فصل: باب فَضْلِ إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب مَنْ جَمَعَ الصَّدَقَةَ وَأَعْمَالَ الْبِرِّ:

1705- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيل اللَّه نُودِيَ فِي الْجَنَّة: يَا عَبْد اللَّه هَذَا خَيْر» قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْهَرَوِيُّ فِي تَفْسِير هَذَا الْحَدِيث: قِيلَ: وَمَا زَوْجَانِ؟ قَالَ: فَرَسَانِ أَوْ عَبْدَانِ أَوْ بَعِيرَانِ.
وَقَالَ اِبْن عَرَفَة: كُلّ شَيْء قُرِنَ بِصَاحِبِهِ فَهُوَ زَوْج، يُقَال: زَوَّجْت بَيْن الْإِبِل إِذَا قَرَنْت بَعِيرًا بِبَعِيرٍ، وَقِيلَ: دِرْهَم وَدِينَار، أَوْ دِرْهَم وَثَوْب.
قَالَ: وَالزَّوْج يَقَع عَلَى الِاثْنَيْنِ وَيَقَع عَلَى الْوَاحِد، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَقَع عَلَى الْوَاحِد إِذَا كَانَ مَعَهُ آخَر، وَيَقَع الزَّوْج أَيْضًا عَلَى الصِّنْف، وَفُسِّرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَة} وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا الْحَدِيث فِي جَمِيع أَعْمَال الْبِرّ مِنْ صَلَاتَيْنِ أَوْ صِيَام يَوْمَيْنِ، وَالْمَطْلُوب تَشْفِيع صَدَقَة بِأُخْرَى، وَالتَّنْبِيه عَلَى فَضْل الصَّدَقَة وَالنَّفَقَة فِي الطَّاعَة وَالِاسْتِكْثَار مِنْهَا. وَقَوْله: «فِي سَبِيل اللَّه» قِيلَ: هُوَ عَلَى الْعُمُوم فِي جَمِيع وُجُوه الْخَيْر، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوص بِالْجِهَادِ، وَالْأَوَّل أَصَحّ وَأَظْهَر. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُودِيَ فِي الْجَنَّة: يَا عَبْد اللَّه هَذَا خَيْر» قِيلَ: مَعْنَاهُ: لَك هُنَا خَيْر وَثَوَاب وَغِبْطَة.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ هَذَا الْبَاب فِيمَا نَعْتَقِدهُ خَيْر لَك مِنْ غَيْره مِنْ الْأَبْوَاب لِكَثْرَةِ ثَوَابه وَنَعِيمه، فَتَعَالَ فَادْخُلْ مِنْهُ، ولابد مِنْ تَقْدِير مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كُلّ مُنَادٍ يَعْتَقِد ذَلِكَ الْبَاب أَفْضَل مِنْ غَيْره. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الصَّلَاة دُعِيَ مِنْ بَاب الصَّلَاة» وَذَكَرَ مِثْله فِي الصَّدَقَة وَالْجِهَاد وَالصِّيَام.
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ فِي عَمَله وَطَاعَته ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِب الصَّوْم: «دُعِيَ مِنْ بَاب الرَّيَّان» قَالَ الْعُلَمَاء: سُمِّيَ بَاب الرَّيَّان تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَطْشَان بِالصَّوْمِ فِي الْهَوَاجِر سَيُرْوَى وَعَاقِبَتُهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الرِّيِّ.
1706- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعَاهُ خَزَنَة الْجَنَّة كُلّ خَزَنَة بَاب أَيْ فُلُ هَلُمَّ» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ أَيْ (فُلُ) بِضَمِّ اللَّام وَهُوَ الْمَشْهُور، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي وَآخَرُونَ غَيْره، وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ بِإِسْكَانِ اللَّام، وَالْأَوَّل أَصْوَب، قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ (أَيْ فُلَان) فَرُخِّمَ وَنُقِلَ إِعْرَاب الْكَلِمَة عَلَى إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ فِي التَّرْخِيم، قَالَ: وَقِيلَ (فُلُ) لُغَة فِي فُلَان فِي غَيْر النِّدَاء وَالتَّرْخِيم.
قَوْله: (لَا تَوًى عَلَيْهِ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة فَوْق مَقْصُور، أَيْ: هَلَاك.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُون مِنْهُمْ» فيه: مَنْقَبَة لِأَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَفيه: جَوَاز الثَّنَاء عَلَى الْإِنْسَان فِي وَجْهه إِذَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ فِتْنَة بِإِعْجَابٍ وَغَيْره. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ بَاب كَذَا وَمِنْ بَاب كَذَا» فَذَكَرَ بَاب الصَّلَاة وَالصَّدَقَة وَالصِّيَام وَالْجِهَاد، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ جَاءَ ذِكْر بَقِيَّة أَبْوَاب الْجَنَّة الثَّمَانِيَة فِي حَدِيث آخَر فِي بَاب التَّوْبَة، وَبَاب الْكَاظِمِينَ الْغَيْظ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاس، وَبَاب الرَّاضِينَ، فَهَذِهِ سَبْعَة أَبْوَاب جَاءَتْ فِي الْأَحَادِيث، وَجَاءَ فِي حَدِيث السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة بِغَيْرِ حِسَاب. أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مِنْ الْبَاب الْأَيْمَن فَلَعَلَّهُ الْبَاب الثَّامِن.

.باب الْحَثِّ فِي الإِنْفَاقِ وَكَرَاهَةِ الإِحْصَاءِ:

1708- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْفِقِي وَانْفَحِي وَانْضَحِي» أَمَّا: «اِنْفَحِي» فَبِفَتْحِ الْفَاء وَبِحَاءٍ مُهْمَلَة وَأَمَّا: «اِنْضِحِي» فَبِكَسْرِ الضَّاد. وَمَعْنَى اِنْفَحِي وَانْضِحِي: أَعْطِي، وَالنَّفْح وَالنَّضْح: الْعَطَاء، وَيُطْلَق النَّضْح أَيْضًا عَلَى الصَّبّ فَلَعَلَّهُ الْمُرَاد هُنَا، وَيَكُون أَبْلَغ مِنْ النُّفُح.
1709- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِنْفَحِي وَانْضِحِي وَأَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِي اللَّه عَلَيْك وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّه عَلَيْك» مَعْنَاهُ: الْحَثّ عَلَى النَّفَقَة فِي الطَّاعَة، وَالنَّهْي عَنْ الْإِمْسَاك وَالْبُخْل وَعَنْ اِدِّخَار الْمَال فِي الْوِعَاء.
1710- قَوْله: عَنْ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر: «أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيّ اللَّه لَيْسَ لِي مِنْ شَيْء إِلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاح أَنْ أَرْضَخ مِمَّا يُدْخِل عَلَيَّ؟ فَقَالَ: اِرْضَخِي مَا اِسْتَطَعْت وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّه عَلَيْك» هَذَا مَحْمُول عَلَى مَا أَعْطَاهَا الزُّبَيْر لِنَفْسِهَا بِسَبَبِ نَفَقَة وَغَيْرهَا، أَوْ مِمَّا هُوَ مِلْك الزُّبَيْر، وَلَا يَكْرَه الصَّدَقَة مِنْهُ، بَلْ رَضِيَ بِهَا عَلَى عَادَة غَالِب النَّاس.
وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة قَرِيبًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِرْضَخِي مَا اِسْتَطَعْت» مَعْنَاهُ: مِمَّا يَرْضَى بِهِ الزُّبَيْر، وَتَقْدِيره: أَنَّ لَك فِي الرَّضْخ مَرَاتِبَ مُبَاحَةً بَعْضهَا فَوْق بَعْض، وَكُلّهَا يَرْضَاهَا الزُّبَيْر فَافْعَلِي أَعْلَاهَا، أَوْ يَكُون مَعْنَاهُ مَا اِسْتَطَعْت مِمَّا هُوَ مِلْك لَك.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّه عَلَيْك وَيُوعِيَ عَلَيْك» هُوَ مِنْ بَاب مُقَابَلَة اللَّفْظ بِاللَّفْظِ لِلتَّجْنِيسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه} وَمَعْنَاهُ: يَمْنَعك كَمَا مَنَعْت، وَيَقْتُر عَلَيْك كَمَا قَتَرْت، وَيُمْسِك فَضْله عَنْك كَمَا أَمْسَكْته.
وَقِيلَ: مَعْنَى لَا تُحْصِي: أَيْ لَا تَعُدِّيهِ فَتَسْتَكْثِرِيهِ فَيَكُون سَبَبًا لِانْقِطَاعِ إِنْفَاقِك.

.باب الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَلَوْ بِالْقَلِيلِ وَلاَ تُمْتَنَعُ مِنَ الْقَلِيلِ لاِحْتِقَارِهِ:

1711- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْقِرَنَّ جَارَة لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاة» قَالَ أَهْل اللُّغَة: هُوَ بِكَسْرِ الْفَاء وَالسِّين وَهُوَ الظِّلْف، قَالُوا: وَأَصْله فِي الْإِبِل، وَهُوَ فيها مِثْل الْقَدَم فِي الْإِنْسَان، قَالُوا: وَلَا يُقَال إِلَّا فِي الْإِبِل، وَمُرَادهمْ أَصْله مُخْتَصّ بِالْإِبِلِ، وَيُطْلَق عَلَى الْغَنَم اِسْتِعَارَة. وَهَذَا النَّهْي عَنْ الِاحْتِقَار نَهْي لِلْمُعْطِيَةِ الْمُهْدِيَة، وَمَعْنَاهُ: لَا تَمْتَنِع جَارَة مِنْ الصَّدَقَة وَالْهَدِيَّة لِجَارَتِهَا لِاسْتِقْلَالِهَا وَاحْتِقَارهَا الْمَوْجُود عِنْدهَا، بَلْ تَجُود بِمَا تَيَسَّرَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَفِرْسِنِ شَاة، وَهُوَ خَيْر مِنْ الْعَدَم، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاتَّقُوا النَّار وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَة» قَالَ الْقَاضِي: هَذَا التَّأْوِيل هُوَ الظَّاهِر، وَهُوَ تَأْوِيل مَالِك لِإِدْخَالِهِ هَذَا الْحَدِيث فِي بَاب التَّرْغِيب فِي الصَّدَقَة، قَالَ: وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون نَهْيًا لِلْمُعْطَاةِ عَنْ الِاحْتِقَار.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا نِسَاء الْمُسْلِمَات» ذَكَرَ الْقَاضِي فِي إِعْرَابه ثَلَاثَة أَوْجُه: أَصَحّهَا وَأَشْهَرُهَا نَصْب النِّسَاء وَجَرّ الْمُسْلِمَات عَلَى الْإِضَافَة، قَالَ الْبَاجِيّ: وَبِهَذَا رُوِّينَاهُ عَنْ جَمِيع شُيُوخنَا بِالْمَشْرِقِ، وَهُوَ مِنْ بَاب إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفْسه، وَالْمَوْصُوف إِلَى صِفَته، وَالْأَعَمّ إِلَى الْأَخَصّ كَمَسْجِدِ الْجَامِع، وَجَانِب الْغَرْبِيّ، وَلَدَار الْآخِرَة، وَهُوَ عِنْد الْكُوفِيِّينَ جَائِز عَلَى ظَاهِره، وَعِنْد الْبَصْرِيِّينَ يُقَدِّرُونَ فيه مَحْذُوفًا أَيْ مَسْجِد الْمَكَان الْجَامِع، وَجَانِب الْمَكَان الْغَرْبِيّ، وَلِدَار الْحَيَاة الْآخِرَة، وَتُقَدَّر هُنَا: يَا نِسَاء الْأَنْفُس الْمُسْلِمَات أَوْ الْجَمَاعَات الْمُؤْمِنَات وَقِيلَ: تَقْدِيره: يَا فَاضِلَات الْمُؤْمِنَات، كَمَا يُقَال: هَؤُلَاءِ رِجَال الْقَوْم أَيْ سَادَاتهمْ وَأَفَاضِلهمْ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: رَفْع النِّسَاء وَرَفْع الْمُسْلِمَات أَيْضًا عَلَى مَعْنَى النِّدَاء وَالصِّفَة أَيْ: يَا أَيّهَا النِّسَاء الْمُسْلِمَات، قَالَ الْبَاجِيّ: وَهَكَذَا يَرْوِيه أَهْل بَلَدِنَا.
وَالْوَجْه الثَّالِث: رَفْع نِسَاء وَكَسْر التَّاء مِنْ الْمُسْلِمَات، عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوب عَلَى أَنَّهُ الصِّفَة عَلَى الْمَوْضِع، كَمَا يُقَال: يَا زَيْد الْعَاقِل بِرَفْعِ زَيْد وَنَصْب الْعَاقِل. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فَضْلِ إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ:

1712- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَبْعَة يُظِلّهُمْ اللَّه فِي ظِلّه يَوْم لَا ظِلّ إِلَّا ظِلّه» قَالَ الْقَاضِي: إِضَافَة الظِّلّ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِضَافَة مِلْك، كُلّ ظِلّ فَهُوَ لِلَّهِ وَمِلْكه وَخَلْقه وَسُلْطَانه، وَالْمُرَاد هُنَا ظِلّ الْعَرْش كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث آخَر مُبَيَّنًا، وَالْمُرَاد يَوْم الْقِيَامَة إِذَا قَامَ النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَدَنَتْ مِنْهُمْ الشَّمْس وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ حَرُّهَا، وَأَخَذَهُمْ الْعَرَق، وَلَا ظِلّ هُنَاكَ لِشَيْءٍ إِلَّا لِلْعَرْشِ، وَقَدْ يُرَاد بِهِ هُنَا ظِلّ الْجَنَّة وَهُوَ نَعِيمهَا وَالْكَوْن فيها كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ اِبْن دِينَار: الْمُرَاد بِالظِّلِّ هُنَا الْكَرَامَة وَالْكَنَف وَالْكَفّ مِنْ الْمَكَارِه فِي ذَلِكَ الْمَوْقِف، قَالَ: وَلَيْسَ الْمُرَاد ظِلّ الشَّمْس، قَالَ الْقَاضِي: وَمَا قَالَهُ مَعْلُوم فِي اللِّسَان، يُقَال: فُلَان فِي ظِلّ فُلَان أَيْ فِي كَنَفه وَحِمَايَته، قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى بِالْأَقْوَالِ، وَتَكُون إِضَافَته إِلَى الْعَرْش؛ لِأَنَّهُ مَكَان التَّقْرِيب وَالْكَرَامَة، وَإِلَّا فَالشَّمْس وَسَائِر الْعَالَم تَحْت الْعَرْش، وَفِي ظِلّه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِمَام الْعَادِل» قَالَ الْقَاضِي: هُوَ كُلّ مَنْ إِلَيْهِ نَظَرٌ فِي شَيْء مِنْ مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْوُلَاة وَالْحُكَّام، وَبَدَأَ بِهِ لِكَثْرَةِ مَصَالِحه وَعُمُوم نَفْعِهِ. وَوَقَعَ فِي أَكْثَر النُّسَخ: «الْإِمَام الْعَادِل» وَفِي بَعْضهَا: «الْإِمَام الْعَدْل» وَهُمَا صَحِيحَانِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَشَابّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّه» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّه» وَالْمَشْهُور فِي رِوَايَات هَذَا الْحَدِيث: «نَشَأَ فِي عِبَادَة اللَّه» وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَمَعْنَى رِوَايَة الْبَاء: نَشَأَ مُتَلَبِّسًا لِلْعِبَادَةِ أَوْ مُصَاحِبًا لَهَا أَوْ مُلْتَصِقًا بِهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُل قَلْبه مُعَلَّق فِي الْمَسَاجِد» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ كُلّهَا: «فِي الْمَسَاجِد» وَفِي غَيْر هَذِهِ الرِوَايَة: «بِالْمَسَاجِدِ» وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة فِي أَكْثَر النُّسَخ: «مُعَلَّق فِي الْمَسَاجِد» وَفِي بَعْضهَا: «مُتَعَلِّق» بِالتَّاءِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَمَعْنَاهُ: شَدِيد الْحُبّ لَهَا وَالْمُلَازَمَة لِلْجَمَاعَةِ فيها، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: دَوَام الْقُعُود فِي الْمَسْجِد.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّه اِجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» مَعْنَاهُ: اِجْتَمَعَا عَلَى حُبّ اللَّه وَافْتَرَقَا عَلَى حُبّ اللَّه، أَيْ كَانَ سَبَبُ اِجْتِمَاعهمَا حُبَّ اللَّه، وَاسْتَمَرَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَفَرَّقَا مِنْ مَجْلِسهمَا وَهُمَا صَادِقَانِ فِي حُبّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا صَاحِبه لِلَّهِ تَعَالَى حَالَ اِجْتِمَاعهمَا وَافْتِرَاقهمَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الْحَثّ عَلَى التَّحَابّ فِي اللَّه وَبَيَان عِظَم فَضْله وَهُوَ مِنْ الْمُهِمَّات، فَإِنَّ الْحُبّ فِي اللَّه وَالْبُغْض فِي اللَّه مِنْ الْإِيمَان، وَهُوَ بِحَمْدِ اللَّه كَثِير يُوَفَّق لَهُ أَكْثَر النَّاس أَوْ مَنْ وُفِّقَ لَهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُل دَعَتْهُ اِمْرَأَة ذَات مَنْصِب وَجَمَال فَقَالَ: إِنِّي أَخَاف اللَّه» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل قَوْله: «أَخَاف اللَّه» بِاللِّسَانِ، وَيَحْتَمِل قَوْله فِي قَلْبه لِيَزْجُرَ نَفْسَهُ، وَخَصَّ ذَات الْمَنْصِب وَالْجَمَال لِكَثْرَةِ الرَّغْبَة فيها وَعُسْر حُصُولهَا، وَهِيَ جَامِعَة لِلْمَنْصِبِ وَالْجَمَال لاسيما وَهِيَ دَاعِيَة إِلَى نَفْسهَا، طَالِبَة لِذَلِكَ قَدْ أَغْنَتْ عَنْ مَشَاقّ التَّوَصُّل إِلَى مُرَاوَدَة وَنَحْوهَا، فَالصَّبْر عَنْهَا لِخَوْفِ اللَّه تَعَالَى- وَقَدْ دَعَتْ إِلَى نَفْسهَا مَعَ جَمْعِهَا الْمَنْصِبَ وَالْجَمَالَ- مِنْ أَكْمَلَ الْمَرَاتِب وَأَعْظَم الطَّاعَات، فَرَتَّبَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يُظِلَّهُ فِي ظِلِّهِ، وَذَات الْمَنْصِب، هِيَ: ذَات الْحَسَب وَالنَّسَب الشَّرِيف. وَمَعْنَى: «دَعَتْهُ» أَيْ دَعَتْهُ إِلَى الزِّنَا بِهَا، هَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي مَعْنَاهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فيه اِحْتِمَالَيْنِ أَصَحّهمَا هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّهَا دَعَتْهُ لِنِكَاحِهَا فَخَافَ الْعَجْز عَنْ الْقِيَام بِحَقِّهَا أَوْ أَنَّ الْخَوْف مِنْ اللَّه تَعَالَى شَغْله عَنْ لِذَاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُل تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَم يَمِينه مَا تُنْفِق شِمَاله» هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم فِي بِلَادنَا وَغَيْرهَا، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيع رِوَايَات نُسَخ مُسْلِم: «لَا تَعْلَم يَمِينه مَا تُنْفِق شِمَاله» وَالصَّحِيح الْمَعْرُوف: «حَتَّى لَا تَعْلَم شِمَاله مَا تُنْفِق يَمِينه» هَكَذَا رَوَاهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّإِ وَالْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَئِمَّة وَهُوَ وَجْه الْكَلَام؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوف فِي النَّفَقَة فِعْلهَا بِالْيَمِينِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَيُشْبِه أَنْ يَكُون الْوَهْم فيها مِنْ النَّاقِلِينَ عَنْ مُسْلِم لَا مِنْ مُسْلِم بِدَلِيلِ إِدْخَاله بَعْده حَدِيث مَالِك رَحِمَهُ اللَّه وَقَالَ بِمِثْلِ حَدِيث عُبَيْد، وَبَيَّنَ الْخِلَاف فِي قَوْله: «وَقَالَ: رَجُل مُعَلَّق بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُود» فَلَوْ كَانَ مَا رَوَاهُ مُخَالِفًا لِرِوَايَةِ مَالِك لَنَبَّهَ عَلَيْهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَى هَذَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَضْل صَدَقَة السِّرّ، قَالَ الْعُلَمَاء: وَهَذَا فِي صَدَقَة التَّطَوُّع فَالسِّرّ فيها أَفْضَل؛ لِأَنَّهُ أَقْرَب إِلَى الْإِخْلَاص وَأَبْعَد مِنْ الرِّيَاء.
وَأَمَّا الزَّكَاة الْوَاجِبَة فَإِعْلَانهَا أَفْضَل، وَهَكَذَا حُكْم الصَّلَاة فَإِعْلَان فَرَائِضهَا أَفْضَل، وَإِسْرَار نَوَافِلهَا أَفْضَل؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيْته إِلَّا الْمَكْتُوبَة» قَالَ الْعُلَمَاء: وَذَكَرَ الْيَمِين وَالشِّمَال مُبَالَغَة فِي الْإِخْفَاء وَالِاسْتِتَار بِالصَّدَقَةِ، وَضَرَبَ الْمَثَل بِهِمَا لِقُرْبِ الْيَمِين مِنْ الشِّمَال وَمُلَازَمَتهَا لَهَا، وَمَعْنَاهُ: لَوْ قَدَّرْت الشِّمَال رَجُلًا مُتَيَقِّظًا لَمَا عَلِمَ صَدَقَة الْيَمِين لِمُبَالَغَتِهِ فِي الْإِخْفَاء. وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ بَعْضهمْ أَنَّ الْمُرَاد مَنْ عَنْ يَمِينه وَشِمَاله مِنْ النَّاس، وَالصَّوَاب الْأَوَّل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُل ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» فيه فَضِيلَة الْبُكَاء مِنْ خَشْيَة اللَّه تَعَالَى، وَفَضْل طَاعَة السِّرّ لِكَمَالِ الْإِخْلَاص فيها.

.باب بَيَانِ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ صَدَقَةُ الصَّحِيحِ الشَّحِيحِ:

1713- قَوْله: «يَا رَسُول اللَّه أَيّ الصَّدَقَة أَعْظَم؟ فَقَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح تَخْشَى الْفَقْر وَتَأْمُل الْغِنَى، وَلَا تُمْهِل حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُوم قُلْت لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا أَلَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الشُّحّ أَعَمّ مِنْ الْبُخْل، وَكَأَنَّ الشُّحّ جِنْس وَالْبُخْل نَوْع، وَأَكْثَر مَا يُقَال الْبُخْل فِي أَفْرَاد الْأُمُور، وَالشُّحّ عَامّ كَالْوَصْفِ اللَّازِم وَمَا هُوَ مِنْ قِبَل الطَّبْع قَالَ: فَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الشُّحّ غَالِب فِي حَال الصِّحَّة، فَإِذَا شَحّ فيها وَتَصَدَّقَ كَانَ أَصْدَقَ فِي نِيَّته وَأَعْظَم لِأَجْرِهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْت وَآيَسَ مِنْ الْحَيَاة وَرَأَى مَصِير الْمَال لِغَيْرِهِ فَإِنَّ صَدَقَته حِينَئِذٍ نَاقِصَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَة الصِّحَّة، وَالشُّحّ رَجَاء الْبَقَاء وَخَوْف الْفَقْر. «وَتَأْمُل الْغِنَى». بِضَمِّ الْمِيم أَيْ تَطْمَع بِهِ. وَمَعْنَى: «بَلَغَتْ الْحُلْقُوم»: بَلَغَتْ الرُّوح، وَالْمُرَاد قَارَبَتْ بُلُوغ الْحُلْقُوم إِذْ لَوْ بَلَغَتْهُ حَقِيقَةً لَمْ تَصِحّ وَصِيَّته وَلَا صَدَقَته وَلَا شَيْء مِنْ تَصَرُّفَاته بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاء.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا أَلَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِهِ الْوَارِث، وَقَالَ غَيْره: الْمُرَاد بِهِ سَبَقَ الْقَضَاء بِهِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ تَصَرُّفه وَكَمَال مِلْكِهِ وَاسْتِقْلَاله بِمَا شَاءَ مِنْ التَّصَرُّف فَلَيْسَ لَهُ فِي وَصِيَّته كَبِير ثَوَاب بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَدَقَة الصَّحِيح الشَّحِيح.
1714- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا وَأَبِيك لَتُنَبَّأَنَّهُ» قَدْ يُقَال: حَلَفَ بِأَبِيهِ وَقَدْ نَهَى عَنْ الْحَلِف بِغَيْرِ اللَّه وَعَنْ الْحَلِف بِالْآبَاءِ، وَالْجَوَاب: أَنَّ النَّهْي عَنْ الْيَمِين بِغَيْرِ اللَّه لِمَنْ تَعَمَّدَهُ، وَهَذِهِ اللَّفْظَة الْوَاقِعَة فِي الْحَدِيث تَجْرِي عَلَى اللِّسَان مِنْ غَيْر تَعَمُّد فَلَا تَكُون يَمِينًا وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهَا، كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الْإِيمَان.

.باب بَيَانِ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَأَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَأَنَّ السُّفْلَى هِيَ الآخِذَةُ:

1715- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَقَة: «الْيَد الْعُلْيَا خَيْر مِنْ الْيَد السُّفْلَى وَالْيَد الْعُلْيَا الْمُنْفِقَة وَالسُّفْلَى السَّائِلَة» هَكَذَا وَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم: «الْعُلْيَا الْمُنْفِقَة» مِنْ الْإِنْفَاق، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَكْثَر الرُّوَاة، قَالَ: وَرَوَاهُ عَبْد الْوَارِث عَنْ أَيُّوب عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر: «الْعُلْيَا الْمُتَعَفِّفَة» بِالْعَيْنِ مِنْ الْعِفَّة، وَرَجَّحَ الْخَطَّابِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَة.
قَالَ: لِأَنَّ السِّيَاق فِي ذِكْر الْمَسْأَلَة وَالتَّعَفُّف عَنْهَا، وَالصَّحِيح الرِّوَايَة الْأُولَى، وَيَحْتَمِل صِحَّة الرِّوَايَتَيْنِ فَالْمُنْفِقَة أَعْلَى مِنْ السَّائِلَة، وَالْمُتَعَفِّفَة أَعْلَى مِنْ السَّائِلَة.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الْحَثّ عَلَى الْإِنْفَاق فِي وُجُوه الطَّاعَات.
وَفيه دَلِيل لِمَذْهَبِ الْجُمْهُور: أَنَّ الْيَد الْعُلْيَا الْمُنْفِقَة، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُتَعَفِّفَة كَمَا سَبَقَ، وَقَالَ غَيْره: الْعُلْيَا الْآخِذَة، وَالسُّفْلَى الْمَانِعَة. حَكَاهُ الْقَاضِي. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَالْمُرَاد بِالْعُلُوِّ: عُلُوّ الْفَضْل وَالْمَجْد وَنَيْل الثَّوَاب.
1716- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَخَيْر الصَّدَقَة عَنْ ظَهْر غِنًى» مَعْنَاهُ: أَفْضَل الصَّدَقَة مَا بَقِيَ صَاحِبهَا بَعْدهَا مُسْتَغْنِيًا بِمَا بَقِيَ مَعَهُ، وَتَقْدِيره: أَفْضَل الصَّدَقَة مَا أَبْقَتْ بَعْدهَا غِنًى يَعْتَمِدُهُ صَاحِبهَا وَيَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى مَصَالِحه وَحَوَائِجه، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ أَفْضَل الصَّدَقَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَاله؛ لِأَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ يَنْدَم غَالِبًا أَوْ قَدْ يَنْدَم إِذَا اِحْتَاجَ، وَيَوَدّ أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّق، بِخِلَافِ مَنْ بَقِيَ بَعْدهَا مُسْتَغْنِيًا فَإِنَّهُ لَا يَنْدَم عَلَيْهَا، بَلْ يُسَرُّ بِهَا.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الصَّدَقَة بِجَمِيعِ مَاله، فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ مُسْتَحَبّ لِمَنْ لَا دَيْن عَلَيْهِ وَلَا لَهُ عِيَال لَا يَصْبِرُونَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُون مِمَّنْ يَصْبِر عَلَى الْإِضَافَة وَالْفَقْر، فَإِنْ لَمْ تَجْتَمِع هَذِهِ الشُّرُوط فَهُوَ مَكْرُوه، قَالَ الْقَاضِي: جَوَّزَ جُمْهُور الْعُلَمَاء وَأَئِمَّة الْأَمْصَار الصَّدَقَة بِجَمِيعِ مَاله، وَقِيلَ: يَرُدّ جَمِيعهَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَقِيلَ: يَنْفُذ فِي الثُّلُث هُوَ مَذْهَب أَهْل الشَّام، وَقِيلَ: إِنْ زَادَ عَلَى النِّصْف رُدَّتْ الزِّيَادَة، وَهُوَ مَحْكِيّ عَنْ مَكْحُول.
قَالَ أَبُو جَعْفَر وَالطَّبَرِيّ: وَمَعَ جَوَازه فَالْمُسْتَحَبّ أَلَّا يَفْعَلهُ وَأَنْ يَقْتَصِر عَلَى الثُّلُث.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُول» فيه تَقْدِيم نَفَقَة نَفْسه وَعِيَاله؛ لِأَنَّهَا مُنْحَصِرَة فيه بِخِلَافِ نَفَقَة غَيْرهمْ.
وَفيه الِابْتِدَاء بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمّ فِي الْأُمُور الشَّرْعِيَّة.
1717- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْمَال خَضِرَة حُلْوَة» شَبَّهَهُ فِي الرَّغْبَة فيه وَالْمَيْل إِلَيْهِ وَحِرْص النُّفُوس عَلَيْهِ بِالْفَاكِهَةِ الْخَضْرَاء الْحُلْوَة الْمُسْتَلَذَّة، فَإِنَّ الْأَخْضَر مَرْغُوب فيه عَلَى اِنْفِرَاده، وَالْحُلْو كَذَلِكَ عَلَى اِنْفِرَاده فَاجْتِمَاعُهُمَا أَشَدّ.
وَفيه إِشَارَة إِلَى عَدَم بَقَائِهِ؛ لِأَنَّ الْخَضْرَاوَات لَا تَبْقَى وَلَا تُرَاد لِلْبَقَاءِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْس بُورِكَ لَهُ فيه، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْس لَمْ يُبَارَك لَهُ فيه، وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُل وَلَا يَشْبَع» قَالَ الْعُلَمَاء: إِشْرَاف النَّفْس تَطَلُّعُهَا إِلَيْهِ وَتَعَرُّضُهَا لَهُ وَطَمَعُهَا فيه.
وَأَمَّا طِيب النَّفْس فَذَكَرَ الْقَاضِي فيه اِحْتِمَالَيْنِ أَظْهَرهُمَا: أَنَّهُ عَائِد عَلَى الْآخِذ، وَمَعْنَاهُ: مَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ سُؤَال وَلَا إِشْرَاف وَتَطَلُّعٍ بُورِكَ لَهُ فيه.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِد إِلَى الدَّافِع، وَمَعْنَاهُ: مَنْ أَخَذَهُ مِمَّنْ يَدْفَع مُنْشَرِحًا بِدَفْعِهِ إِلَيْهِ طَيِّبَ النَّفْسِ لَا بِسُؤَالٍ اِضْطَرَّهُ إِلَيْهِ أَوْ نَحْوه مِمَّا لَا تَطِيب مَعَهُ نَفْس الدَّافِع.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَاَلَّذِي يَأْكُل وَلَا يَشْبَع» فَقِيلَ: هُوَ الَّذِي بِهِ دَاء لَا يَشْبَع بِسَبَبِهِ، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد التَّشْبِيه بِالْبَهِيمَةِ الرَّاعِيَة.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث- وَمَا قَبْله وَمَا بَعْده- الْحَثّ عَلَى التَّعَفُّف وَالْقَنَاعَة وَالرِّضَا بِمَا تَيَسَّرَ فِي عَفَاف وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَالْإِجْمَال فِي الْكَسْب، وَأَنَّهُ لَا يَغْتَرّ الْإِنْسَان بِكَثْرَةِ مَا يَحْصُل لَهُ بِإِشْرَافٍ وَنَحْوه فَإِنَّهُ لَا يُبَارَك لَهُ فيه، وَهُوَ قَرِيب مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}.
1718- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا اِبْن آدَم إِنَّك أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْل خَيْر لَك، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَك وَلَا تُلَام عَلَى كَفَاف» هُوَ بِفَتْحِ هَمْزَة (أَنْ) وَمَعْنَاهُ: إِنْ بَذَلْت الْفَاضِل عَنْ حَاجَتك وَحَاجَة عِيَالِك فَهُوَ خَيْر لَك لِبَقَاءِ ثَوَابه، وَإِنْ أَمْسَكْته فَهُوَ شَرّ لَك؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَمْسَكَ عَنْ الْوَاجِب اِسْتَحَقَّ الْعِقَاب عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ الْمَنْدُوب فَقَدْ نَقَصَ ثَوَابه، وَفَوَّتَ مَصْلَحَة نَفْسه فِي آخِرَته، وَهَذَا كُلّه شَرّ.
وَمَعْنَى: «لَا تُلَام عَلَى كَفَاف»: أَنَّ قَدْر الْحَاجَة لَا لَوْم عَلَى صَاحِبه، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَوَجَّه فِي الْكَفَاف حَقّ شَرْعِيّ كَمَنْ كَانَ لَهُ نِصَاب زَكَوِيّ وَوَجَبَتْ الزَّكَاة بِشُرُوطِهَا وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى ذَلِكَ النِّصَاب لِكَفَافِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاج الزَّكَاة، وَيُحَصِّل كِفَايَته مِنْ جِهَة مُبَاحَة. وَمَعْنَى: «اِبْدَأْ بِمَنْ تَعُول»: أَنَّ الْعِيَال وَالْقَرَابَة أَحَقّ مِنْ الْأَجَانِب، وَقَدْ سَبَقَ.

.(بَاب النَّهْي عَنْ الْمَسْأَلَة):

مَقْصُود الْبَاب وَأَحَادِيثه: النَّهْي عَنْ السُّؤَال، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَيْهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي مَسْأَلَة الْقَادِر عَلَى الْكَسْب عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا حَرَام؛ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيث.
وَالثَّانِي: حَلَال مَعَ الْكَرَاهَة بِثَلَاثِ شُرُوط: أَلَّا يُذِلَّ نَفْسه، وَلَا يُلِحَّ فِي السُّؤَال، وَلَا يُؤْذِيَ الْمَسْئُول، فَإِنْ فُقِدَ أَحَد هَذِهِ الشُّرُوط فَهِيَ حَرَام بِالِاتِّفَاقِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
1719- قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَامِر الْيَحْصُبِيّ) هُوَ أَحَد الْقُرَّاء السَّبْعَة، وَهُوَ بِضَمِّ الصَّاد وَفَتْحهَا. مَنْسُوب إِلَى بَنِي يَحْصُب.
قَوْله: (سَمِعْت مُعَاوِيَة يَقُول: إِيَّاكُمْ وَأَحَادِيثَ إِلَّا حَدِيثًا كَانَ فِي عَهْد عُمَر، فَإِنَّ عُمَر كَانَ يُخِيف النَّاس فِي اللَّه) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (وَأَحَادِيث) وَفِي بَعْضهَا (وَالْأَحَادِيث) وَهُمَا صَحِيحَانِ، وَمُرَاد مُعَاوِيَة: النَّهْي عَنْ الْإِكْثَار مِنْ الْأَحَادِيث بِغَيْرِ تَثَبُّت لِمَا شَاعَ فِي زَمَنه مِنْ التَّحَدُّث عَنْ أَهْل الْكِتَاب وَمَا وُجِدَ فِي كُتُبِهِمْ حِين فُتِحَتْ بُلْدَانُهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ فِي الْأَحَادِيث إِلَى مَا كَانَ فِي زَمَن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِضَبْطِهِ الْأَمْر وَشِدَّته فيه وَخَوْف النَّاس مِنْ سَطْوَته، وَمَنْعِهِ النَّاسَ مِنْ الْمُسَارَعَة إِلَى الْأَحَادِيث، وَطَلَبِهِ الشَّهَادَةَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى اِسْتَقَرَّتْ الْأَحَادِيث وَاشْتُهِرَتْ السُّنَن.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدْ اللَّه بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» فيه: فَضِيلَة الْعِلْم وَالتَّفَقُّه فِي الدِّين وَالْحَثّ عَلَيْهِ، وَسَبَبه أَنَّهُ قَائِد إِلَى تَقْوَى اللَّه تَعَالَى.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّه» مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُعْطِي حَقِيقَةً هُوَ اللَّه تَعَالَى وَلَسْت أَنَا مُعْطِيًا، وَإِنَّمَا أَنَا خَازِن عَلَى مَا عِنْدِي، ثُمَّ أَقْسِم مَا أُمِرْت بِقِسْمَتِهِ عَلَى حَسَب مَا أُمِرْت بِهِ، فَالْأُمُور كُلّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى وَتَقْدِيره وَالْإِنْسَان مُصَرَّف مَرْبُوب.
1720- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَة» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض الْأُصُول: «فِي الْمَسْأَلَة» بِالْفَاءِ وَفِي بَعْضهَا (بِالْبَاءِ) وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَالْإِلْحَاف: الْإِلْحَاح.

.باب الْمِسْكِينِ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ:

1722- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمِسْكِين هَذَا الطَّوَّاف» إِلَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمِسْكَيْنِ: «الَّذِي لَا يَجِد غِنًى يُغْنِيه» إِلَى آخِره، مَعْنَاهُ: الْمِسْكِين الْكَامِل الْمَسْكَنَة الَّذِي هُوَ أَحَقّ بِالصَّدَقَةِ وَأَحْوَج إِلَيْهَا لَيْسَ هُوَ هَذَا الطَّوَّاف، بَلْ هُوَ الَّذِي لَا يَجِد غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ وَلَا يَسْأَل النَّاس. وَلَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيَ أَصْل الْمَسْكَنَة عَنْ الطَّوَاف، بَلْ مَعْنَاهُ نَفْي كَمَال الْمَسْكَنَة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إِلَى آخِر الْآيَة.
قَوْله: «قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ؟» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول كُلّهَا: «فَمَا الْمِسْكِينُ» وَهُوَ صَحِيح؛ لِأَنَّ (مَا) تَأْتِي كَثِيرًا لِصِفَاتِ مَنْ يَعْقِل كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاء}.

.باب كَرَاهَةِ الْمَسْأَلَةِ لِلنَّاسِ:

1724- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَال الْمَسْأَلَة بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّه وَلَيْسَ فِي وَجْهه مُزْعَة لَحْم» بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الزَّاي أَيْ قِطْعَة، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: مَعْنَاهُ: يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة ذَلِيلًا سَاقِطًا لَا وَجْه لَهُ عِنْد اللَّه.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِره فَيُحْشَر وَوَجْهه عَظْمٌ لَا لَحْمَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً لَهُ، وَعَلَامَةً لَهُ بِذَنْبِهِ حِين طَلَبَ وَسَأَلَ بِوَجْهِهِ، كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيث الْأُخَر بِالْعُقُوبَاتِ فِي الْأَعْضَاء الَّتِي كَانَتْ بِهَا الْمَعَاصِي، وَهَذَا فِيمَنْ سَأَلَ لِغَيْرِ ضَرُورَة سُؤَالًا مَنْهِيًّا عَنْهُ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى. «مَنْ سَأَلَ تَكَثُّرًا». وَاَللَّه أَعْلَم.
1726- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاس أَمْوَالهمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَل جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُعَاقَب بِالنَّارِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِره. وَأَنَّ الَّذِي يَأْخُذهُ يَصِير جَمْرًا يُكْوَى بِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي مَانِع الزَّكَاة.
1727- قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدكُمْ فَيَحْطِب عَلَى ظَهْره فَيَتَصَدَّق بِهِ وَيَسْتَغْنِي بِهِ مِنْ النَّاس خَيْر مِنْ أَنْ يَسْأَل رَجُلًا» فيه: الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة، وَالْأَكْل مِنْ عَمَل يَده، وَالِاكْتِسَاب بِالْمُبَاحَاتِ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيش النَّابِتَيْنِ فِي مَوَات، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُول: «فَيَحْطِب» بِغَيْرِ تَاء بَيْن الْحَاء وَالطَّاء فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ صَحِيح. وَهَكَذَا أَيْضًا فِي النُّسَخ: «وَيُسْتَغْنَى بِهِ مِنْ النَّاس» بِالْمِيمِ وَفِي نَادِر مِنْهَا: «عَنْ النَّاس» بِالْعَيْنِ،وَكِلَاهُمَا صَحِيح. وَالْأَوَّل مَحْمُول عَلَى الثَّانِي.
1729- قَوْله: (عَنْ أَبِي إِدْرِيس الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي مُسْلِم الْخَوْلَانِيِّ) اِسْم أَبِي إِدْرِيس (عَائِذ اللَّه بْن عَبْد اللَّه) وَاسْم أَبِي مُسْلِم: عَبْد اللَّه بْن ثُوَبٍ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَة وَفَتْح الْوَاو وَبَعْدهَا مُوَحَّدَة، وَيُقَال: (اِبْن ثَوَابٍ) بِفَتْحِ الثَّاء وَتَخْفِيف الْوَاو، وَيُقَال: (اِبْن أَثْوَب) وَيُقَال: (اِبْن عَبْد اللَّه)، وَيُقَال (اِبْن عَوْف)، وَيُقَال: (اِبْن مُسْلِم)، وَيُقَال: اِسْمه يَعْقُوب بْن عَوْف، وَهُوَ مَشْهُور بِالزُّهْدِ وَالْكَرَامَات الظَّاهِرَة وَالْمَحَاسِن الْبَاهِرَة، أَسْلَمَ فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَلْقَاهُ الْأَسْوَد الْعَنْسِيّ فِي النَّار فَلَمْ يَحْتَرِق، فَتَرَكَهُ فَجَاءَ مُهَاجِرًا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتُوُفِّيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الطَّرِيق، فَجَاءَ إِلَى الْمَدِينَة فَلَقِيَ أَبَا بَكْر الصِّدِّيق وَعُمَر وَغَيْرهمَا مِنْ كِبَار الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَعْرُوف، وَلَا خِلَاف فيه بَيْن الْعُلَمَاء.
وَأَمَّا قَوْل السَّمْعَانِي فِي الْأَنْسَاب: إِنَّهُ أَسْلَمَ فِي زَمَن مُعَاوِيَة، فَغَلَطٌ بِاتِّفَاقِ أَهْل الْعِلْم مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَأَصْحَاب التَّوَارِيخ وَالْمَغَازِي وَالسِّيَروَغَيْرهمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَلَقَدْ رَأَيْت أُولَئِكَ النَّفَر يَسْقُط سَوْط أَحَدهمْ فَمَا يَسْأَل أَحَدًا يُنَاوِلهُ إِيَّاهُ) فيه: التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ، لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ السُّؤَال فَحَمَلُوهُ عَلَى عُمُومه، وَفيه: الْحَثّ عَلَى التَّنْزِيه عَنْ جَمِيع مَا يُسَمَّى سُؤَالًا وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب مَنْ تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ:

1730- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَنْ هَارُون بْن رِيَاب) هُوَ بِكَسْرِ الرَّاء وَبِمُثَنَّاةٍ تَحْتُ ثُمَّ أَلِفٍ مُوَحَّدَةٍ.
قَوْله: «تَحَمَّلْت حَمَالَةَ» هِيَ بِفَتْحِ الْحَاء، وَهِيَ الْمَال الَّذِي يَتَحَمَّلهُ الْإِنْسَان أَيْ يَسْتَدِينُهُ وَيَدْفَعهُ فِي إِصْلَاح ذَات الْبَيْن كَالْإِصْلَاحِ بَيْن قَبِيلَتَيْنِ وَنَحْو ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَحِلّ لَهُ الْمَسْأَلَة، وَيُعْطَى مِنْ الزَّكَاة بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَدِينَ لِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى تُصِيب قِوَامًا مِنْ عَيْش» أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْش (الْقِوَام وَالسِّدَاد) بِكَسْرِ الْقَاف وَالسِّين وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يُغْنِي مِنْ الشَّيْء وَمَا تُسَدُّ بِهِ الْحَاجَة، وَكُلّ شَيْء سَدَدْت بِهِ شَيْئًا فَهُو: (سِدَاد) بِالْكَسْرِ، وَمِنْهُ: سِدَاد الثَّغْر وَالْقَارُورَة. وَقَوْلهمْ: (سِدَادٌ مِنْ عَوَزٍ).
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى يَقُوم ثَلَاثَة مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمه: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَة» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «يَقُوم ثَلَاثَة» وَهُوَ صَحِيح أَيْ يَقُومُونَ بِهَذَا الْأَمْر فَيَقُولُونَ: لَقَدْ أَصَابَتْهُ فَاقَة: «وَالْحِجَا» مَقْصُور وَهُوَ الْعَقْل، وَإِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ قَوْمه» لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْخِبْرَة بِبَاطِنِهِ، وَالْمَال مِمَّا يَخْفَى فِي الْعَادَة فَلَا يَعْلَمهُ إِلَّا مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِصَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الْحِجَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَط فِي الشَّاهِد التَّيَقُّظ فَلَا تُقْبَل مِنْ مُغَفَّلٍ، وَأَمَّا اِشْتِرَاط الثَّلَاثَة فَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: هُوَ شَرْط فِي بَيِّنَة الْإِعْسَار فَلَا يُقْبَل إِلَّا مِنْ ثَلَاثَة؛ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث، وَقَالَ الْجُمْهُور: يُقْبَل مِنْ عَدْلَيْنِ كَسَائِرِ الشَّهَادَات غَيْر الزِّنَا، وَحَمَلُوا الْحَدِيث عَلَى الِاسْتِحْبَاب، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ فَلَا يُقْبَل قَوْله فِي تَلَفِهِ وَالْإِعْسَار إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعْرَف لَهُ مَال فَالْقَوْل قَوْله فِي عَدَم الْمَال.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَة يَا قَبِيصَة سُحْتًا» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «سُحْتًا». وَرِوَايَة غَيْر مُسْلِم: «سُحْت» وَهَذَا وَاضِح، وَرِوَايَة مُسْلِم صَحِيحَة، وَفيه إِضْمَار أَيْ: أَعْتَقَدَهُ سُحْتًا، أَوْ يُؤْكَل سُحْتًا.