فصل: باب ثَوَابِ الْعَبْدِ وَأَجْرِهِ إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب صُحْبَةِ الْمَمَالِيكِ وَكَفَّارَةِ مَنْ لَطَمَ عَبْدَهُ:

3130- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكه أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَته أَنْ يَعْتِقهُ» قَالَ الْعُلَمَاء: فِي هَذَا الْحَدِيث الرِّفْق بِالْمَمَالِيكِ، وَحُسْن صُحْبَتهمْ وَكَفّ الْأَذَى عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحَادِيث بَعْده، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ عِتْقه بِهَذَا لَيْسَ وَاجِبًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْدُوب رَجَاء كَفَّارَة ذَنْبه، فيه: إِزَالَة إِثْم ظُلْمه. وَمِمَّا اِسْتَدَلُّوا بِهِ لِعَدَمِ وُجُوب إِعْتَاقه: حَدِيث سُوَيْد بْن مُقَرِّن بَعْده: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ حِين لَطَمَ أَحَدهمْ خَادِمهمْ بِعِتْقِهَا، قَالُوا: لَيْسَ لَنَا خَادِم غَيْرهَا، قَالَ: «فَلْيَسْتَخْدِمُوهَا، فَإِذَا اِسْتَغْنَوْا عَنْهَا فَلْيُخَلُّوا سَبِيلهَا»، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يَجِب إِعْتَاق الْعَبْد لِشَيْءٍ مِمَّا يَفْعَلهُ بِهِ مَوْلَاهُ مِثْل هَذَا الْأَمْر الْخَفِيف، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِيمَا كَثُرَ مِنْ ذَلِكَ وَشَنُعَ، مِنْ ضَرْب مُبَرِّح مُنْهِك لِغَيْرِ مُوجِب لِذَلِكَ، أَوْ حَرْقه بِنَارٍ، أَوْ قَطْع عُضْوًا لَهُ، أَوْ أَفْسَدَهُ أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِمَّا فيه مِثْله، فَذَهَبَ مَالِك وَأَصْحَابه وَاللَّيْث إِلَى عِتْق الْعَبْد عَلَى سَيِّده لِذَلِكَ، وَيَكُون وَلَاؤُهُ لَهُ، وَيُعَاقِبهُ السُّلْطَان عَلَى فِعْله، وَقَالَ سَائِر الْعُلَمَاء: لَا يُعْتَق عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب مَالِك فِيمَا لَوْ حَلَقَ رَأْس الْأَمَة أَوْ لِحْيَة الْعَبْد، وَاحْتَجَّ مَالِك بِحَدِيثِ اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِ فِي الَّذِي جَبَّ عَبْده فَأَعْتَقَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3131- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فَإِنَّ كَفَّارَته أَنْ يَعْتِقهُ» هَذِهِ الرِّوَايَة مُبَيِّنَة أَنَّ الْمُرَاد بِالْأُولَى مَنْ ضَرَبَهُ بِلَا ذَنْب، وَلَا عَلَى سَبِيل التَّعْلِيم وَالْأَدَب.
قَوْله: «أَنَّ اِبْن عُمَر أَعْتَقَ مَمْلُوكًا فَأَخَذَ مِنْ الْأَرْض عُودًا أَوْ شَيْئًا فَقَالَ: مَا فيها مِنْ الْأَجْر مَا يَسْوَى هَذَا إِلَّا أَنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكه أَوْ ضَرَّهُ فَكَفَّارَته أَنْ يَعْتِقهُ» هَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «مَا يَسْوَى»، وَفِي بَعْضهَا: «مَا يُسَاوِي» بِالْأَلِفِ، وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَة الصَّحِيحَة الْمَعْرُوفَة، وَالْأُولَى عَدَّهَا أَهْل اللُّغَة فِي لَحْن الْعَوَامّ، وَأَجَابَ بَعْض الْعُلَمَاء عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَة بِأَنَّهَا تَغْيِير مِنْ بَعْض الرِّوَايَة، لَا أَنَّ اِبْن عُمَر نَطَقَ بِهَا، وَمَعْنَى كَلَام اِبْن عُمَر: أَنَّهُ لَيْسَ فِي إِعْتَاقه أَجْر الْمُعْتَق تَبَرُّعًا، وَإِنَّمَا عِتْقه كَفَّارَة لِضَرْبِهِ، وَقِيلَ: هُوَ اِسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُتَّصِل، وَمَعْنَاهُ: مَا أَعْتَقْته إِلَّا لِأَنِّي سَمِعْت كَذَا.
3132- قَوْله: «لَطَمْت مَوْلًى لَنَا فَهَرَبْت، ثُمَّ جِئْت قُبَيْل الظُّهْر فَصَلَّيْت خَلْف أَبِي فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: اِمْتَثِلْ مِنْهُ فَعَفَا» قَوْله: (اِمْتَثِلْ) قِيلَ: مَعْنَاهُ عَاقِبْهُ قِصَاصًا، وَقِيلَ: اِفْعَلْ بِهِ مِثْل مَا فَعَلَ بِك، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى تَطْيِيب نَفْس الْمَوْلَى الْمَضْرُوب، وَإِلَّا فَلَا يَجِب الْقِصَاص فِي اللَّطْمَة وَنَحْوهَا، وَإِنَّمَا وَاجِبه التَّعْزِير لَكِنَّهُ تَبَرَّعَ فَأَمْكَنَهُ مِنْ الْقِصَاص فيها. وَفيه: الرِّفْق بِالْمَوَالِي وَاسْتِعْمَال التَّوَاضُع.
قَوْله: «لَيْسَ لَنَا إِلَّا خَادِم وَاحِدَة» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ، وَالْخَادِم بِلَا هَاء يُطْلَق عَلَى الْجَارِيَة كَمَا يُطْلَق عَلَى الرَّجُل، وَلَا يُقَال (خَادِمَة) بِالْهَاءِ إِلَّا فِي لُغَة شَاذَّة قَلِيلَة أَوْضَحْتهَا فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات.
3133- قَوْله: (هِلَال بْن يَسَاف) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَكَسْرهَا، وَيُقَال أَيْضًا (أَسَاف).
قَوْله: «عَجَزَ عَلَيْك إِلَّا حُرّ وَجْههَا» مَعْنَاهُ: عَجَزَتْ وَلَمْ تَجِد أَنْ تَضْرِب إِلَّا حُرّ وَجْههَا، وَحُرّ الْوَجْه: صَفْحَته وَمَا رَقَّ مِنْ بَشَرَته، وَحُرّ كُلّ شَيْء أَفْضَله وَأَرْفَعهُ، قِيلَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُرَاده بِقَوْلِهِ: «عَجَزَ عَلَيْك» أَيْ: اِمْتَنَعَ عَلَيْك، وَعَجَزَ بِفَتْحِ الْجِيم، عَلَى اللُّغَة الْفَصِيحَة، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآن: {أَعْجَزْت أَنْ أَكُون مِثْل هَذَا الْغُرَاب} وَيُقَال بِكَسْرِهَا.
قَوْله: «فَأَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَعْتِقهَا» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُمْ كُلّهمْ رَضُوا بِعِتْقِهَا وَتَبَرَّعُوا بِهِ، وَإِلَّا فَاللَّطْمَة إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ وَاحِد مِنْهُمْ فَسَمَحُوا لَهُ بِعِتْقِهَا تَكْفِيرًا لِذَنْبِهِ.
3134- قَوْله: «أَمَا عَلِمْت أَنَّ الصُّورَة مُحَرَّمَة» فيه: إِشَارَة إِلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدكُمْ الْعَبْد فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْه» إِكْرَامًا لَهُ؛ لِأَنَّ فيه مَحَاسِن الْإِنْسَان وَأَعْضَاءَهُ اللَّطِيفَة، وَإِذَا حَصَلَ فيه شَيْن أَوْ أَثَر كَانَ أَقْبَح.
3135- قَوْله فِي حَدِيث أَبِي مَسْعُود: «إِنَّهُ ضَرَبَ غُلَامه بِالسَّوْطِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اِعْلَمْ أَبَا مَسْعُود أَنَّ اللَّهَ أَقْدَر عَلَيْك مِنْك عَلَى هَذَا الْغُلَام» فيه: الْحَثّ عَلَى الرِّفْق بِالْمَمْلُوكِ، وَالْوَعْظ وَالتَّنْبِيه عَلَى اِسْتِعْمَال الْعَفْو، وَكَظْم الْغَيْظ، وَالْحُكْم كَمَا يَحْكُم اللَّه عَلَى عِبَاده.
قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ الْمَعْمَرِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الْعَيْن، قِيلَ لَهُ: الْمَعْمَرِيّ، لِأَنَّهُ رَحَلَ إِلَى مَعْمَر بْن رَاشِد، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يَتْبَع أَحَادِيث مَعْمَر.
3137- قَوْله: «عَنْ أَبِي مَسْعُود أَنَّهُ كَانَ يَضْرِب غُلَامه فَجَعَلَ يَقُول: أَعُوذ بِاَللَّهِ فَجَعَلَ يَضْرِبهُ فَقَالَ أَعُوذ بِرَسُولِ اللَّه فَتَرَكَهُ» قَالَ الْعُلَمَاء: لَعَلَّهُ لَمْ يَسْمَع اِسْتِعَاذَته الْأُولَى لِشِدَّةِ غَضَبه، كَمَا لَمْ يَسْمَع نِدَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَكُون لَمَّا اِسْتَعَاذَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَبَّهَ لِمَكَانِهِ.

.باب التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا:

3138- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكه بِالزِّنَا يُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا أَنْ يَكُون كَمَا قَالَ» فيه: إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ: لَا حَدّ عَلَى قَاذِف الْعَبْد فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، لَكِنْ يُعَزَّر قَاذِفه؛ لِأَنَّ الْعَبْد لَيْسَ بِمَحْضٍ، وَسَوَاء فِي هَذَا كُلّه مَنْ هُوَ كَامِل الرِّقّ وَلَيْسَ فيه سَبَب حُرِّيَّة، وَالْمُدَبَّر وَالْمُكَاتَب وَأُمّ الْوَلَد وَمَنْ بَعْضه حُرّ، هَذَا فِي حُكْم الدُّنْيَا، أَمَّا فِي حُكْم الْآخِرَة فَيُسْتَوْفَى لَهُ الْحَدّ مِنْ قَاذِفه لِاسْتِوَاءِ الْأَحْرَار وَالْعَبِيد فِي الْآخِرَة.
قَوْله: (سَمِعْت أَبَا الْقَاسِم نَبِيّ التَّوْبَة) قَالَ الْقَاضِي: وَسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبُولِ التَّوْبَة بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَاد، وَكَانَتْ تَوْبَة مَنْ قَبْلنَا بِقَتْلِ أَنْفُسهمْ، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالتَّوْبَةِ الْإِيمَان وَالرُّجُوع عَنْ الْكُفْر إِلَى الْإِسْلَام، وَأَصْل التَّوْبَة الرُّجُوع.

.باب إِطْعَامِ الْمَمْلُوكِ مِمَّا يَأْكُلُ وَإِلْبَاسِهِ مَمَّا يَلْبَسُ وَلاَ يُكَلِّفُهُ مَا يَغْلِبُهُ:

3139- قَوْله: (عَنْ الْمَعْرُور بْن سُوَيْدٍ) هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَبِالرَّاءِ الْمُكَرَّرَة.
قَوْله: «لَوْ جَمَعْت بَيْنهمَا كَانَتْ حُلَّة» إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُلَّة عِنْد الْعَرَب ثَوْبَانِ، وَلَا تُطْلَق عَلَى ثَوْب وَاحِد.
قَوْله فِي حَدِيث أَبِي ذَرّ: «كَانَ بَيْنِي وَبَيْن رَجُل مِنْ إِخْوَانِي كَلَام، وَكَانَتْ أُمّه أَعْجَمِيَّة، فَعَيَّرْته بِأُمِّهِ، فَلَقِيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرّ إِنَّك اِمْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّة» أَمَّا قَوْله: «رَجُل مِنْ إِخْوَانِي» فَمَعْنَاهُ رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالظَّاهِر أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَإِنَّمَا قَالَ: «مِنْ إِخْوَانِي»؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «إِخْوَانكُمْ خَوَلُكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْت يَده».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيك جَاهِلِيَّة» أَيْ هَذَا التَّعْيِير مِنْ أَخْلَاق الْجَاهِلِيَّة، فَفِيك خُلُق مِنْ أَخْلَاقهمْ، وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَكُون فيه شَيْء مِنْ أَخْلَاقهمْ، فَفيه النَّهْي عَنْ التَّعْيِير وَتَنْقِيص الْآبَاء وَالْأُمَّهَات، وَأَنَّهُ مِنْ أَخْلَاق الْجَاهِلِيَّة.
قَوْله: «قُلْت يَا رَسُول اللَّه، مَنْ سَبَّ الرِّجَال سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمّه، قَالَ: يَا أَبَا ذَرّ إِنَّك اِمْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّة» مَعْنَى كَلَام أَبِي ذَرّ: الِاعْتِذَار عَنْ سَبّه أُمّ ذَلِكَ الْإِنْسَان، يَعْنِي أَنَّهُ سَبَّنِي، وَمَنْ سَبَّ إِنْسَانًا سَبَّ ذَلِكَ الْإِنْسَان أَبَا السَّابّ وَأُمّه، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: هَذَا مِنْ أَخْلَاق الْجَاهِلِيَّة، وَإِنَّمَا يُبَاح لِلْمَسْبُوبِ أَنْ يَسُبّ السَّابّ نَفْسه بِقَدْرِ مَا سَبَّهُ، وَلَا يَتَعَرَّض لِأَبِيهِ وَلَا لِأُمِّهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ إِخْوَانكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّه تَحْت أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» الضَّمِير فِي: «هُمْ إِخْوَانكُمْ» يَعُود إِلَى الْمَمَالِيك، وَالْأَمْر بِإِطْعَامِهِمْ مِمَّا يَأْكُل السَّيِّد، وَإِلْبَاسهمْ مِمَّا يَلْبَس مَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب لَا عَلَى الْإِيجَاب، وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا فِعْل أَبِي ذَرّ فِي كِسْوَة غُلَامه مِثْل كِسْوَته فَعَمَلٌ بِالْمُسْتَحَبِّ، وَإِنَّمَا يَجِب عَلَى السَّيِّد نَفَقَة الْمَمْلُوك وَكِسْوَته بِالْمَعْرُوفِ بِحَسَبِ الْبُلْدَان وَالْأَشْخَاص، سَوَاء كَانَ مِنْ جِنْس نَفَقَة السَّيِّد وَلِبَاسه، أَوْ دُونه، أَوْ فَوْقه حَتَّى لَوْ قَتَّرَ السَّيِّد عَلَى نَفْسه تَقْتِيرًا خَارِجًا عَنْ عَادَة أَمْثَاله إِمَّا زُهْدًا، وَإِمَّا شُحًّا، لَا يَحِلّ لَهُ التَّقْتِير عَلَى الْمَمْلُوك، وَإِلْزَامه وَمُوَافَقَته إِلَّا بِرِضَاهُ، وَأَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يُكَلِّفهُ مِنْ الْعَمَل مَا لَا يُطِيقهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَزِمَهُ إِعَانَته بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ.
قَوْله: «فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبهُ فَلْيَبِعْهُ» وَفِي رِوَايَة: «فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ» وَهَذِهِ الثَّانِيَة هِيَ الصَّوَاب الْمُوَافِقَة لِبَاقِي الرِّوَايَات، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُل الْمَسْبُوب هُوَ بِلَال الْمُؤَذِّن.
3141- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامه وَكِسْوَته وَلَا يُكَلَّف مِنْ الْعَمَل إِلَّا مَا يُطِيق» هُوَ مُوَافِق لِحَدِيثِ أَبِي ذَرّ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ، و«الْكِسْوَة» بِكَسْرِ الْكَاف وَضَمّهَا لُغَتَانِ، الْكَسْر أَفْصَح، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآن، وَنَبَّهَ بِالطَّعَامِ وَالْكِسْوَة عَلَى سَائِر الْمُؤَن الَّتِي يَحْتَاج إِلَيْهَا الْعَبْدُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3142- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَنَعَ لِأَحَدِكُمْ خَادِمه طَعَامه ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ، وَقَدْ وَلِيَ حَرّه وَدُخَانه فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُلْ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَام مَشْفُوهًا قَلِيلًا فَلْيَضَعْ فِي يَده مِنْهُ أُكْلَة أَوْ أُكْلَتَيْن» قَالَ دَاوُدُ: يَعْنِي لُقْمَة أَوْ لُقْمَتَيْنِ. أَمَّا الْأُكْلَة فَبِضَمِّ الْهَمْزَة وَهِيَ اللُّقْمَة، كَمَا فَسَّرَهُ، وَأَمَّا الْمَشْفُوه فَهُوَ الْقَلِيل؛ لِأَنَّ الشِّفَاه كَثُرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ قَلِيلًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَشْفُوهًا قَلِيلًا» أَيْ: قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ اِجْتَمَعَ عَلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الْحَثّ عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق، وَالْمُوَاسَاة فِي الطَّعَام، لاسيما فِي حَقِّ مَنْ صَنَعَهُ أَوْ حَمَلَهُ؛ لِأَنَّهُ وَلِيَ حَرّه وَدُخَانه، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ نَفْسه، وَشَمَّ رَائِحَته، وَهَذَا كُلّه مَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب.

.باب ثَوَابِ الْعَبْدِ وَأَجْرِهِ إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ:

3143- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَبْد إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَة اللَّه فَلَهُ أَجْره مَرَّتَيْنِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوك الْمُصْلِح أَجْرَانِ» فيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لِلْمَمْلُوكِ الْمُصْلِح، وَهُوَ النَّاصِح لِسَيِّدِهِ، وَالْقَائِم بِعِبَادَةِ رَبّه الْمُتَوَجِّبَة عَلَيْهِ، وَأَنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ لِقِيَامِهِ بِالْحَقَّيْنِ، وَلِانْكِسَارِهِ بِالرِّقِّ.
3144- وَأَمَّا قَوْل أَبِي هُرَيْرَة فِي هَذَا الْحَدِيث: «لَوْلَا الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه وَالْحَجّ وَبِرّ أُمِّي لَأَحْبَبْت أَنْ أَمُوت وَأَنَا مَمْلُوك» فَفيه: أَنَّ الْمَمْلُوك لَا جِهَاد عَلَيْهِ وَلَا حَجّ، لِأَنَّهُ غَيْر مُسْتَطِيع، وَأَرَادَ بِبِرِّ أُمّه الْقِيَام بِمَصْلَحَتِهَا فِي النَّفَقَة وَالْمُؤَن وَالْخِدْمَة، وَنَحْو ذَلِكَ، مِمَّا لَا يُمْكِن فِعْله مِنْ الرَّقِيق.
قَوْله: «وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة لَمْ يَكُنْ يَحُجّ حَتَّى مَاتَتْ أُمّه لِصُحْبَتِهَا» الْمُرَاد بِهِ حَجُّ التَّطَوُّع، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ حَجَّ حَجَّة الْإِسْلَام فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدَّمَ بِرّ الْأُمّ عَلَى حَجّ التَّطَوُّع؛ لِأَنَّ بِرّهَا فَرْض فَقُدِّمَ عَلَى التَّطَوُّع، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك أَنَّ لِلْأَبِ وَالْأُمّ مَنْع الْوَلَد مِنْ حَجَّة التَّطَوُّع دُون حَجَّة الْفَرْض.
3145- قَوْله: «قَالَ كَعْب: لَيْسَ عَلَيْهِ حِسَاب وَلَا عَلَى مُؤْمِن مُزْهِد» الْمُزْهِد: بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الزَّاي، وَمَعْنَاهُ: قَلِيل الْمَال، وَالْمُرَاد بِهَذَا الْكَلَام أَنَّ الْعَبْد إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّه تَعَالَى، وَحَقَّ مَوَالِيه، فَلَيْسَ عَلَيْهِ حِسَاب لِكَثْرَةِ أَجْره، وَعَدَم مَعْصِيَته، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ كَعْب يَحْتَمِل أَنَّهُ أَخَذَهُ بِتَوْقِيفٍ، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ الِاجْتِهَاد؛ لِأَنَّ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاته وَأُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَب حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنْقَلِب إِلَى أَهْله مَسْرُورًا.
3146- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعِمَّا لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يُتَوَفَّى يُحْسِن عِبَادَة اللَّه وَصَحَابَة سَيِّده» أَمَّا: «نِعِمَّا» فَفيها: ثَلَاث لُغَات قُرِئَ بِهِنَّ فِي السَّبْع: إِحْدَاهَا: كَسْر النُّون مَعَ إِسْكَان الْعَيْن، وَالثَّانِيَة: كَسْرهمَا، وَالثَّالِثَة: فَتْح النُّون مَعَ كَسْر الْعَيْن وَالْمِيم مُشَدَّدَة فِي جَمِيع ذَلِكَ، أَيْ: نِعْمَ شَيْء هُوَ، وَمَعْنَاهُ: نِعْمَ مَا هُوَ، فَأُدْغِمَتْ الْمِيم فِي الْمِيم قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ الْعَزَرِيّ: «نُعْمًا» بِضَمِّ النُّون مُنَوَّنًا، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْ: لَهُ مَسَرَّة وَقُرَّة عَيْن، يُقَال: نُعْمًا لَهُ وَنِعْمَة لَهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْسِن عِبَادَة اللَّه» هُوَ بِضَمِّ أَوَّل: «يُحْسِن» وَعِبَادَة مَنْصُوبَة، وَالصَّحَابَة هُنَا بِمَعْنَى الصُّحْبَة.

.باب مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ:

3148- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ مِنْ مَمْلُوك فَعَلَيْهِ عِتْقه كُلّه» وَذَكَرَ حَدِيث الِاسْتِسْعَاء، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيث فِي كِتَاب الْعِتْق مَبْسُوطَة بِطُرُقِهَا. وَعَجَبٌ مِنْ إِعَادَة مُسْلِم لَهَا هَا هُنَا عَلَى خِلَاف عَادَته مِنْ غَيْر ضَرُورَة إِلَى إِعَادَتهَا، وَسَبَقَ هُنَاكَ شَرْحُهَا.
3150- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُوِّمَ عَلَيْهِ فِي مَاله قِيمَة عَدْل لَا وَكْس وَلَا شَطَط» قَالَ الْعُلَمَاء: الْوَكْس: الْغِشّ وَالْبَخْس، وَأَمَّا الشَّطَط: فَهُوَ الْجَوْر، يُقَال شَطَّ الرَّجُل وَأَشَطَّ وَاسْتَشَطَّ إِذَا جَارَ وَأَفْرَطَ وَأَبْعَدَ فِي مُجَاوَزَة الْحَدّ، وَالْمُرَاد: يُقَوَّمُ بِقِيمَةِ عَدْل لَا بِنَقْصٍ وَلَا بِزِيَادَةٍ.
3152- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوك» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «شَقِيصًا» بِالْيَاءِ، وَفِي بَعْضهَا: «شِقْصًا» بِحَذْفِهَا، وَكَذَا سَبَقَ فِي كِتَاب الْعِتْق، وَهُمَا لُغَتَانِ شِقْص وَشَقِيص كَنِصْفٍ وَنَصِيف، أَيْ: نَصِيب.
3154- «قَوْله: إِنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّة مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْد مَوْته لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال غَيْرهمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقَرَعَ بَيْنهمْ فَأَعْتَقَ اِثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَة، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا» وَفِي رِوَايَة: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار أَوْصَى عِنْد مَوْته فَأَعْتَقَ سِتَّة مَمْلُوكِينَ» قَوْله: «فَجَزَّأَهُمْ» هُوَ بِتَشْدِيدِ الزَّاي وَتَخْفِيفهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ ذَكَرَهُمَا اِبْن السِّكِّيت وَغَيْره، وَمَعْنَاهُ: قَسَمَهُمْ.
وَأَمَّا قَوْله: «وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا» فَمَعْنَاهُ: قَالَ فِي شَأْنه قَوْلًا شَدِيدًا كَرَاهِيَة لِفِعْلِهِ، وَتَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى تَفْسِير هَذَا الْقَوْل الشَّدِيد: قَالَ: «لَوْ عَلِمْنَا مَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ» وَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْده كَانَ يَتْرُك الصَّلَاة عَلَيْهِ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ عَلَى مِثْل فِعْله.
وَأَمَّا أَصْل الصَّلَاة عَلَيْهِ فلابد مِنْ وُجُودهَا مِنْ بَعْض الصَّحَابَة. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلَالَة لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَابْن جَرِير وَالْجُمْهُور فِي إِثْبَات الْقُرْعَة فِي الْعِتْق وَنَحْوه، وَأَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ عَبِيدًا فِي مَرَض مَوْته أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُث أَقْرَعَ بَيْنهمْ، فَيُعْتِق ثُلُثهمْ بِالْقُرْعَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: الْقُرْعَة بَاطِلَة لَا مَدْخَل لَهَا فِي ذَلِكَ؛ بَلْ يُعْتِق مِنْ كُلّ وَاحِد قِسْطه، وَيُسْتَسْعَى فِي الْبَاقِي لِأَنَّهَا خَطَر، وَهَذَا مَرْدُود بِهَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح وَأَحَادِيث كَثِيرَة، وَقَوْله فِي الْحَدِيث: «فَأَعْتَقَ اِثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَة» صَرِيح فِي الرَّدّ عَلَى أَبِي حَنِيفَة، وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيُّ وَشُرَيْح وَالْحَسَن، وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ اِبْن الْمُسَيِّب.
قَوْله فِي الطَّرِيق الْأَخِير: (حَدَّثَنَا هِشَام بْن حَسَّان عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ) هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم فَقَالَ: لَمْ يَسْمَعهُ اِبْن سِيرِينَ مِنْ عِمْرَان فِيمَا يُقَال، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ خَالِد الْحَذَّاء عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّب عَنْ عِمْرَان، قَالَهُ اِبْن الْمَدِينِيّ، قُلْت: وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيح بِأَنَّ اِبْن سِيرِينَ لَمْ يَسْمَع مِنْ عِمْرَان، وَلَوْ ثَبَتَ عَدَم سَمَاعه مِنْهُ لَمْ يَقْدَح فِي صِحَّة هَذَا الْحَدِيث، وَلَمْ يَتَوَجَّه عَلَى الْإِمَام مُسْلِم فيه عَتَب؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَة بَعْد ذِكْره الطُّرُق الصَّحِيحَة الْوَاضِحَة، وَقَدْ سَبَقَ لِهَذَا نَظَائِر. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.باب جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ:

3155- قَوْله: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُر لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال غَيْره، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيه مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْم بْن عَبْد اللَّه بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَم فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ» مَعْنَى: «أَعْتَقَهُ عَنْ دُبُر» أَيْ: دَبَّرَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْد مَوْتِي، وَسُمِّيَ هَذَا تَدْبِيرًا؛ لِأَنَّهُ يَحْصُل الْعِتْق فِي دُبُر الْحَيَاة.
وَأَمَّا هَذَا الرَّجُل الْأَنْصَارِيّ فَيُقَال لَهُ: أَبُو مَذْكُور، وَاسْم الْغُلَام الْمُدَبَّر: يَعْقُوب.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ: أَنَّهُ يَجُوز بَيْع الْمُدَبَّر قَبْل مَوْت سَيِّده لِهَذَا الْحَدِيث قِيَاسًا عَلَى الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوز بَيْعه بِالْإِجْمَاعِ، وَمِمَّنْ جَوَّزَهُ: عَائِشَة وَطَاوُسٌ وَعَطَاء وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَجُمْهُور الْعُلَمَاء وَالسَّلَف مِنْ الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى: لَا يَجُوز بَيْع الْمُدَبَّر، قَالُوا: وَإِنَّمَا بَاعَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْن كَانَ عَلَى سَيِّده، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة لِلنَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «اِقْضِ بِهِ دَيْنك»، قَالُوا: وَإِنَّمَا دَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنه لِيَقْضِيَ بِهِ دَيْنه، وَتَأَوَّلَهُ بَعْض الْمَالِكِيَّة عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَال غَيْره، فَرَدَّ تَصَرُّفه، قَالَ هَذَا الْقَائِل وَكَذَلِكَ يُرَدّ تَصَرُّف مَنْ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَاله، وَهَذَا ضَعِيف بَلْ بَاطِل، وَالصَّوَاب نَفَاذ تَصَرُّف مَنْ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَاله، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: الْأَشْبَه عِنْدِي أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ نَظَرًا لَهُ إِذْ لَمْ يَتْرُك لِنَفْسِهِ مَالًا، وَالصَّحِيح مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ الْحَدِيث عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّهُ يَجُوز بَيْع الْمُدَبَّر بِكُلِّ حَال مَا لَمْ يَمُتْ السَّيِّد. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّة التَّدْبِير، ثُمَّ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور: أَنَّهُ يُحْسَب عِتْقه مِنْ الثُّلُث، وَقَالَ اللَّيْث وَزُفَر- رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى-: هُوَ مِنْ رَأْس الْمَال. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: نَظَر الْإِمَام فِي مَصَالِح رَعِيَّته، وَأَمْره إِيَّاهُمْ بِمَا فيه الرِّفْق بِهِمْ وَبِإِبْطَالِهِمْ مَا يَضُرّهُمْ مِنْ تَصَرُّفَاتهمْ الَّتِي يُمْكِن فَسْخهَا.
وَفيه: جَوَاز الْبَيْع فِيمَنْ يُدَبَّر، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ الْآن، وَقَدْ كَانَ فيه خِلَاف ضَعِيف لِبَعْضِ السَّلَف.
قَوْله: «وَاشْتَرَاهُ نُعَيْم بْن عَبْد اللَّه» وَفِي رِوَايَة: «فَاشْتَرَاهُ اِبْن النَّحَّام» بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَة وَالْحَاء الْمُهْمَلَة الْمُشَدَّدَة هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «اِبْن النَّحَّام» بِالنُّونِ، قَالُوا: وَهُوَ غَلَط وَصَوَابه: «فَاشْتَرَاهُ النَّحَّام» فَإِنَّ الْمُشْتَرِي هُوَ نُعَيْم وَهُوَ النَّحَّام سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلْت الْجَنَّة فَسَمِعْت فيها نَحْمَة لِنُعَيْمٍ» وَالنَّحْمَة الصَّوْت، وَقِيلَ: هِيَ السَّلْعَة، وَقِيلَ: النَّحْنَحَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات:

3157- ذَكَرَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ حُوَيِّصَة وَمُحَيِّصَة بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظه وَطُرُقه، حِين وَجَدَ مُحَيِّصَة اِبْن عَمّه عَبْد اللَّه بْن سَهْل قَتِيلًا بِخَيْبَر، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَوْلِيَائِهِ: «تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبكُمْ أَوْ قَاتِلكُمْ»، وَفِي رِوَايَة: «تَسْتَحِقُّونَ قَاتِلكُمْ أَوْ صَاحِبكُمْ». أَمَّا (حُوَيِّصَة وَمُحَيِّصَة) فَبِتَشْدِيدِ الْيَاء فيهمَا وَبِتَخْفِيفِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي، أَشْهَرهُمَا: التَّشْدِيد، قَالَ الْقَاضِي: حَدِيث الْقَسَامَة أَصْل مِنْ أُصُول الشَّرْع، وَقَاعِدَة مِنْ قَوَاعِد الْأَحْكَام، وَرُكْن مِنْ أَرْكَان مَصَالِح الْعِبَاد، وَبِهِ أَخَذَ الْعُلَمَاء كَافَّة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ عُلَمَاء الْأَمْصَار الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ وَغَيْرهمْ رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّة الْأَخْذ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَة إِبْطَال الْقَسَامَة، وَأَنَّهُ لَا حُكْم لَهَا، وَلَا عَمَل بِهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا سَالِم بْن عَبْد اللَّه وَسُلَيْمَان بْن يَسَار وَالْحَكَم بْن عُيَيْنَةَ وَقَتَادَة وَأَبُو قِلَابَةَ وَمُسْلِم بْن خَالِد وَابْن عُلَيَّةَ وَالْبُخَارِيّ وَغَيْرهمْ، وَعَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْل عَمْدًا هَلْ يَجِب الْقِصَاص بِهَا؟ فَقَالَ مُعْظَم الْحِجَازِيِّينَ: يَجِب، وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَأَبِي الزِّنَاد وَمَالِك وَأَصْحَابه وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَدَاوُد، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم. وَرُوِيَ عَنْ اِبْن الزُّبَيْر وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز، قَالَ أَبُو الزِّنَاد: قُلْنَا بِهَا وَأَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ، إِنِّي لَأَرَى أَنَّهُمْ أَلْف رَجُل، فَمَا اِخْتَلَفَ مِنْهُمْ اِثْنَانِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ: لَا يَجِب بِهَا الْقِصَاص، وَإِنَّمَا تَجِب الدِّيَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيِّ وَعُثْمَان اللَّيْثِيّ وَالْحَسَن بْن صَالِح، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْر وَعُمَر وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَحْلِف فِي الْقَسَامَة؛ فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: يَحْلِف الْوَرَثَة، وَيَجِب الْحَقّ بِحَلِفِهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح، وَفيه: التَّصْرِيح بِالِابْتِدَاءِ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ ثَابِت مِنْ طُرُق كَثِيرَة صِحَاح لَا تَنْدَفِع.
قَالَ مَالِك: الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّة قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ الْمُدَّعِينَ يَبْدَءُونَ فِي الْقَسَامَة، وَلِأَنَّ جَنَبَة الْمُدَّعِي صَارَتْ قَوِيَّة بِاللَّوْثِ قَالَ الْقَاضِي: وَضَعَّفَ هَؤُلَاءِ رِوَايَة مَنْ رَوَى الِابْتِدَاء بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، قَالَ أَهْل الْحَدِيث: هَذِهِ الرِّوَايَة وَهْمٌ مِنْ الرَّاوِينَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الِابْتِدَاء بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَلَمْ يَذْكُر رَدَّ الْيَمِين، وَلِأَنَّ مَنْ رَوَى الِابْتِدَاء بِالْمُدَّعِينَ مَعَهُ زِيَادَة، وَرِوَايَاتهَا صِحَاح مِنْ طُرُق كَثِيرَة مَشْهُورَة، فَوَجَبَ الْعَمَل بِهَا وَلَا تُعَارِضهَا رِوَايَة مَنْ نَسِيَ وَقَالَ: كُلّ مَنْ لَمْ يُوجِب الْقِصَاص وَاقْتَصَرَ عَلَى الدِّيَة يَبْدَأ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إِلَّا الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد فَقَالَا بِقَوْلِ الْجُمْهُور أَنَّهُ يَبْدَأ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِب قِصَاص وَلَا دِيَة بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، حَتَّى تَقْتَرِن بِهَا شُبْهَة يَغْلِب الظَّنّ بِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الشُّبْهَة الْمُعْتَبَرَة الْمُوجِبَة لِلْقَسَامَةِ وَلَهَا سَبْع صُوَر: الْأُولَى: أَنْ يَقُول الْمَقْتُول فِي حَيَاته: دَمِي عِنْد فُلَان، وَهُوَ قَتَلَنِي أَوْ ضَرَبَنِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَر، أَوْ فَعَلَ بِي هَذَا مِنْ إِنْفَاذ مَقَاتِلِي أَوْ جَرَحَنِي. وَيَذْكُر الْعَمْد فَهَذَا مُوجِب لِلْقَسَامَةِ عِنْد مَالِك وَاللَّيْث، وَادَّعَى مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّة قَدِيمًا وَحَدِيثًا، قَالَ الْقَاضِي: وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار غَيْرهمَا، وَلَا رُوِيَ عَنْ غَيْرهمَا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاء كَافَّة فَلَمْ يَرَ أَحَد غَيْرهمَا فِي هَذَا قَسَامَة، وَاشْتَرَطَ بَعْض الْمَالِكِيَّة وُجُود الْأَثَر وَالْجُرْح فِي كَوْنه قَسَامَة، وَاحْتَجَّ مَالِك فِي ذَلِكَ بِقَضِيَّةِ بَنِي إِسْرَائِيل.
وَقَوْله تَعَالَى: {فَقُلْنَا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّه الْمَوْتَى} قَالُوا: فَحَيِيَ الرَّجُل فَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَاب مَالِك أَيْضًا بِأَنَّ تِلْكَ حَالَة يَطْلُبهَا غَفَلَة النَّاس، فَلَوْ شَرَطْنَا الشَّهَادَة وَأَبْطَلْنَا قَوْل الْمَجْرُوح أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِبْطَال الدِّمَاء غَالِبًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا حَالَة يَتَحَرَّى فيها الْمَجْرُوح الصِّدْق وَيَتَجَنَّب الْكَذِب وَالْمَعَاصِي، وَيَتَزَوَّد الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، فَوَجَبَ قَبُول قَوْله، وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّة فِي أَنَّهُ هَلْ يُكْتَفَى فِي الشَّهَادَة عَلَى قَوْله بِشَاهِدٍ أَمْ لابد مِنْ اِثْنَيْنِ.
الثَّانِيَة: اللَّوْث مِنْ غَيْر بَيِّنَة عَلَى مُعَايَنَة الْقَتْل، وَبِهَذَا قَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ، وَمِنْ اللَّوْث شَهَادَة الْعَدْل وَحْده، وَكَذَا قَوْل جَمَاعَة لَيْسُوا عُدُولًا.
وَالثَّالِثَة: إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ بِالْجُرْحِ فَعَاشَ بَعْده أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ قَبْل أَنْ يُفِيق مِنْهُ، قَالَ مَالِك وَاللَّيْث: هُوَ لَوْث، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا قَسَامَة هُنَا بَلْ يَجِب الْقِصَاص بِشَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ.
الرَّابِعَة: يُوجَد الْمُتَّهَم عِنْد الْمَقْتُول أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ أَوْ آتِيًا مِنْ جِهَته، وَمَعَهُ آلَة الْقَتْل، وَعَلَيْهِ أَثَره مِنْ لَطْخ دَم غَيْره، وَلَيْسَ هُنَاكَ سَبُع وَلَا غَيْره مِمَّا يُمْكِن إِحَالَة الْقَتْل عَلَيْهِ، أَوْ تَفَرَّقَ جَمَاعَة عَنْ قَتِيل، فَهَذَا لَوْث مُوجِب لِلْقَسَامَةِ عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ.
الْخَامِسَة: أَنْ يَقْتَتِل طَائِفَتَانِ فَيُوجَد بَيْنهمَا قَتِيل؛ فَفيه الْقَسَامَة عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق، وَعَنْ مَالِك رِوَايَة: لَا قَسَامَة؛ بَلْ فيه دِيَة عَلَى الطَّائِفَة الْأُخْرَى إِنْ كَانَ مِنْ أَحَد الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرهمَا فَعَلَى الطَّائِفَتَيْنِ دِيَته. السَّادِسَة: يُوجَد الْمَيِّت فِي زَحْمَة النَّاس، قَالَ الشَّافِعِيّ: تَثْبُت فيه الْقَسَامَة، وَتَجِب بِهَا الدِّيَة، وَقَالَ مَالِك: هُوَ هَدَر، وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَإِسْحَاق: تَجِب دِيَة فِي بَيْت الْمَال، وَرُوِيَ مِثْله عَنْ عُمَر وَعَلِيّ.
وَالسَّابِعَة: أَنْ يُوجَد فِي مَحَلَّة قَوْم أَوْ قَبِيلَتهمْ أَوْ مَسْجِدهمْ، فَقَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد وَغَيْرهمْ: لَا يَثْبُت بِمُجَرَّدِ هَذَا قَسَامَة، بَلْ الْقَتْل هَدَر؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْتُلُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَيُلْقِيه فِي مَحَلَّة طَائِفَة لِيُنْسَب إِلَيْهِمْ، قَالَ الشَّافِعِيّ: إِلَّا أَنْ يَكُون فِي مَحَلَّة أَعْدَائِهِ لَا يُخَالِطهُمْ غَيْرهمْ، فَيَكُون كَالْقِصَّةِ الَّتِي جَرَتْ بِخَيْبَر، فَحَكَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ لِوَرَثَةِ الْقَتِيل، لِمَا كَانَ بَيْن الْأَنْصَار وَبَيْن الْيَهُود مِنْ الْعَدَاوَة، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سِوَاهُمْ، وَعَنْ أَحْمَد نَحْو قَوْل الشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيُّ وَمُعْظَم الْكُوفِيِّينَ: وُجُود الْقَتِيل فِي الْمَحَلَّة وَالْقَرْيَة يُوجِب الْقَسَامَة، وَلَا تَثْبُت الْقَسَامَة عِنْدهمْ فِي شَيْء مِنْ الصُّوَر السَّبْع السَّابِقَة إِلَّا هُنَا لِأَنَّهَا عِنْدهمْ هِيَ الصُّورَة الَّتِي حَكَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها بِالْقَسَامَةِ، وَلَا قَسَامَة عِنْدهمْ إِلَّا إِذَا وُجِدَ الْقَتِيل وَبِهِ أَثَر، قَالُوا: فَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيل فِي الْمَسْجِد حَلَفَ أَهْل الْمَحَلَّة، وَوَجَبَتْ الدِّيَة فِي بَيْت الْمَال، وَذَلِكَ إِذَا اِدَّعَوْا عَلَى أَهْل الْمَحَلَّة، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وُجُود آخِر الْقَتِيل فِي الْمَحَلَّة يُوجِب الْقَسَامَة وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَثَر، وَنَحْوه عَنْ دَاوُدَ، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «فَذَهَبَ عَبْد الرَّحْمَن يَتَكَلَّم قَبْل صَاحِبه فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَبِّرْ الْكُبْر فِي السِّنّ فَصَمَتَ وَتَكَلَّمَ صَاحِبَاهُ وَتَكَلَّمَ مَعَهُمَا» مَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْمَقْتُول هُوَ عَبْد اللَّه وَلَهُ أَخ اِسْمه عَبْد الرَّحْمَن وَلَهُمَا اِبْنًا عَمّ، وَهُمَا مُحَيِّصَة وَحُوَيِّصَة، وَهُمَا أَكْبَر سِنًّا مِنْ عَبْد الرَّحْمَن، فَلَمَّا أَرَادَ عَبْد الرَّحْمَن أَخُو الْقَتِيل أَنْ يَتَكَلَّم، قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَبِّرْ» أَيْ يَتَكَلَّم أَكْبَر مِنْك.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَة الدَّعْوَى إِنَّمَا هِيَ لِأَخِيهِ عَبْد الرَّحْمَن لَا حَقَّ فيها لِابْنَيْ عَمّه، وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَكَلَّم الْأَكْبَر، وَهُوَ حُوَيِّصَة، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمُرَاد بِكَلَامِهِ حَقِيقَة الدَّعْوَى؛ بَلْ سَمَاع صُورَة الْقِصَّة، وَكَيْف جَرَتْ، فَإِذَا أَرَادَ حَقِيقَة الدَّعْوَى تَكَلَّمَ صَاحِبهَا، وَيَحْتَمِل أَنَّ عَبْد الرَّحْمَن وَكَّلَ حُوَيِّصَة فِي الدَّعْوَى وَمُسَاعَدَته، أَوْ أَمَرَ بِتَوْكِيلِهِ، وَفِي هَذَا فَضِيلَة السِّنّ عِنْد التَّسَاوِي فِي الْفَضَائِل، وَلِهَذَا نَظَائِر فَإِنَّهُ يُقَدَّم بِهَا فِي الْإِمَامَة وَفِي وِلَايَة النِّكَاح نَدْبًا وَغَيْر ذَلِكَ.
وَقَوْله: «الْكُبْر فِي السِّنّ» مَعْنَاهُ يُرِيد الْكُبْر فِي السِّنّ، وَالْكُبْر مَنْصُوب بِإِضْمَارِ يُرِيد وَنَحْوهَا. وَفِي بَعْض النُّسَخ: «لِلْكُبْرِ» بِاللَّامِ، وَهُوَ صَحِيح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا فَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبكُمْ أَوْ قَاتِلكُمْ» قَدْ يُقَال كَيْف عُرِضَتْ الْيَمِين عَلَى الثَّلَاثَة، وَإِنَّمَا يَكُون الْيَمِين لِلْوَارِثِ خَاصَّة وَالْوَارِث عَبْد الرَّحْمَن خَاصَّة، وَهُوَ أَخُو الْقَتِيل، وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَابْنَا عَمٍّ لَا مِيرَاث لَهُمَا مَعَ الْأَخ؟ وَالْجَوَاب أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدهمْ أَنَّ الْيَمِين تَخْتَصّ بِالْوَارِثِ، فَأَطْلَقَ الْخِطَاب لَهُمْ، وَالْمُرَاد مَنْ تَخْتَصّ بِهِ الْيَمِين، وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطِبِينَ كَمَا سَمِعَ كَلَام الْجَمِيع فِي صُورَة قَتْله، وَكَيْفِيَّة مَا جَرَى لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَة الدَّعْوَى وَقْت الْحَاجَة مُخْتَصَّة بِالْوَارِثِ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلكُمْ أَوْ صَابِحكُمْ» فَمَعْنَاهُ: يَثْبُت حَقّكُمْ عَلَى مَنْ حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ، وَهَلْ ذَلِكَ الْحَقّ قِصَاص أَوْ دِيَة؟ فيه الْخِلَاف السَّابِق بَيْن الْعُلَمَاء.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَجُوز لَهُمْ الْحَلِف إِذَا عَلِمُوا أَوْ ظَنُّوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَمِين إِنْ وَجَدَ فيهمْ هَذَا الشَّرْط، وَلَيْسَ الْمُرَاد الْإِذْن لَهُمْ فِي الْحَلِف مِنْ غَيْر ظَنّ، وَلِهَذَا قَالُوا: كَيْف نَحْلِف وَلَمْ نَشْهَد؟.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتُبْرِئكُمْ يَهُود بِخَمْسِينَ يَمِينًا» أَيْ تَبْرَأ إِلَيْكُمْ مِنْ دَعْوَاكُمْ بِخَمْسِينَ يَمِينًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُخَلِّصُونَكُمْ مِنْ الْيَمِين بِأَنْ يَحْلِفُوا، فَإِذَا حَلَفُوا اِنْتَهَتْ الْخُصُومَة، وَلَمْ يَثْبُت عَلَيْهِمْ شَيْء، وَخَلَصْتُمْ أَنْتُمْ مِنْ الْيَمِين. وَفِي هَذَا دَلِيل لِصِحَّةِ يَمِين الْكَافِر وَالْفَاسِق، (يَهُود) مَرْفُوع غَيْر مُنَوَّن لَا يَنْصَرِف؛ لِأَنَّهُ اِسْم الْقَبِيلَة وَالطَّائِفَة، فَفيه التَّأْنِيث وَالْعَلَمِيَّة.
قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى عَقْله» أَيْ: دِيَته، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَوَدَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَله» وَفِي رِوَايَة: «مِنْ عِنْده». فَقَوْله: «وَدَاهُ» بِتَخْفِيفِ الدَّال، أَيْ: دَفَعَ دِيَته، وَفِي رِوَايَة: «فَكَرِهَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِل دَمَهُ فَوَدَاهُ مِائَة مِنْ إِبِل الصَّدَقَة» إِنَّمَا وَدَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ، وَإِصْلَاحًا لِذَاتِ الْبَيْن، فَإِنَّ أَهْل الْقَتِيل لَا يَسْتَحِقُّونَ إِلَّا أَنْ يَحْلِفُوا أَوْ يَسْتَحْلِفُوا الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَقَدْ اِمْتَنَعُوا مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَهُمْ مَكْسُورُونَ بِقَتْلِ صَاحِبهمْ، فَأَرَادَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَبْرهمْ وَقَطَعَ الْمُنَازَعَة وَإِصْلَاح ذَات الْبَيْن بِدَفْعِ دِيَته مِنْ عِنْده، وَقَوْله: «فَوَدَاهُ مِنْ عِنْده» يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ خَالِص مَاله فِي بَعْض الْأَحْوَال صَادَفَ ذَلِكَ عِنْده، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ مِنْ مَال بَيْت الْمَال وَمَصَالِح الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة: «مِنْ إِبِل الصَّدَقَة»، فَقَدْ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إِنَّهَا غَلَط مِنْ الرُّوَاة؛ لِأَنَّ الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة لَا تُصْرَفُ هَذَا الْمَصْرِف، بَلْ هِيَ لِأَصْنَافٍ سَمَّاهُمْ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ الْإِمَام أَبُو إِسْحَاق الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا: يَجُوز صَرْفهَا مِنْ إِبِل الزَّكَاة لِهَذَا الْحَدِيث، فَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ.
وَقَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: مَعْنَاهُ اِشْتَرَاهُ مِنْ أَهْل الصَّدَقَات بَعْد أَنْ مَلِكُوهَا ثُمَّ دَفَعَهَا تَبَرُّعًا إِلَى أَهْل الْقَتِيل، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّهُ يَجُوز صَرْف الزَّكَاة فِي مَصَالِح الْعَامَّة، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيث عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضهمْ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاء الْقَتِيل كَانُوا مُحْتَاجِينَ مِمَّنْ تُبَاح لَهُمْ الزَّكَاة، وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْر كَثِير لَا يُدْفَع إِلَى الْوَاحِد الْحَامِل مِنْ الزَّكَاة بِخِلَافِ أَشْرَاف الْقَبَائِل، وَلِأَنَّهُ سَمَّاهُ دِيَة، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضهمْ عَلَى أَنَّهُ دَفَعَهُ مِنْ سَهْم الْمُؤَلَّفَة مِنْ الزَّكَاة اِسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ، لَعَلَّهُمْ يُسْلِمُونَ، وَهَذَا ضَعِيف؛ لِأَنَّ الزَّكَاة لَا يَجُوز صَرْفهَا إِلَى كَافِر، فَالْمُخْتَار مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُور أَنَّهُ اِشْتَرَاهَا مِنْ إِبِل الصَّدَقَة.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مُرَاعَاة الْمَصَالِح الْعَامَّة، وَالِاهْتِمَام بِإِصْلَاحِ ذَات الْبَيْن.
وَفيه: إِثْبَات الْقَسَامَة. وَفيه: الِابْتِدَاء بِيَمِينِ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَة. وَفيه: رَدُّ الْيَمِين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَة. وَفيه جَوَاز الْحُكْم عَلَى الْغَائِب، وَسَمَاع الدَّعْوَى فِي الدِّمَاء مِنْ غَيْر حُضُور الْخَصْم. وَفيه: جَوَاز الْيَمِين بِالظَّنِّ وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّن، وَفيه: أَنَّ الْحُكْم بَيْن الْمُسْلِم وَالْكَافِر يَكُون بِحُكْمِ الْإِسْلَام.
3158- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقْسِم خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُل مِنْهُمْ» هَذَا مِمَّا يَجِب تَأْوِيله؛ لِأَنَّ الْيَمِين إِنَّمَا تَكُون عَلَى الْوَارِث خَاصَّة لَا عَلَى غَيْره مِنْ الْقَبِيلَة، وَتَأْوِيله عِنْد أَصْحَابنَا أَنَّ مَعْنَاهُ: يُؤْخَذ مِنْكُمْ خَمْسُونَ يَمِينًا، وَالْحَالِف هُمْ الْوَرَثَة، فَلَا يَحْلِف أَحَد مِنْ الْأَقَارِب غَيْر الْوَرَثَة، يَحْلِف كُلّ الْوَرَثَة ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، سَوَاء كَانَ الْقَتْل عَمْدًا أَوْ خَطَأ، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذِر، وَوَافَقْنَا مَالِك فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْل خَطَأ.
وَأَمَّا فِي الْعَمْد فَقَالَ: يَحْلِف الْأَقَارِب خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلَا تَحْلِف النِّسَاء وَلَا الصِّبْيَان، وَوَافَقَهُ رَبِيعَة وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَد وَدَاوُد وَأَهْل الظَّاهِر، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا فَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبكُمْ» فَجَعَلَ الْحَالِف هُوَ الْمُسْتَحِقّ لِلدِّيَةِ، وَالْقِصَاص، وَمَعْلُوم أَنَّ غَيْر الْوَارِث لَا يَسْتَحِقّ شَيْئًا، فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَاد عَلَى الْحَلِف مَنْ يَسْتَحِقّ الدِّيَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقْسِم خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُل مِنْهُمْ فَيُدْفَع بِرُمَّتِهِ» الرُّمَّة بِضَمِّ الرَّاء: الْحَبْل، وَالْمُرَاد هُنَا الْحَبْل الَّذِي يُرْبَط فِي رَقَبَة الْقَاتِل، وَيُسَلَّم فيه إِلَى وَلِيّ الْقَتِيل، وَفِي هَذَا دَلِيل لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَسَامَة يَثْبُت فيها الْقِصَاص، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان مَذْهَب الْعُلَمَاء فيه، وَتَأَوَّلَهُ الْقَائِلُونَ: لَا قِصَاص بِأَنَّ الْمُرَاد أَنْ يُسَلَّم لِيُسْتَوْفَى مِنْهُ الدِّيَة؛ لِكَوْنِهَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ. وَفيه أَنَّ الْقَسَامَة إِنَّمَا تَكُون عَلَى وَاحِد، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَحْمَد، وَقَالَ أَشْهَب وَغَيْره: يَحْلِف الْأَوْلِيَاء عَلَى مَا شَاءُوا وَلَا يَقْتُلُوا إِلَّا وَاحِدًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنْ اِدَّعَوْا عَلَى جَمَاعَة حَلَفُوا عَلَيْهِمْ، وَثَبَتَتْ عَلَيْهِمْ الدِّيَة عَلَى الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيّ، وَعَلَى قَوْل أَنَّهُ يَجِب الْقِصَاص عَلَيْهِمْ، وَإِنْ حَلَفُوا عَلَى وَاحِد اِسْتَحَقُّوا عَلَيْهِ وَحْده.
قَوْله: «فَدَخَلْت مِرْبَدًا لَهُمْ يَوْمًا فَرَكَضَتْنِي نَاقَة مِنْ تِلْكَ الْإِبِل رَكْضَة بِرِجْلِهَا» الْمِرْبَد بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْبَاء، هُوَ: الْمَوْضِع الَّذِي يَجْتَمِع فيه الْإِبِل وَتَحْبِس، وَالرَّبْد: الْحَبْس، وَمَعْنَى رَكَضَتْنِي: رَفَسَتْنِي، وَأَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام أَنَّهُ ضَبَطَ الْحَدِيث وَحَفِظَهُ حِفْظًا بَلِيغًا.
3159- قَوْله: «فَوُجِدَ فِي شَرَبَة» بِفَتْحِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء، وَهُوَ حَوْض يَكُون فِي أَصْل النَّخْلَة، وَجَمْعه شَرَب كَثَمَرَةٍ وَثَمَر.
قَوْله: «لَقَدْ رَكَضَتْنِي فَرِيضَة مِنْ تِلْكَ الْفَرَائِض» الْمُرَاد بِالْفَرِيضَةِ هُنَا: النَّاقَة مِنْ تِلْكَ النُّوق الْمَفْرُوضَة فِي الدِّيَة، وَتُسَمَّى الْمَدْفُوعَة فِي الزَّكَاة أَوْ فِي الدِّيَة فَرِيضَة؛ لِأَنَّهَا مَفْرُوضَة أَيْ مُقَدَّرَة بِالسِّنِّ وَالْعَدَد، وَأَمَّا قَوْل الْمَازِرِيّ: إِنَّ الْمُرَاد بِالْفَرِيضَةِ هُنَا النَّاقَة الْهَرِمَة، فَقَدْ غَلِطَ فيه. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «فَكَرِهَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِل دَمه فَوَدَاهُ مِائَة مِنْ إِبِل الصَّدَقَة» هَذَا آخِر الْفَوَات الَّذِي لَمْ يَسْمَعهُ إِبْرَاهِيم بْن سُفْيَان مِنْ مُسْلِم، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَان أَوَّله، وَقَوْله عَقِيب هَذَا: (حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن مَنْصُور قَالَ: أَخْبَرَنَا بِشْر بْن عُمَر قَالَ: سَمِعْت مَالِك بْن أَنَس يَقُول: حَدَّثَنِي أَبُو لَيْلَى) هُوَ أَوَّل سَمَاع إِبْرَاهِيم بْن سُفْيَان مِنْ مُسْلِم مِنْ هَذَا الْمَوْضِع، هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ، فِي نُسْخَة الْحَافِظ اِبْن عَسَاكِر أَنَّ آخِر الْفَوَات آخَر حَدِيث إِسْحَاق بْن مَنْصُور هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَوَّل السَّمَاع قَوْله عَقِبَهُ: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر وَحَرْمَلَة بْنُ يَحْيَى، وَالْأَوَّل أَصَحُّ.
3160- قَوْله: «وَطُرِحَ فِي عَيْن أَوْ فَقِير» الْفَقِير هُنَا عَلَى لَفْظ الْفَقِير فِي الْآدَمِيِّينَ، وَالْفَقِير هُنَا الْبِئْر الْقَرِيبَة الْقَعْر، الْوَاسِعَة الْفَم، وَقِيلَ: هُوَ الْحَفِيرَة الَّتِي تَكُون حَوْل النَّخْل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ» مَعْنَاهُ: إِنْ ثَبَتَ الْقَتْل عَلَيْهِمْ بِقَسَامَتِكُمْ، فَإِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبكُمْ أَيْ يَدْفَعُوا إِلَيْكُمْ دِيَته، وَإِمَّا أَنْ يُعْلِمُونَا أَنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنْ اِلْتِزَام أَحْكَامنَا فَيُنْتَقَض عَهْدهمْ، وَيَصِيرُونَ حَرْبًا لَنَا.
وَفيه: دَلِيل لِمَنْ يَقُول الْوَاجِب بِالْقَسَامَةِ الدِّيَة دُون الْقِصَاص.
قَوْله: «خَرَجَا إِلَى خَيْبَر مِنْ جَهْد أَصَابَهُمْ» هُوَ بِفَتْحِ الْجِيم، وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.