فصل: باب غَزْوَةِ بَدْرٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ:

حُنَيْن وَادٍ بَيْن مَكَّة وَالطَّائِف وَرَاء عَرَفَات، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّة بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلًا، وَهُوَ مَصْرُوف كَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن الْعَزِيز.
3324- قَوْله: قَالَ عَبَّاس: «شَهِدْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم حُنَيْنٍ، فَلَزِمْت أَنَا وَأَبُو سُفْيَان بْن الْحَارِث بْن عَبْد الْمُطَّلِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ نُفَارِقهُ»، أَبُو سُفْيَان هَذَا هُوَ اِبْن عَمّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: اِسْمه هُوَ كُنْيَته، وَقَالَ آخَرُونَ: اِسْمه الْمُغِيرَة، وَمِمَّنْ قَالَهُ هِشَام بْن الْكَلْبِيّ، وَإِبْرَاهِيم بْن الْمُنْذِر، وَالزُّبَيْر بْن بَكَّارٍ وَغَيْرهمْ، وَفِي هَذَا عَطْف الْأَقَارِب بَعْضهمْ عَلَى بَعْض عِنْد الشَّدَائِد، وَذَبّ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض.
قَوْله: «وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَة لَهُ بَيْضَاء أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَة بْن نُفَاثَة الْجُذَامِيُّ» أَمَّا قَوْله: (بَغْلَة بَيْضَاء) فَكَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة، وَرِوَايَة أُخْرَى بَعْدهَا: (إِنَّهَا بَغْلَة بَيْضَاء) وَقَالَ فِي آخِر الْبَاب: (عَلَى بَغْلَته الشَّهْبَاء) وَهِيَ وَاحِدَة، قَالَ الْعُلَمَاء: لَا يُعْرَف لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَة سِوَاهَا، وَهِيَ الَّتِي يُقَال لَهَا: (دُلْدُل) وَأَمَّا قَوْله: (أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَة بْن نُفَاثَة) فَهُوَ بِنُونٍ مَضْمُومَة ثُمَّ فَاء ثُمَّ أَلِف ثُمَّ ثَاء مُثَلَّثَة، وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْدهَا رِوَايَة إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: (فَرْوَة بْن نَعَامَة) بِالْعَيْنِ وَالْمِيم وَالصَّحِيح الْمَعْرُوف الْأَوَّل، قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي إِسْلَامه فَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَسْلَمَ وَعَمَّرَ عُمْرًا طَوِيلًا، وَقَالَ غَيْرهمْ: لَمْ يُسْلِم، وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ أَنَّ الَّذِي أَهْدَاهَا لَهُ مَلِك أَيْلَةَ، وَاسْم مَلِك أَيْلَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق: (يَحْنَة بْنُ رَوْنَة)، وَاَللَّه أَعْلَم.
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي هَذَا الْحَدِيث قَبُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّة الْكَافِر، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «هَدَايَا الْعُمَّال غُلُول» مَعَ حَدِيث اِبْن اللُّتْبِيَّة: «عَامِل الصَّدَقَات»، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «أَنَّهُ رَدَّ بَعْض هَدَايَا الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ: إِنَّا لَا نَقْبَل زَبَد الْمُشْرِكِينَ» أَيْ رَفْدهمْ فَكَيْف يُجْمَع بَيْن هَذِهِ الْأَحَادِيث؟ قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء- رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ-: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيث نَاسِخَة لِقَبُولِ الْهَدِيَّة، قَالَ: وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا نَسْخ، بَلْ سَبَب الْقَبُول أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوص بِالْفَيْءِ الْحَاصِل بِلَا قِتَال، بِخِلَافِ غَيْره، فَقَبِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ طَمِعَ فِي إِسْلَامه وَتَأْلِيفه لِمَصْلَحَةٍ يَرْجُوهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَافَأَ بَعْضهمْ وَرَدَّ هَدِيَّة مَنْ لَمْ يَطْمَع فِي إِسْلَامه وَلَمْ يَكُنْ فِي قَبُولهَا مَصْلَحَة؛ لِأَنَّ الْهَدِيَّة تُوجِب الْمَحَبَّة وَالْمَوَدَّة، وَأَمَّا غَيْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعُمَّال وَالْوُلَاة فَلَا يَحِلّ لَهُ قَبُولهَا لِنَفْسِهِ عِنْد جُمْهُور الْعُلَمَاء، فَإِنْ قَبِلَهَا كَانَتْ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُهْدِهَا إِلَيْهِ إِلَّا لِكَوْنِهِ إِمَامهمْ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَوْم هُوَ مُحَاصِرهمْ، فَهِيَ غَنِيمَة، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا قَوْل الْأَوْزَاعِيِّ وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَابْن الْقَاسِم وَابْن حَبِيب وَحَكَاهُ اِبْن حَبِيب عَمَّنْ لَقِيَهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ لِلْإِمَامِ خَالِصَة بِهِ، قَالَ أَبُو يُوسُف وَأَشْهَب وَسَحْنُون.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا رَدَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَدَايَا الْمُشْرِكِينَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهُ فِي خَاصَّة نَفْسه، وَقِيلَ: مَا كَانَ خِلَاف ذَلِكَ مِمَّا فيه اِسْتِئْلَاف الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: وَلَا يَصِحّ قَوْل مَنْ اِدَّعَى النَّسْخَ، قَالَ: وَحُكْم الْأَئِمَّة بَعْدُ إِجْرَاؤُهَا مَجْرَى مَال الْكُفَّار مِنْ الْفَيْء أَوْ الْغَنِيمَة بِحَسَبِ اِخْتِلَاف الْحَال، وَهَذَا مَعْنَى: «هَدَايَا الْعُمَّال غُلُول» أَيْ إِذَا خَصُّوا بِهَا أَنْفُسهمْ؛ لِأَنَّهَا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحُكْمِ الْفَيْء وَالْغَنِيمَة، قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: إِنَّمَا قَبِل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَايَا كُفَّار أَهْل الْكِتَاب مِمَّنْ كَانَ عَلَى النَّصْرَانِيَّة كَالْمُقَوْقِسِ وَمُلُوك الشَّام فَلَا مُعَارَضَة بَيْنَهُ وَبَيْن قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقْبَل زَبَد الْمُشْرِكِينَ» وَقَدْ أُبِيحَ لَنَا ذَبَائِح أَهْل الْكِتَاب وَمُنَاكَحَتهمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَة الْأَوْثَان، هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي عِيَاض، وَقَالَ أَصْحَابنَا: مَتَى أَخَذَ الْقَاضِي أَوْ الْعَامِل هَدِيَّة مُحَرَّمَة لَزِمَهُ رَدّهَا إِلَى مُهْدِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلهَا فِي بَيْت الْمَال. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَة لَهُ بَيْضَاء» قَالَ الْعُلَمَاء: رُكُوبه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَغْلَة فِي مَوْطِن الْحَرْب وَعِنْد اِشْتِدَاد النَّاس هُوَ النِّهَايَة فِي الشَّجَاعَة وَالثَّبَات، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا يَكُون مُعْتَمَدًا يَرْجِع الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ وَتَطْمَئِنّ قُلُوبهمْ بِهِ وَبِمَكَانِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا عَمْدًا وَإِلَّا فَقَدْ كَانَتْ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَاس مَعْرُوفَة، وَمِمَّا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ شَجَاعَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَدُّمه يَرْكُض بَغْلَته إِلَى جَمْع الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ فَرَّ النَّاس عَنْهُ. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى الْأَرْض حِين غَشُّوهُ، وَهَذِهِ مُبَالَغَة فِي الثَّبَات وَالشَّجَاعَة وَالصَّبْر، وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ مُوَاسَاة لِمَنْ كَانَ نَازِلًا عَلَى الْأَرْض مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَتْ الصَّحَابَة- رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ- بِشُجَاعَتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيع الْمَوَاطِن، وَفِي صَحِيح مُسْلِم، قَالَ: إِنَّ الشُّجَاع مِنَّا الَّذِي يُحَاذِي بِهِ، وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَّقُونَ بِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْ عَبَّاس، نَادِ أَصْحَاب السَّمُرَة» هِيَ الشَّجَرَة الَّتِي بَايَعُوا تَحْتهَا بَيْعَة الرِّضْوَان، وَمَعْنَاهُ: نَادِ أَهْل بَيْعَة الرِّضْوَان يَوْم الْحُدَيْبِيَة.
قَوْله: «فَقَالَ عَبَّاس وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا» ذَكَرَ الْحَازِمِيُّ فِي الْمُؤْتَلِف أَنَّ الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَقِف عَلَى سَلْع فَيُنَادِي غِلْمَانه فِي آخِر اللَّيْل وَهُمْ فِي الْغَابَة فَيُسْمِعهُمْ، قَالَ: وَبَيْن سَلْعِ الْغَابَة ثَمَانِيَة أَمْيَال.
قَوْله: «فَوَاَللَّهِ لَكَأَنَ عَطَفْتهمْ حِين سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَة الْبَقَر عَلَى أَوْلَادهَا فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ» قَالَ الْعُلَمَاء: فِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ فِرَارهمْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُل الْفِرَار مِنْ جَمِيعهمْ، وَإِنَّمَا فَتَحَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ فِي قَلْبه مَرَض مِنْ مُسْلِمَة أَهْل مَكَّة الْمُؤَلَّفَة، وَمُشْرِكِيهَا الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَزِيمَتهمْ فَجْأَة لِانْصِبَابِهِمْ عَلَيْهِمْ دَفْعَة وَاحِدَة وَرَشْقهمْ بِالسِّهَامِ، وَلِاخْتِلَاطِ أَهْل مَكَّة مَعَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَقِرّ الْإِيمَان فِي قَلْبه، وَمِمَّنْ يَتَرَبَّص بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِر، وَفيهمْ نِسَاء وَصِبْيَان خَرَجُوا لِلْغَنِيمَةِ فَتَقَدَّمَ إِخْفَاؤُهُمْ فَلَمَّا رَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ وَلَّوْا فَانْقَلَبَتْ أُولَاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى سَكِينَته عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي الْقُرْآن.
قَوْله: «فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّار» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ، وَهُوَ بِنَصْبِ الْكُفَّار أَيْ مَعَ الْكُفَّار.
قَوْله: «وَالدَّعْوَة فِي الْأَنْصَار» هِيَ بِفَتْحِ الدَّال يَعْنِي الِاسْتِغَاثَة وَالْمُنَادَاة إِلَيْهِمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا حِين حَمِيَ الْوَطِيس» هُوَ بِفَتْحِ الْوَاو وَكَسْر الطَّاء الْمُهْمَلَة وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَة، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ شِبْه التَّنُّور يُسْجَر فيه، وَيُضْرَب مَثَلًا لِشِدَّةِ الْحَرْب الَّتِي يُشْبِه حَرّهَا حَرّه، وَقَدْ قَالَ آخَرُونَ: الْوَطِيس هُوَ التَّنُّور نَفْسه، وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: هِيَ حِجَارَة مُدَوَّرَة وَإِذَا حَمِيَتْ لَمْ يَقْدِر أَحَد يَطَأ عَلَيْهَا فَيُقَال: الْآن حَمِيَ الْوَطِيس، وَقِيلَ: هُوَ الضَّرْب فِي الْحَرْب، وَقِيلَ: هُوَ الْحَرْب الَّذِي يَطِيس النَّاس أَيْ يَدُقُّهُمْ، قَالُوا: وَهَذِهِ اللَّفْظَة مِنْ فَصِيح الْكَلَام وَبَدِيعه، الَّذِي لَمْ يُسْمَع مِنْ أَحَد قَبْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله: «فَرَمَاهُمْ بِالْحَصَيَاتِ ثُمَّ قَالَ: اِنْهَزَمُوا وَرَبّ مُحَمَّد فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْت أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا وَأَمْرهمْ مُدْبِرًا» هَذَا فيه مُعْجِزَتَانِ ظَاهِرَتَانِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِحْدَاهُمَا فِعْلِيَّة، وَالْأُخْرَى خَبَرِيَّة، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنِي بِهَزِيمَتِهِمْ، وَرَمَاهُمْ بِالْحَصَيَاتِ،. فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَذَكَرَ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فِي آخِر هَذَا الْبَاب أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَضَ قَبْضَة مِنْ تُرَاب مِنْ الْأَرْض ثُمَّ اِسْتَقْبَلَ بِهَا وُجُوههمْ فَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوه فَمَا خَلَقَ اللَّه مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَة، وَهَذَا أَيْضًا فيه مُعْجِزَتَانِ خَبَرِيَّة، وَفِعْلِيَّة، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَخَذَ قَبْضَة مِنْ حَصًى وَقَبْضَة مِنْ تُرَاب، فَرَمَى بِذَا مَرَّة، وَبِذَا مَرَّة، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَخَذَ قَبْضَة وَاحِدَة مَخْلُوطَة مِنْ حَصًى وَتُرَاب.
قَوْله: «فَمَا زِلْت أَرَى حَدّهمْ كَلِيلًا» هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة أَيْ مَا زِلْت أَرَى قُوَّتهمْ ضَعِيفَة.
3325- قَوْله: «قَالَ رَجُل لِلْبَرَاءِ: يَا أَبَا عُمَارَة فَرَرْتُمْ يَوْم حُنَيْنٍ. قَالَ: لَا وَاَللَّه مَا وَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّان أَصْحَابه وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلَاح» هَذَا الْجَوَاب الَّذِي أَجَابَ بِهِ الْبَرَاء رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ مِنْ بَدِيع الْأَدَب؛ لِأَنَّ تَقْدِير الْكَلَام فَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافَقَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْبَرَاء: لَا وَاَللَّه مَا فَرَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة جَرَى لَهُمْ كَذَا وَكَذَا.
وَأَمَّا قَوْله: (شُبَّان أَصْحَابه) فَهُوَ بِالشِّينِ وَآخِره نُون جَمْع شَابّ، وَقَوْله: (أَخِفَّاؤُهُمْ) جَمْع خَفِيف، وَهُمْ الْمُسَارِعُونَ الْمُسْتَعْجِلُونَ، وَوَقَعَ هَذَا الْحَرْف فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَالْهَرَوِيّ وَغَيْرهمْ (جَفَاء) بِجِيمٍ مَضْمُومَة وَبِالْمَدِّ وَفَسَّرَهُ بِسُرْعَانِهِمْ، قَالُوا: تَشْبِيهًا بِجَفَاءِ السَّيْل، وَهُوَ غُثَاؤُهُ، قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَة فَمَعْنَاهَا مَا سَبَقَ مِنْ خُرُوج مَنْ خَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْل مَكَّة وَمَنْ اِنْضَافَ إِلَيْهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَعِدُّوا، وَإِنَّمَا خَرَجَ لِلْغَنِيمَةِ مِنْ النِّسَاء وَالصِّبْيَان وَمَنْ فِي قَلْبه مَرَض فَشَبَّهَهُ بِغُثَاءِ السَّيْل.
وَأَمَّا قَوْله: (حُسَّرًا) هُوَ بِضَمِّ الْحَاء وَتَشْدِيد السِّين الْمَفْتُوحَة أَيْ بِغَيْرِ دُرُوع، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلَاح) الْحَاسِر: مَنْ لَا دِرْع عَلَيْهِ.
قَوْله: (فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَهُوَ مَصْدَر.
وَأَمَّا (الرِّشْق) بِالْكَسْرِ فَهُوَ اِسْم لِلسِّهَامِ الَّتِي تَرْمِيهَا الْجَمَاعَة دَفْعَة وَاحِدَة، وَضَبَطَ الْقَاضِي الرِّوَايَة هُنَا بِالْكَسْرِ، وَضَبَطَهُ غَيْره بِالْفَتْحِ، كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَهُوَ الْأَجْوَد، وَإِنْ كَانَا جَيِّدَيْنِ، وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ: (فَرَمَوْهُ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْل) فَهُوَ بِالْكَسْرِ لَا غَيْر، وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: رَشَقَهُ يَرْشُقهُ أَرْشَقَهُ ثُلَاثِيّ وَرُبَاعِيّ، وَالثُّلَاثِيّ أَشْهَر وَأَفْصَح.
قَوْله: «فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ» أَيْ دَعَا، فَفيه اِسْتِحْبَاب الدُّعَاء عِنْد قِيَام الْحَرْب.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا النَّبِيّ لَا كَذِب أَنَا اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَنْكَرَ بَعْض النَّاس كَوْن الرَّجَز شِعْرًا لِوُقُوعِهِ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {مَا عَلَّمْنَاهُ الشَّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وَهَذَا مَذْهَب الْأَخْفَش، وَاحْتُجَّ بِهِ عَلَى فَسَاد مَذْهَب الْخَلِيل فِي أَنَّهُ شِعْر، وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ الشِّعْر هُوَ مَا قُصِدَ إِلَيْهِ، وَاعْتَمَدَ الْإِنْسَان أَنْ يُوقِعَهُ مَوْزُونًا مُقَفًّى يَقْصِدهُ إِلَى الْقَافِيَّة، وَيَقَع فِي أَلْفَاظ الْعَامَّة كَثِير مِنْ الْأَلْفَاظ الْمَوْزُونَة، وَلَا يَقُول أَحَد إِنَّهَا شِعْر، وَلَا صَاحِبهَا شَاعِر، وَهَكَذَا الْجَوَاب عَمَّا فِي الْقُرْآن مِنْ الْمَوْزُون كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَقَوْله تَعَالَى: {نَصْر مِنْ اللَّه وَفَتْح قَرِيب} وَلَا شَكّ أَنَّ هَذَا لَا يُسَمِّيه أَحَد مِنْ الْعَرَب شِعْرًا، لِأَنَّهُ لَمْ تُقْصَد تَقْفِيَته وَجَعْله شِعْرًا.
قَالَ: وَقَدْ غَفَلَ بَعْض النَّاس عَنْ هَذَا الْقَوْل، فَأَوْقَعَهُ ذَلِكَ فِي أَنْ قَالَ الرِّوَايَة: «أَنَا النَّبِيّ لَا كَذِبَ» بِفَتْحِ الْبَاء حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَنْ يُفْسِد الرَّوِيّ، فَيَسْتَغْنِي عَنْ الِاعْتِذَار، وَإِنَّمَا الرِّوَايَة بِإِسْكَانِ الْبَاء، هَذَا كَلَام الْقَاضِي عَنْ الْمَازِرِيّ، قُلْت: وَقَدْ قَالَ الْإِمَام أَبُو الْقَاسِم عَلِيّ بْن أَبِي جَعْفَر بْن عَلِيّ السَّعْدِيّ الصَّقَلِّيّ الْمَعْرُوف بِابْنِ الْقَطَّاع فِي كِتَابه الشَّافِي فِي عِلْم الْقَوَافِي: قَدَّر أَيْ قَوْم مِنْهُمْ الْأَخْفَش وَهُوَ شَيْخ هَذِهِ الصِّنَاعَة بَعْد الْخَلِيل أَنَّ مَشْطُور الرَّجَز وَمَنْهُوكه لَيْسَ بِشِعْرٍ، كَقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّه مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ» وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبُع دَمِيتِ وَفِي سَبِيل اللَّه مَا لَقِيت» وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا النَّبِيّ لَا كَذِب أَنَا اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب» وَأَشْبَاه هَذَا قَالَ اِبْن الْقَطَّاع: وَهَذَا الَّذِي زَعَمَهُ الْأَخْفَش وَغَيْره غَلَط بَيِّن، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّاعِر إِنَّمَا سُمِّيَ شَاعِرًا لِوُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّهُ شَعَرَ الْقَوْل وَقَصَدَهُ، وَأَرَادَهُ وَاهْتَدَى إِلَيْهِ، وَأَتَى بِهِ كَلَامًا مَوْزُونًا عَلَى طَرِيقَة الْعَرَب مُقَفًّى، فَإِنْ خَلَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَاف أَوْ بَعْضهَا لَمْ يَكُنْ شِعْرًا وَلَا يَكُون قَائِله شَاعِرًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ كَلَامًا مَوْزُونًا عَلَى طَرِيقَة الْعَرَب، وَقَصَدَ الشِّعْر أَوْ أَرَادَهُ وَلَمْ يُقَفِّهِ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ الْكَلَام شِعْرًا، وَلَا قَائِله شَاعِرًا بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء وَالشُّعَرَاء، وَكَذَا لَوْ قَفَّاهُ وَقَصَدَ بِهِ الشِّعْر وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ مَوْزُونًا لَمْ يَكُنْ شِعْرًا، وَكَذَا لَوْ أَتَى بِهِ مَوْزُونًا مُقَفًّى، وَلَكِنْ لَمْ يَقْصِد بِهِ الشِّعْر لَا يَكُون شِعْرًا وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاس يَأْتُونَ بِكَلَامٍ مَوْزُون مُقَفًّى غَيْر أَنَّهُمْ مَا قَصَدُوهُ وَلَا أَرَادُوهُ، وَلَا يُسَمَّى شِعْرًا، وَإِذَا تَفَقَّدَ ذَلِكَ وَجَدَ كَثِيرًا فِي كَلَام النَّاس كَمَا قَالَ بَعْض السُّؤَال: اِخْتِمُوا صَلَاتكُمْ بِالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَة، وَأَمْثَال هَذَا كَثِيرَة، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَام الْمَوْزُون لَا يَكُون شِعْرًا إِلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَة، وَهِيَ الْقَصْد وَغَيْره مِمَّا سَبَقَ، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِد بِكَلَامِهِ ذَلِكَ الشِّعْر، وَلَا أَرَادَهُ، فَلَا يُعَدّ شِعْرًا وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْف قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب؟» فَانْتَسَبَ إِلَى جَدّه دُون أَبِيهِ وَافْتَخَرَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ الِافْتِخَار فِي حَقّ أَكْثَر النَّاس مِنْ عَمَل الْجَاهِلِيَّة؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ شُهْرَته بِجَدِّهِ أَكْثَر، لِأَنَّ أَبَاهُ عَبْد اللَّه تُوُفِّيَ شَابًّا فِي حَيَاة أَبِيهِ عَبْد الْمُطَّلِب قَبْل اِشْتِهَار عَبْد اللَّه، وَكَانَ عَبْد الْمُطَّلِب مَشْهُورًا شُهْرَة ظَاهِرَة شَائِعَة، وَكَانَ سَيِّد أَهْل مَكَّة، وَكَانَ كَثِير مِنْ النَّاس يَدْعُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب يَنْسُبُونَهُ إِلَى جَدّه لِشُهْرَتِهِ، وَمِنْهُ حَدِيث هَمَّام بْن ثَعْلَبَة فِي قَوْله: أَيّكُمْ اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب؟ وَقَدْ كَانَ مُشْتَهِرًا عِنْدهمْ أَنَّ عَبْد الْمُطَّلِب بُشِّرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ سَيَظْهَرُ وَسَيَكُونُ شَأْنه عَظِيمًا، وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَ بِتِلْكَ سَيْف بْن ذِي يَزَنَ، وَقِيلَ: إِنَّ عَبْد الْمُطَّلِب رَأَى رُؤْيَا تَدُلّ عَلَى ظُهُور النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا عِنْدهمْ، فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْكِيرهمْ بِذَلِكَ، وَتَنْبِيههمْ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابد مِنْ ظُهُوره عَلَى الْأَعْدَاء، وَأَنَّ الْعَاقِبَة لَهُ، لِتَقْوَى نُفُوسهمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَيْضًا بِأَنَّهُ ثَابِت مُلَازِم لِلْحَرْبِ. لَمْ يُوَلِّ مَعَ مَنْ وَلَّى، وَعَرَّفَهُمْ مَوْضِعه لِيَرْجِع إِلَيْهِ الرَّاجِعُونَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَمَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا النَّبِيّ لَا كَذِب» أَيْ أَنَا النَّبِيّ حَقًّا، فَلَا أَفِرّ وَلَا أَزُول، وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز قَوْل الْإِنْسَان فِي الْحَرْب: أَنَا فُلَان، وَأَنَا اِبْن فُلَان، وَمِثْله قَوْل سَلَمَة: أَنَا اِبْن الْأَكْوَع، وَقَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَره

وَأَشْبَاه ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِجَوَازِهِ عُلَمَاء السَّلَف.
وَفيه حَدِيث صَحِيح، قَالُوا: وَإِنَّمَا يُكْرَه قَوْل ذَلِكَ عَلَى وَجْه الِافْتِخَار كَفِعْلِ الْجَاهِلِيَّة. وَاَللَّه أَعْلَم.
3326- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَنَاب الْمِصِّيصِيّ) هُوَ بِالْجِيمِ وَالنُّون، وَالْمِصِّيصِيّ بِكَسْرِ الْمِيم وَتَشْدِيد الصَّاد الْأَوَّل، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَيُقَال أَيْضًا بِفَتْحِ الْمِيم وَتَخْفِيف الصَّاد.
قَوْله: «فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْل كَأَنَّهَا رِجْل مِنْ جَرَاد» يَعْنِي كَأَنَّهَا قِطْعَة مِنْ جَرَاد، وَكَأَنَّهَا شُبِّهَتْ بِرِجْلِ الْحَيَوَان لِكَوْنِهَا قِطْعَة مِنْهُ.
قَوْله: «بِرِشْقٍ» هُوَ بِكَسْرِ الرَّاء وَسَبَقَ بَيَانهمْ قَرِيبًا.
قَوْله: «فَانْكَشَفُوا» أَيْ اِنْهَزَمُوا وَفَارَقُوا مَوَاضِعهمْ وَكَشَفُوهَا.
قَوْله: «كُنَّا وَاَللَّه إِذَا اِحْمَرَّ الْبَأْس نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاع مِنَّا الَّذِي يُحَاذِي بِهِ» اِحْمِرَار الْبَأْس كِنَايَة عَنْ شِدَّة الْحَرْب، وَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِحُمْرَةِ الدِّمَاء الْحَاصِلَة فيها فِي الْعَادَة أَوْ لِاسْتِعَارِ الْحَرْب وَاشْتِعَالهَا كَاحْمِرَارِ الْجَمْر، كَمَا فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة: «حَمِيَ الْوَطِيس»، وَفيه بَيَان شَجَاعَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِظَم وُثُوقه بِاَللَّهِ تَعَالَى.
3328- قَوْله: «عَنْ سَلَمَة بْن الْأَكْوَع وَأَرْجِع مُنْهَزِمًا إِلَى قَوْله: مَرَرْت عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْهَزِمًا فَقَالَ: لَقَدْ رَجَعَ اِبْن الْأَكْوَع فَزِعًا» قَالَ الْعُلَمَاء: قَوْله: (مُنْهَزِمًا) حَال مِنْ اِبْن الْأَكْوَع، كَمَا صَرَّحَ أَوَّلًا بِانْهِزَامِهِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْهَزَمَ، وَقَدْ قَالَتْ الصَّحَابَة كُلّهمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اِنْهَزَمَ، وَلَمْ يَنْقُل أَحَد قَطُّ أَنَّهُ اِنْهَزَمَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْطِن مِنْ الْمَوَاطِن، وَقَدْ نَقَلُوا إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَعْتَقِد اِنْهِزَامه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَجُوز ذَلِكَ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ الْعَبَّاس وَأَبُو سُفْيَان بْن الْحَارِث آخِذَيْنِ بِلِجَامِ بَغْلَته يَكُفَّانِهَا عَنْ إِسْرَاع التَّقَدُّم إِلَى الْعَدُوّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْبَرَاء فِي حَدِيثه السَّابِق. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَاهَتْ الْوُجُوه» أَيْ قَبُحَتْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب غَزْوَةِ الطَّائِفِ:

3329- قَوْله: «حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرو عَنْ أَبِي الْعَبَّاس الْأَعْمَى الشَّاعِر عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ: حَاصَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل الطَّائِف» هَكَذَا فِي نُسَخ صَحِيح مُسْلِم (عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو) بِفَتْحِ الْعَيْن، وَهُوَ اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِ، قَالَ الْقَاضِي: كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْجُلُودِيّ وَأَكْثَر أَهْل الْأُصُول عَنْ اِبْن مَاهَانَ قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي الشَّهِيد أَبُو عَلِيّ: صَوَابه (اِبْن عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) كَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ، وَكَذَا صَوَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَذَكَرَ اِبْن أَبِي شَيْبَة الْحَدِيث فِي مُسْنَده: عَنْ سُفْيَان فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اِبْن عُقْبَةَ حَدَّثَ بِهِ مَرَّة أُخْرَى عَنْ عَبْد اللَّه اِبْن عُمَر، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاض.
وَقَدْ ذَكَرَ خَلَف الْوَاسِطِيُّ هَذَا الْحَدِيث فِي كِتَاب الْأَطْرَاف فِي مُسْنَد اِبْن عُمَر، ثُمَّ فِي مُسْنَد اِبْن عَمْرو، وَأَضَافَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم جَمِيعًا، وَأَنْكَرُوا هَذَا عَلَى خَلَف، وَذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ فِي الْأَطْرَاف عَنْ اِبْن عُمَر بْن الْخَطَّاب، قَالَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم: وَذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ فِي مُسْنَد اِبْن عُمَر، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم فِي كُتُب الْأَدَب عَنْ قُتَيْبَة، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَمُسْلِم جَمِيعًا فِي الْمَغَازِي عَنْ اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِ، قَالَ: وَالْحَدِيث مِنْ حَدِيث اِبْن عُيَيْنَةَ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ هَكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِالشَّكِّ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْر الْبُرْقَانِيّ: الْأَصَحّ: اِبْن عُمَر بْن الْخَطَّاب، قَالَ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ اِبْن مَسْعُود فِي مُسْنَد اِبْن عُمَر بْن الْخَطَّاب، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَلَيْسَ لِأَبِي الْعَبَّاس هَذَا فِي مُسْنَد اِبْن عُمَر بْن الْخَطَّاب غَيْر هَذَا الْحَدِيث الْمُخْتَلَف فيه، وَقَدْ ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنه فِي كِتَاب السِّيَر عَنْ اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِ فَقَطْ.
قَوْله: «حَاصَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل الطَّائِف، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّه، قَالَ أَصْحَابه: نَرْجِع وَلَمْ نَفْتَحهُ؟! فَقَالَ: اُغْدُوا عَلَى الْقِتَال، فَغَدَوْا عَلَيْهِ فَأَصَابَهُمْ جِرَاح فَقَالَ لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، فَضَحِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» مَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَدَ الشَّفَقَة عَلَى أَصْحَابه وَالرِّفْق بِهِمْ بِالرَّحِيلِ عَنْ الطَّائِف لِصُعُوبَةِ أَمْره، وَشِدَّة الْكُفَّار الَّذِينَ فيه، وَتَقْوِيَتهمْ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَوْ وَرَجَا أَنَّهُ سَيَفْتَحُهُ بَعْدَ هَذَا بِلَا مَشَقَّة كَمَا جَرَى، فَلَمَّا رَأَى حِرْص أَصْحَابه عَلَى الْمُقَام وَالْجِهَاد أَقَامَ، وَجَدَّ فِي الْقِتَال، فَلَمَّا أَصَابَتْهُمْ الْجِرَاح رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ قَصَدَهُ أَوَّلًا مِنْ الرِّفْق بِهِمْ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ؛ لِمَا رَأَوْا مِنْ الْمَشَقَّة الظَّاهِرَة، وَلَعَلَّهُمْ نَظَرُوا فَعَلِمُوا أَنَّ رَأْي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرْك وَأَنْفَع وَأَحْمَد عَاقِبَة، وَأَصْوَب مِنْ رَأْيهمْ، فَوَافَقُوا عَلَى الرَّحِيل، وَفَرِحُوا فَضَحِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا مِنْ سُرْعَة تَغَيُّر رَأْيهمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب غَزْوَةِ بَدْرٍ:

3330- قَوْله: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ أَصْحَابه حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَال أَبِي سُفْيَان فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْر فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَر فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْد بْن عُبَادَةَ فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيد يَا رَسُول اللَّه! وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتنَا أَنْ نُخِيضهَا لَأَخَضْنَاهَا» قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا قَصَدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِخْتِبَار الْأَنْصَار؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ لِلْقِتَالِ وَطَلَب الْعَدُوّ، وَإِنَّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّنْ يَقْصِدهُ، فَلَمَّا عَرَضَ الْخُرُوج لِعِيرِ أَبِي سُفْيَان أَرَادَ أَنْ يَعْلَم أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ أَحْسَنَ جَوَاب بِالْمُوَافَقَةِ التَّامَّة فِي هَذِهِ الْمَرَّة وَغَيْرهَا.
وَفيه اِسْتِشَارَة الْأَصْحَاب وَأَهْل الرَّأْي وَالْخِبْرَة.
قَوْله: (أَنْ نُخِيضهَا) يَعْنِي: الْخَيْل، وَقَوْله: (بَرْك الْغِمَاد) أَمَّا (بَرْك) فَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاء وَإِسْكَان الرَّاء هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف الْمَشْهُور فِي كُتُب الْحَدِيث وَرِوَايَات الْمُحَدِّثِينَ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْمُحَدِّثِينَ، قَالَ: وَقَالَ بَعْض أَهْل اللُّغَة: صَوَابه كَسْر الرَّاء، قَالَ: وَكَذَا قَيَّدَهُ شُيُوخ أَبِي ذَرّ فِي الْبُخَارِيّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْح مُسْلِم، وَقَالَ فِي الْمَشَارِق: هُوَ بِالْفَتْحِ لِأَكْثَر الرُّوَاة، قَالَ: وَوَقَعَ لِلْأَصِيلِيِّ وَالْمُسْتَعْمِلِيّ وَأَبِي مُحَمَّد الْحَمَوِيِّ بِالْكَسْرِ، قُلْت: وَذَكَرَهُ جَمَاعَة مِنْ أَهْل اللُّغَة بِالْكَسْرِ لَا غَيْر، وَاتَّفَقَ الْجَمِيع عَلَى أَنَّ الرَّاء سَاكِنَة إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ الْأَصِيلِيِّ أَنَّهُ ضَبَطَهُ بِإِسْكَانِهَا وَفَتْحهَا، وَهَذَا غَرِيب ضَعِيف.
وَأَمَّا (الْغِمَاد) فَبِغَيْنٍ مُعْجَمَة مَكْسُورَة وَمَضْمُومَة لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، لَكِنَّ الْكَسْر أَفْصَح، وَهُوَ الْمَشْهُور فِي رِوَايَات الْمُحَدِّثِينَ، وَالضَّمّ هُوَ الْمَشْهُور فِي كُتُب اللُّغَة، وَحَكَى صَاحِب الْمَشَارِق وَالْمَطَالِع الْوَجْهَيْنِ عَنْ اِبْن دُرَيْدٍ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض فِي الشَّرْح: ضَبَطْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالْكَسْرِ، قَالَ: وَحَكَى اِبْن دُرَيْدٍ فيه الضَّمّ وَالْكَسْر، وَقَالَ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابه الْمُؤْتَلِف وَالْمُخْتَلِف فِي أَسْمَاء الْأَمَاكِن، هُوَ بِكَسْرِ الْغَيْن، وَيُقَال: بِضَمِّهَا، قَالَ: وَقَدْ ضَبَطَهُ اِبْن الْفُرَات فِي أَكْثَر الْمَوَاضِع بِالضَّمِّ، لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا سَمِعْته مِنْ الْمَشَايِخ بِالْكَسْرِ، قَالَ: وَهُوَ مَوْضِع مِنْ وَرَاء مَكَّة بِخَمْسِ لَيَالٍ بِنَاحِيَةِ السَّاحِل، وَقِيلَ: بَلْدَتَانِ، هَذَا قَوْل الْحَازِمِيِّ، وَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: هُوَ مَوْضِع بِأَقَاصِي هَجَر، وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: بَرْك الْغِمَاد وَسَعَفَات هَجَر كِنَايَة يُقَال فِيمَا تَبَاعَدَ.
قَوْله: «وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِم يُصَلِّي فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ اِنْصَرَفَ، قَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَضْرِبُوهُ إِذَا صَدَقَكُمْ وَتَتْرُكُوهُ إِذَا كَذَبَكُمْ» مَعْنَى اِنْصَرَفَ: سَلَّمَ مِنْ صَلَاته. فَفيه اِسْتِحْبَاب تَخْفِيفهَا إِذَا عَرَضَ أَمْر فِي أَثْنَائِهَا، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخ: «تَضْرِبُوهُ وَتَتْرُكُوهُ» بِغَيْرِ نُون، وَهِيَ لُغَة سَبَقَ بَيَانهَا مَرَّات، أَعْنِي حَذْف النُّون بِغَيْرِ نَاصِب وَلَا جَازِم.
وَفيه جَوَاز ضَرْب الْكَافِر الَّذِي لَا عَهْد لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَسِيرًا.
وَفيه مُعْجِزَتَانِ مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة إِحْدَاهُمَا: إِخْبَاره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَصْرَعِ جَبَابِرَتهمْ، فَلَمْ يَنْفُذ أَحَد مَصْرَعه. الثَّانِيَة: إِخْبَاره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْغُلَام الَّذِي كَانُوا يَضْرِبُونَهُ يَصْدُق إِذَا تَرَكُوهُ، وَيَكْذِب إِذَا ضَرَبُوهُ، وَكَانَ كَذَلِكَ فِي نَفْس الْأَمْر. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَمَاطَ أَحَدهمْ» أَيْ تَبَاعَدَ.

.باب فَتْحِ مَكَّةَ:

3331- قَوْله: «فَبَعَثَ الزُّبَيْر عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ» هِيَ بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الْجِيم وَكَسْر النُّون وَهُمَا الْمَيْمَنَة وَالْمَيْسَرَة، وَيَكُون الْقَلْب بَيْنهمَا، «وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَة عَلَى الْحُسَّر» وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاء وَتَشْدِيد السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ: أَيْ الَّذِينَ لَا دُرُوع عَلَيْهِمْ.
قَوْله: «فَأَخَذُوا بَطْن الْوَادِي» أَيْ جَعَلُوا طَرِيقهمْ فِي بَطْن الْوَادِي.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ» أَيْ اُدْعُهُمْ لِي.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيّ، ثُمَّ قَالَ: فَأَطَافُوا» إِنَّمَا خَصَّهُمْ لِثِقَتِهِ بِهِمْ، وَرَفْعًا لِمَرَاتِبِهِمْ، وَإِظْهَارًا لِجَلَالَتِهِمْ وَخُصُوصِيَّتهمْ.
قَوْله: «وَوَبَّشَتْ قُرَيْش أَوْبَاشًا لَهَا» أَيْ جَمَعَتْ جُمُوعًا مِنْ قَبَائِل شَتَّى، وَهُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة الْمُشَدَّدَة وَالشِّين الْمُعْجَمَة.
قَوْله: «فَمَا شَاءَ أَحَد مِنَّا أَنْ يَقْتُل أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ وَمَا أَحَد مِنْهُمْ يُوَجِّه إِلَيْنَا شَيْئًا» أَيْ لَا يَدْفَع أَحَد عَنْ نَفْسه.
قَوْله: «قَالَ أَبُو سُفْيَان: أُبِيحَتْ خَضْرَاء قُرَيْش، لَا قُرَيْش بَعْد الْيَوْم» كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَة: «أُبِيحَتْ» وَفِي الَّتِي بَعْدهَا: «أُبِيدَتْ» وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ أَيْ اُسْتُؤْصِلَتْ قُرَيْش بِالْقَتْلِ وَأُفْنِيَتْ، وَخَضْرَاؤُهُمْ بِمَعْنَى: جَمَاعَتهمْ، وَيُعَبَّر عَنْ الْجَمَاعَة الْمُجْتَمِعَة بِالسَّوَادِ وَالْخُضْرَة وَمِنْهُ السَّوَاد الْأَعْظَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَخَلَ دَار أَبِي سُفْيَان فَهُوَ آمِن»، اِسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ عَلَى أَنَّ دُور مَكَّة مَمْلُوكَة يَصِحّ بَيْعهَا وَإِجَارَتهَا؛ لِأَنَّ أَصْل الْإِضَافَة إِلَى الْآدَمِيِّينَ تَقْتَضِي الْمِلْك، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَجَاز، وَفيه تَأْلِيف لِأَبِي سُفْيَان، وَإِظْهَار لِشَرَفِهِ.
قَوْله: «فَقَالَتْ الْأَنْصَار بَعْضهمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُل فَأَدْرَكْته رَغْبَة فِي قَرْيَته، وَرَأْفَة بِعَشِيرَتِهِ وَذَكَرَ نُزُول الْوَحْي فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَر الْأَنْصَار، قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُول اللَّه، قَالَ: قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُل فَأَدْرَكْته رَغْبَة فِي قَرْيَته وَرَأْفَة بِعَشِيرَتِهِ، قَالُوا: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، قَالَ: كَلَّا إِنِّي عَبْد اللَّه وَرَسُوله هَاجَرْت إِلَى اللَّه وَإِلَيْكُمْ، الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَات مَمَاتكُمْ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاَللَّه مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنّ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّه وَرَسُوله يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذُرَانِكُمْ»، مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَة: أَنَّهُمْ رَأَوْا رَأْفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مَكَّة وَكَفّ الْقَتْل عَنْهُمْ، فَظَنُّوا أَنَّهُ يَرْجِع إِلَى سُكْنَى مَكَّة وَالْمُقَام فيها دَائِمًا، وَيَرْحَل عَنْهُمْ وَيَهْجُر الْمَدِينَة، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ قَدْ قُلْنَا هَذَا، فَهَذِهِ مُعْجِزَة مِنْ مُعْجِزَات النُّبُوَّة، فَقَالَ: كَلَّا إِنِّي عَبْد اللَّه وَرَسُوله، مَعْنَى (كَلَّا) هُنَا حَقًّا، وَلَهَا مَعْنَيَانِ: أَحَدهمَا: حَقًّا، وَالْآخَر: النَّفْي.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي عَبْد اللَّه وَرَسُوله» فَيَحْتَمِل وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنِّي رَسُول اللَّه حَقًّا فَيَأْتِينِي الْوَحَى وَأُخْبِر بِالْمَغِيبَاتِ كَهَذِهِ الْقَضِيَّة وَشَبَههَا، فَثِقُوا بِمَا أَقُول لَكُمْ وَأُخْبِركُمْ بِهِ فِي جَمِيع الْأَحْوَال، وَالْآخَر لَا تُفْتَنُوا بِإِخْبَارِي إِيَّاكُمْ بِالْمَغِيبَاتِ وَتُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ، فَإِنِّي عَبْد اللَّه وَرَسُوله.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَاجَرْت إِلَى اللَّه وَإِلَيْكُمْ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَات مَمَاتكُمْ» فَمَعْنَاهُ: أَنِّي هَاجَرْت إِلَى اللَّه وَإِلَى دِيَاركُمْ لِاسْتِيطَانِهَا فَلَا أَتْرُكهَا، وَلَا أَرْجِع عَنْ هِجْرَتِي الْوَاقِعَة لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ أَنَا مُلَازِم لَكُمْ: «الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَات مَمَاتكُمْ» أَيْ: لَا أَحْيَا إِلَّا عِنْدكُمْ وَلَا أَمُوت إِلَّا عِنْدكُمْ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْمُعْجِزَات، فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ هَذَا بَكَوْا وَاعْتَذَرُوا، قَالُوا: وَاَللَّه مَا قُلْنَا كَلَامنَا السَّابِق إِلَّا حِرْصًا عَلَيْك وَعَلَى مُصَاحَبَتك وَدَوَامك عِنْدنَا لِنَسْتَفِيدَ مِنْك، وَنَتَبَرَّك بِك، وَتَهْدِينَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِنَّك لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلهمْ: مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنّ بِك، هُوَ بِكَسْرِ الضَّاد، أَيْ: شُحًّا بِك أَنْ تُفَارِقنَا، وَيَخْتَصّ بِك غَيْرنَا، وَكَانَ بُكَاؤُهُمْ فَرَحًا بِمَا قَالَ لَهُمْ، وَحَيَاء مِمَّا خَافُوا أَنْ يَكُون بَلَغَهُ عَنْهُمْ مِمَّا يَسْتَحْيِي مِنْهُ.
قَوْله: «فَأَقْبَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَر فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ» فيه: الِابْتِدَاء بِالطَّوَافِ فِي أَوَّل دُخُول مَكَّة، سَوَاء كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَة أَوْ غَيْر مُحْرِم، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا فِي هَذَا الْيَوْم، وَهُوَ يَوْم الْفَتْح غَيْر مُحْرِم بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ عَلَى رَأْسه الْمِغْفَر، وَالْأَحَادِيث مُتَظَاهِرَة عَلَى ذَلِكَ، وَالْإِجْمَاع مُنْعَقِد عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى تَخْصِيص النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ مَنْ دَخَلَهَا بَعْده لِحَرْبٍ أَوْ بَغْي أَنَّهُ لَا يَحِلّ لَهُ دُخُولهَا حَلَالًا فَلَيْسَ كَمَا نُقِلَ، بَلْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَآخَرِينَ أَنَّهُ يَجُوز دُخُولهَا حَلَالًا لِلْمُحَارِبِ بِلَا خِلَاف، وَكَذَا لِمَنْ يَخَاف مِنْ ظَالِم لَوْ ظَهَرَ لِلطَّوَافِ وَغَيْره، وَأَمَّا مَنْ لَا عُذْر لَهُ أَصْلًا فَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فيه قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحّهمَا: أَنَّهُ يَجُوز لَهُ دُخُولهَا بِغَيْرِ إِحْرَام لَكِنْ يُسْتَحَبّ لَهُ الْإِحْرَام، وَالثَّانِي: لَا يَجُوز، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي أَوَّل كِتَاب الْحَجّ.
قَوْله: «فَأَتَى عَلَى صَنَم إِلَى جَنْب الْبَيْت كَانُوا يَعْبُدُونَهُ فَجَعَلَ يَطْعَنهُ بِسِيَةِ قَوْسه»، (السِّيَة) بِكَسْرِ السِّين وَتَخْفِيف الْيَاء الْمَفْتُوحَة، الْمُنْعَطِف مِنْ طَرَفَيْ الْقَوْس، وَقَوْله: (يَطْعُن) بِضَمِّ الْعَيْن عَلَى الْمَشْهُور، وَيَجُوز فَتْحهَا فِي لُغَة، وَهَذَا الْفِعْل إِذْلَال لِلْأَصْنَامِ وَلِعَابِدِيهَا، وَإِظْهَار لِكَوْنِهَا لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَع وَلَا تَدْفَع عَنْ نَفْسهَا كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِنْ يَسْلُبهُمْ الذُّبَاب شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}.
قَوْله: «جَعَلَ يَطْعُن فِي عَيْنه وَيَقُول: جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِل» وَقَالَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ: «وَحَوْل الْكَعْبَة ثَلَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعُنهَا بِعُودٍ كَانَ فِي يَده وَيَقُول: جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِل إِنَّ الْبَاطِل كَانَ زَهُوقًا، جَاءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِئ الْبَاطِل وَمَا يُعِيد»، النُّصُب: الصَّنَم.
وَفِي هَذَا: اِسْتِحْبَاب قِرَاءَة هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عِنْد إِزَالَة الْمُنْكَر.
قَوْله: «ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى: اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا» هُوَ بِضَمِّ الصَّاد وَكَسْرهَا، وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ يَقُول: إِنَّ مَكَّة فُتِحَتْ عَنْوَة، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فيها فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء وَأَهْل السِّيَر: فُتِحَتْ عَنْوَة، وَقَالَ الشَّافِعِيّ صُلْحًا، وَادَّعَى الْمَازِرِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيّ اِنْفَرَدَ بِهَذَا الْقَوْل، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِهَذَا الْحَدِيث، وَبِقَوْلِهِ: أُبِيدَتْ خَضْرَاء قُرَيْش، قَالُوا: وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَلْقَى سِلَاحه فَهُوَ آمِن، وَمَنْ دَخَلَ دَار أَبِي سُفْيَان فَهُوَ آمِن». فَلَوْ كَانُوا كُلّهمْ آمِنِينَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا، وَبِحَدِيث أُمّ هَانِئ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا حِين أَجَارَتْ رَجُلَيْنِ أَرَادَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَتْلهمَا، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت»، فَكَيْف يَدْخُلهَا صُلْحًا وَيَخْفَى ذَلِكَ عَلَى عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَتَّى يُرِيد قَتْل رَجُلَيْنِ دَخَلَا فِي الْأَمَان؟ وَكَيْف يَحْتَاج إِلَى أَمَان أُمّ هَانِئ بَعْد الصُّلْح؟ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالِحهمْ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ قَبْل دُخُول مَكَّة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُحْصُدُوهُمْ»، قَتَلَ خَالِد مَنْ قَتَلَ، فَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَنْ أَظْهَرَ مِنْ كُفَّار مَكَّة قِتَالًا، وَأَمَّا أَمَان مَنْ دَخَلَ دَار أَبِي سُفْيَان وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحه، وَأَمَان أُمّ هَانِئ فَكُلّه مَحْمُول عَلَى زِيَادَة الِاحْتِيَاط لَهُمْ بِالْأَمَانِ، وَأَمَّا هَمّ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِقَتْلِ الرَّجُلَيْنِ، فَلَعَلَّهُ تَأَوَّلَ مِنْهُمَا شَيْئًا، أَوْ جَرَى مِنْهُمَا قِتَال أَوْ نَحْو ذَلِكَ.
3332- وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَمَا أَشْرَفَ أَحَد يَوْمئِذٍ لَهُمْ إِلَّا أَنَامُوهُ»، فَمَحْمُول عَلَى مَنْ أَشْرَفَ مُظْهِرًا لِلْقِتَالِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «قُلْنَا ذَاكَ يَا رَسُول اللَّه قَالَ: فَمَا اِسْمِي إِذَنْ كَلَّا إِنِّي عَبْد اللَّه وَرَسُوله» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل هَذَا وَجْهَيْنِ، أَحَدهمَا: أَنَّهُ أَرَادَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي نَبِيّ لِإِعْلَامِي إِيَّاكُمْ بِمَا تَحَدَّثْتُمْ بِهِ سِرًّا. وَالثَّانِي لَوْ فَعَلْت هَذَا الَّذِي خِفْتُمْ مِنْهُ، وَفَارَقْتُكُمْ وَرَجَعْت إِلَى اِسْتِيطَان مَكَّة لَكُنْت نَاقِضًا لِعَهْدِكُمْ فِي مُلَازَمَتكُمْ، وَلَكَانَ هَذَا غَيْر مُطَابِق لِمَا اُشْتُقَّ مِنْهُ اِسْمِي وَهُوَ الْحَمْد، فَإِنِّي كُنْت أُوصَف حِينَئِذٍ بِغَيْرِ الْحَمْد.
قَوْله: (وَفَدْنَا إِلَى مُعَاوِيَة رَضِي اللَّه عَنْه وَفِينَا أَبُو هُرَيْرَة فَكَانَ كُلّ رَجُل مِنَّا يَصْنَع طَعَامًا يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ فَكَانَتْ نَوْبَتِي) فيه: دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب اِشْتَرَاك الْمُسَافِرِينَ فِي الْأَكْل، وَاسْتِعْمَالهمْ مَكَارِم الْأَخْلَاق، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَاب الْمُعَارَضَة حَتَّى يُشْتَرَط فيه الْمُسَاوَاة فِي الطَّعَام، وَأَلَّا يَأْكُل بَعْضهمْ أَكْثَر مِنْ بَعْض، بَلْ هُوَ مِنْ بَاب الْمُرُوءَات وَمَكَارِم الْأَخْلَاق، وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِبَاحَة، فَيَجُوز وَإِنْ تَفَاضَلَ الطَّعَام وَاخْتَلَفَتْ أَنْوَاعه، وَيَجُوز وَإِنْ أَكَلَ بَعْضهمْ أَكْثَر مِنْ بَعْض، لَكِنْ يُسْتَحَبّ أَنْ يَكُون شَأْنهمْ إِيثَار بَعْضهمْ بَعْضًا.
قَوْله: (فَجَاءُوا إِلَى الْمَنْزِل وَلَمْ يُدْرَك طَعَامنَا فَقُلْت: يَا أَبَا هُرَيْرَة لَوْ حَدَّثْتنَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُدْرَك طَعَامنَا فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْفَتْح... إِلَى آخِره) فيه: اِسْتِحْبَاب الِاجْتِمَاع عَلَى الطَّعَام وَجَوَاز دُعَائِهِمْ إِلَيْهِ قَبْل إِدْرَاكه، وَاسْتِحْبَاب حَدِيثهمْ فِي حَال الِاجْتِمَاع بِمَا فيه بَيَان أَحْوَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَغَزَوَاتهمْ وَنَحْوهَا، مِمَّا تَنْشَط النُّفُوس لِسَمَاعِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرهَا مِنْ الْحُرُوب وَنَحْوهَا مِمَّا لَا إِثْم فيه، وَلَا يَتَوَلَّد مِنْهُ فِي الْعَادَة ضُرّ فِي دِين وَلَا دُنْيَا وَلَا أَذًى لِأَحَدٍ لِتَنْقَطِع بِذَلِكَ مُدَّة الِانْتِظَار، وَلَا يَضْجَرُوا، وَلِئَلَّا يَشْتَغِل بَعْضهمْ مَعَ بَعْض فِي غِيبَة أَوْ نَحْوهَا مِنْ الْكَلَام الْمَذْمُوم.
وَفيه: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ إِذَا كَانَ فِي الْجَمْع مَشْهُور بِالْفَضْلِ أَوْ بِالصَّلَاحِ أَنْ يُطْلَب مِنْهُ الْحَدِيث فَإِنْ لَمْ يَطْلُبُوا اُسْتُحِبَّ لَهُ الِابْتِدَاء بِالْحَدِيثِ، كَمَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَدِيهِمْ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ غَيْر طَلَب مِنْهُمْ.
قَوْله: (وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَة عَلَى الْبَيَاذِقَة وَبَطْن الْوَادِي) (الْبَيَاذِقَة) بِبَاءٍ مُوَحَّدَة ثُمَّ مُثَنَّاة تَحْت وَبِذَالٍ مُعْجَمَة وَقَاف، وَهُمْ الرَّجَّالَة، قَالُوا: وَهُوَ فَارِسِيّ مُعَرَّب، وَأَصْله بِالْفَارِسِيَّةِ: أَصْحَاب رِكَاب الْمَلِك، وَمَنْ يَتَصَرَّف فِي أُمُوره، قِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِخِفَّتِهِمْ وَسُرْعَة حَرَكَتهمْ، هَكَذَا الرِّوَايَة فِي هَذَا الْحَرْف هُنَا، وَفِي غَيْر مُسْلِم أَيْضًا، قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا رِوَايَتنَا فيه، قَالَ: وَوَقَعَ فِي بَعْض الرِّوَايَات (السَّاقَة)، وَهُمْ الَّذِينَ يَكُونُونَ آخِر الْعَسْكَر، وَقَدْ يُجْمَع بَيْنه وَبَيْن الْبَيَاذِقَة بِأَنَّهُمْ رَجَّالَة وَسَاقَة، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (الشَّارِفَة) وَفَسَّرُوهُ بِاَلَّذِينَ يُشْرِفُونَ عَلَى مَكَّة، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا فِي بَطْن الْوَادِي، وَالْبَيَاذِقَة هُنَا هُمْ الْحُسَّر فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة، وَهُمْ رَجَّالَة لَا دُرُوع عَلَيْهِمْ.
قَوْله: «وَقَالَ مَوْعِدكُمْ الصَّفَا» يَعْنِي: قَالَ هَذَا لِخَالِدٍ وَمَنْ مَعَهُ الَّذِينَ أَخَذُوا أَسْفَل مِنْ بَطْن الْوَادِي، وَأَخَذَ هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ أَعْلَى مَكَّة.
قَوْله: «فَمَا أَشْرَفَ لَهُمْ أَحَد إِلَّا أَنَامُوهُ» أَيْ: مَا ظَهَرَ لَهُمْ أَحَد إِلَّا قَتَلُوهُ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْض، أَوْ يَكُون بِمَعْنَى أَسْكَنُوهُ بِالْقَتْلِ كَالنَّائِمِ، يُقَال: نَامَتْ الرِّيح إِذَا سَكَنَتْ، وَضَرَبَهُ حَتَّى سَكَنَ، أَيْ: مَاتَ، وَنَامَتْ الشَّاة وَغَيْرهَا مَاتَتْ، قَالَ الْفَرَّاء: النَّائِمَة الْمَيِّتَة، هَكَذَا تَأَوَّلَ هَذِهِ اللَّفْظَة الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَكَّة فُتِحَتْ عَنْوَة، وَمَنْ قَالَ: فُتِحَتْ صُلْحًا، يَقُول أَنَامُوهُ أَلْقَوْهُ إِلَى الْأَرْض مِنْ غَيْر قَتْل إِلَّا مَنْ قَاتَلَ. وَاَللَّه أَعْلَم.