فصل: باب رَبْطِ الأَسِيرِ وَحَبْسِهِ وَجَوَازِ الْمَنِّ عَلَيْهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ»:

3303- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُورَث مَا تَرَكْنَا صَدَقَة» هُوَ بِرَفْعِ صَدَقَة و(مَا) بِمَعْنَى: الَّذِي أَيْ: الَّذِي تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَة، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم بَعْد حَدِيث يَحْيَى بْن يَحْيَى عَنْ مَالِك مِنْ حَدِيث عَائِشَة رَفَعْته: «لَا نُورَث مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَة» وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَى هَذَا لِأَنَّ بَعْض جَهَلَة الشِّيعَة يُصَحِّفهُ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ لَا يُورَثُونَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَن أَنْ يَكُون فِي الْوَرَثَة مَنْ يَتَمَنَّى مَوْته فيهلِك، وَلِئَلَّا يُظَنّ بِهِمْ الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا لِوَارِثِهِ فيهلِك الظَّانّ، وَيَنْفِر النَّاس عَنْهُ.
3304- قَوْله: «فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّة أَشْهُر» أَمَّا هِجْرَانهَا فَسَبَقَ تَأْوِيله، وَأَمَّا كَوْنهَا عَاشَتْ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّة أَشْهُر فَهُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُورَة، وَقِيلَ: ثَمَانِيَة أَشْهُر، وَقِيلَ: ثَلَاثَة، وَقِيلَ: شَهْرَيْنِ، وَقِيلَ: سَبْعِينَ يَوْمًا، فَعَلَى الصَّحِيح قَالُوا: تُوُفِّيَتْ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْر رَمَضَان سَنَة إِحْدَى عَشْرَةَ.
قَوْله: «إِنَّ عَلِيًّا دَفَنَ فَاطِمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا لَيْلًا» فيه: جَوَاز الدَّفْن لَيْلًا، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، لَكِنَّ النَّهَار أَفْضَل إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْر؟
قَوْله: (وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنْ النَّاس وُجْهَة حَيَاة فَاطِمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ اِسْتَنْكَرَ عَلَى وُجُوه النَّاس فَالْتَمَسَ مُصَالَحَة أَبِي بَكْر وَمُبَايَعَته رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الْأَشْهُر) أَمَّا تَأَخُّر عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ الْبَيْعَة فَقَدْ ذَكَرَهُ عَلِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث، وَاعْتَذَرَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَمَعَ هَذَا فَتَأَخُّره لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الْبَيْعَة، وَلَا فيه. أَمَّا الْبَيْعَة: فَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط لِصِحَّتِهَا مُبَايَعَة كُلّ النَّاس، وَلَا كُلّ أَهْل الْحَلّ وَالْعِقْد، وَإِنَّمَا يُشْتَرَط مُبَايَعَة مَنْ تَيَسَّرَ إِجْمَاعهمْ مِنْ الْعُلَمَاء وَالرُّؤَسَاء وَوُجُوه النَّاس، وَأَمَّا عَدَم الْقَدْح فيه فَلِأَنَّهُ لَا يَجِب عَلَى كُلّ وَاحِد أَنْ يَأْتِيَ إِلَى الْأَمَام فَيَضَع يَده فِي يَده وَيُبَايِعهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمهُ إِذَا عَقَدَ أَهْل الْحَلّ وَالْعَقْد لِلْإِمَامِ الِانْقِيَاد لَهُ، وَأَلَّا يُظْهِر خِلَافًا، وَلَا يَشُقّ الْعَصَا، وَهَكَذَا كَانَ شَأْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّة الَّتِي قَبْلَ بَيْعَته، فَإِنَّهُ لَمْ يُظْهِر عَلَى أَبِي بَكْر خِلَافًا وَلَا شَقَّ الْعَصَا، وَلَكِنَّهُ تَأَخَّرَ عَنْ الْحُضُور عِنْده لِلْعُذْرِ الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث، وَلَمْ يَكُنْ اِنْعِقَاد الْبَيْعَة وَانْبِرَامُهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى حُضُوره، فَلَمْ يَجِب عَلَيْهِ الْحُضُور لِذَلِكَ وَلَا لِغَيْرِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِب لَمْ يَحْضُر، وَمَا نُقِلَ عَنْهُ قَدْح فِي الْبَيْعَة وَلَا مُخَالَفَة، وَلَكِنْ بَقِيَ فِي نَفْسه عَتَب فَتَأَخَّرَ حُضُوره إِلَى أَنْ زَالَ الْعَتَب، وَكَانَ سَبَب الْعَتَب أَنَّهُ مَعَ وَجَاهَته وَفَضِيلَته فِي نَفْسه فِي كُلّ شَيْء، وَقُرْبه مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْر ذَلِكَ، رَأَى أَنَّهُ لَا يَسْتَبِدّ بِأَمْرٍ إِلَّا بِمَشُورَتِهِ وَحُضُوره، وَكَانَ عُذْر أَبِي بَكْر وَعُمَر وَسَائِر الصَّحَابَة وَاضِحًا؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا الْمُبَادَرَة بِالْبَيْعَةِ مِنْ أَعْظَم مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ، وَخَافُوا مِنْ تَأْخِيرهَا حُصُول خِلَاف وَنِزَاع تَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَفَاسِد عَظِيمَة، وَلِهَذَا أَخَّرُوا دَفْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عَقَدُوا الْبَيْعَة لِكَوْنِهَا كَانَتْ أَهَمَّ الْأُمُور؛ كَيْلَا يَقَع نِزَاع فِي مَدْفِنه أَوْ كَفَنه أَوْ غُسْله أَوْ الصَّلَاة عَلَيْهِ أَوْ غَيْر ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَفْصِل الْأُمُور فَرَأَوْا تَقَدُّم الْبَيْعَة أَهَمّ الْأَشْيَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ اِئْتِنَا وَلَا يَأْتِنَا مَعَك أَحَد كَرَاهِيَة مَحْضَر عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَقَالَ عُمَر لِأَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَاَللَّه لَا تَدْخُل عَلَيْهِمْ وَحْدك) أَمَّا كَرَاهَتهمْ لِمَحْضَرِ عُمَر، فَلِمَا عَلِمُوا مِنْ شِدَّته وَصَدْعه بِمَا يَظْهَر لَهُ، فَخَافُوا أَنْ يَنْتَصِر لِأَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَيَتَكَلَّم بِكَلَامٍ يُوحِش قُلُوبهمْ عَلَى أَبِي بَكْر، وَكَانَتْ قُلُوبهمْ قَدْ طَابَتْ عَلَيْهِ وَانْشَرَحَتْ لَهُ؛ فَخَافُوا أَنْ يَكُون حُضُور عُمَر سَبَبًا لِتَغَيُّرِهَا.
وَأَمَّا قَوْل عُمَر: (لَا تَدْخُل عَلَيْهِمْ وَحْدك) فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ خَافَ أَنْ يُغْلِظُوا عَلَيْهِ فِي الْمُعَاتَبَة، وَيَحْمِلهُمْ عَلَى الْإِكْثَار مِنْ ذَلِكَ لِين أَبِي بَكْر وَصَبْره عَنْ الْجَوَاب عَنْ نَفْسه، وَرُبَّمَا رَأَى مِنْ كَلَامهمْ مَا غَيَّرَ قَلْبه فَيَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَة خَاصَّة أَوْ عَامَّة، وَإِذَا حَضَرَ عُمَر اِمْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْن عُمَر حَلَفَ أَلَّا يَدْخُل عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْر وَحْده فَحَنَّثَهُ أَبُو بَكْر وَدَخَلَ وَحْده، فَفيه: دَلِيل عَنْ أَنَّ إِبْرَار الْقَسَم إِنَّمَا يُؤْمَر بِهِ الْإِنْسَان إِذَا أَمْكَنَ اِحْتِمَاله بِلَا مَشَقَّة، وَلَا تَكُون فيه مَفْسَدَة، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل الْحَدِيث بِإِبْرَارِ الْقَسَم.
قَوْله: «وَلَمْ نَنْفَس عَلَيْك خَيْرًا سَاقَهُ اللَّه إِلَيْك» هُوَ بِفَتْحِ الْفَاء، يُقَال: نَفِسْت عَلَيْهِ بِكَسْرِ الْفَاء (أَنْفَس) بِفَتْحِهَا (نَفَاسَة) وَهُوَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى الْحَسَد.
قَوْله: «وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَال فَإِنِّي لَمْ آلُ فيها عَنْ الْحَقّ» مَعْنَى شَجَرَ: الِاخْتِلَاف وَالْمُنَازَعَة، وَقَوْله: «لَمْ آلُ» أَيْ: لَمْ أُقَصِّر.
قَوْله: «فَقَالَ لِأَبِي بَكْر مَوْعِدك الْعَشِيَّة لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْر صَلَاة الظُّهْر رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَر» هُوَ بِكَسْرِ الْقَاف يُقَال: رَقِيَ كَعَلِمَ يَعْلَم، وَالْعَشِيّ بِحَذْفِ الْهَاء هُوَ مِنْ زَوَال الشَّمْس، وَمِنْهُ الْحَدِيث: «صَلَّى إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيّ إِمَّا الظُّهْر وَإِمَّا الْعَصْر» وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان صِحَّة خِلَافَة أَبِي بَكْر وَانْعِقَاد الْإِجْمَاع عَلَيْهَا.
3305- قَوْله: «كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرَوْهُ وَنَوَائِبه» مَعْنَاهُ: مَا يَطْرَأ عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوق الْوَاجِبَة وَالْمَنْدُوبَة، وَيُقَال: عَرَوْته وَاعْتَرَيْته وَعَرَرْته وَاعْتَرَرْته إِذَا أَتَيْته تَطْلُب مِنْهُ حَاجَة.
3306- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْتَسِم وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْت بَعْد نَفَقَة نِسَائِي وَمُؤْنَة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَة» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا التَّقْيِيد بِالدِّينَارِ هُوَ مِنْ بَاب التَّنْبِيه عَلَى مَا سِوَاهُ، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْك} قَالُوا: وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهَذَا اللَّفْظ النَّهْي؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا يُمْكِن وُقُوعه وَإِرْثه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر مُمْكِن، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْإِخْبَار، وَمَعْنَاهُ: لَا يَقْتَسِمُونَ شَيْئًا لِأَنِّي لَا أُورَث، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور مِنْ مَذَاهِب الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى الْحَدِيث، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرهمْ، حَكَى الْقَاضِي عَنْ اِبْن عُلَيَّة وَبَعْض أَهْل الْبَصْرَة أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا لَمْ يُورَث؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى خَصَّهُ أَنْ جَعَلَ مَاله كُلّه صَدَقَة، وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه سِيَاق الْحَدِيث. ثُمَّ إِنَّ جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ لَا يُورَثُونَ، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ أَنَّهُ قَالَ: عَدَم الْإِرْث بَيْنهمْ مُخْتَصّ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا: {يَرِثنِي وَيَرِث مِنْ آلِ يَعْقُوب} وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَاد وِرَاثَة الْمَال، وَقَالَ: وَلَوْ أَرَادَ وِرَاثَة النُّبُوَّة لَمْ يَقُلْ: {وَإِنِّي خِفْت الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} إِذْ يَخَاف عَلَى النُّبُوَّة، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَان دَاوُدَ} وَالصَّوَاب مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُور أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء لَا يُورَثُونَ، وَالْمُرَاد بِقِصَّةِ زَكَرِيَّا وَدَاوُدَ وِرَاثَة النُّبُوَّة، وَلَيْسَ الْمُرَاد حَقِيقَة الْإِرْث بَلْ قِيَامه مَقَامه، وَحُلُوله مَكَانه. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمُؤْنَة عَامِلِي» فَقِيلَ: هُوَ الْقَائِم عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَات، وَالنَّاظِر فيها، وَقِيلَ: كُلّ عَامِل لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ خَلِيفَة وَغَيْره؛ لِأَنَّهُ عَامِل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَائِب عَنْهُ فِي أُمَّته.
وَأَمَّا مَئُونَة نِسَائِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقَ بَيَانهَا قَرِيبًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي تَفْسِير صَدَقَات النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورَة فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث قَالَ: صَارَتْ إِلَيْهِ بِثَلَاثَةِ حُقُوق:
أَحَدهَا: مَا وُهِبَ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ وَصِيَّة مُخَيْرِيق الْيَهُودِيّ لَهُ عِنْد إِسْلَامه يَوْم أُحُد، وَكَانَتْ سَبْع حَوَائِط فِي بَنِي النَّضِير، وَمَا أَعْطَاهُ الْأَنْصَار مِنْ أَرْضهمْ وَهُوَ مَا لَا يَبْلُغهُ الْمَاء، وَكَانَ هَذَا مِلْكًا لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّانِي: حَقّه مِنْ الْفَيْء مِنْ أَرْض بَنِي النَّضِير حِين أَجْلَاهُمْ كَانَتْ لَهُ خَاصَّة، لِأَنَّهَا لَمْ يُوجِف عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَاب، وَأَمَّا مَنْقُولَات بَنِي النَّضِير فَحَمَلُوا مِنْهَا مَا حَمَلَتْهُ الْإِبِل غَيْر السِّلَاح كَمَا صَالَحَهُمْ، ثُمَّ قَسَمَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَاقِي بَيْن الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ الْأَرْض لِنَفْسِهِ، وَيُخْرِجهَا فِي نَوَائِب الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ نِصْف أَرْض فَدَك، صَالَحَ أَهْلهَا بَعْد فَتْح خَيْبَر عَلَى نِصْف أَرْضهَا، وَكَانَ خَالِصًا لَهُ، وَكَذَلِكَ ثُلُث أَرْض وَادِي الْقُرَى، أَخَذَهُ فِي الصُّلْح حِين صَالَحَ أَهْلهَا الْيَهُود. وَكَذَلِكَ حِصْنَانِ مِنْ حُصُون خَيْبَر، وَهُمَا الْوَطِيخ وَالسَّلَالِم، أَخَذَهُمَا صُلْحًا.
الثَّالِث: سَهْمه مِنْ خُمُس خَيْبَر، وَمَا اِفْتَتَحَ فيها عَنْوَة فَكَانَتْ هَذِهِ كُلّهَا مِلْكًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة لَا حَقّ فيها لِأَحَدٍ غَيْره، لَكِنْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَسْتَأْثِر بِهَا بَلْ يُنْفِقهَا عَلَى أَهْله وَالْمُسْلِمِينَ، وَلِلْمَصَالِحِ الْعَامَّة، وَكُلّ هَذِهِ صَدَقَات مُحَرَّمَات التَّمَلُّك بَعْده. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ:

3308- قَوْله: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ فِي النَّفْل لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَالرَّاجِل سَهْمًا، وَفِي بَعْضهَا لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا بِالْأَلِفِ فِي (الرَّاجِل) وَفِي بَعْضهَا لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، وَالْمُرَاد بِالنَّفْلِ هُنَا الْغَنِيمَة، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اِسْم النَّفْل لِكَوْنِهَا تُسَمَّى نَفْلًا لُغَة، فَإِنَّ النَّفْل فِي اللُّغَة الزِّيَادَة وَالْعَطِيَّة، وَهَذِهِ عَطِيَّة مِنْ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِهَذِهِ الْأُمَّة دُون غَيْرهَا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سَهْم الْفَارِس وَالرَّاجِل مِنْ الْغَنِيمَة؛ فَقَالَ الْجُمْهُور: يَكُون لِلرَّاجِلِ سَهْم وَاحِد وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَة أَسْهُم، سَهْمَانِ بِسَبَبِ فَرَسه وَسَهْم بِسَبَبِ نَفْسه. مِمَّنْ قَالَ بِهَذَا اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد وَابْن جَرِير وَآخَرُونَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ فَقَطْ سَهْم لَهَا وَسَهْم لَهُ. قَالُوا: وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِهِ هَذَا أَحَد إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَأَبِي مُوسَى. وَحُجَّة الْجُمْهُور هَذَا الْحَدِيث، وَهُوَ صَرِيح عَلَى رِوَايَة مَنْ رَوَى: «لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا» بِغَيْرِ أَلِف فِي (الرَّجُل) وَهِيَ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ، وَمَنْ رَوَى (وَلِلرَّاجِلِ) رِوَايَته مُحْتَمَلَة، فَيَتَعَيَّن حَمْلهَا عَلَى مُوَافَقَة الْأُولَى جَمْعًا بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ، قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: وَيَرْفَع هَذَا الِاحْتِمَال مَا وَرَدَ مُفَسَّرًا فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة فِي حَدِيث اِبْن عُمَر هَذَا مِنْ رِوَايَة أَبِي مُعَاوِيه وَعَبْد اللَّه بْن نُمَيْر وَأَبِي أُسَامَة وَغَيْرهمْ بِإِسْنَادِهِمْ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَة أَسْهُم، سَهْم لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ»، وَمِثْله مِنْ رِوَايَة اِبْن عَبَّاس وَأَبِي عَمْرَة الْأَنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَلَوْ حَضَرَ بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُسْهَم إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِد. هَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور مِنْهُمْ الْحَسَن وَمَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَأَبُو يُوسُف رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: يُسْهَم لِفَرَسَيْنِ، وَيُرْوَى مِثْله أَيْضًا عَنْ الْحَسَن وَمَكْحُول وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيّ وَابْن وَهْب وَغَيْره مِنْ الْمَالِكِيِّينَ، قَالُوا: وَلَمْ يَقُلْ أَحَد إِنَّهُ يُسْهَم لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَان بْن مُوسَى أَنَّهُ يُسْهَم. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الإِمْدَادِ بِالْمَلاَئِكَةِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَإِبَاحَةِ الْغَنَائِمِ:

3309- قَوْله: «لَمَّا كَانَ يَوْم بَدْر» اِعْلَمْ أَنَّ بَدْرًا هُوَ مَوْضِع الْغَزْوَة الْعُظْمَى الْمَشْهُورَة، وَهُوَ مَاء مَعْرُوف، وَقَرْيَة عَامِرَة عَلَى نَحْو أَرْبَع مَرَاحِل مِنْ الْمَدِينَة، بَيْنهَا وَبَيْن مَكَّة، قَالَ اِبْن قُتَيْبَة: بَدْر بِئْر كَانَتْ لِرَجُلٍ يُسَمَّى بَدْرًا، فَسُمِّيَتْ بِاسْمِهِ، قَالَ أَبُو الْيَقْظَان: كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَار، وَكَانَتْ غَزْوَة بَدْر يَوْم الْجُمُعَة لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْر رَمَضَان، فِي السَّنَة الثَّانِيَة مِنْ الْهِجْرَة، وَرَوَى الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بِإِسْنَادِهِ فِي تَارِيخ دِمَشْق فيه ضُعَفَاء أَنَّهَا كَانَتْ يَوْم الِاثْنَيْنِ، قَالَ الْحَافِظ: وَالْمَحْفُوظ أَنَّهَا كَانَتْ يَوْم الْجُمُعَة، وَثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّ يَوْم بَدْر كَانَ يَوْمًا حَارًّا.
قَوْله: «فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَة ثُمَّ مَدّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِف بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتنِي» أَمَّا (يَهْتِف) فَبِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة فَوْق بَعْد الْهَاء، وَمَعْنَاهُ: يَصِيح وَيَسْتَغِيث بِاَللَّهِ بِالدُّعَاءِ، وَفيه: اِسْتِحْبَاب اِسْتِقْبَال الْقِبْلَة فِي الدُّعَاء وَرَفْع الْيَدَيْنِ فيه، وَأَنَّهُ لَا بَأْس بِرَفْعِ الصَّوْت فِي الدُّعَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنَّك إِنْ تُهْلِك هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْل الْإِسْلَام لَا تُعْبَد فِي الْأَرْض» ضَبَطُوهُ (تَهْلِك) بِفَتْحِ التَّاء وَضَمّهَا، فَعَلَى الْأَوَّل تُرْفَع (الْعِصَابَة) عَلَى أَنَّهَا فَاعِل، وَعَلَى الثَّانِي تُنْصَب وَتَكُون مَفْعُولَة. وَالْعِصَابَة: الْجَمَاعَة.
قَوْله: «كَذَاك مُنَاشَدَتك رَبّك» الْمُنَاشَدَة: السُّؤَال مَأْخُوذَة مِنْ النَّشِيد، وَهُوَ رَفْع الصَّوْت، هَكَذَا وَقَعَ لِجَمَاهِير رُوَاة مُسْلِم: «كَذَاك» بِالذَّالِ، وَلِبَعْضِهِمْ: «كَفَاك» بِالْفَاءِ وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «حَسْبك مُنَاشَدَتك رَبّك» وَكُلّ بِمَعْنًى، وَضَبَطُوا (مُنَاشَدَتك) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْب وَهُوَ الْأَشْهَر، قَالَ الْقَاضِي: مَنْ رَفَعَهُ جَعَلَهُ فَاعِلًا بِكَفَاكَ، وَمَنْ نَصَبَهُ فَعَلَى الْمَفْعُول بِمَا فِي حَسْبك وَكَفَاك وَكَذَاك مِنْ مَعْنَى الْفِعْل مِنْ الْكَفّ، قَالَ الْعُلَمَاء: هَذِهِ الْمُنَاشَدَة إِنَّمَا فَعَلَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرَاهُ أَصْحَابه بِتِلْكَ الْحَال، فَتَقْوَى قُلُوبهمْ بِدُعَائِهِ وَتَضَرُّعه، مَعَ أَنَّ الدُّعَاء عِبَادَة وَقَدْ كَانَ وَعَدَهُ اللَّه تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا الْعِير وَإِمَّا الْجَيْش، وَكَانَتْ الْعِير قَدْ ذَهَبَتْ وَفَاتَتْ، فَكَانَ عَلَى ثِقَة مِنْ حُصُول الْأُخْرَى، لَكِنْ سَأَلَ تَعْجِيل ذَلِكَ وَتَنْجِيزه مِنْ غَيْر أَذًى يَلْحَق الْمُسْلِمِينَ، قَوْله تَعَالَى: {أَنِّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَة مُرْدِفِينَ} أَيْ: مُعِينكُمْ، وَالْإِمْدَاد: الْإِعَانَة.؟ وَمُرْدِفِينَ: مُتَتَابِعِينَ. وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ.
قَوْله: «أَقْدِمْ حَيْزُوم» هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ مُثَنَّاة تَحْت سَاكِنَة ثُمَّ زَاي مَضْمُومَة ثُمَّ وَاو، ثُمَّ مِيم، قَالَ الْقَاضِي: وَقَعَ فِي رِوَايَة الْعُذْرِيّ (حَيْزُون) بِالنُّونِ وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَهُوَ الْمَعْرُوف لِسَائِرِ الرُّوَاة وَالْمَحْفُوظ، وَهُوَ اِسْم فَرَس الْمَلِك، وَهُوَ مُنَادَى بِحَذْفِ حَرْف النِّدَاء أَيْ: يَا حَيْزُوم، وَأَمَّا (أَقْدِمْ) فَضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَصَحّهمَا وَأَشْهَرهمَا، وَلَمْ يَذْكُر اِبْن دُرَيْدٍ وَكَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ غَيْره: أَنَّهُ بِهَمْزَةِ قَطْع مَفْتُوحَة وَبِكَسْرِ الدَّال مِنْ الْإِقْدَام، قَالُوا: وَهِيَ كَلِمَة زَجْر لِلْفَرَسِ مَعْلُومَة فِي كَلَامهمْ.
وَالثَّانِي: بِضَمِّ الدَّال وَبِهَمْزَةِ وَصْل مَضْمُومَة مِنْ التَّقَدُّم.
قَوْله: «فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفه» الْخَطْم: الْأَثَر عَلَى الْأَنْف، وَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، قَوْله: «هَؤُلَاءِ أَئِمَّة الْكُفْر وَصَنَادِيدهَا» يَعْنِي: أَشْرَافهَا، الْوَاحِد صِنْدِيد بِكَسْرِ الصَّاد، وَالضَّمِير فِي: «صَنَادِيدهَا» يَعُود عَلَى أَئِمَّة الْكُفْر أَوْ مَكَّة.
قَوْله: «فَهَوِيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْر» وَهُوَ بِكَسْرِ الْوَاو أَيْ: أَحَبَّ ذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ، يُقَال: هَوِيَ الشَّيْء- بِكَسْرِ الْوَاو- يَهْوَى بِفَتْحِهَا- هَوًى، وَالْهَوَى الْمَحَبَّة.
قَوْله: «وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْت» هَكَذَا هِيَ بَعْض النُّسَخ: «وَلَمْ يَهْوَ» وَفِي كَثِير مِنْهَا: «وَلَمْ يَهْوِي» بِالْيَاءِ وَهِيَ لُغَة قَلِيلَة بِإِثْبَاتِ الْيَاء مَحَلّ الْجَازِم، وَمِنْهُ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِر} بِالْيَاءِ.
وَمِنْه قَوْل الشَّاعِر:
أَلَمْ يَأْتِيك وَالْأَنْبَاء تَنْمِي

وَقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُثْخِن فِي الْأَرْض} أَيْ: يُكْثِر الْقَتْل وَالْقَهْر فِي الْعَدُوّ.

.باب رَبْطِ الأَسِيرِ وَحَبْسِهِ وَجَوَازِ الْمَنِّ عَلَيْهِ:

3310- قَوْله: «فَجَاءَ رَجُل مِنْ بَنِي حَنِيفَة يُقَال لَهُ ثُمَامَة بْن أُثَال فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سِوَارِي الْمَسْجِد» أَمَّا (أُثَال) فَبِضَمِّ الْهَمْزَة وَبِثَاءٍ مُثَلَّثَة وَهُوَ مَصْرُوف، وَفِي هَذَا جَوَاز رَبْط الْأَسِير وَحَبْسه، وَجَوَاز إِدْخَال الْمَسْجِدِ الْكَافِرَ، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ جَوَازه بِإِذْنِ مُسْلِم، سَوَاء كَانَ كَافِرًا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْره، وَقَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَقَتَادَةُ وَمَالِك: لَا يَجُوز، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَجُوز لِكِتَابِيٍّ دُون غَيْره.
وَدَلِيلنَا عَلَى الْجَمِيع هَذَا الْحَدِيث، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِد الْحَرَام} فَهُوَ خَاصّ بِالْحَرَمِ، وَنَحْنُ نَقُول: لَا يَجُوز إِدْخَاله الْحَرَم. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «إِنْ تَقْتُل تَقْتُل ذَا دَم» اِخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي شَرْح مُسْلِم مَعْنَاهُ: إِنْ تَقْتُل تَقْتُل صَاحِب دَم لِدَمِهِ مَوْقِع يَشْتَفِي بِقَتْلِهِ قَاتِله، وَيُدْرِك قَاتِله بِهِ ثَأْره. أَيْ: لِرِيَاسَتِهِ وَفَضِيلَته، وَحُذِفَ هَذَا لِأَنَّهُمْ يَفْهَمُونَهُ فِي عُرْفهمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ تَقْتُل مَنْ عَلَيْهِ دَم وَمَطْلُوب بِهِ، وَهُوَ مُسْتَحَقّ عَلَيْهِ فَلَا عَتَب عَلَيْك فِي قَتْله.
وَرَوَاهُ بَعْضهمْ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره (ذَا ذَمّ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْمِيم، أَيْ: ذَا ذِمَام وَحُرْمَة فِي قَوْمه، وَمَنْ إِذَا عَقَدَ ذِمَّة وَفَّى بِهَا، قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرِّوَايَة ضَعِيفَة لِأَنَّهَا تَقْلِب الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَنْ لَهُ حُرْمَة لَا يَسْتَوْجِب الْقَتْل، قُلْت: وَيُمْكِن تَصْحِيحهَا عَلَى مَعْنَى التَّفْسِير الْأَوَّل، أَيْ: تَقْتُل رَجُلًا جَلِيلًا يَحْتَفِل قَاتِله بِقَتْلِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا قَتَلَ ضَعِيفًا مَهِينًا فَإِنَّهُ لَا فَضِيلَة فِي قَتْله وَلَا يُدْرِك بِهِ قَاتِله ثَأْره.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَطْلِقُوا ثُمَامَة» فيه: جَوَاز الْمَنّ عَلَى الْأَسِير، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور.
قَوْله: «فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْل قَرِيب مِنْ الْمَسْجِد فَاغْتَسَلَ» قَالَ أَصْحَابنَا: إِذَا أَرَادَ الْكَافِر الْإِسْلَام بَادَرَ بِهِ وَلَا يُؤَخِّرهُ لِلِاغْتِسَالِ، وَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْذَن لَهُ فِي تَأْخِيره، بَلْ يُبَادِر بِهِ ثُمَّ يَغْتَسِل، وَمَذْهَبنَا: أَنَّ اِغْتِسَاله وَاجِب إِنْ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَة فِي الشِّرْك، سَوَاء كَانَ اِغْتَسَلَ مِنْهَا أَمْ لَا، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: إِنْ كَانَ اِغْتَسَلَ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا وَجَبَ، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا وَبَعْض الْمَالِكِيَّة: لَا غُسْل عَلَيْهِ وَسَقَطَ حُكْم الْجَنَابَة بِالْإِسْلَامِ كَمَا تَسْقُط الذُّنُوب، وَضَعَّفُوا هَذَا بِالْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُقَال يَسْقُط أَثَر الْحَدَث بِالْإِسْلَامِ، هَذَا كُلّه إِذَا كَانَ أَجْنَبَ فِي الْكُفْر، أَمَّا إِذَا لَمْ يُجْنِب أَصْلًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَالْغُسْل مُسْتَحَبّ لَهُ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَآخَرِينَ، وَقَالَ أَحْمَد وَآخَرُونَ: يَلْزَمهُ الْغُسْل.
قَوْله: «فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْل قَرِيب مِنْ الْمَسْجِد» هَكَذَا هُوَ فِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا (نَخْل) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَتَقْدِيره: اِنْطَلَقَ إِلَى نَخْل فيه مَاء فَاغْتَسَلَ مِنْهُ، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ بَعْضهمْ: صَوَابه (نَجْل) بِالْجِيمِ، وَهُوَ: الْمَاء الْقَلِيل الْمُنْبَعِث، وَقِيلَ: الْجَارِي، قُلْت: بَلْ الصَّوَاب الْأَوَّل؛ لِأَنَّ الرِّوَايَات صَحَّتْ بِهِ، وَلَمْ يُرْوَ إِلَّا هَكَذَا وَهُوَ صَحِيح، وَلَا يَجُوز الْعُدُول عَنْهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عِنْدك يَا ثُمَامَة؟» وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثَة أَيَّام.
هَذَا مِنْ تَأْلِيف الْقُلُوب وَمُلَاطَفَة لِمَنْ يُرْجَى إِسْلَامه مِنْ الْأَشْرَاف الَّذِينَ يَتْبَعهُمْ عَلَى إِسْلَامهمْ خَلْق كَثِير.
قَوْله: «وَإِنْ خَيْلك أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدَ الْعُمْرَة فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِر» يَعْنِي: بَشَّرَهُ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخَيْر الْعَظِيم بِالْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْإِسْلَام يَهْدِم مَا كَانَ قَبْله، وَأَمَّا أَمْره بِالْعُمْرَةِ فَاسْتِحْبَاب؛ لِأَنَّ الْعُمْرَة مُسْتَحَبَّة فِي كُلّ وَقْت لاسيما مِنْ هَذَا الشَّرِيف الْمُطَاع إِذَا أَسْلَمَ، وَجَاءَ مُرَاغِمًا لِأَهْلِ مَكَّة فَطَافَ وَسَعَى وَأَظْهَرَ إِسْلَامه وَأَغَاظَهُمْ بِذَلِكَ، وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «قَالَ لَهُ قَائِل أَصَبَوْت؟» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (أَصَبَوْت) وَهِيَ لُغَة وَالْمَشْهُور (أَصَبَأْت) بِالْهَمْزِ، وَعَلَى الْأَوَّل جَاءَ قَوْلهمْ. الصُّبَاة كَقَاضٍ وَقُضَاة.
قَوْله فِي حَدِيث اِبْن الْمُثَنَّى: «إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَقْتُلنِي تَقْتُل ذَا دَم» هَكَذَا فِي النُّسَخ الْمُحَقَّقَة (إِنْ تَقْتُلنِي) بِالنُّونِ وَالْيَاء فِي آخِرهَا، وَفِي بَعْضهَا بِحَذْفِهَا، وَهُوَ فَاسِد لِأَنَّهُ يَكُون حِينَئِذٍ مِثْل الْأَوَّل فَلَا يَصِحّ اِسْتِثْنَاؤُهُ.

.باب إِجْلاَءِ الْيَهُودِ مِنَ الْحِجَازِ:

3311- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ: «أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، قَالُوا: قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِم، فَقَالَ لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ أُرِيدَ» مَعْنَاهُ: أُرِيدَ أَنْ تَعْتَرِفُوا أَنِّي بَلَّغْت.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: اِسْتِحْبَاب تَجْنِيس الْكَلَام، وَهُوَ مِنْ بَدِيع الْكَلَام وَأَنْوَاع الْفَصَاحَة، وَأَمَّا إِخْرَاجه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُود مِنْ الْمَدِينَة فَقَدْ سَبَقَ بَيَانه وَاضِحًا فِي آخِر كِتَاب الْوَصَايَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَرْض لِلَّهِ وَرَسُوله» مَعْنَاهُ: مُلْكهَا وَالْحُكْم فيها، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ هَذَا، لِأَنَّهُمْ حَارَبُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَهُ اِبْن عُمَر فِي رِوَايَته الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم بَعْد هَذِهِ.
3312- قَوْله: «عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ يَهُود بَنِي النَّضِير وَقُرَيْظَة حَارَبُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِير وَأَقَرَّ قُرَيْظَة وَمَنْ عَلَيْهِمْ حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَة بَعْد ذَلِكَ، فَقَتَلَ رِجَالهمْ، وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ وَأَمْوَالهمْ بَيْن الْمُسْلِمِينَ» فِي هَذَا أَنَّ الْمُعَاهَد وَالذِّمِّيّ إِذَا نَقَضَ الْعَهْد صَارَ حَرْبِيًّا وَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَام أَهْل الْحَرْب، وَلِلْإِمَامِ سَبْي مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ، وَلَهُ الْمَنّ عَلَى مَنْ أَرَادَ.
وَفيه: أَنَّهُ إِذَا مَنَّ عَلَيْهِ ثُمَّ ظَهَرَتْ مِنْهُ مُحَارَبَة اِنْتَقَضَ عَهْده، وَإِنَّمَا يَنْفَع الْمَنّ فِيمَا مَضَى لَا فِيمَا يُسْتَقْبَل، وَكَانَتْ قُرَيْظَة فِي أَمَان ثُمَّ حَارَبُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقَضُوا الْعَهْد، وَظَاهَرُوا قُرَيْشًا عَلَى قِتَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب مِنْ صَيَاصِيهمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} إِلَى آخِر الْآيَة الْأُخْرَى.
قَوْله: (يَهُود بَنِي قَيْنُقَاع) هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَيُقَال بِضَمِّ النُّون وَفَتْحهَا وَكَسْرهَا ثَلَاث لُغَات مَشْهُورَات.

.باب جَوَازِ قِتَالِ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَجَوَازِ إِنْزَالِ أَهْلِ الْحِصْنِ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ عَدْلٍ أَهْلٍ لِلْحُكْمِ:

3314- قَوْله: «نَزَلَ أَهْل قُرَيْظَة عَلَى حُكْم سَعْد بْن مُعَاذ» فيه: جَوَاز التَّحْكِيم فِي أُمُور الْمُسْلِمِينَ وَفِي مُهِمَّاتهمْ الْعِظَام، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَيْهِ، وَلَمْ يُخَالِف فيه إِلَّا الْخَوَارِج، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى عَلِيّ التَّحْكِيم، وَأَقَامَ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ.
وَفيه: جَوَاز مُصَالَحَة أَهْل قَرْيَة أَوْ حِصْن عَلَى حُكْم حَاكِم مُسْلِم عَدْل صَالِح لِلْحُكْمِ أَمِين عَلَى هَذَا الْأَمْر، وَعَلَيْهِ الْحُكْم بِمَا فيه مَصْلَحَة لِلْمُسْلِمِينَ، إِذَا حَكَمَ بِشَيْءٍ لَزِمَ حُكْمه، وَلَا يَجُوز لِلْإِمَامِ وَلَا لَهُمْ الرُّجُوع عَنْهُ، وَلَهُمْ الرُّجُوع قَبْل الْحُكْم. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَأَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْد فَأَتَاهُ عَلَى حِمَار، فَلَمَّا دَنَا قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِد» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ بَعْضهمْ قَوْله: «دَنَا مِنْ الْمَسْجِد» كَذَا هُوَ فِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ رِوَايَة شُعْبَة، وَأَرَاهُ وَهْمًا إِنْ كَانَ أَرَادَ مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ سَعْد بْن مُعَاذ جَاءَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فيه كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَرْسَلَ إِلَى سَعْد نَازِلًا عَلَى بَنِي قُرَيْظَة، وَمِنْ هُنَاكَ أَرْسَلَ إِلَى سَعْد لِيَأْتِيَهُ. فَإِنْ كَانَ الرَّاوِي أَرَادَ مَسْجِدًا اِخْتَطَّهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَاكَ كَانَ يُصَلِّي فيه مُدَّة مُقَامه، لَمْ يَكُنْ وَهْم، قَالَ: وَالصَّحِيح مَا جَاءَ فِي غَيْر صَحِيح مُسْلِم، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فَلَمَّا طَلَعَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَذَا وَقَعَ فِي كِتَاب اِبْن أَبِي شَيْبَة وَسُنَن أَبِي دَاوُدَ، فَيَحْتَمِل أَنَّ الْمَسْجِد تَصْحِيف مِنْ لَفْظ الرَّاوِي. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدكُمْ أَوْ خَيْركُمْ» فيه: إِكْرَام أَهْل الْفَضْل وَتَلَقِّيهمْ بِالْقِيَامِ لَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا، هَكَذَا اِحْتَجَّ بِهِ جَمَاهِير الْعُلَمَاء لِاسْتِحْبَابِ الْقِيَام، قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْقِيَام الْمَنْهِيّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِس، وَيَمْثُلُونَ قِيَامًا طُول جُلُوسه، قُلْت: الْقِيَام لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْل الْفَضْل مُسْتَحَبّ، وَقَدْ جَاءَ فيه أَحَادِيث، وَلَمْ يَصِحّ فِي النَّهْي عَنْهُ شَيْء صَرِيح، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ ذَلِكَ مَعَ كَلَام الْعُلَمَاء عَلَيْهِ فِي جُزْء وَأَجَبْت فيه عَمَّا تَوَهَّمَ النَّهْي عَنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِينَ عَنَاهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدكُمْ» هَلْ هُمْ الْأَنْصَار خَاصَّة، أَمْ جَمِيع مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَعَهُمْ؟.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْن مُعَاذ: «إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمك»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «قَالَ: فَنَزَلُوا عَلَى حُكْم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْم فيهمْ إِلَى سَعْد» قَالَ الْقَاضِي: يُجْمَع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضُوا بِرَدِّ الْحُكْم إِلَى سَعْد، فَنُسِبَ إِلَيْهِ، قَالَ: وَالْأَشْهَر أَنَّ الْأَوْس طَلَبُوا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَفْو عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حُلَفَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُم فيهمْ رَجُل مِنْكُمْ يَعْنِي مِنْ الْأَوْس- يُرْضِيهِمْ بِذَلِكَ- فَرَضُوا بِهِ فَرَدَّهُ إِلَى سَعْد بْن مُعَاذ الْأَوْسِيّ.
قَوْله: «وَسَبْي ذُرِّيَّتهمْ» سَبَقَ أَنَّ الذُّرِّيَّة تُطْلَق عَلَى النِّسَاء وَالصِّبْيَان مَعًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ الْمَلِك» الرِّوَايَة: الْمَشْهُورَة: «الْمَلِك» بِكَسْرِ اللَّام، وَهُوَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَتُؤَيِّدهَا الرِّوَايَات الَّتِي قَالَ فيها: «لَقَدْ حَكَمْت فيهمْ بِحُكْمِ اللَّه» قَالَ الْقَاضِي: رَوَيْنَاهُ فِي صَحِيح مُسْلِم بِكَسْرِ اللَّام بِغَيْرِ خِلَاف.
قَالَ: وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ بِكَسْرِهَا وَفَتْحهَا، فَإِنْ صَحَّ الْفَتْح فَالْمُرَاد بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَتَقْدِيره بِالْحُكْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمَلَك عَنْ اللَّه تَعَالَى.
3315- قَوْله: «رَمَاهُ رَجُل مِنْ قُرَيْش يُقَال لَهُ اِبْن الْعَرِقَة» هُوَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة وَمَكْسُورَة ثُمَّ قَاف قَالَ الْقَاضِي: قَالَ أَبُو عُبَيْد: هِيَ أُمّه، قَالَ اِبْن الْكَلْبِيّ: اِسْم هَذَا الرَّجُل حِبَّان بِكَسْرِ الْحَاء بْن أَبِي قَيْس بْن عَلْقَمَة بْن عَبْد مَنَاف بْن الْحَارِث بْن مُنْقِذ بْن عَمْرو بْن مَعِيص بْن عَامِر بْن لُؤَيّ بْن غَالِب، قَالَ: وَاسْم الْعَرِقَة: قِلَابَة، بِقَافٍ مَكْسُورَة وَبَاء مُوَحَّدَة بِنْت سَعْد بْن سَهْل بْن عَبْد مَنَاف بْن الْحَارِث، وَسُمِّيَتْ بِالْعَرِقَةِ لِطِيبِ رِيحهَا، وَكُنْيَتهَا أُمّ فَاطِمَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «رَمَاهُ فِي الْأَكْحَل» قَالَ الْعُلَمَاء: هُوَ عِرْق مَعْرُوف، قَالَ الْخَلِيل: إِذَا قُطِعَ فِي الْيَد لَمْ يُرْقَأ الدَّم، وَهُوَ عِرْق الْحَيَاة فِي كُلّ عُضْو مِنْهُ شُعْبَة لَهَا اِسْم.
قَوْله: «فَضَرَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْمَة فِي الْمَسْجِد» فيه: جَوَاز النَّوْم فِي الْمَسْجِد، وَجَوَاز مُكْث مَكَان الْمَرِيض فيه وَإِنْ كَانَ جَرِيحًا.
3316- قَوْله: «إِنَّ سَعْدًا تَحَجَّرَ كَلْمه لِلْبُرْءِ» الْكَلْم: بِفَتْحِ الْكَاف: الْجُرْح، وَتَحَجَّرَ أَيْ يَبِسَ.
قَوْله: «فَإِنْ كُنْت وَضَعْت الْحَرْب بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتِي فيها» هَذَا لَيْسَ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْت الْمَنْهِيّ عَنْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ تَمَنَّاهُ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا تَمَنَّى اِنْفِجَارهَا لِيَكُونَ شَهِيدًا.
قَوْله: «فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّته» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر الْأُصُول الْمُعْتَمَدَة (لَبَّته) بِفَتْحِ اللَّام وَبَعْدهَا بَاء مُوَحَّدَة مُشَدَّدَة مَفْتُوحَة، وَهِيَ النَّحْر، وَفِي بَعْض الْأُصُول (مِنْ لِيته) بِكَسْرِ اللَّام وَبَعْدهَا يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْت سَاكِنَة، (اللِّيت) صَفْحَة الْعُنُق، وَفِي بَعْضهَا مِنْ (لَيْلَتِهِ) قَالَ الْقَاضِي: قَالُوا: وَهُوَ الصَّوَاب كَمَا اِتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ.
قَوْله: «فَلَمْ يَرُعْهُمْ» أَيْ: لَمْ يَفْجَأهُمْ وَيَأْتِهِمْ بَغْتَة.
قَوْله: «فَإِذَا سَعْد جُرْحه يَغِذّ دَمًا» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول الْمُعْتَمَدَة (يَغِذّ) بِكَسْرِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الذَّال الْمُعْجَمَة أَيْضًا، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُور الرُّوَاة، وَفِي بَعْضهَا (يَغْذُ) بِإِسْكَانِ الْغَيْن وَضَمّ الذَّال الْمُعْجَمَة، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَمَعْنَاهُ: يَسِيل يُقَال: غَذَّ الْجُرْح يَغِذّ إِذَا دَامَ سَيَلَانه، وَغَذَا يَغْذُو سَالَ، كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَمَا زَالَ يَسِيل حَتَّى مَاتَ»، قَوْله فِي الشِّعْر:
أَلَا يَا سَعْد سَعْد بَنِي مُعَاذ ** فَمَا فَعَلَتْ قُرَيْظَة وَالنَّضِير

هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ، وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ الْمُعْظَم، وَفِي بَعْضهَا: (لِمَا فَعَلَتْ) بِاللَّامِ بَدَل الْفَاء وَقَالَ: وَهُوَ الصَّوَاب وَالْمَعْرُوف فِي السِّيَر.
قَوْله:
تَرَكْتُمْ قِدْركُمْ لَا شَيْء فيها ** وَقِدْر الْقَوْم حَامِيَة تَفُور

هَذَا: مَثَل لِعَدَمِ النَّاصِر، وَأَرَادَ بِقَوْله: (تَرَكْتُمْ قِدْركُمْ) الْأَوْس لِقِلَّةِ حُلَفَائِهِمْ، فَإِنَّ حُلَفَاءَهُمْ قُرَيْظَة وَقَدْ قُتِلُوا، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: (وَقِدْر الْقَوْم حَامِيَة تَفُور) الْخُرُوج لِشَفَاعَتِهِمْ فِي حُلَفَائِهِمْ بَنِي قَيْنُقَاع حَتَّى مَنَّ عَلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَهُمْ بِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيِّ بْن سَلُول، وَهُوَ أَبُو حُبَابٍ الْمَذْكُور فِي الْبَيْت الْآخَر.
قَوْله: (كَمَا ثَقُلَتْ بِمَيْطَانَ الصُّخُور) هُوَ اِسْم جَبَل مِنْ أَرْض أَجَازَ فِي دِيَار بَنِي مُزَيْنَةَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيم عَلَى الْمَشْهُور، وَقَالَ أَبُو عُبَيْد الْبَكْرِيّ وَجَمَاعَة هُوَ بِكَسْرِهَا وَبَعْدهَا يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْت وَآخِره نُون، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَوَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ مُسْلِم (بِمَيْطَارٍ) بِالرَّاءِ قَالَ الْقَاضِي: وَفِي رِوَايَة اِبْن مَاهَانَ (بِحَيْطَانَ) بِالْحَاءِ مَكَان الْمِيم، وَالصَّوَاب الْأَوَّل، قَالَ: وَإِنَّمَا قَصَدَ هَذَا الشَّاعِر تَحْرِيض سَعْد عَلَى اِسْتِبْقَاء بَنِي قُرَيْظَة حُلَفَاءَهُ، وَيَلُومهُ عَلَى حُكْمه فيهمْ، وَيُذَكِّرهُ بِفِعْلِ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ، وَيَمْدَحهُ بِشَفَاعَتِهِ فِي حُلَفَائِهِمْ بَنِي قَيْنُقَاع.