فصل: باب قَطْعِ السَّارِقِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.صِحَّةِ الإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ وَتَمْكِينِ وَلِيِّ الْقَتِيلِ مِنَ الْقِصَاصِ وَاسْتِحْبَابِ طَلَبِ الْعَفْوِ مِنْهُ:

3181- قَوْله: «جَاءَ رَجُل يَقُود آخَر بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَتَلْته؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِف أَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَة، قَالَ: نَعَمْ قَتَلْته، قَالَ: كَيْف قَتَلْته؟ قَالَ: كُنْت أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِط مِنْ شَجَرَة فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْته بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنه فَقَتَلْته».
أَمَّا النِّسْعَة: فَبِنُونٍ مَكْسُورَة ثُمَّ سِين سَاكِنَة ثُمَّ عَيْن مُهْمَلَة وَهِيَ حَبْل مِنْ جُلُود مَضْفُورَة. وَقَرْنه: جَانِب رَأْسه.
وَقَوْله: «يَخْتَبِط» أَيْ يَجْمَع الْخَبْط، وَهُوَ وَرِق الثَّمَر بِأَنْ يَضْرِب الشَّجَر بِالْعَصَا فَيَسْقُط وَرَقه فَيَجْمَعهُ عَلَفًا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الْإِغْلَاظ عَلَى الْجُنَاة وَرَبْطهمْ وَإِحْضَارهمْ إِلَى وَلِيّ الْأَمْر.
وَفيه: سُؤَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَوَاب الدَّعْوَى، فَلَعَلَّهُ يُقِرّ فَيَسْتَغْنِي الْمُدَّعِي وَالْقَاضِي عَنْ التَّعَب فِي إِحْضَار الشُّهُود وَتَعْدِيلهمْ، وَلِأَنَّ الْحُكْم بِالْإِقْرَارِ حُكْم بِيَقِينٍ، وَبِالْبَيِّنَةِ حُكْم بِالظَّنِّ.
وَفيه: سُؤَال الْحَاكِم وَغَيْره الْوَلِيّ عَنْ الْعَفْو عَنْ الْجَانِي.
وَفيه جَوَاز الْعَفْو بَعْد بُلُوغ الْأَمْر إِلَى الْحَاكِم. وَفيه: جَوَاز أَخْذ الدِّيَة فِي قَتْل الْعَمْد؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَام الْحَدِيث: «هَلْ لَك مِنْ شَيْء تُؤَدِّيه عَنْ نَفْسك؟» وَفيه: قَبُول الْإِقْرَار بِقَتْلِ الْعَمْد.
قَوْله: «فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُل، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْله، فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه بَلَغَنِي إِنَّك قُلْت: إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْله، وَأَخَذْته بِأَمْرِك، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تُرِيد أَنْ يَبُوء بِإِثْمِك وَإِثْم صَاحِبك؟ قَالَ: يَا نَبِيّ اللَّه لَعَلَّهُ قَالَ بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاك قَالَ: فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيله». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِنَّهُ اِنْطَلَقَ بِهِ فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّار».
أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْله» فَالصَّحِيح فِي تَأْوِيله أَنَّهُ مِثْله فِي أَنَّهُ لَا فَضْل وَلَا مِنَّة لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر؛ لِأَنَّهُ اِسْتَوْفَى حَقّه مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَفَى عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ الْفَضْل وَالْمِنَّة وَجَزِيل ثَوَاب الْآخِرَة، وَجَمِيل الثَّنَاء فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: فَهُوَ مِثْله فِي أَنَّهُ قَاتَلَ، وَإِنْ اِخْتَلَفَا فِي التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة، لَكِنَّهُمَا اِسْتَوَيَا فِي إِطَاعَتهمَا الْغَضَب وَمُتَابَعَة الْهَوَى، لاسيما وَقَدْ طَلَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الْعَفْو، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ بِهَذَا اللَّفْظ الَّذِي هُوَ صَادِق فيه لِإِيهَامِ لِمَقْصُودٍ صَحِيح، وَهُوَ أَنَّ الْوَلِيّ رُبَّمَا خَافَ فَعَفَا، وَالْعَفْو مَصْلَحَة لِلْوَلِيِّ وَالْمَقْتُول فِي دِيَتهمَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَبُوء بِإِثْمِك وَإِثْم صَاحِبك».
وَفيه: مَصْلَحَة لِلْجَانِي وَهُوَ إِنْقَاذه مِنْ الْقَتْل، فَلَمَّا كَانَ الْعَفْو مَصْلَحَة تَوَصَّلَ إِلَيْهِ بِالتَّعْرِيضِ، وَقَدْ قَالَ الضَّمْرِيّ وَغَيْره مِنْ عُلَمَاء أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: يُسْتَحَبّ لِلْمُفْتِي إِذَا رَأَى مَصْلَحَة فِي التَّعْرِيض لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يُعَرِّض تَعْرِيضًا يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُود، مَعَ أَنَّهُ صَادِق فيه، قَالُوا: وَمِثَاله أَنْ يَسْأَلهُ إِنْسَان عَنْ الْقَاتِل، هَلْ لَهُ تَوْبَة؟ وَيَظْهَر لِلْمُفْتِي بِقَرِينَةٍ أَنَّهُ إِنْ أَفْتَى بِأَنَّ لَهُ تَوْبَة تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفْسَدَة، وَهِيَ أَنَّ السَّائِل يَسْتَهْوِنُ الْقَتْل لِكَوْنِهِ يَجِد بَعْد ذَلِكَ مِنْهُ مَخْرَجًا، فَيَقُول الْمُفْتِي الْحَالَة هَذِهِ: صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ: لَا تَوْبَة لِقَاتِلٍ، فَهُوَ صَادِق فِي أَنَّهُ صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي لَا يَعْتَقِد ذَلِكَ، وَلَا يُوَافِق اِبْن عَبَّاس فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة، لَكِنَّ السَّائِل إِنَّمَا يُفْهَم مِنْهُ مُوَافَقَته اِبْن عَبَّاس فَيَكُون سَبَبًا لِزَجْرِهِ، فَهَكَذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَمَنْ يَسْأَل عَنْ الْغِيبَة فِي الصَّوْم، وَهَلْ يُفْطِر بِهَا؟ فَيَقُول: جَاءَ فِي الْحَدِيث: «الْغِيبَة تُفْطِر الصَّائِم» وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تُرِيد أَنْ يَبُوء بِإِثْمِك وَإِثْم صَاحِبك» فَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَتَحَمَّل إِثْم الْمَقْتُول بِإِتْلَافِهِ مُهْجَته، وَإِثْم الْوَلِيّ لِكَوْنِهِ فَجَعَهُ فِي أَخِيهِ، وَيَكُون قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الرَّجُل خَاصَّة، وَيَحْتَمِل أَنَّ مَعْنَاهُ يَكُون عَفْوُكَ عَنْهُ سَبَبًا لِسُقُوطِ إِثْمك وَإِثْم أَخِيك الْمَقْتُول، وَالْمُرَاد إِثْمهمَا السَّابِق بِمَعَاصٍ لَهُمَا مُتَقَدِّمَة لَا تَعَلُّق لَهَا بِهَذَا الْقَاتِل، فَيَكُون مَعْنَى يَبُوء: يَسْقُط، وَأُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظ عَلَيْهِ مَجَازًا قَالَ الْقَاضِي: وَفِي الْحَدِيث: أَنَّ قَتْل الْقِصَاص لَا يُكَفِّر ذَنْب الْقَاتِل بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَفَّرَهَا بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ» وَيَبْقَى حَقّ الْمَقْتُول. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3182- «قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّار» فَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ فِي هَذَيْنِ، فَكَيْف تَصِحّ إِرَادَتهمَا مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهُ لِيَقْتُلهُ بِأَمْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ الْمُرَاد غَيْرهمَا، وَهُوَ إِذَا اِلْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفيهمَا فِي الْمُقَاتَلَة الْمُحَرَّمَة كَالْقِتَالِ عَصَبِيَّة وَنَحْو ذَلِكَ، فَالْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّار، وَالْمُرَاد بِهِ التَّعْرِيض كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَسَبَب قَوْله مَا قَدَّمْنَاهُ لِكَوْنِ الْوَلِيّ يَفْهَم مِنْهُ دُخُوله فِي مَعْنَاهُ، وَلِهَذَا تَرَكَ قَتْله فَحَصَلَ الْمَقْصُود. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب دِيَةِ الْجَنِينِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي:

3183- قَوْله: «إِنَّ اِمْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْل رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينهَا فَقَضَى فيه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ: عَبْد أَوْ أَمَة» وَفِي رِوَايَة: «أَنَّهَا ضَرَبَتْهَا بِعَمُودِ فُسْطَاط وَهِيَ حُبْلَى فَقَتَلَهَا». قَوْله: «أَنَّ اِمْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْل» وَفِي رِوَايَة: «اِمْرَأَة مِنْ بَنِي لِحْيَان» الْمَشْهُور كَسْر اللَّام فِي لِحْيَان، وَرُوِيَ فَتْحهَا. وَلِحْيَان: بَطْن مِنْ هُذَيْل.
أَمَّا قَوْله: (بِغُرَّةٍ عَبْد)، فَضَبَطْنَاهُ عَلَى شُيُوخنَا فِي الْحَدِيث وَالْفِقْه بِغُرَّةٍ بِالتَّنْوِينِ، وَهَكَذَا قَيَّدَهُ جَمَاهِير الْعُلَمَاء فِي كُتُبهمْ، وَفِي مُصَنَّفَاتهمْ فِي هَذَا، وَفِي شُرُوحهمْ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الرِّوَايَة فيه (بِغُرَّةٍ) بِالتَّنْوِينِ، وَمَا بَعْده بَدَل مِنْهُ، قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِالْإِضَافَةِ، قَالَ: وَالْأَوَّل أَوْجَه وَأَقْيَس. وَذَكَرَ صَاحِب الْمَطَالِع الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ قَالَ: الصَّوَاب رِوَايَة التَّنْوِين، قُلْنَا: وَمِمَّا يُؤَيِّدهُ وَيُوَضِّحهُ رِوَايَة الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِي كِتَاب الدِّيَات فِي بَاب دِيَة جَنِين الْمَرْأَة عَنْ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة، قَالَ: «قَضَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُرَّةِ عَبْدًا أَوْ أَمَة»، وَقَدْ فَسَّرَ الْغُرَّة فِي الْحَدِيث بِعَبْدٍ أَوْ أَمَة، قَالَ الْعُلَمَاء: و(أَوْ) هُنَا لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلشَّكِّ، وَالْمُرَاد بِالْغُرَّةِ عَبْد أَوْ أَمَة، وَهُوَ اِسْم لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا، قَالَ الْجَوْهَرِيّ: كَأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْغُرَّةِ عَنْ الْجِسْم كُلّه كَمَا قَالُوا: أَعْتَقَ رَقَبَة، وَأَصْل الْغُرَّة بَيَاض فِي الْوَجْه، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَمْرو: وَالْمُرَاد بِالْغُرَّةِ الْأَبْيَض مِنْهُمَا خَاصَّة، قَالَ: وَلَا يَجْزِي الْأَسْوَد، قَالَ: وَلَوْلَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِالْغُرَّةِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى شَخْص الْعَبْد وَالْأَمَة، لَمَا ذَكَرَهَا، وَلَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْله: (عَبْد أَوْ أَمَة)، هَذَا قَوْل أَبِي عَمْرو، وَهُوَ خِلَاف مَا اِتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاء أَنَّهُ تَجْزِي فيها السَّوْدَاء، وَلَا تَتَعَيَّن الْبَيْضَاء، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَر عِنْدهمْ أَنْ تَكُون قِيمَتهَا عُشْر دِيَة الْأُمّ، أَوْ نِصْف عَشْر دِيَة الْأَب، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْغُرَّة عِنْد الْعَرَب أَنْفَس الشَّيْء، وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْإِنْسَان؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَهُ فِي أَحْسَن تَقْوِيم.
وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي بَعْض الرِّوَايَات فِي غَيْر الصَّحِيح: «بِغُرَّةٍ عَبْد أَوْ أَمَة أَوْ فَرَس أَوْ بَغْل» فَرِوَايَة بَاطِلَة، وَقَدْ أَخَذَ بِهَا بَعْض السَّلَف، وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاء وَمُجَاهِد: أَنَّهَا عَبْد أَوْ أَمَة أَوْ فَرَس، وَقَالَ دَاوُدَ: كُلّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اِسْم الْغُرَّة يَجْزِي. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ دِيَة الْجَنِين هِيَ الْغُرَّة، سَوَاء كَانَ الْجَنِين ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى فَيَكْثُر فيه النِّزَاع فَضَبَطَهُ الشَّرْع بِضَابِطٍ يَقْطَع النِّزَاع، وَسَوَاء كَانَ خَلْقه كَامِل الْأَعْضَاء أَوْ نَاقِصهَا أَوْ كَانَ مُضْغَة تَصَوَّرَ فيها خَلْق آدَمِيّ، فَفِي كُلّ ذَلِكَ الْغُرَّة بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ الْغُرَّة تَكُون لِوَرَثَتِهِ عَلَى مَوَارِيثهمْ الشَّرْعِيَّة، وَهَذَا شَخْص يُورَث لَا يَرِث، وَلَا يُعْرَف لَهُ نَظِير إِلَّا مَنْ بَعْضه حُرّ وَبَعْضه رَقِيق، فَإِنَّهُ رَقِيق لَا يُورَث عِنْدنَا، وَهَلْ يُورَث؟ فيه: قَوْلَانِ أَصَحّهمَا: يُورَث، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجَمَاهِير، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّ الْجَنِين كَعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاء الْأُمّ فَتَكُون دِيَته لَهَا خَاصَّة.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَاد بِهَذَا كُلّه إِذَا اِنْفَصَلَ الْجَنِين مَيِّتًا أَمَّا إِذَا اِنْفَصَلَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَيَجِب فيه كَمَالِ دِيَة الْكَبِير، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَجَبَ مِائَة بَعِير، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَخَمْسُونَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَسَوَاء فِي هَذَا كُلّه الْعَمْد وَالْخَطَأ، وَمَتَى وَجَبَتْ الْغُرَّة فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَة، لَا عَلَى الْجَانِي، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَقَالَ مَالِك وَالْبَصْرِيُّونَ: تَجِب عَلَى الْجَانِي، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: يَلْزَم الْجَانِيَ الْكَفَّارَةُ، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3184- قَوْله: «قَضَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنِين اِمْرَأَة مِنْ بَنِي لِحْيَان سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ: عَبْد أَوْ أَمَة، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَة الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مِيرَاثهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجهَا، وَأَنَّ الْعَقْل عَلَى عَصَبَتهَا» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا الْكَلَام قَدْ يُوهِم خِلَاف مُرَاده، وَالصَّوَاب أَنَّ الْمَرْأَة الَّتِي مَاتَتْ هِيَ الْمَجْنِيّ عَلَيْهَا أُمّ الْجَنِين لَا الْجَانِيَة، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث بَعْده بِقَوْلِهِ: «فَقَتَلَهَا وَمَا فِي بَطْنهَا» فَيَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ، أَيْ: الَّتِي قَضَى لَهَا بِالْغُرَّةِ، فَعَبَّرَ بِعَلَيْهَا عَنْ لَهَا.
وَأَمَّا قَوْله: «وَالْعَقْل عَلَى عَصَبَتهَا» فَالْمُرَاد عَصَبَة الْقَاتِلَة.
3185- قَوْله: «فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنهَا فَقَضَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَرْأَة عَلَى عَاقِلَتهَا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَنَّهَا ضَرَبَتْهَا بِعَمُودِ فُسْطَاط» هَذَا: مَحْمُول عَلَى حَجَر صَغِير وَعَمُود لَا يُقْصَد بِهِ الْقَتْل غَالِبًا، فَيَكُون شِبْه عَمْد تَجِب فيه الدِّيَة عَلَى الْعَاقِلَة، وَلَا يَجِب فيه قِصَاص، وَلَا دِيَة عَلَى الْجَانِي، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجَمَاهِير.
قَوْله: «فَقَالَ حَمَلُ بْن النَّابِغَة الْهُذَلِيّ: يَا رَسُول اللَّه كَيْف أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اِسْتَهَلَّ؟ فَمِثْل ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَان الْكُهَّان، مِنْ أَجْل سَجْعه الَّذِي سَجَعَ» أَمَّا قَوْله: (حَمَل بْن النَّابِغَة) فَنَسَبَهُ إِلَى جَدّه، وَهُوَ حَمَل بْنُ مَالِك بْن النَّابِغَة، (وَحَمَل) بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَالْمِيم.
وَأَمَّا قَوْله: «فَمِثْل ذَلِكَ يُطَلّ» فَرُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: يُطَلّ بِضَمِّ الْيَاء الْمُثَنَّاة وَتَشْدِيد اللَّام، وَمَعْنَاهُ: يُهْدَر وَيُلْغَى وَلَا يُضْمَن، وَالثَّانِي: بَطَلَ بِفَتْحِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَتَخْفِيف اللَّام عَلَى أَنَّهُ فِعْل مَاضٍ مِنْ الْبُطْلَان، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُلْغَى أَيْضًا، وَأَكْثَر نُسَخ بِلَادنَا بِالْمُثَنَّاةِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ جُمْهُور الرُّوَاة فِي صَحِيح مُسْلِم ضَبَطُوهُ بِالْمُوَحَّدَةِ.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: طُلَّ دَمه بِضَمِّ الطَّاء، وَأَطَلَّ، أَيْ أَهْدَرَ، وَأَطَلَّهُ الْحَاكِم وَطَلّه: أَهْدَرَهُ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ طَلّ دَمه بِفَتْحِ الطَّاء فِي اللَّازِم، وَأَبَاهَا الْأَكْثَرُونَ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَان الْكُهَّان مِنْ أَجْل سَجْعه» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «سَجْع كَسَجْعِ الْأَعْرَاب» فَقَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا ذَمّ سَجْعه لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ عَارَضَ بِهِ حُكْم الشَّرْع وَرَامَ إِبْطَاله.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَكَلَّفَهُ فِي مُخَاطَبَته، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنْ السَّجْع مَذْمُومَانِ.
وَأَمَّا السَّجْع الَّذِي كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولهُ فِي بَعْض الْأَوْقَات وَهُوَ مَشْهُور فِي الْحَدِيث فَلَيْسَ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَارِض بِهِ حُكْم الشَّرْع، وَلَا يَتَكَلَّفهُ، فَلَا نَهْي فيه، بَلْ هُوَ حَسَن، وَيُؤَيِّد مَا ذَكَرنَا مِنْ التَّأْوِيل قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَسَجْعِ الْأَعْرَاب»، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ بَعْض السَّجْع هُوَ الْمَذْمُوم. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3186- قَوْله: «ضَرَبَتْ اِمْرَأَة ضَرَّتهَا» قَالَ أَهْل اللُّغَة: كُلّ وَاحِدَة مِنْ زَوْجَتَيِّ الرَّجُل ضَرَّة لِلْأُخْرَى، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْمُضَارَّة بَيْنهمَا فِي الْعَادَة، وَتَضَرُّر كُلّ وَاحِدَة بِالْأُخْرَى.
قَوْله: «فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَة الْمَقْتُولَة عَلَى عَصَبَة الْقَاتِلَة» هَذَا دَلِيل لِمَا قَالَهُ الْفُقَهَاء أَنَّ دِيَة الْخَطَأ عَلَى الْعَاقِلَة إِنَّمَا تَخْتَصّ بِعَصَبَاتِ الْقَاتِل سِوَى أَبْنَائِهِ وَآبَائِهِ.
3188- قَوْله: «اِسْتَشَارَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ النَّاس فِي مِلَاص الْمَرْأَة» فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم (مِلَاص) بِكَسْرِ الْمِيم وَتَخْفِيف اللَّام وَبِصَادٍ مُهْمَلَة، وَهُوَ جَنِين الْمَرْأَة، وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة (إِمْلَاص) الْمَرْأَة بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَة قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: أَمْلَصَتْ بِهِ، وَأَزْلَقَتْ بِهِ، وَأَمْهَلَتْ بِهِ، وَأَخْطَأَتْ بِهِ، كُلّه بِمَعْنًى، وَهُوَ إِذَا وَضَعَتْهُ قَبْل أَوَانه، وَكُلّ مَا زَلَقَ مِنْ الْيَد فَقَدْ مَلِصَ بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر اللَّام مَلَصًا بِفَتْحِهَا، وَأَمْلَصَ أَيْضًا لُغَتَانِ، وَأَمْلَصْته أَنَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْحُمَيْدِيّ هَذَا الْحَدِيث فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ، فَقَالَ: إِمْلَاص بِالْهَمْزَةِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة.
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ جَاءَ مَلِصَ الشَّيْء إِذَا أَفْلَتَ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْجَنِين صَحَّ مِلَاص مِثْل لَزِمَ لِزَامًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ قَالَ: اِسْتَشَارَ عُمَر بْنُ الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ النَّاس فِي مِلَاص الْمَرْأَة) هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم، فَقَالَ: وَهِمَ وَكِيع فِي هَذَا الْحَدِيث، وَخَالَفَهُ أَصْحَاب هِشَام. فَلَمْ يَذْكُرُوا فيه الْمِسْوَر، وَهُوَ الصَّوَاب، وَلَمْ يَذْكُر مُسْلِم فِي حَدِيث وَكِيع، وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ حَدِيث مَنْ خَالَفَهُ وَهُوَ الصَّوَاب. هَذَا قَوْل الدَّارَقُطْنِيِّ، وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ هِشَام عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمُغِيرَة: «أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَأَلَ عَنْ إِمْلَاص الْمَرْأَة»، ولابد مِنْ ذِكْر الْمِسْوَر وَعُرْوَة لِيَتَّصِل الْحَدِيث، فَإِنَّ عُرْوَة لَمْ يُدْرِك عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.

.كتاب الحدود:

.باب حَدِّ السَّرِقَةِ وَنِصَابِهَا:

قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: صَانَ اللَّه تَعَالَى الْأَمْوَال بِإِيجَابِ الْقَطْع عَلَى السَّارِق، وَلَمْ يُجْعَل ذَلِكَ فِي غَيْر السَّرِقَة كَالِاخْتِلَاسِ وَالِانْتِهَاب وَالْغَصْب؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّرِقَة؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِن اِسْتِرْجَاع هَذَا النَّوْع بِالِاسْتِدْعَاءِ إِلَى وُلَاة الْأُمُور، وَتَسْهُل إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّرِقَة فَإِنَّهُ تَنْدُر إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهَا، فَعَظُمَ أَمْرهَا، وَاشْتَدَّتْ عُقُوبَتهَا لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي الزَّجْر عَنْهَا.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَطْع السَّارِق فِي الْجُمْلَة، وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي فُرُوع مِنْهُ.
قَوْله: «عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَع السَّارِق فِي رُبْع دِينَار فَصَاعِدًا» وَفِي رِوَايَة: «قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُقْطَع يَد السَّارِق إِلَّا فِي رُبْع دِينَار فَصَاعِدًا» وَفِي رِوَايَة: «لَا تُقْطَع الْيَد إِلَّا فِي رُبْع دِينَار فَمَا فَوْقه» وَفِي رِوَايَة: «لَمْ تُقْطَع يَد السَّارِق فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقَلّ مِنْ ثَمَن الْمِجَنّ» وَفِي رِوَايَة اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «قَطَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارِقًا فِي مِجَنّ قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم» وَفِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة: «قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّه السَّارِق يَسْرِق الْبَيْضَة فَتُقْطَع يَده وَيَسْرِق الْحَبْل فَتُقْطَع يَده».
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى قَطْع يَد السَّارِق كَمَا سَبَقَ، وَاخْتَلَفُوا فِي اِشْتِرَاط النِّصَاب وَقَدْره، فَقَالَ أَهْل الظَّاهِر: لَا يُشْتَرَط نِصَاب بَلْ وَيُقْطَع فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير، وَبِهِ قَالَ اِبْن بِنْت الشَّافِعِيّ مِنْ أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالْخَوَارِج وَأَهْل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهمَا} وَلَمْ يَخُصُّوا الْآيَة، وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: وَلَا تُقْطَع إِلَّا فِي نِصَاب لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي قَدْر النِّصَاب، فَقَالَ الشَّافِعِيّ النِّصَاب رُبْع دِينَار ذَهَبًا، أَوْ مَا قِيمَته رُبْع دِينَار، سَوَاء كَانَتْ قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر، وَلَا يُقْطَع فِي أَقَلّ مِنْهُ، وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ قَوْل عَائِشَة وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْث وَأَبِي ثَوْر وَإِسْحَاق وَغَيْرهمْ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ دَاوُدَ، وَقَالَ مَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة: تُقْطَع فِي رُبْع دِينَار أَوْ ثَلَاثَة دَرَاهِم أَوْ مَا قِيمَته أَحَدهمَا، وَلَا تُقْطَع فِيمَا دُون ذَلِكَ، وَقَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار وَابْن شُبْرُمَةَ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَن فِي رِوَايَة عَنْهُ: لَا تُقْطَع إِلَّا فِي خَمْسَة دَرَاهِم، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه: لَا تُقْطَع إِلَّا فِي عَشَرَة دَرَاهِم أَوْ مَا قِيمَته ذَلِكَ، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَنَّ النِّصَاب أَرْبَعَة دَرَاهِم، وَعَنْ عُثْمَان الْبَتِّيّ أَنَّهُ دِرْهَم، وَعَنْ الْحَسَن أَنَّهُ دِرْهَمَانِ، وَعَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَة دَنَانِير، وَالصَّحِيح مَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِبَيَانِ النِّصَاب فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث مِنْ لَفْظه وَأَنَّهُ رُبْع دِينَار، وَأَمَّا بَاقِي التَّقْدِيرَات فَمَرْدُودَة لَا أَصْل لَهَا مَعَ مُخَالَفَتهَا لِصَرِيحِ هَذِهِ الْأَحَادِيث.
وَأَمَّا رِوَايَة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنّ قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم» فَمَحْمُولَة عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْر كَانَ رُبْع دِينَار فَصَاعِدًا، وَهِيَ قَضِيَّة عَيْن لَا عُمُوم لَهَا، فَلَا يَجُوز تَرْك صَرِيح لَفْظه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْدِيد النِّصَاب لِهَذِهِ الرِّوَايَة الْمُحْتَمَلَة، بَلْ يَجِب حَمْلهَا عَلَى مُوَافَقَة لَفْظه، وَكَذَا الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لَمْ يَقْطَع يَد السَّارِق فِي أَقَلّ مِنْ ثَمَن الْمِجَنّ» مَحْمُولَة عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبْع دِينَار، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل لِيُوَافِق صَرِيح تَقْدِيره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا مَا يَحْتَجّ بِهِ بَعْض الْحَنَفِيَّة وَغَيْرهمْ مِنْ رِوَايَة جَاءَتْ: «قَطَعَ فِي مِجَنّ قِيمَته عَشَرَة دَرَاهِم»، وَفِي رِوَايَة: «خَمْسَة»، فَهِيَ رِوَايَة ضَعِيفَة لَا يُعْمَل بِهَا لَوْ اِنْفَرَدَتْ، فَكَيْف وَهِيَ مُخَالِفَة لِصَرِيحِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة فِي التَّقْدِير بِرُبْعِ دِينَار مَعَ أَنَّهُ يُمْكِن حَمْلهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ قِيمَته عَشَرَة دَرَاهِم اِتِّفَاقًا لَا أَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ فِي قَطْع السَّارِق، وَلَيْسَ فِي لَفْظهَا مَا يَدُلّ عَلَى تَقْدِير النِّصَاب بِذَلِكَ.
وَأَمَّا رِوَايَة: «لَعَنَ اللَّه السَّارِق يَسْرِق الْبَيْضَة أَوْ الْحَبْل فَتُقْطَع يَده» فَقَالَ جَمَاعَة: الْمُرَاد بِهَا بَيْضَة الْحَدِيد وَحَبْل السَّفِينَة، وَكُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يُسَاوِي أَكْثَر مِنْ رُبْع دِينَار، وَأَنْكَرَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَا وَضَعَّفُوهُ، فَقَالُوا: بَيْضَة الْحَدِيد وَحَبْل السَّفِينَة لَهُمَا قِيمَة ظَاهِرَة، وَلَيْسَ هَذَا السِّيَاق مَوْضِع اِسْتِعْمَالهمَا، بَلْ بَلَاغَة الْكَلَام تَأْبَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُذَمّ فِي الْعَادَة مَنْ خَاطَرَ بِيَدِهِ فِي شَيْء لَهُ قَدْر، وَإِنَّمَا يُذَمّ مَنْ خَاطَرَ بِهَا فِيمَا لَا قَدْر لَهُ فَهُوَ مَوْضِع تَقْلِيل لَا تَكْثِير، وَالصَّوَاب أَنَّ الْمُرَاد التَّنْبِيه عَلَى عَظِيم مَا خَسِرَ، وَهِيَ يَده فِي مُقَابَلَة حَقِير مِنْ الْمَال وَهُوَ رُبْع دِينَار، فَإِنَّهُ يُشَارِك الْبَيْضَة وَالْحَبْل فِي الْحَقَارَة، أَوْ أَرَادَ جِنْس الْبَيْض وَجِنْس الْحَبْل، أَوْ أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ الْبَيْضَة فَلَمْ يُقْطَع جَرَّهُ ذَلِكَ إِلَى سَرِقَة مَا هُوَ أَكْثَر مِنْهَا فَقُطِعَ، فَكَانَتْ سَرِقَة الْبَيْضَة هِيَ سَبَب قَطْعه، أَوْ أَنَّ الْمُرَاد بِهِ قَدْ يَسْرِق الْبَيْضَة أَوْ الْحَبْل فَيَقْطَعهُ بَعْض الْوُلَاة سِيَاسَة لَا قَطْعًا جَائِزًا شَرْعًا، وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا عِنْد نُزُول آيَة السَّرِقَة مُجْمَلَة مِنْ غَيْر بَيَان نِصَاب، فَقَالَهُ عَلَى ظَاهِر اللَّفْظ وَاللَّهُ أَعْلَم.
3189- سبق شرحه بالباب.
3190- سبق شرحه بالباب.
3191- سبق شرحه بالباب.
3192- سبق شرحه بالباب.
3193- قَوْله: «ثَمَن الْمِجَنّ حَجَفَة أَوْ تُرْس وَكِلَاهُمَا ذُو ثَمَن» الْمِجَنّ: بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْجِيم، وَهُوَ اِسْم لِكُلِّ مَا يُسْتَجَنّ بِهِ، أَيْ يُسْتَتَر، وَالْحَجَفَة بِحَاءٍ مُهْمَلَة ثُمَّ جِيم مَفْتُوحَتَيْنِ هِيَ الدَّرَقَة وَهِيَ مَعْرُوفَة. وَقَوْله: «حَجَفَة أَوْ تُرْس» هُمَا مَجْرُورَانِ بَدَل مِنْ الْمِجَنّ. وَقَوْله: «وَكِلَاهُمَا ذُو ثَمَن» إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْقَطْع لَا يَكُون فِيمَا قَلَّ بَلْ يَخْتَصّ بِمَا لَهُ ثَمَن ظَاهِر، وَهُوَ رُبْع دِينَار، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَات.
3195- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّه السَّارِق» هَذَا دَلِيل لِجَوَازِ لَعْن غَيْر الْمُعَيَّن مِنْ الْعُصَاة، لِأَنَّهُ لَعْن لِلْجِنْسِ لَا لِمُعَيَّنٍ، وَلَعْن الْجِنْس جَائِز كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَلَا لَعْنَة اللَّه عَلَى الظَّالِمِينَ} وَأَمَّا الْمُعَيَّن فَلَا يَجُوز لَعْنه، قَالَ الْقَاضِي: وَأَجَازَ بَعْضهمْ لَعْن الْمُعَيَّن مَا لَمْ يُحَدّ، فَإِذَا حُدَّ لَمْ يَجُزْ لَعْنه، فَإِنَّ الْحُدُود كَفَّارَات لِأَهْلِهَا، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا التَّأْوِيل بَاطِل؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة فِي النَّهْي عَنْ اللَّعْن، فَيَجِب حَمَلَ النَّهْي عَلَى الْمُعَيَّن لِيُجْمَع بَيْن الْأَحَادِيث. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِرْز مَشْرُوط، فَلَا قَطْع إِلَّا فِيمَا سُرِقَ مِنْ حِرْز، وَالْمُعْتَبَر فيه الْعُرْف مِمَّا عَدَّهُ أَهْل الْعُرْف حِرْزًا لِذَلِكَ الشَّيْء فَهُوَ حِرْز لَهُ، وَمَا لَا فَلَا. وَخَالَفَهُمْ دَاوُدُ فَلَمْ يَشْتَرِط الْحِرْز، قَالُوا: وَيُشْتَرَط أَنْ لَا يَكُون لِلسَّارِقِ فِي الْمَسْرُوق شُبْهَة، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ يُقْطَع، وَيُشْتَرَط أَنْ يُطَالِب الْمَسْرُوق مِنْهُ بِالْمَالِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ أَوَّلًا قُطِعَتْ يَده الْيُمْنَى، قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَهْل الْمَدِينَة وَالزُّهْرِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَغَيْرهمْ: فَإِذَا سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْله الْيُسْرَى، فَإِذَا سَرَقَ ثَالِثًا قُطِعَتْ يَده الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ رَابِعًا قُطِعَتْ رِجْله الْيُمْنَى، فَإِنْ سَرَقَ بَعْد ذَلِكَ عُزِّرَ، ثُمَّ كُلَّمَا سَرَقَ عُزِّرَ.
قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَمَالِك وَالْجَمَاهِير: تُقْطَع الْيَد مِنْ الرُّسْغ وَهُوَ الْمَفْصِل بَيْن الْكَفّ وَالذِّرَاع، وَتُقْطَع الرِّجْل مِنْ الْمَفْصِل بَيْن السَّاق وَالْقَدَم، وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: تُقْطَع الرِّجْل مِنْ شَطْر الْقَدَم، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ بَعْض السَّلَف: تُقْطَع الْيَد مِنْ الْمَرْفِق، وَقَالَ بَعْضهمْ: مِنْ الْمَنْكِب. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب قَطْعِ السَّارِقِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ:

ذَكَرَ مُسْلِم رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي الْبَاب الْأَحَادِيث فِي النَّهْي عَنْ الشَّفَاعَة فِي الْحُدُود، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ سَبَب هَلَاك بَنِي إِسْرَائِيل، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم الشَّفَاعَة فِي الْحَدّ بَعْد بُلُوغه إِلَى الْإِمَام، لِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَعَلَى أَنَّهُ يَحْرُم التَّشْفِيع فيه، فَأَمَّا قَبْل بُلُوغه إِلَى الْإِمَام فَقَدْ أَجَازَ الشَّفَاعَة فيه أَكْثَر الْعُلَمَاء إِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْفُوع فيه صَاحِب شَرٍّ وَأَذًى لِلنَّاسِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْفَع فيه.
وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فيها وَوَاجِبهَا التَّعْزِير فَتَجُوز الشَّفَاعَة وَالتَّشْفِيع فيها، سَوَاء بَلَغَتْ الْإِمَام أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا أَهْوَن، ثُمَّ الشَّفَاعَة فيها مُسْتَحَبَّة إِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْفُوع فيه صَاحِب أَذًى وَنَحْوه.
3196- قَوْلُهُ: «وَمَنْ يَجْتَرِئ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَة حِبّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هُوَ بِكَسْرِ الْحَاء أَيْ مَحْبُوبه، وَمَعْنَى يَجْتَرِئ يَتَجَاسَر عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْإِدْلَال، وَفِي هَذَا مَنْقَبَة ظَاهِرَة لِأُسَامَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيْم اللَّه لَوْ أَنَّ فَاطِمَة» فيه: دَلِيل لِجَوَازِ الْحَلِف مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف، وَهُوَ مُسْتَحَبّ إِذَا كَانَ فيه تَفْخِيم لِأَمْرٍ مَطْلُوب كَمَا فِي الْحَدِيث، وَقَدْ كَثُرَتْ نَظَائِره فِي الْحَدِيث، وَسَبَقَ فِي كِتَاب الْأَيْمَان اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي الْحَلِف بِاسْمِ اللَّه.
3197- قَوْله: «كَانَتْ اِمْرَأَة مَخْزُومِيَّة تَسْتَعِير الْمَتَاع وَتَجْحَدهُ فَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدهَا فَأَتَى أَهْلهَا أُسَامَة فَكَلَّمُوهُ» الْحَدِيث، قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد أَنَّهَا قُطِعَتْ بِالسَّرِقَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْعَارِيَة تَعْرِيفًا لَهَا وَوَصْفًا لَهَا، لَا أَنَّهَا سَبَب الْقَطْع.
وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم هَذَا الْحَدِيث فِي سَائِر الطُّرُق الْمُصَرِّحَة بِأَنَّهَا سَرَقَتْ وَقُطِعَتْ بِسَبَبِ السَّرِقَة، فَيَتَعَيَّن حَمْل هَذِهِ الرِّوَايَة عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْن الرِّوَايَات، فَإِنَّهَا قَضِيَّة وَاحِدَة، مَعَ أَنَّ جَمَاعَة مِنْ الْأَئِمَّة قَالُوا: هَذِهِ الرِّوَايَة شَاذَّة: فَإِنَّهَا مُخَالِفَة لِجَمَاهِير الرُّوَاة، وَالشَّاذَّة لَا يُعْمَل بِهَا.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُر السَّرِقَة فِي هَذِهِ الرِّوَايَة؛ لِأَنَّ الْمَقْصُود مِنْهَا عِنْد الرَّاوِي ذِكْر مَنْع الشَّفَاعَة فِي الْحُدُود، لَا الْإِخْبَار عَنْ السَّرِقَة.
قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء وَفُقَهَاء الْأَمْصَار: لَا قَطْع عَلَى مَنْ جَحَدَ الْعَارِيَة، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيث بِنَحْوِ مَا ذَكَرْته، وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق: يَجِب الْقَطْع فِي ذَلِكَ.

.باب حَدِّ الزِّنَا:

3199- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي فَقَدْ جَعَلَ اللَّه لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْر بِالْبِكْرِ جَلْد مِائَة وَنَفْي سَنَة وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جَلْد مِائَة وَالرَّجْم» أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ جَعَلَ اللَّه لَهُنَّ سَبِيلًا» فَأَشَارَ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوت حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْت أَوْ يَجْعَل اللَّه لَهُنَّ سَبِيلًا} فَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا هُوَ ذَلِكَ السَّبِيل.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْآيَة فَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَة، وَهَذَا الْحَدِيث مُفَسِّر لَهَا، وَقِيلَ: مَنْسُوخَة بِالْآيَةِ الَّتِي فِي أَوَّل سُورَة النُّور، وَقِيلَ: إِنَّ آيَة النُّور فِي الْبِكْرَيْنِ، وَهَذِهِ الْآيَة فِي الثَّيِّبَيْنِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى وُجُوب جَلْد الزَّانِي الْبِكْر مِائَة، وَرَجْم الْمُحْصَن وَهُوَ الثَّيِّب، وَلَمْ يُخَالِف فِي هَذَا أَحَد مِنْ أَهْل الْقِبْلَة، إِلَّا مَا حَكَى الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره عَنْ الْخَوَارِج وَبَعْض الْمُعْتَزِلَة، كَالنَّظَّامِ وَأَصْحَابه، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِالرَّجْمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَلْد الثَّيِّب مَعَ الرَّجْم، فَقَالَتْ طَائِفَة: يَجِب الْجَمْع بَيْنهمَا، فَيُجْلَد ثُمَّ يُرْجَم، وَبِهِ قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ وَدَاوُد وَأَهْل الظَّاهِر وَبَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ، وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: الْوَاجِب الرَّجْم وَحْده، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث أَنَّهُ يَجِب الْجَمْع بَيْنهمَا، إِذَا كَانَ الزَّانِي شَيْخًا ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَ شَابًّا ثَيِّبًا اُقْتُصِرَ عَلَى الرَّجْم، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل لَا أَصْل لَهُ، وَحُجَّة الْجُمْهُور أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِقْتَصَرَ عَلَى رَجْم الثَّيِّب فِي أَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا قِصَّة (مَاعِز) وَقِصَّة (الْمَرْأَة الْغَامِدِيَّة)، وَفِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْس عَلَى اِمْرَأَة هَذَا فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» قَالُوا: وَحَدِيث الْجَمْع بَيْن الْجَلْد وَالرَّجْم مَنْسُوخ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَوَّل الْأَمْر.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِكْر: «وَنَفْي سَنَة» فَفيه حُجَّة لِلشَّافِعِيِّ وَالْجَمَاهِير أَنَّهُ يَجِب نَفيه سَنَة رَجُلًا كَانَ أَوْ اِمْرَأَة، وَقَالَ الْحَسَن: لَا يَجِب النَّفْي وَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا نَفْي عَلَى النِّسَاء، وَرُوِيَ مِثْله عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَقَالُوا: لِأَنَّهَا عَوْرَة، وَفِي نَفيها تَضْيِيع لَهَا وَتَعْرِيض لَهَا لِلْفِتْنَةِ، وَلِهَذَا نُهِيَتْ عَنْ الْمُسَافَرَة إِلَّا: مَعَ مَحْرَم. وَحُجَّة الشَّافِعِيّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِكْر بِالْبِكْرِ جَلْد مِائَة وَنَفْي سَنَة».
وَأَمَّا الْعَبْد وَالْأَمَة فَفيهمَا ثَلَاثَة أَقْوَال لِلشَّافِعِيِّ: أَحَدهَا: يُغَرَّب كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا سَنَة لِظَاهِرِ الْحَدِيث، وَبِهَذَا قَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَابْن جَرِير.
وَالثَّانِي: يُغَرَّب نِصْف سَنَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَات مِنْ الْعَذَاب} وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَال عِنْد أَصْحَابنَا، وَهَذِهِ الْآيَة مُخَصِّصَة لِعُمُومِ الْحَدِيث، وَالصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ جَوَاز تَخْصِيص السُّنَّة بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ تَخْصِيص الْكِتَاب بِالْكِتَابِ فَتَخْصِيص السُّنَّة بِهِ أَوْلَى.
وَالثَّالِث: لَا يُغَرَّب الْمَمْلُوك أَصْلًا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَحَمَّاد وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَمَة إِذَا زَنَتْ: «فَلْيَجْلِدْهَا» وَلَمْ يَذْكُر النَّفْي، وَلِأَنَّ نَفيه يَضُرّ سَيِّده، مَعَ أَنَّهُ لَا جِنَايَة مِنْ سَيِّده، وَأَجَابَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ عَنْ حَدِيث الْأَمَة إِذَا زَنَتْ أَنَّهُ لَيْسَ فيه تَعَرُّض لِلنَّفْيِ، وَالْآيَة ظَاهِرَة فِي وُجُوب النَّفْي، فَوَجَبَ الْعَمَل بِهَا، وَحَمَلَ الْحَدِيث عَلَى مُوَافَقَتهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِكْر بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ» فَلَيْسَ هُوَ عَلَى سَبِيل الِاشْتِرَاط، بَلْ حَدُّ الْبِكْر الْجَلْد وَالتَّغْرِيب، سَوَاء زَنَى بِبِكْرٍ أَمْ بِثَيِّبٍ، وَحَدُّ الثَّيِّب الرَّجْم، سَوَاء زَنَى بِثَيِّبٍ أَمْ بِبِكْرٍ، فَهُوَ شَبِيه بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي يَخْرُج عَلَى الْغَالِب.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَاد بِالْبِكْرِ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء مَنْ لَمْ يُجَامِع فِي نِكَاح صَحِيح. وَهُوَ حُرٌّ بَالِغ عَاقِل، سَوَاء كَانَ جَامَعَ بِوَطْءٍ شُبْهَة أَوْ نِكَاح فَاسِد أَوْ غَيْرهمَا أَمْ لَا، وَالْمُرَاد بِالثَّيِّبِ مَنْ جَامَعَ فِي دَهْره مَرَّة مِنْ نِكَاح صَحِيح، وَهُوَ بَالِغ عَاقِل حُرٌّ، وَالرَّجُل وَالْمَرْأَة فِي هَذَا سَوَاء- وَاللَّهُ أَعْلَم- وَسَوَاء فِي كُلّ هَذَا الْمُسْلِم وَالْكَافِر وَالرَّشِيد وَالْمَحْجُوز عَلَيْهِ لِسَفَهٍ وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (حَدَّثَنَا عَمْرو النَّاقِد حَدَّثَنَا هُشَيْم أَخْبَرَنَا مَنْصُور بِهَذَا الْإِسْنَاد) فِي هَذَا الْكَلَام فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: بَيَان أَنَّ الْحَدِيث رُوِيَ مِنْ طَرِيق آخَر فَيَزْدَاد قُوَّة.
وَالثَّانِيَة أَنَّ هُشَيْمًا مُدَلِّس، وَقَدْ قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: وَعَنْ مَنْصُور وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَة أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مَنْصُور، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيه عَلَى مِثْل هَذَا مَرَّات.
3200- قَوْله: «كَانَ النَّبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْي كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهه» هُوَ بِضَمِّ الْكَاف وَكَسْر الرَّاء، وَتَرَبَّدَ وَجْهه، أَيْ: عَلَتْهُ غَبَرَة، وَالرَّبْد تَغَيُّر الْبَيَاض إِلَى السَّوَاد، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ لِعِظَمِ مَوْقِع الْوَحْي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْك قَوْلًا ثَقِيلًا}.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ رُجِمَ بِالْحِجَارَةِ» التَّقْيِيد بِالْحِجَارَةِ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَلَوْ رُجِمَ بِغَيْرِهَا جَازَ، وَهُوَ شَبِيه بِالتَّقْيِيدِ بِهَا فِي الِاسْتِنْجَاء.