فصل: باب الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.كتاب الأقضية:

قَالَ الزُّهْرِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: الْقَضَاء فِي الْأَصْل إِحْكَام الشَّيْء وَالْفَرَاغ مِنْهُ، وَيَكُون الْقَضَاء إِمْضَاء الْحُكْم. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل} وَسُمِّيَ الْحَاكِم قَاضِيًا؛ لِأَنَّهُ يُمْضِي الْأَحْكَام وَيَحْكُمهَا، وَيَكُون (قَضَى) بِمَعْنَى أَوْجَبَ، فَيَجُوز أَنْ يَكُون سُمِّيَ قَاضِيًا لِإِيجَابِهِ الْحُكْم عَلَى مَنْ يَجِب عَلَيْهِ، وَسُمِّيَ حَاكِمًا لِمَنْعِهِ الظَّالِم مِنْ الظُّلْم، يُقَال: حَكَمْت الرَّجُل، وَأَحْكَمْته إِذَا مَنَعْته، وَسُمِّيَتْ حَكَمَة الدَّابَّة؛ لِمَنْعِهَا الدَّابَّة مِنْ رُكُوبهَا رَأْسهَا، وَسُمِّيَتْ الْحِكْمَة حِكْمَة؛ لِمَنْعِهَا النَّفْس مِنْ هَوَاهَا.

.باب الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

3228- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاس بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاس دِمَاء رِجَال وَأَمْوَالهمْ وَلَكِنَّ الْيَمِين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ». وَفِي رِوَايَة: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» هَكَذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيث الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم فِي صَحِيحهمَا مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَة اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَاب السُّنَن وَغَيْرهمْ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: قَالَ الْأَصِيلِيّ: لَا يَصِحّ مَرْفُوعًا، إِنَّمَا هُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس، كَذَا رَوَاهُ أَيُّوب وَنَافِع الْجُمَحِيُّ عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ اِبْن عَبَّاس.
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ رِوَايَة اِبْن جُرَيْجٍ مَرْفُوعًا، هَذَا كَلَام الْقَاضِي. قُلْت: وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ بِأَسَانِيدِهِمَا عَنْ نَافِع بْن عُمَر الْجُمَحِيِّ عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْفُوعًا، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَسَن صَحِيح، وَجَاءَ فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْره بِإِسْنَادٍ حَسَن أَوْ صَحِيح زِيَادَة عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاس بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْم دِمَاء قَوْم وَأَمْوَالهمْ وَلَكِنَّ الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». وَهَذَا الْحَدِيث قَاعِدَة كَبِيرَة مِنْ قَوَاعِد أَحْكَام الشَّرْع، فَفيه أَنَّهُ لَا يُقْبَل قَوْل الْإِنْسَان فِيمَا يَدَّعِيه بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، بَلْ يَحْتَاج إِلَى بَيِّنَة أَوْ تَصْدِيق الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ طَلَبَ يَمِين الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ.
وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِكْمَة فِي كَوْنه لَا يُعْطَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أُعْطِيَ بِمُجَرَّدِهَا لَادَّعَى قَوْم دِمَاء قَوْم وَأَمْوَالهمْ وَاسْتُبِيحَ، وَلَا يُمْكِن الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَصُونَ مَاله وَدَمه، وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَيُمْكِنهُ صِيَانَتهمَا بِالْبَيِّنَةِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور مِنْ سَلَف الْأُمَّة وَخَلَفهَا: أَنَّ الْيَمِين تَتَوَجَّه عَلَى كُلّ مَنْ ادُّعِيَ عَلَيْهِ حَقّ. سَوَاء كَانَ بَيْنه وَبَيْن الْمُدَّعِي اِخْتِلَاطٌ أَمْ لَا، وَقَالَ مَالِك وَجُمْهُور أَصْحَابه وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة، فُقَهَاء الْمَدِينَة: إِنَّ الْيَمِين لَا تَتَوَجَّه إِلَّا عَلَى مَنْ بَيْنه وَبَيْنه خُلْطَة لِئَلَّا يَبْتَذِل السُّفَهَاء أَهْل الْفَضْل بِتَحْلِيفِهِمْ مِرَارًا فِي الْيَوْم الْوَاحِد، فَاشْتَرَطَتْ الْخُلْطَة دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَة.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِير الْخُلْطَة؛ فَقِيلَ: هِيَ مَعْرِفَته بِمُعَامَلَتِهِ وَمَدِينَته أَبِشَاهِدٍ أَوْ بِشَاهِدَيْنِ، وَقِيلَ: تَكْفِي الشُّبْهَة، وَقِيلَ: هِيَ أَنْ تَلِيق بِهِ الدَّعْوَى بِمِثْلِهَا عَلَى مِثْله، وَقِيلَ: أَنْ يَلِيق بِهِ أَنْ يُعَامِلهُ بِمِثْلِهَا، وَدَلِيل الْجُمْهُور حَدِيث الْبَاب، وَلَا أَصْل لِاشْتِرَاطِ الْخُلْطَة فِي كِتَاب وَلَا سُنَّة وَلَا إِجْمَاع.
3229- سبق شرحه بالباب.

.باب الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ:

3230- قَوْله: «عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِد» فيه جَوَاز الْقَضَاء بِشَاهِدٍ وَيَمِين، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالْكُوفِيُّونَ وَالشَّعْبِيّ وَالْحَكَم وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْث وَالْأَنْدَلُسِيُّونَ مِنْ أَصْحَاب مَالِك: لَا يَحْكُم بِشَاهِدٍ وَيَمِين فِي شَيْء مِنْ الْأَحْكَام، وَقَالَ جُمْهُور عُلَمَاء الْإِسْلَام مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ عُلَمَاء الْأَمْصَار: يَقْضِي بِشَاهِدٍ وَيَمِين الْمُدَّعِي فِي الْأَمْوَال وَمَا يَقْصِد بِهِ الْأَمْوَال، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق وَعَلِيّ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَفُقَهَاء الْمَدِينَة وَسَائِر عُلَمَاء الْحِجَاز وَمُعْظَم عُلَمَاء الْأَمْصَار رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَحُجَّتهمْ أَنَّهُ جَاءَتْ أَحَادِيث كَثِيرَة فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة مِنْ رِوَايَة عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَزَيْد بْن ثَابِت وَجَابِر وَأَبِي هُرَيْرَة وَعُمَارَة بْن حَزْم وَسَعْد بْن عُبَادَةَ وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، قَالَ الْحُفَّاظ: أَصَحّ أَحَادِيث الْبَاب حَدِيث اِبْن عَبَّاس، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: لَا مَطْعَن لِأَحَدٍ فِي إِسْنَاده، قَالَ: وَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْمَعْرِفَة فِي صِحَّته.
قَالَ وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَجَابِر وَغَيْرهمَا حِسَان، وَاللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.باب الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ وَاللَّحْنِ بِالْحُجَّةِ:

3231- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضكُمْ أَنْ يَكُون أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْو مِمَّا أَسْمَع مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذهُ فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ بِهِ قِطْعَة مِنْ النَّار»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِنَّمَا أَنَا بَشَر وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْم فَلَعَلَّ بَعْضهمْ أَنْ يَكُون أَبْلَغ مِنْ بَعْض فَأَحْسَب أَنَّهُ صَادِق فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِحَقِّ مُسْلِم فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة مِنْ النَّار فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرهَا».
أَمَّا: «أَلْحَن»: فَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة، وَمَعْنَاهُ أَبْلَغ وَأَعْلَم بِالْحُجَّةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة.
3232- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَر» مَعْنَاهُ التَّنْبِيه عَلَى حَالَة الْبَشَرِيَّة، وَأَنَّ الْبَشَر لَا يَعْلَمُونَ مِنْ الْغَيْب وَبَوَاطِن الْأُمُور شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُطْلِعهُمْ اللَّه تَعَالَى عَلَى شَيْء مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَجُوز عَلَيْهِ فِي أُمُور الْأَحْكَام مَا يَجُوز عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْكُم بَيْن النَّاس بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِر، فَيُحْكَم بِالْبَيِّنَةِ وَبِالْيَمِينِ وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ أَحْكَام الظَّاهِر مَعَ إِمْكَان كَوْنه فِي الْبَاطِن خِلَاف ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ الْحُكْم بِالظَّاهِرِ، وَهَذَا نَحْو قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه» وَفِي حَدِيث الْمُتَلَاعِنَيْنِ: «لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْن» وَلَوْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى لَأَطْلَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَاطِن أَمْر الْخَصْمَيْنِ فَحَكَمَ بِيَقِينِ نَفْسه مِنْ غَيْر حَاجَة إِلَى شَهَادَة أَوْ يَمِين، لَكِنْ لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى أُمَّته بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاء بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَاله وَأَحْكَامه أَجْرَى لَهُ حُكْمهمْ فِي عَدَم الِاطَّلَاع عَلَى بَاطِن الْأُمُور، لِيَكُونَ حُكْم الْأُمَّة فِي ذَلِكَ حُكْمه، فَأَجْرَى اللَّه تَعَالَى أَحْكَامه عَلَى الظَّاهِر الَّذِي يَسْتَوِي فيه هُوَ وَغَيْره؛ لِيَصِحّ الِاقْتِدَاء بِهِ، وَتَطِيب نُفُوس الْعِبَاد لِلِانْقِيَادِ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَة مِنْ غَيْر نَظَر إِلَى الْبَاطِن. وَاللَّهُ أَعْلَم.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيث ظَاهِر أَنَّهُ قَدْ يَقَع مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِر مُخَالِف لِلْبَاطِنِ، وَقَدْ اِتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَرّ عَلَى خَطَأ فِي الْأَحْكَام، فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَا تَعَارُض بَيْن الْحَدِيث وَقَاعِدَة الْأُصُولِيِّينَ؛ لِأَنَّ مُرَاد الْأُصُولِيِّينَ فِيمَا حَكَمَ فيه بِاجْتِهَادِهِ، فَهَلْ يَجُوز أَنْ يَقَع فيه خَطَأ؟ فيه خِلَاف، الْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازه، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، فَاَلَّذِينَ جَوَّزُوهُ قَالُوا: لَا يُقَرّ عَلَى إِمْضَائِهِ، بَلْ يُعْلِمهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَيَتَدَارَكهُ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الْحَدِيث فَمَعْنَاهُ: إِذَا حَكَمَ بِغَيْرِ اِجْتِهَاد كَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِين فَهَذَا إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُخَالِف ظَاهِره بَاطِنه لَا يُسَمَّى الْحُكْم خَطَأ، بَلْ الْحُكْم صَحِيح بِنَاء عَلَى مَا اِسْتَقَرَّ بِهِ التَّكْلِيف، وَهُوَ وُجُوب الْعَمَل بِشَاهِدَيْنِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَا شَاهِدَيْ زُور أَوْ نَحْو ذَلِكَ فَالتَّقْصِير مِنْهُمَا وَمِمَّنْ سَاعَدَهُمَا، وَأَمَّا الْحُكْم فَلَا حِيلَة لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا عَيْب عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَاد، فَإِنَّ هَذَا الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَيْسَ هُوَ حُكْم الشَّرْع. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلَالَة لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجَمَاهِير عُلَمَاء الْإِسْلَام وَفُقَهَاء الْأَمْصَار مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ أَنَّ حُكْم الْحَاكِم لَا يُحِيل الْبَاطِن، وَلَا يُحِلّ حَرَامًا، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدًا زُور لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ، فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِم؛ لَمْ يَحِلّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ ذَلِكَ الْمَال، وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ لَمْ يَحِلّ لِلْوَلِيِّ قَتْله مَعَ عِلْمه بِكَذِبِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَا بِالزُّورِ أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته لَمْ يَحِلّ لِمَنْ عَلِمَ بِكَذِبِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجهَا بَعْد حُكْم الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يُحِلّ حُكْم الْحَاكِم الْفُرُوج دُون الْأَمْوَال، فَقَالَ: يَحِلّ نِكَاح الْمَذْكُورَة، وَهَذَا مُخَالِف لِهَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح وَلِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْله، وَمُخَالِف لِقَاعِدَةٍ وَافَقَ هُوَ وَغَيْره عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّ الْأَبْضَاع أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنْ الْأَمْوَال. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ بِهِ قِطْعَة مِنْ النَّار» مَعْنَاهُ: إِنْ قَضَيْت لَهُ بِظَاهِرٍ يُخَالِف الْبَاطِن فَهُوَ حَرَام يَؤُول بِهِ إِلَى النَّار.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرهَا» لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّخْيِير، بَلْ هُوَ التَّهْدِيد وَالْوَعِيد، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانه: {اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}.
قَوْله: «سَمِعَ لَجَبَة خَصْم بِبَابِ أُمّ سَلَمَة» هِيَ بِفَتْحِ اللَّام وَالْجِيم وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة، وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي قَبْل هَذِهِ: «جَلَبَة خَصْم» بِتَقْدِيمِ الْجِيم وَهُمَا صَحِيحَانِ، وَالْجَلَبَة وَاللَّجَبَة اِخْتِلَاط الْأَصْوَات، وَالْخَصْم هُنَا الْجَمَاعَة، وَهُوَ مِنْ الْأَلْفَاظ الَّتِي تَقَع عَلَى الْوَاحِد وَالْجَمْع. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِحَقِّ مُسْلِم» هَذَا التَّقْيِيد بِالْمُسْلِمِ خَرَجَ عَلَى الْغَالِب وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ الِاحْتِرَاز مِنْ الْكَافِر، فَإِنَّ مَال الذِّمِّيّ وَالْمُعَاهَد وَالْمُرْتَدّ فِي هَذَا كَمَالِ الْمُسْلِم. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب قَضِيَّةِ هِنْدٍ:

3233- قَوْله: «يَا رَسُول اللَّه: إِنَّ أَبَا سُفْيَان رَجُل شَحِيح لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَة مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْت مِنْ مَاله بِغَيْرِ عِلْمه، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاح؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذِي مِنْ مَاله بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيك وَيَكْفِي بَنِيك» فِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد.
مِنْهَا: وُجُوب نَفَقَة الزَّوْجَة، وَمِنْهَا: وُجُوب نَفَقَة الْأَوْلَاد الْفُقَرَاء الصِّغَار.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّفَقَة مُقَدَّرَة بِالْكِفَايَةِ لَا بِالْأَمْدَادِ، وَمَذْهَب أَصْحَابنَا أَنَّ نَفَقَة الْقَرِيب مُقَدَّرَة بِالْكِفَايَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث، وَنَفَقَة الزَّوْجَة مُقَدَّرَة بِالْأَمْدَادِ عَلَى الْمُوسِر كُلّ يَوْم مُدَّانِ، وَعَلَى الْمُعْسِر مُدّ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّط مُدّ وَنِصْف، وَهَذَا الْحَدِيث يَرُدّ عَلَى أَصْحَابنَا.
وَمِنْهَا: جَوَاز سَمَاع كَلَام الْأَجْنَبِيَّة عِنْد الْإِفْتَاء وَالْحُكْم، وَكَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ.
وَمِنْهَا: جَوَاز ذِكْر الْإِنْسَان بِمَا يَكْرَههُ إِذَا كَانَ لِلِاسْتِفْتَاءِ وَالشَّكْوَى وَنَحْوهمَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى غَيْره حَقٌّ وَهُوَ عَاجِز عَنْ اِسْتِيفَائِهِ يَجُوز لَهُ أَنْ يَأْخُذ مِنْ مَاله قَدْر حَقّه بِغَيْرِ إِذْنه، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَمَنَعَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. وَمِنْهَا: جَوَاز إِطْلَاق الْفَتْوَى وَيَكُون الْمُرَاد تَعْلِيقهَا بِثُبُوتِ مَا يَقُولهُ الْمُسْتَفْتِي، وَلَا يَحْتَاج الْمُفْتِي أَنْ يَقُول: إِنْ ثَبَتَ كَانَ الْحُكْم كَذَا وَكَذَا، بَلْ يَجُوز لَهُ الْإِطْلَاق كَمَا أَطْلَقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَلَا بَأْس.
وَمِنْهَا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ مَدْخَلًا فِي كَفَالَة أَوْلَادهَا وَالْإِنْفَاق عَلَيْهِمْ مِنْ مَال أَبِيهِمْ.
قَالَ أَصْحَابنَا: إِذَا اِمْتَنَعَ الْأَب مِنْ الْإِنْفَاق عَلَى الْوَلَد الصَّغِير أَوْ كَانَ غَائِبًا أَذِنَ الْقَاضِي لِأُمِّهِ فِي الْأَخْذ مِنْ آل الْأَب أَوْ الِاسْتِقْرَاض عَلَيْهِ وَالْإِنْفَاق عَلَى الصَّغِير بِشَرْطِ أَهْلِيَّتهَا. وَهَلْ لَهَا الِاسْتِقْلَال بِالْأَخْذِ مِنْ مَاله بِغَيْرِ إِذْن الْقَاضِي؟ فيه وَجْهَانِ لَهُ مَبْنِيَّانِ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا فِي أَنَّ إِذْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهِنْد اِمْرَأَة أَبِي سُفْيَان كَانَ إِفْتَاء أَمْ قَضَاء؟ وَالْأَصَحّ أَنَّهُ كَانَ إِفْتَاء، وَأَنَّ هَذَا يَجْرِي فِي كُلّ اِمْرَأَة أَشْبَهَتْهَا، فَيَجُوز، وَالثَّانِي: كَانَ قَضَاء فَلَا يَجُوز لِغَيْرِهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَمِنْهَا: اِعْتِمَاد الْعُرْف فِي الْأُمُور الَّتِي لَيْسَ فيها تَحْدِيد شَرْعِيّ. وَمِنْهَا: جَوَاز خُرُوج الزَّوْجَة مِنْ بَيْتهَا لِحَاجَتِهَا إِذَا أَذِنَ لَهَا زَوْجهَا فِي ذَلِكَ أَوْ عَلِمْت رِضَاهُ بِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ جَمَاعَات مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ عَلَى جَوَاز الْقَضَاء عَلَى الْغَائِب، وَفِي الْمَسْأَلَة خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ: لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: يُقْضَى عَلَيْهِ فِي حُقُوق الْآدَمِيِّينَ، وَلَا يُقْضَى فِي حُدُود اللَّه تَعَالَى، وَلَا يَصِحّ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيث لِلْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّة كَانَتْ بِمَكَّة، وَكَانَ أَبُو سُفْيَان حَاضِرًا بِهَا، وَشَرْط الْقَضَاء عَلَى الْغَائِب أَنْ يَكُون غَائِبًا عَنْ الْبَلَد أَوْ مُسْتَتِرًا لَا يُقْدَر عَلَيْهِ أَوْ مُتَعَذِّرًا، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْط فِي أَبِي سُفْيَان مَوْجُودًا، فَلَا يَكُون قَضَاء عَلَى الْغَائِب، بَلْ هُوَ إِفْتَاء كَمَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3234- وَقَوْله: «جَاءَتْ هِنْد إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّه، وَاَللَّه مَا كَانَ عَلَى ظَهْر الْأَرْض أَهْل خِبَاء أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلّهُمْ اللَّه مِنْ أَهْل خِبَائِك، وَمَا عَلَى ظَهْر الْأَرْض أَهْل خِبَاء أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُعِزّهُمْ اللَّه مِنْ أَهْل خِبَائِك، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَيْضًا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَلَا أَصْبَحَ الْيَوْم عَلَى ظَهْر الْأَرْض خِبَاء أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْل خِبَائِك» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا: «أَهْل خِبَاء» نَفْسه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَنَّتْ عَنْهُ بِأَهْلِ الْخِبَاء إِجْلَالًا لَهُ، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ تُرِيد بِأَهْلِ الْخِبَاء أَهْل بَيْته. وَالْخِبَاء يُعَبَّر بِهِ عَنْ مَسْكَن الرَّجُل وَدَاره.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيْضًا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» فَمَعْنَاهُ وَسَتَزِيدِينَ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَمَكَّن الْإِيمَان مِنْ قَلْبك، وَيَزِيد حُبّك لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْوَى رُجُوعك عَنْ بُغْضه، وَأَصْل هَذِهِ اللَّفْظَة (آضَ يَئِيض أَيْضًا) إِذَا رَجَعَ.
3235- قَوْلهَا فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة: «إِنَّ أَبَا سُفْيَان رَجُل مِسِّيك» أَيْ شَحِيح وَبَخِيل، وَاخْتَلَفُوا فِي ضَبْطه عَلَى وَجْهَيْنِ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي، أَحَدهمَا: مِسِّيك بِفَتْحِ الْمِيم وَتَخْفِيف السِّين، وَالثَّانِي بِكَسْرِ الْمِيم وَتَشْدِيد السِّين، وَهَذَا الثَّانِي: هُوَ الْأَشْهَر فِي رِوَايَات الْمُحَدِّثِينَ، وَالْأَوَّل: أَصَحّ عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة، وَهُمَا جَمِيعًا لِلْمُبَالَغَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْلهَا: «فَهَلْ عَلَيَّ حَرَج مِنْ أَنْ أُطْعِم مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالنَا؟ قَالَ لَهَا: لَا. إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ، وَهُوَ صَحِيح، وَمَعْنَاهُ: لَا حَرَج، ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَقَالَ: «إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ»، أَيْ لَا تُنْفِقِي إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ لَا حَرَج إِذَا لَمْ تُنْفِقِي إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ.

.باب النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَالنَّهْيِ عَنْ مَنْعٍ وَهَاتٍ وَهُوَ الاِمْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ لَزِمَهُ أَوْ طَلَبُ مَا لاَ يَسْتَحِقُّهُ:

3236- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَه لَكُمْ ثَلَاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَه لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَة السُّؤَال، وَإِضَاعَة الْمَال» قَالَ الْعُلَمَاء: الرِّضَى وَالسُّخْط وَالْكَرَاهَة مِنْ اللَّه تَعَالَى الْمُرَاد بِهَا أَمْره وَنَهْيه، وَثَوَابه وَعِقَابه، أَوْ إِرَادَته الثَّوَاب لِبَعْضِ الْعِبَاد، وَالْعِقَاب لِبَعْضِهِمْ، وَأَمَّا الِاعْتِصَام بِحَبْلِ اللَّه فَهُوَ التَّمَسُّك بِعَهْدِهِ، وَهُوَ اِتِّبَاع كِتَابه الْعَزِيز وَحُدُوده، وَالتَّأَدُّب بِأَدَبِهِ. وَالْحَبْل يُطْلَق عَلَى الْعَهْد، وَعَلَى الْأَمَان، وَعَلَى الْوَصْلَة، وَعَلَى السَّبَب، وَأَصْله مِنْ اِسْتِعْمَال الْعَرَب الْحَبْل فِي مِثْل هَذِهِ الْأُمُور لِاسْتِمْسَاكِهِمْ بِالْحَبْلِ عِنْد شَدَائِد أُمُورهمْ، وَيُوصِلُونَ بِهَا الْمُتَفَرِّق، فَاسْتُعِيرَ اِسْم الْحَبْل لِهَذِهِ الْأُمُور.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَفَرَّقُوا» فَهُوَ أَمْر بِلُزُومِ جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ وَتَأَلُّف بَعْضهمْ بِبَعْضٍ، وَهَذِهِ إِحْدَى قَوَاعِد الْإِسْلَام.
وَاعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَة الْمَرَضِيَّة إِحْدَاهَا: أَنْ يَعْبُدُوهُ. وَالثَّانِيَة: أَلَّا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. الثَّالِثَة: أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه وَلَا يَتَفَرَّقُوا: وَأَمَّا (قِيلَ وَقَالَ) فَهُوَ الْخَوْض فِي أَخْبَار النَّاس، وَحِكَايَات مَا لَا يَعْنِي مِنْ أَحْوَالهمْ وَتَصَرُّفَاتهمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَة هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ، أَحَدهمَا: أَنَّهُمَا فِعْلَانِ فَقِيلَ: مَبْنًى لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله، وَقَالَ فِعْل مَاضٍ. وَالثَّانِي أَنَّهُمَا اِسْمَانِ مَجْرُورَانِ مُنَوَّنَانِ؛ لِأَنَّ الْقِيل وَالْقَوْل وَالْقَالَة كُلّه بِمَعْنًى، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا} وَمِنْهُ قَوْلهمْ: كَثُرَ الْقِيل وَالْقَال.
وَأَمَّا: «كَثْرَة السُّؤَال»: فَقِيلَ: الْمُرَاد بِهِ الْقَطْع فِي الْمَسَائِل، وَالْإِكْثَار مِنْ السُّؤَال عَمَّا لَمْ يَقَع، وَلَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَة، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ السَّلَف يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَيَرَوْنَهُ مِنْ التَّكَلُّف الْمَنْهِيّ عَنْهُ. وَفِي الصَّحِيح: كَرِهَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِل وَعَابَهَا، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِهِ سُؤَال النَّاس أَمْوَالهمْ، وَمَا فِي أَيْدِيهمْ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد كَثْرَة السُّؤَال عَنْ أَخْبَار النَّاس، وَأَحْدَاث الزَّمَان، وَمَا لَا يَعْنِي الْإِنْسَان، وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ هَذَا مِنْ النَّهْي عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد كَثْرَة سُؤَال الْإِنْسَان عَنْ حَاله وَتَفَاصِيل أَمْره، فَيَدْخُل ذَلِكَ فِي سُؤَاله عَمَّا لَا يَعْنِيه، وَيَتَضَمَّن ذَلِكَ حُصُول الْحَرَج فِي حَقّ الْمَسْئُول، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُؤَثِّر إِخْبَاره بِأَحْوَالِهِ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ شَقَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْإِخْبَار أَوْ تَكَلَّفَ التَّعْرِيض لَحِقَتْهُ الْمَشَقَّة، وَإِنْ أَهْمَلَ جَوَابه اِرْتَكَبَ سُوء الْأَدَب.
وَأَمَّا: «إِضَاعَة الْمَال»: فَهُوَ صَرْفه فِي غَيْر وُجُوهه الشَّرْعِيَّة، وَتَعْرِيضه لِلتَّلَفِ، وَسَبَب النَّهْي أَنَّهُ إِفْسَاد، وَاَللَّه لَا يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَضَاعَ مَاله تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاس.
3237- «إِنَّ اللَّه حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوق الْأُمَّهَات، وَوَأْد الْبَنَات، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَة السُّؤَال وَإِضَاعَة الْمَال» أَمَّا: «عُقُوق الْأُمَّهَات» فَحَرَام، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِر بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَلَى عَدِّهِ مِنْ الْكَبَائِر، وَكَذَلِكَ عُقُوق الْآبَاء مِنْ الْكَبَائِر، وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ هُنَا عَلَى الْأُمَّهَات لِأَنَّ حُرْمَتهنَّ آكَد مِنْ حُرْمَة الْآبَاء، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَالَ لَهُ السَّائِل: مَنْ أَبَرّ؟ قَالَ: «أُمّك ثُمَّ أُمّك» ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَة: «ثُمَّ أَبَاك». وَلِأَنَّ أَكْثَر الْعُقُوق يَقَع لِلْأُمَّهَاتِ، وَيَطْمَع الْأَوْلَاد فيهنَّ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان حَقِيقَة الْعُقُوق، وَمَا يَتَعَلَّق بِهِ فِي كِتَاب الْإِيمَان.
وَأَمَّا: «وَأْد الْبَنَات» بِالْهَمْزِ، فَهُوَ دَفْنهنَّ فِي حَيَاتهنَّ؛ فَيَمُتْنَ تَحْت التُّرَاب، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِر الْمُوبِقَات، لِأَنَّهُ قَتْل نَفْس بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَتَضَمَّن أَيْضًا قَطِيعَة الرَّحِم، وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ عَلَى الْبَنَات، لِأَنَّهُ الْمُعْتَاد الَّذِي كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَفْعَلهُ.
وَأَمَّا قَوْله: «وَمَنْعًا وَهَاتِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَلَا وَهَاتِ» فَهُوَ بِكَسْرِ التَّاء مِنْ (هَاتِ). وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّهُ نَهْي أَنْ يَمْنَع الرَّجُل مَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوق أَوْ يَطْلُب مَا لَا يَسْتَحِقّهُ، وَفِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَرَّمَ ثَلَاثًا وَكَرِهَ ثَلَاثًا» دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَة فِي هَذِهِ الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة لِلتَّنْزِيهِ، لَا لِلتَّحْرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3238- قَوْله (عَنْ خَالِد الْحَذَّاء عَنْ اِبْن أَشْوَع عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ كَاتِب الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة عَنْ الْمُغِيرَة) هَذَا الْحَدِيث فيه أَرْبَعَة تَابِعِيُّونَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، وَهُمْ خَالِد وَسَعِيد بْن عَمْرو بْن أَشْوَع وَهُوَ تَابِعِيّ سَمِعَ يَزِيد بْن سَلَمَة الْجُعْفِيَّ الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، التَّابِعِيّ الثَّالِث الشَّعْبِيّ، وَالرَّابِع: كَاتِب الْمُغِيرَة، وَهُوَ وَرَّاد.
3239- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه حَرَّمَ ثَلَاثًا وَنَهَى عَنْ ثَلَاث، حَرَّمَ عُقُوق الْوَالِد وَوَأْد الْبَنَات وَلَا وَهَاتِ وَنَهَى عَنْ ثَلَاث: قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَة السُّؤَال وَإِضَاعَة الْمَال» هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِمَنْ يَقُول: إِنَّ النَّهْي لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيم، وَالْمَشْهُور أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّحْرِيم، وَهُوَ الْأَصَحّ، وَيُجَاب عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ خَرَجَ بِدَلِيلٍ آخَر.
قَوْله: (كَتَبَ الْمُغِيرَة إِلَى مُعَاوِيَة: سَلَام عَلَيْك أَمَّا بَعْد) فيه: اِسْتِحْبَاب الْمُكَاتَبَة عَلَى هَذَا الْوَجْه، فَيَبْدَأ سَلَام عَلَيْك، كَمَا كَتَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْل: السَّلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى.

.باب بَيَانِ أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ:

3240- قَوْله: (عَنْ يَزِيد بْن عَبْد اللَّه بْن أُسَامَة بْن الْهَادِ عَنْ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم عَنْ بُسْر بْن سَعِيد عَنْ أَبِي قَيْس مَوْلَى عَمْرو بْن الْعَاصِ عَنْ عَمْرو بْن الْعَاصِ) هَذَا الْإِسْنَاد فيه أَرْبَعَة تَابِعِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، وَهُمْ يَزِيد فَمَنْ بَعْده.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِم فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْر» قَالَ الْعُلَمَاء: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث فِي حَاكِم عَالِم أَهْل لِلْحُكْمِ، فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ، وَأَجْرٌ بِإِصَابَتِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ.
وَفِي الْحَدِيث مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذَا أَرَادَ الْحَاكِم فَاجْتَهَدَ، قَالُوا: فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلَا يَحِلّ لَهُ الْحُكْم، فَإِنْ حَكَمَ فَلَا أَجْر لَهُ بَلْ هُوَ آثِمٌ، وَلَا يَنْفُذ حُكْمه، سَوَاء وَافَقَ الْحَقّ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ إِصَابَته اِتِّفَاقِيَّة لَيْسَتْ صَادِرَة عَنْ أَصْل شَرْعِيّ فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيع أَحْكَامه، سَوَاء وَافَقَ الصَّوَاب أَمْ لَا، وَهِيَ مَرْدُودَة كُلّهَا، وَلَا يُعْذَر فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث فِي السُّنَن: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضٍ فِي الْجَنَّة، وَاثْنَانِ فِي النَّار، قَاضٍ عَرَفَ الْحَقّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّة، وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقّ فَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّار، وَقَاضٍ قَضَى عَلَى جَهْل فَهُوَ فِي النَّار»، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب أَمْ الْمُصِيب وَاحِد، وَهُوَ مَنْ وَافَقَ الْحُكْم الَّذِي عِنْد اللَّه تَعَالَى وَالْآخَر مُخْطِئ لَا إِثْم عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ؟ وَالْأَصَحّ عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه أَنَّ الْمُصِيب وَاحِد، وَقَدْ اِحْتَجَّتْ الطَّائِفَتَانِ بِهَذَا الْحَدِيث، وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ الْقَائِلُونَ: «كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب» فَقَالُوا: قَدْ جُعِلَ لِلْمُجْتَهِدِ أَجْر فَلَوْلَا إِصَابَته لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْر، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَقَالُوا: سَمَّاهُ مُخْطِئًا، لَوْ كَانَ مُصِيبًا لَمْ يُسَمِّهِ مُخْطِئًا، وَأَمَّا الْأَجْر فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ عَلَى تَعَبه فِي الِاجْتِهَاد، قَالَ الْأَوَّلُونَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ مُخْطِئًا لِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ أَخْطَأَ النَّصّ أَوْ اِجْتَهَدَ فِيمَا لَا يَسُوغ فيه الِاجْتِهَاد كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَغَيْره، وَهَذَا الِاخْتِلَاف إِنَّمَا هُوَ فِي الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع، فَأَمَّا أُصُول التَّوْحِيد فَالْمُصِيب فيها وَاحِد بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدّ بِهِ، وَلَمْ يُخَالِف إِلَّا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن الْعَبْتَرِيّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ فَصَوَّبَا الْمُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ الْعُلَمَاء: الظَّاهِر أَنَّهُمَا أَرَادَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُون الْكُفَّار. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب كَرَاهَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ:

3241- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحْكُم أَحَد بَيْن اِثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان» فيه: النَّهْي عَنْ الْقَضَاء فِي حَال الْغَضَب.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَيَلْتَحِق بِالْغَضَبِ كُلّ حَال يَخْرُج الْحَاكِم فيها عَنْ سَدَاد النَّظَر وَاسْتِقَامَة الْحَال كَالشِّبَعِ الْمُفْرِط وَالْجُوع الْمُقْلِق، وَالْهَمّ وَالْفَرَح الْبَالِغ، وَمُدَافَعَة الْحَدَث، وَتَعَلُّق الْقَلْب بِأَمْرٍ وَنَحْو ذَلِكَ، وَكُلّ هَذِهِ الْأَحْوَال يُكْرَه لَهُ الْقَضَاء فيها خَوْفًا مِنْ الْغَلَط، فَإِنْ قَضَى فيها صَحَّ قَضَاؤُهُ، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي شِرَاج الْحَرَّة فِي مِثْل هَذَا الْحَال، وَقَالَ فِي اللُّقَطَة مَا لَك وَلَهَا... إِلَى آخِره، وَكَانَ فِي حَال الْغَضَب. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب نَقْضِ الأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ وَرَدِّ مُحْدَثَاتِ الأُمُورِ:

3242- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» قَالَ أَهْل الْعَرَبِيَّة: (الرَّدّ) هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْدُود، وَمَعْنَاهُ: فَهُوَ بَاطِل غَيْر مُعْتَدّ بِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيث قَاعِدَة عَظِيمَة مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام، وَهُوَ مِنْ جَوَامِع كَلِمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَرِيح فِي رَدّ كُلّ الْبِدَع وَالْمُخْتَرَعَات.
وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة زِيَادَة وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ يُعَانِد بَعْض الْفَاعِلِينَ فِي بِدْعَة سَبَقَ إِلَيْهَا، فَإِذَا اُحْتُجَّ عَلَيْهِ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى يَقُول: أَنَا مَا أَحْدَثْت شَيْئًا فَيُحْتَجّ عَلَيْهِ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي فيها التَّصْرِيح بِرَدِّ كُلّ الْمُحْدَثَات، سَوَاء أَحْدَثَهَا الْفَاعِل، أَوْ سَبَقَ بِإِحْدَاثِهَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلِيل لِمَنْ يَقُول مِنْ الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّ النَّهْي يَقْتَضِي الْفَسَاد. وَمَنْ قَالَ: لَا يَقْتَضِي الْفَسَاد يَقُول هَذَا خَبَر وَاحِد، وَلَا يَكْفِي فِي إِثْبَات هَذِهِ الْقَاعِدَة الْمُهِمَّة، وَهَذَا جَوَاب فَاسِد.
وَهَذَا الْحَدِيث مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظه وَاسْتِعْمَاله فِي إِبْطَال الْمُنْكَرَات، وَإِشَاعَة الِاسْتِدْلَال بِهِ.

.باب بَيَانِ خَيْرِ الشُّهُودِ:

3244- قَوْله فِي إِسْنَاد حَدِيث الْبَاب: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَحْيَى قَالَ: قَرَأْت عَلَى مَالِك عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَان عَنْ اِبْن أَبِي عَمْرَة الْأَنْصَارِيّ عَنْ زَيْد بْن خَالِد الْجُهَنِيّ) هَذَا الْحَدِيث فيه أَرْبَعَة تَابِعِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض وَهُمْ: عَبْد اللَّه وَأَبُوهُ وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَان وَابْن أَبِي عَمْرَة.
وَاسْم (اِبْن أَبِي عَمْرَة): عَبْد الرَّحْمَن بْن عَمْرو بْن مُحْصَن الْأَنْصَارِيّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِركُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْل أَنْ يُسْأَلهَا» وَفِي الْمُرَاد بِهَذَا الْحَدِيث تَأْوِيلَانِ: أَصَحّهمَا وَأَشْهَرهُمَا: تَأْوِيل مَالِك وَأَصْحَاب الشَّافِعِيّ أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ عِنْده شَهَادَة لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ، وَلَا يَعْلَم ذَلِكَ الْإِنْسَان أَنَّهُ شَاهِد، فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرهُ بِأَنَّهُ شَاهِد لَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى شَهَادَة الْحِسْبَة، وَذَلِكَ فِي غَيْر حُقُوق الْآدَمِيِّينَ الْمُخْتَصَّة بِهِمْ، فِيمَا تُقْبَل فيه شَهَادَة الْحِسْبَة الطَّلَاق وَالْعِتْق وَالْوَقْف، وَالْوَصَايَا الْعَامَّة، وَالْحُدُود وَنَحْو ذَلِكَ، فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ هَذَا النَّوْع وَجَبَ عَلَيْهِ رَفْعه إِلَى الْقَاضِي، وَإِعْلَامه بِهِ وَالشَّهَادَة وَاجِبَة، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَة لِلَّهِ} وَكَذَا فِي النَّوْع الْأَوَّل يَلْزَم مَنْ عِنْده شَهَادَة لِإِنْسَانٍ لَا يَعْلَمهَا أَنْ يُعْلِمهُ إِيَّاهَا؛ لِأَنَّهَا أَمَانَة لَهُ عِنْده. وَحُكِيَ تَأْوِيل ثَالِث أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْمَجَاز وَالْمُبَالَغَة فِي أَدَاء الشَّهَادَة بَعْد طَلَبهَا لَا قَبْله، كَمَا يُقَال: الْجَوَاد يُعْطِي قَبْل السُّؤَال أَيْ: يُعْطِي سَرِيعًا عَقِب السُّؤَال مِنْ غَيْر تَوَقُّف، قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث مُنَاقَضَة لِلْحَدِيثِ الْآخَر فِي ذَمّ مَنْ يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْل أَنْ يُسْتَشْهَد فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ» وَقَدْ تَأَوَّلَ الْعُلَمَاء هَذَا تَأْوِيلَات: أَصَحّهَا تَأْوِيل أَصْحَابنَا: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ مَعَهُ شَهَادَة لِآدَمِيِّ عَالِم بِهَا فَيَأْتِي فَيَشْهَد بِهَا قَبْل أَنْ تُطْلَب مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى شَاهِد الزُّور فَيَشْهَد بِمَا لَا أَصْل لَهُ وَلَمْ يُسْتَشْهَد.
وَالثَّالِث: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ يَنْتَصِب شَاهِدًا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْل الشَّهَادَة.
وَالرَّابِع: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ يَشْهَد لِقَوْمٍ بِالْجَنَّةِ أَوْ النَّار مِنْ غَيْر تَوَقُّف وَهَذَا ضَعِيف. وَاللَّهُ أَعْلَم.