحَة عِنْدنَا، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.
3321- قَوْله: «فَالْتَفَتّ فَإِذَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْيَيْت مِنْهُ» يَعْنِي: لِمَا رَآهُ مِنْ حِرْصه عَلَى أَخْذه أَوْ لِقَوْلِهِ: لَا أُعْطِي الْيَوْم أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلاَمِ:

قَوْله: (هِرَقْل) بِكَسْرِ الْهَاء وَفَتْح الرَّاء وَإِسْكَان الْقَاف هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَيُقَال: هِرْقِل، بِكَسْرِ الْهَاء وَإِسْكَان الرَّاء وَكَسْر الْقَاف، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ فِي صِحَاحه، وَهُوَ اِسْم عَلَم لَهُ، وَلَقَبُهُ قَيْصَر، وَكَذَا كُلّ مَنْ مَلَكَ الرُّوم يُقَال لَهُ: قَيْصَرُ.
3322- قَوْله: عَنْ أَبِي سُفْيَان (اِنْطَلَقْت فِي الْمُدَّة الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَعْنِي الصُّلْح يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَتْ الْحُدَيْبِيَة فِي أَوَاخِر سَنَة سِتّ مِنْ الْهِجْرَة.
قَوْله: (دِحْيَة الْكَلْبِيّ) هُوَ بِكَسْرِ الدَّال وَفَتْحهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ اُخْتُلِفَ فِي الرَّاجِحَة مِنْهُمَا، وَادَّعَى اِبْن السِّكِّيت أَنَّهُ بِالْكَسْرِ لَا غَيْر، وَأَبُو حَاتِم السِّجِسْتَانِيُّ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْر.
قَوْله: (عَظِيم بُصْرَى) هِيَ بِضَمِّ الْبَاء وَهِيَ مَدِينَة حُورَان، ذَات قَلْعَة وَأَعْمَال قَرِيبَة مِنْ طَرَف الْبَرِّيَّة الَّتِي بَيْن الشَّام وَالْحِجَاز، وَالْمُرَاد بِعَظِيمِ بُصْرَى أَمِيرهَا.
قَوْله عَنْ هِرَقْل: (أَنَّهُ سَأَلَ أَيّهمْ أَقْرَب نَسَبًا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلهُ عَنْهُ) قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا سَأَلَ قَرِيب النَّسَب لِأَنَّهُ أَعْلَم بِحَالِهِ، وَأَبْعَد مِنْ أَنْ يَكْذِب فِي نَسَبه وَغَيْره، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ أَيْ لَا تَسْتَحْيُوا مِنْهُ فَتَسْكُتُوا عَنْ تَكْذِيبه إِنْ كَذَبَ.
قَوْله: (وَأَجْلِسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي) قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ أَهْوَن فِي تَكْذِيبه إِنْ كَذَبَ، لِأَنَّ مُقَابَلَته بِالْكَذِبِ فِي وَجْهه صَعْبَة بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَسْتَقْبِل.
قَوْله: (دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ) هُوَ بِضَمِّ التَّاء وَفَتْحهَا وَالْفَتْح أَفْصَح، وَهُوَ الْمُعَبِّر عَنْ لُغَة بِلُغَةٍ أُخْرَى، وَالتَّاء فيه أَصْلِيَّة، وَأَنْكَرُوا عَلَى الْجَوْهَرِيّ كَوْنه جَعَلَهَا زَائِدَة.
قَوْله: (لَوْلَا مَخَافَة أَنْ يُؤْثَر عَلَيَّ الْكَذِب لَكَذَبْت) مَعْنَاهُ: لَوْلَا خِفْت أَنَّ رُفْقَتِي يَنْقُلُونَ عَنِّي الْكَذِب إِلَى قَوْمِي وَيَتَحَدَّثُونَهُ فِي بِلَادِي لَكَذَبْت عَلَيْهِ لِبُغْضِي إِيَّاهُ، وَمَحَبَّتِي نَقْصه، وَفِي هَذَا بَيَان أَنَّ الْكَذِب قَبِيح فِي الْجَاهِلِيَّة كَمَا هُوَ قَبِيح فِي الْإِسْلَام. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: (لَوْلَا الْحَيَاء مِنْ أَنْ يَأْثُرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْت عَنْهُ) وَهُوَ بِضَمِّ الثَّاء وَكَسْرهَا.
وَقَوْله: (كَيْف حَسَبه فِيكُمْ) أَيْ نَسَبه.
قَوْله: (فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِك)؟ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ صَحِيح مُسْلِم. وَوَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ (فَهَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَالِك) وَرُوِيَ هَذَا اللَّفْظ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدهمَا: (مِنْ) بِكَسْرِ الْمِيم، و(مَلِك) بِفَتْحِهَا مَعَ كَسْر اللَّام، وَالثَّانِي: (مَنْ) بِفَتْحِ الْمِيم و(مَلَكَ) بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ فِعْل مَاضٍ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَالْأَوَّل أَشْهَر وَأَصَحّ، وَتُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسْلِم بِحَذْفِ (مِنْ)، قَوْله: (وَمَنْ يَتْبَعهُ أَشْرَاف النَّاس أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟) يَعْنِي بِأَشْرَافِهِمْ كِبَارهمْ وَأَهْل الْأَحْسَاب فيهمْ.
قَوْله: (سَخْطَة لَهُ) هُوَ بِفَتْحِ السِّين، وَالسَّخَط كَرَاهَة الشَّيْء وَعَدَم الرِّضَى بِهِ.
قَوْله: (يَكُون الْحَرْب بَيْننَا وَبَيْنه سِجَالًا) هُوَ بِكَسْرِ السِّين أَيْ نُوَبًا، نَوْبَة لَنَا وَنَوْبَة لَهُ، قَالُوا: وَأَصْله مِنْ الْمُسْتَقِيَيْنِ بِالسَّجْلِ، وَهِيَ الدَّلْو الْمَلْأَى، يَكُون لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا سَجْل.
قَوْله: (فَهَلْ يَغْدِر) هُوَ بِكَسْرِ الدَّال، وَهُوَ تَرْك الْوَفَاء بِالْعَهْدِ.
قَوْله: (وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّة لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِع فيها)، يَعْنِي مُدَّة الْهُدْنَة وَالصُّلْح الَّذِي جَرَى يَوْم الْحُدَيْبِيَة.
قَوْله: (وَكَذَلِكَ الرُّسُل تُبْعَث فِي أَحْسَاب قَوْمهَا)، يَعْنِي فِي أَفْضَل أَنْسَابهمْ وَأَشْرَفهَا، قِيلَ: الْحِكْمَة فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَبْعَد مِنْ اِنْتِحَاله الْبَاطِل، وَأَقْرَب إِلَى اِنْقِيَاد النَّاس لَهُ.
وَأَمَّا قَوْله: (أَنَّ الضُّعَفَاء هُمْ أَتْبَاع الرُّسُل) فَلِكَوْنِ الْأَشْرَاف يَأْنَفُونَ مِنْ تَقَدُّم مِثْلهمْ عَلَيْهِمْ، وَالضُّعَفَاء لَا يَأْنَفُونَ، فَيُسْرِعُونَ إِلَى الِانْقِيَاد وَاتِّبَاع الْحَقّ، وَأَمَّا سُؤَاله عَنْ الرِّدَّة، فَلِأَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَة فِي أَمْر مُحَقَّق لَا يَرْجِع عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ دَخَلَ فِي أَبَاطِيل.
وَأَمَّا سُؤَاله عَنْ الْغَدْر فَلِأَنَّ مَنْ طَلَبَ حَظّ الدُّنْيَا لَا يُبَالِي بِالْغَدْرِ وَغَيْره مِمَّا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى ذَلِكَ، وَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَة لَمْ يَرْتَكِب غَدْرًا وَلَا غَيْره مِنْ الْقَبَائِح.
قَوْله: (وَكَذَلِكَ الْإِيمَان إِذَا خَالَطَ بَشَاشَة الْقُلُوب) يَعْنِي اِنْشِرَاح الصُّدُور، وَأَصْله اللُّطْف بِالْإِنْسَانِ عِنْد قُدُومه، وَإِظْهَار السُّرُور بِرُؤْيَتِهِ، يُقَال: بَشَّ بِهِ وَتَبَشْبَشَ.
قَوْله: (وَكَذَلِكَ الرُّسُل تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُون لَهُمْ الْعَاقِبَة) مَعْنَاهُ: يَبْتَلِيهِمْ اللَّه بِذَلِكَ لِيَعْظُم أَجْرهمْ بِكَثْرَةِ صَبْرهمْ وَبَذْلهمْ وُسْعهمْ فِي طَاعَة اللَّه تَعَالَى.
قَوْله: (قُلْت يَأْمُرنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصِّلَة وَالْعَفَاف) أَمَّا الصِّلَة: فَصِلَة الْأَرْحَام، وَكُلّ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ أَنْ يُوصَل، وَذَلِكَ بِالْبِرِّ وَالْإِكْرَام وَحُسْن الْمُرَاعَاة.
وَأَمَّا الْعَفَاف: الْكَفّ عَنْ الْمَحَارِم وَخَوَارِم الْمُرُوءَة، قَالَ صَاحِب الْمُحْكَم: الْعِفَّة: الْكَفّ عَمَّا لَا يَحِلّ وَلَا يُحْمَل، يُقَال: عَفَّ يَعِفّ عِفَّة وَعَفَافًا وَعُفَافَة، وَتَعَفَّفَ وَاسْتَعَفَّ، وَرَجُل عَفّ وَعَفِيف. وَالْأُنْثَى عَفِيفَة، وَجَمَعَ الْعَفِيف: أَعِفَّة وَأَعِفَّاء.
قَوْله: (إِنْ يَكُنْ مَا يَقُول حَقًّا إِنَّهُ نَبِيّ) قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا الَّذِي قَالَهُ هِرَقْل أَخَذَهُ مِنْ الْكُتُب الْقَدِيمَة، فَفِي التَّوْرَاة هَذَا أَوْ نَحْوه مِنْ عَلَامَات رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفَهُ بِالْعَلَامَاتِ، وَأَمَّا الدَّلِيل الْقَاطِع عَلَى النُّبُوَّة فَهُوَ الْمُعْجِزَة الظَّاهِرَة الْخَارِقَة لِلْعَادَةِ، فَهَكَذَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَلَوْ أَعْلَم أَنِّي أَخْلُص إِلَيْهِ لَأَحْبَبْت لِقَاءَهُ) هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِم، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ (لَتَجَشَّمْت لِقَاءَهُ) وَهُوَ أَصَحّ فِي الْمَعْنَى، وَمَعْنَاهُ: لَتَكَلَّفْت الْوُصُول إِلَيْهِ وَارْتَكَبْت الْمَشَقَّة فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَخَاف أَنْ أُقْتَطَع دُونه. وَلَا عُذْر لَهُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ صِدْق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا شَحَّ فِي الْمُلْك، وَرَغِبَ فِي الرِّيَاسَة، فَآثَرَهَا عَلَى الْإِسْلَام، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: «وَلَوْ أَرَادَ اللَّه هِدَايَته لَوَفَّقَهُ كَمَا وَفَّقَ النَّجَاشِيّ وَمَا زَالَتْ عَنْهُ الرِّيَاسَة» وَنَسْأَل اللَّه تَوْفِيقه.
قَوْله: «ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فيه: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم مِنْ مُحَمَّد رَسُول اللَّه إِلَى هِرَقْل عَظِيم الرُّوم، سَلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْد فَإِنِّي أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام، أَسْلِمْ تَسْلَم. وَأَسْلِمْ يُؤْتِك اللَّه أَجْرك مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّمَا عَلَيْك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ، وَ{يَا أَهْل الْكِتَاب تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الْآيَة».
فِي هَذَا الْكِتَاب جُمَل مِنْ الْقَوَاعِد، وَأَنْوَاع مِنْ الْفَوَائِد:
مِنْهَا: دُعَاء الْكُفَّار إِلَى الْإِسْلَام قَبْل قِتَالهمْ، وَهَذَا الدُّعَاء وَاجِب، وَالْقِتَال قَبْله حَرَام إِنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَة الْإِسْلَام، وَإِنْ كَانَتْ بَلَغَتْهُمْ فَالدُّعَاء مُسْتَحَبّ، هَذَا مَذْهَبنَا وَفيه خِلَاف لِلسَّلَفِ سَبَقَ بَيَانه فِي أَوَّل كِتَاب الْجِهَاد.
وَمِنْهَا: وُجُوب الْعَمَل بِخَبَرِ الْوَاحِد وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ فِي بَعْثه مَعَ دِحْيَة فَائِدَة، وَهَذَا إِجْمَاع مَنْ يُعْتَدّ بِهِ.
وَمِنْهَا: اِسْتِحْبَاب تَصْدِير الْكِتَاب بِبِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوث إِلَيْهِ كَافِرًا.
وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «كُلّ أَمْر ذِي بَال لَا يُبْدَأ فيه بِحَمْدِ اللَّه فَهُوَ أَجْذَم». الْمُرَاد بِالْحَمْدِ لِلَّهِ ذِكْر اللَّه تَعَالَى، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة: «بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى» وَهَذَا الْكِتَاب كَانَ ذَا بَال، بَلْ مِنْ الْمُهِمَّات الْعِظَام، وَبَدَأَ فيه بِالْبَسْمَلَةِ دُون الْحَمْد.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُسَافِر إِلَى أَرْض الْعَدُوّ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَنَحْوهمَا، وَأَنْ يَبْعَث بِذَلِكَ إِلَى الْكُفَّار وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ الْمُسَافَرَة بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْض الْعَدُوّ أَيْ بِكُلِّهِ أَوْ بِجُمْلَةٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَيْضًا مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا خِيفَ وُقُوعه فِي أَيْدِي الْكُفَّار.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوز لِلْمُحْدِثِ وَالْكَافِر مَسَّ آيَة أَوْ آيَات يَسِيرَة مَعَ غَيْر الْقُرْآن.
وَمِنْهَا: أَنَّ السُّنَّة فِي الْمُكَاتَبَة وَالرَّسَائِل بَيْن النَّاس أَنْ يَبْدَأ الْكَاتِب بِنَفْسِهِ فَيَقُول: مِنْ زَيْد إِلَى عَمْرو، وَهَذِهِ مَسْأَلَة مُخْتَلَف فيها، قَالَ الْإِمَام أَبُو جَعْفَر فِي كِتَابه صِنَاعَة الْكِتَاب: قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء: يُسْتَحَبّ أَنْ يَبْدَأ بِنَفْسِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ رَوَى فيه أَحَادِيث كَثِيرَة وَآثَارًا، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَكْثَر الْعُلَمَاء؛ لِأَنَّهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة، قَالَ: وَسَوَاء فِي هَذَا تَصْدِير الْكِتَاب وَالْعِنْوَان، قَالَ: وَرَخَّصَ جَمَاعَة فِي أَنْ يَبْدَأ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ فَيَقُول فِي التَّصْدِير وَالْعُنْوَان: إِلَى فُلَان مِنْ فُلَان، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ زَيْد بْن ثَابِت كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَة فَبَدَأَ بِاسْمِ مُعَاوِيَة، وَعَنْ مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة وَبَكْر بْن عَبْد اللَّه وَأَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ أَنَّهُ لَا بَأْس بِذَلِكَ، قَالَ: وَأَمَّا الْعُنْوَان فَالصَّوَاب أَنْ يَكْتُب عَلَيْهِ إِلَى فُلَان، وَلَا يَكْتُب لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ إِلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا عَلَى مَجَاز، قَالَ: هَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَر الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
وَمِنْهَا التَّوَقِّي فِي الْمُكَاتَبَة، وَاسْتِعْمَال الْوَرَع فيها، فَلَا يُفْرِط وَلَا يُفَرِّط، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْل عَظِيم الرُّوم، فَلَمْ يَقُلْ: مَلِك الرُّوم، لِأَنَّهُ لَا مُلْك لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ إِلَّا بِحُكْمِ دِين الْإِسْلَام، وَلَا سُلْطَان لِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ وَلَّاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ وَلَّاهُ مَنْ أَذِنَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا يَنْفُذ مِنْ تَصَرُّفَات الْكُفَّار مَا تُنْفِذهُ الضَّرُورَة، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى هِرَقْل فَقَطْ، بَلْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنْ الْمُلَاطَفَة فَقَالَ: عَظِيم الرُّوم، أَيْ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ وَيُقَدِّمُونَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِإِلَانَةِ الْقَوْل لِمَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَام فَقَالَ تَعَالَى: {اُدْعُ إِلَى سَبِيل رَبّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة} وَقَالَ تَعَالَى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} وَغَيْر ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: اِسْتِحْبَاب الْمُبَالَغَة وَالْإِيجَاز وَتَحَرِّي الْأَلْفَاظ الْجَزْلَة فِي الْمُكَاتَبَة، فَإِنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلِمْ تَسْلَم» فِي نِهَايَة مِنْ الِاخْتِصَار، وَغَايَة مِنْ الْإِيجَاز وَالْمُبَالَغَة، وَجَمْع الْمَعَانِي، مَعَ مَا فيه مِنْ بَدِيع التَّجْنِيس وَشُمُوله لِسَلَامَتِهِ مِنْ خِزْي الدُّنْيَا بِالْحَرْبِ وَالسَّبْي وَالْقَتْل، وَأَخْذ الدِّيَار وَالْأَمْوَال، وَمِنْ عَذَاب الْآخِرَة.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ هُنَا، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر فِي الصَّحِيح: «ثَلَاثَة يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ: مِنْهُمْ رَجُل مِنْ أَهْل الْكِتَاب..» الْحَدِيث.
وَمِنْهَا: الْبَيَان الْوَاضِح أَنَّ مَنْ كَانَ سَبَبًا لِضَلَالَةِ أَوْ سَبَب مَنْع مِنْ هِدَايَة كَانَ آثِمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ» وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ}.
وَمِنْهَا: اِسْتِحْبَاب (أَمَّا بَعْد) فِي الْخُطَب وَالْمُكَاتَبَات، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ لِهَذِهِ بَابًا فِي كِتَاب الْجُمُعَة ذَكَرَ فيه أَحَادِيث كَثِيرَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ» هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة الْأُولَى فِي مُسْلِم (الْأَرِيسِيِّينَ) وَهُوَ الْأَشْهَر فِي رِوَايَات الْحَدِيث وَفِي كُتُب أَهْل اللُّغَة، وَعَلَى هَذَا اُخْتُلِفَ فِي ضَبْطه عَلَى أَوْجُه: أَحَدهَا بِيَاءَيْنِ بَعْد السِّين، وَالثَّانِي بِيَاءٍ وَاحِدَة بَعْد السِّين، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْهَمْزَة مَفْتُوحَة وَالرَّاء مَكْسُورَة مُخَفَّفَة، وَالثَّالِث: الْإِرِّيسَيْنِ بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَتَشْدِيد الرَّاء وَبِيَاءٍ وَاحِدَة بَعْد السِّين، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة فِي مُسْلِم وَفِي أَوَّل صَحِيح الْبُخَارِيّ (إِثْم الْيَرِيسِيِّينَ) بِيَاءٍ مَفْتُوحَة فِي أَوَّله وَبِيَاءَيْنِ بَعْد السِّين.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِهِمْ عَلَى أَقْوَال: أَصَحّهَا وَأَشْهَرهَا: أَنَّهُمْ الْأَكَّارُونَ أَيْ الْفَلَّاحُونَ وَالزَّرَّاعُونَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ عَلَيْك إِثْم رَعَايَاك الَّذِينَ يَتْبَعُونَك وَيَنْقَادُونَ بِانْقِيَادِك، وَنَبَّهَ بِهَؤُلَاءِ عَلَى جَمِيع الرَّعَايَا لِأَنَّهُمْ الْأَغْلَب، وَلِأَنَّهُمْ أَسْرَع اِنْقِيَادًا، فَإِذَا أَسْلَمَ أَسْلَمُوا، وَإِذَا اِمْتَنَعَ اِمْتَنَعُوا، وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّحِيح، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَة رَوَيْنَاهَا فِي كِتَاب دَلَائِل النُّبُوَّة لِلْبَيْهَقِيِّ، وَفِي غَيْره: «فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَكَّارِينَ» وَفِي رِوَايَة ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْد فِي كِتَاب الْأَمْوَال وَإِلَّا فَلَا يَحِلّ بَيْن الْفَلَّاحِينَ وَبَيْن الْإِسْلَام، وَفِي رِوَايَة اِبْن وَهْب: «وَإِثْمهمْ عَلَيْك» قَالَ أَبُو عُبَيْد: لَيْسَ الْمُرَاد بِالْفَلَّاحِينَ الزَّرَّاعِينَ خَاصَّة، بَلْ الْمُرَاد بِهِمْ جَمِيع أَهْل مَمْلَكَته. الثَّانِي أَنَّهُمْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَهُمْ أَتْبَاع عَبْد اللَّه بْن أَرِيس، الَّذِي تُنْسَب إِلَيْهِ الْأَرُوسِيَّة مِنْ النَّصَارَى، وَلَهُمْ مَقَالَة فِي كُتُب الْمَقَالَات، وَيُقَال لَهُمْ: الْأَرُوسِيَّونَ.
الثَّالِث: أَنَّهُمْ الْمُلُوك الَّذِينَ يَقُودُونَ النَّاس إِلَى الْمَذَاهِب الْفَاسِدَة، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام» وَهُوَ بِكَسْرِ الدَّال أَيْ بِدَعْوَتِهِ، وَهِيَ كَلِمَة التَّوْحِيد، وَقَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم بَعْد هَذَا: «أَدْعُوك بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَام» وَهُوَ بِمَعْنَى الْأُولَى، وَمَعْنَاهَا: الْكَلِمَة الدَّاعِيَة إِلَى الْإِسْلَام، قَالَ الْقَاضِي: وَيَجُوز أَنْ تَكُون (دَاعِيَة) هُنَا بِمَعْنَى دَعْوَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُون اللَّه كَاشِفَة} أَيْ كَشْف.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى» هَذَا دَلِيل لِمَنْ يَقُول: لَا يُبْتَدَأ الْكَافِر بِالسَّلَامِ.
وَفِي الْمَسْأَلَة خِلَاف، فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور أَصْحَابه وَأَكْثَر الْعُلَمَاء: أَنَّهُ لَا يَجُوز لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ كَافِرًا بِالسَّلَامِ، وَأَجَازَهُ كَثِيرُونَ مِنْ السَّلَف، وَهَذَا مَرْدُود بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة فِي النَّهْي عَنْ ذَلِكَ، وَسَتَأْتِي فِي مَوْضِعهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ لِاسْتِئْلَافِ أَوْ لِحَاجَةٍ إِلَيْهِ أَوْ نَحْو ذَلِكَ.
قَوْله: (وَكَثُرَ اللَّغَط) هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن وَإِسْكَانهَا وَهِيَ الْأَصْوَات الْمُخْتَلِفَة.
قَوْله: (لَقَدْ أَمِرَ أَمْر اِبْن أَبِي كَبْشَة) أَمَّا (أَمِرَ) فَبِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الْمِيم أَيْ عَظُمَ، وَأَمَّا قَوْله: (اِبْن أَبِي كَبْشَة) فَقِيلَ: هُوَ رَجُل مِنْ خُزَاعَة كَانَ يَعْبُد الشِّعْرَى، وَلَمْ يُوَافِقهُ أَحَد مِنْ الْعَرَب فِي عِبَادَتهَا فَشَبَّهُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي دِينهمْ كَمَا خَالَفَهُمْ أَبُو كَبْشَة. رَوَيْنَا عَنْ الزُّبَيْر بْن بَكَّارٍ فِي كِتَاب الْأَنْسَاب قَالَ: لَيْسَ مُرَادهمْ بِذَلِكَ عَيْب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ مُجَرَّد التَّشْبِيه وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا كَبْشَة جَدّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَل أُمّه، قَالَ اِبْن قُتَيْبَة وَكَثِيرُونَ، وَقِيلَ: هُوَ أَبُوهُ مِنْ الرَّضَاعَة، وَهُوَ الْحَارِث بْن عَبْد الْعُزَّى السَّعْدِيّ؛ حَكَاهُ اِبْن بَطَّال وَآخَرُونَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ أَبُو الْحَسَن الْجُرْجَانِيّ: التَّشَابُه إِنَّمَا قَالُوا اِبْن أَبِي كَبْشَة عَدَاوَة لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسَبُوهُ إِلَى نَسَب لَهُ غَيْر نَسَبه الْمَشْهُور، إِذْ لَمْ يُمْكِنهُمْ الطَّعْن فِي نَسَبه الْمَعْلُوم الْمَشْهُور، قَالَ: وَقَدْ كَانَ وَهْب بْن عَبْد مَنَافٍ بْن زُهْرَة جَدّه أَبُو آمِنَة يُكَنَّى أَبَا كَبْشَة، وَكَذَلِكَ عَمْرو بْن زَيْد بْن أَسَد الْأَنْصَارِيّ النَّجَّارِيُّ أَبُو سَلْمَى أُمّ عَبْد الْمُطَّلِب كَانَ يُدْعَى أَبَا كَبْشَة، قَالَ: وَكَانَ فِي أَجْدَاده أَيْضًا مِنْ قِبَل أُمّه أَبُو كَبْشَة، وَهُوَ أَبُو قَبِيلَة أُمّ وَهْب اِبْن عَبْد مَنَافٍ أَبِي آمِنَة أُمّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ خُزَاعِيّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَعْبُد الشِّعْرَى، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ الرَّضَاعَة يُدْعَى أَبَا كَبْشَة، وَهُوَ الْحَارِث بْن عَبْد الْعُزَّى السَّعْدِيّ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ مِثْل هَذَا كُلّه مُحَمَّد بْن حَبِيب الْبَغْدَادِيّ، وَزَادَ اِبْن مَاكُولَا فَقَالَ: وَقِيلَ: أَبُو كَبْشَة عَمّ وَالِد حَلِيمَة مُرْضِعَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله: (إِنَّهُ لَيَخَافهُ مَلِك بَنِي الْأَصْفَر) بَنُو الْأَصْفَر هُمْ الرُّوم، قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ سُمُّوا بِهِ لِأَنَّ جَيْشًا مِنْ الْحَبَشَة غَلَبَ عَلَى بِلَادهمْ فِي وَقْت، فَوَطِئَ نِسَاءَهُمْ فَوَلَدْنَ أَوْلَادًا صُفْرًا مِنْ سَوَاد الْحَبَشَة وَبَيَاض الرُّوم، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: نُسِبُوا إِلَى الْأَصْفَر بْن الرُّوم بْن عِيصُو بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَشْبَهُ مِنْ قَوْل اِبْن الْأَنْبَارِيّ.
قَوْله: «مَشَى مِنْ حِمْص إِلَى إِيلِيَاء شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّه»، أَمَّا (حِمْص) فَغَيْر مَصْرُوفَة؛ لِأَنَّهَا مُؤَنَّثَة عَلَم عَجَمِيَّة، وَأَمَّا إِيلِيَاء فَهُوَ بَيْت الْمَقْدِس، وَفيه ثَلَاث لُغَات أَشْهَرهَا: إِيلِيَاء بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَاللَّام وَإِسْكَان الْيَاء بَيْنهمَا وَبِالْمَدِّ.
وَالثَّانِيَة: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهَا بِالْقَصْرِ.
وَالثَّالِثَة: الْيَاء بِحَذْفِ الْيَاء الْأُولَى وَإِسْكَان اللَّام وَبِالْمَدِّ، حَكَاهُنَّ صَاحِب الْمَطَالِع وَآخَرُونَ، وَفِي رِوَايَة لِأَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيّ فِي سَنَد اِبْن عَبَّاس (الْإِيلِيَاء) بِالْأَلِفِ وَاللَّام، قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: قِيلَ: مَعْنَاهُ: بَيْت اللَّه. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: «شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّه» فَمَعْنَاهُ: شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّه بِهِ عَلَيْهِ وَأَنَالهُ إِيَّاهُ، وَيُسْتَعْمَل ذَلِكَ فِي الْخَيْر وَالشَّرّ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فِتْنَة}. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب كُتُبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُلُوكِ الْكُفَّارِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:

3323- قَوْله: (حَدَّثَنِي يُوسُف بْن حَمَّاد الْمَعْنِيّ) هُوَ بِكَسْرِ النُّون وَتَشْدِيد الْيَاء مَنْسُوب إِلَى مَعْن، وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: هُوَ مِنْ وَلَد مَعْنِ بْن زَائِدَة.
قَوْله: (حَدَّثَنِي يُوسُف بْن حَمَّاد الْمَعْنِيّ حَدَّثَنَا عَبْد الْأَعْلَى عَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس قَالَ مُسْلِم: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا عَبْد الْوَهَّاب بْن عَطَاء عَنْ سَعْد اِبْن قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَس).
قَالَ مُسْلِم: (حَدَّثَنِيهِ نَصْر بْن عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ أَخْبَرَنِي خَالِد بْن قَيْس عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس) هَذِهِ الْأَسَانِيد الثَّلَاثَة كُلّهمْ بَصْرِيُّونَ، وَمُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الرَّازِيُّ بَصْرِيّ بَغْدَادِيّ، وَلَا يَنْقُض هَذَا مَا ذَكَرْته، وَفِي الْإِسْنَاد الثَّانِي تَصْرِيح قَتَادَةَ بِالسَّمَاعِ مِنْ أَنَس، فَزَالَ مَا يَخَاف مِنْ لَبْسه لَوْ اِقْتَصَرَ عَلَى الطَّرِيق الْأَوَّل.
قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى، وَإِلَى قَيْصَر وَإِلَى النَّجَاشِيّ وَإِلَى كُلّ جَبَّار يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أَمَّا كِسْرَى فَبِفَتْحِ الْكَاف وَكَسْرهَا، وَهُوَ لَقَب لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ مِنْ مُلُوك الْفُرْس، (وَقَيْصَر) لَقَب مَنْ مَلَكَ الرُّوم، و(النَّجَاشِيّ) لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ الْحَبَشَة و(خَاقَان) لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ التُّرْك و(فِرْعَوْن) لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ الْقِبْط، و(الْعَزِيز) لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ مِصْر، و(تُبَّع) لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ حِمْيَر. وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز مُكَاتَبَة الْكُفَّار وَدُعَائِهُمْ إِلَى الْإِسْلَام وَالْعَمَل بِالْكِتَابِ وَبِخَبَرِ الْوَاحِد. وَاَللَّه أَعْلَم.