فصل: باب إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ». وَفِي قَوْلِهِ: «رَأَيْتُ نُورًا»:

261- قَوْله: عَنْ أَبِي ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْت رَبّك؟ فَقَالَ: نُور أَنَّى أَرَاهُ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «رَأَيْت نُورًا» أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُور أَنَّى أَرَاهُ» فَهُوَ بِتَنْوِينِ نُور وَبِفَتْحِ الْهَمْزَة فِي (أَنَّى) وَتَشْدِيد النُّون وَفَتْحهَا، و(أَرَاهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَة هَكَذَا رَوَاهُ جَمِيع الرُّوَاة فِي جَمِيع الْأُصُول وَالرِّوَايَات وَمَعْنَاهُ: حِجَابه نُور فَكَيْف أَرَاهُ؟.
قَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الضَّمِير فِي (أَرَاهُ) عَائِد عَلَى اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النُّور مَنَعَنِي مِنْ الرُّؤْيَة كَمَا جَرَتْ الْعَادَة بِإِغْشَاءِ الْأَنْوَار الْأَبْصَار، وَمَنْعهَا مِنْ إِدْرَاك مَا حَالَتْ بَيْن الرَّائِي وَبَيْنَهُ.
262- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْت نُورًا» مَعْنَاهُ: رَأَيْت النُّور فَحَسْب وَلَمْ أَرَ غَيْره، قَالَ وَرُوِيَ (نُورَانِيّ أَرَاهُ) بِفَتْحِ الرَّاء وَكَسْر النُّون وَتَشْدِيد الْيَاء، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَيْ: خَالِق النُّور الْمَانِع مِنْ رُؤْيَته فَيَكُون مِنْ صِفَات الْأَفْعَال، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذِهِ الرِّوَايَة لَمْ تَقَع إِلَيْنَا وَلَا رَأَيْتهَا فِي شَيْء مِنْ الْأُصُول وَمَنْ الْمُسْتَحِيل أَنْ تَكُون ذَات اللَّه تَعَالَى نُورًا إِذْ النُّور مِنْ جُمْلَة الْأَجْسَام، وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى يَجِلّ عَنْ ذَلِكَ، هَذَا مَذْهَب جَمِيع أَئِمَّة الْمُسْلِمِينَ، وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {اللَّه نُور السَّمَوَات وَالْأَرْض} وَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيث مِنْ تَسْمِيَته سُبْحَانه وَتَعَالَى بِالنُّورِ مَعْنَاهُ ذُو نُورهمَا وَخَالِقه، وَقِيلَ: هَادِي أَهْل السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَقِيلَ: مُنَوِّر قُلُوب عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ذُو الْبَهْجَة وَالضِّيَاء وَالْجَمَال. وَاَللَّهُ أَعْلَم.

.باب فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنَامُ». وَفِي قَوْلِهِ: «حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»:

263- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه لَا يَنَام، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَام يَخْفِض الْقِسْط وَيَرْفَعهُ يُرْفَع إِلَيْهِ عَمَل اللَّيْل قَبْل عَمَل النَّهَار، وَعَمَل النَّهَار قَبْل عَمَل اللَّيْل، حِجَابه النُّور» وَفِي رِوَايَة: «النَّار لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَات وَجْهه مَا اِنْتَهَى إِلَيْهِ بَصَره مِنْ خَلْقه» أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنَام وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَام» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى لَا يَنَام وَأَنَّهُ يَسْتَحِيل فِي حَقّه النَّوْم؛ فَإِنَّ النَّوْم اِنْغِمَار وَغَلَبَة عَلَى الْعَقْل يَسْقُط بِهِ الْإِحْسَاس، وَاَللَّه تَعَالَى مُنَزَّه عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَحِيل فِي حَقّه جَلَّ وَعَلَا، وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْفِض الْقِسْط وَيَرْفَعهُ» فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ الْهَرَوِيُّ: قَالَ اِبْن قُتَيْبَة الْقِسْطُ الْمِيزَان، وَسُمِّيَ قِسْطًا؛ لِأَنَّ الْقِسْط: الْعَدْل، وَبِالْمِيزَانِ يَقَع الْعَدْل، قَالَ: وَالْمُرَاد أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَخْفِض الْمِيزَان وَيَرْفَعهُ بِمَا يُوزَن مِنْ أَعْمَال الْعِبَاد الْمُرْتَفِعَة، وَيُوزَن مِنْ أَرْزَاقهمْ النَّازِلَة، وَهَذَا تَمْثِيل لِمَا يُقَدَّر تَنْزِيله فَشُبِّهَ بِوَزْنِ الْمِيزَان، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالْقِسْطِ الرِّزْق الَّذِي هُوَ قِسْط كُلّ مَخْلُوق يَخْفِضهُ فَيُقَتِّرهُ وَيَرْفَعهُ فَيُوَسِّعهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُرْفَع إِلَيْهِ عَمَل اللَّيْل قَبْل عَمَل النَّهَار وَعَمَل النَّهَار قَبْل عَمَل اللَّيْل» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «عَمَل النَّهَار بِاللَّيْلِ وَعَمَل اللَّيْل بِالنَّهَارِ» فَمَعْنَى الْأَوَّل- وَاَللَّه أَعْلَم- يُرْفَع إِلَيْهِ عَمَل اللَّيْل قَبْل عَمَل النَّهَار الَّذِي بَعْده، وَعَمَل النَّهَار قَبْل عَمَل اللَّيْل الَّذِي بَعْده، وَمَعْنَى الرِّوَايَة الثَّانِيَة: يُرْفَع إِلَيْهِ عَمَل النَّهَار فِي أَوَّل اللَّيْل الَّذِي بَعْده، وَيُرْفَع إِلَيْهِ عَمَل اللَّيْل فِي أَوَّل النَّهَار الَّذِي بَعْده؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَة الْحَفَظَة يَصْعَدُونَ بِأَعْمَالِ اللَّيْل بَعْد اِنْقِضَائِهِ فِي أَوَّل النَّهَار، وَيَصْعَدُونَ بِأَعْمَالِ النَّهَار بَعْد اِنْقِضَائِهِ فِي أَوَّل اللَّيْل. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حِجَابه النُّور لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَات وَجْهه مَا اِنْتَهَى إِلَيْهِ بَصَره مِنْ خَلْقه» فَالسُّبُحَات بِضَمِّ السِّين وَالْبَاء وَرَفْع التَّاء فِي آخِره وَهِيَ جَمْع سُبْحَة.
قَالَ صَاحِب الْعَيْن وَالْهَرَوِيّ وَجَمِيع الشَّارِحِينَ لِلْحَدِيثِ مِنْ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ: مَعْنَى (سُبُحَات وَجْهه) نُوره وَجَلَاله وَبَهَاؤُهُ، وَأَمَّا الْحِجَاب فَأَصْله فِي اللُّغَة الْمَنْع وَالسَّتْر، وَحَقِيقَة الْحِجَاب إِنَّمَا تَكُون لِلْأَجْسَامِ الْمَحْدُودَة، وَاَللَّه مُنَزَّه عَنْ الْجِسْم وَالْحَدّ، وَالْمُرَاد هُنَا الْمَانِع مِنْ رُؤْيَته، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَانِع نُورًا أَوْ نَارًا لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ مِنْ الْإِدْرَاك فِي الْعَادَة لِشُعَاعِهِمَا، وَالْمُرَاد بِالْوَجْهِ الذَّات، وَالْمُرَاد بِمَا اِنْتَهَى إِلَيْهِ بَصَره مِنْ خَلْقه جَمِيع الْمَخْلُوقَات لِأَنَّ بَصَره سُبْحَانه وَتَعَالَى مُحِيط بِجَمِيعِ الْكَائِنَات، وَلَفْظَة (مِنْ) لِبَيَانِ الْجِنْس لَا لِلتَّبْعِيضِ، وَالتَّقْدِير لَوْ أَزَالَ الْمَانِع مِنْ رُؤْيَته وَهُوَ الْحِجَاب الْمُسَمَّى نُورًا أَوْ نَارًا وَتَجَلَّى لِخَلْقِهِ لَأَحْرَقَ جَلَال ذَاته جَمِيع مَخْلُوقَاته. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة حَدَّثَنَا الْأَعْمَش عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة عَنْ أَبِي عُبَيْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى) ثُمَّ قَالَ: (وَفِي رِوَايَة أَبِي بَكْر: عَنْ الْأَعْمَش وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا) هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه كُوفِيُّونَ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ بَصْرِيّ كُوفِيّ، وَاسْم أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة: عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم، وَهُوَ أَبُو شَيْبَة، وَاسْم أَبِي كُرَيْبٍ: مُحَمَّد بْن الْعَلَاء، وَأَبُو مُعَاوِيَة: مُحَمَّد بْن خَارِم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَالْأَعْمَش: سُلَيْمَان بْن مِهْرَانَ، وَأَبُو مُوسَى: عَبْد اللَّه اِبْن قَيْس، وَكُلّ هَؤُلَاءِ تَقَدَّمَ بَيَانهمْ وَلَكِنْ طَالَ الْعَهْد بِهِمْ فَأَرَدْت تَجْدِيده لِمَنْ لَا يَحْفَظهُمْ.
وَأَمَّا أَبُو عُبَيْدَة: فَهُوَ اِبْن عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود، وَاسْمه: عَبْد الرَّحْمَن، وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد لَطِيفَتَانِ مِنْ لَطَائِف عِلْم الْإِسْنَاد إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُمْ كُلّهمْ كُوفِيُّونَ كَمَا ذَكَرْته، وَالثَّانِيَة: أَنَّ فيه ثَلَاثَة تَابِعِيِّينَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض: الْأَعْمَش وَعَمْرو وَأَبُو عُبَيْدَة.
وَأَمَّا قَوْله: (وَفِي رِوَايَة أَبِي بَكْر: عَنْ الْأَعْمَش وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا) فَهُوَ مِنْ اِحْتِيَاط مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه وَوَرَعه وَإِتْقَانه، وَهُوَ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَأَبِي بَكْر فَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ فِي رِوَايَته: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَش، وَقَالَ أَبُو بَكْر: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش؛ فَلَمَّا اِخْتَلَفَتْ عِبَارَتهمَا فِي كَيْفِيَّة رِوَايَة شَيْخهمَا أَبِي مُعَاوِيَة بَيَّنَهَا مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه فَحَصَلَ فيه فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ (حَدَّثَنَا) لِلِاتِّصَالِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء وَفِي (عَنْ) خِلَاف كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْفُصُول وَغَيْرهَا، وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِير مِنْ طَوَائِف الْعُلَمَاء أَنَّهَا أَيْضًا لِلِاتِّصَالِ إِلَّا أَنْ يَكُون قَائِلهَا مُدَلِّسًا فَبَيَّنَ مُسْلِم ذَلِكَ، وَالثَّانِيَة أَنَّهُ لَوْ اِقْتَصَرَ عَلَى إِحْدَى الْعِبَارَتَيْنِ كَانَ فيه خَلَل فَإِنَّهُ إِنْ اِقْتَصَرَ عَلَى (عَنْ) كَانَ مُفَوِّتًا لِقُوَّةِ (حَدَّثَنَا) وَرَاوِيًا بِالْمَعْنَى، وَإِنْ اِقْتَصَرَ عَلَى (حَدَّثَنَا) كَانَ زَائِدًا فِي رِوَايَة أَحَدهمَا رَاوِيًا بِالْمَعْنَى، وَكُلّ هَذَا مِمَّا يُجْتَنَب. وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.باب إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:

اِعْلَمْ أَنَّ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة بِأَجْمَعِهِمْ أَنَّ رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى مُمْكِنَة غَيْر مُسْتَحِيلَة عَقْلًا، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى وُقُوعهَا فِي الْآخِرَة، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّه تَعَالَى دُون الْكَافِرِينَ. وَزَعَمَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْبِدَع: الْمُعْتَزِلَة وَالْخَوَارِج وَبَعْض الْمُرْجِئَة، أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَرَاهُ أَحَد مِنْ خَلْقه، وَأَنَّ رُؤْيَته مُسْتَحِيلَة عَقْلًا، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خَطَأ صَرِيح وَجَهْل قَبِيح، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّة الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ سَلَف الْأُمَّة عَلَى إِثْبَات رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى فِي الْآخِرَة لِلْمُؤْمِنَيْنِ، وَرَوَاهَا نَحْو مِنْ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآيَات الْقُرْآن فيها مَشْهُورَة وَاعْتِرَاضَات الْمُبْتَدِعَة عَلَيْهَا لَهَا أَجْوِبَة مَشْهُورَة فِي كُتُب الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْل السُّنَّة، وَكَذَلِكَ بَاقِي شُبَههمْ وَهِيَ مُسْتَقْصَاة فِي كُتُب الْكَلَام وَلَيْسَ بِنَا ضَرُورَة إِلَى ذِكْرهَا هُنَا، وَأَمَّا رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا مُمْكِنَة، وَلَكِنَّ الْجُمْهُور مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرهمْ أَنَّهَا لَا تَقَع فِي الدُّنْيَا، وَحَكَمَ الْإِمَام أَبُو الْقَاسِم الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَته الْمَعْرُوفَة عَنْ الْإِمَام أَبِي بَكْر بْن فَوْرَكٍ أَنَّهُ حَكَى فيها قَوْلَيْنِ لِلْإِمَامِ أَبِي الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ: أَحَدهمَا: وُقُوعهَا، وَالثَّانِي لَا تَقَع، ثُمَّ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ أَنَّ الرُّؤْيَة قُوَّة يَجْعَلهَا اللَّه تَعَالَى فِي خَلْقه، وَلَا يُشْتَرَط فيها اِتِّصَال الْأَشِعَّة وَلَا مُقَابَلَة الْمَرْئِيّ وَلَا غَيْر ذَلِكَ، لَكِنْ جَرَتْ الْعَادَة فِي رُؤْيَة بَعْضنَا بَعْضًا بِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى جِهَة الِاتِّفَاق لَا عَلَى سَبِيل الِاشْتِرَاط، وَقَدْ قَرَّرَ أَئِمَّتنَا الْمُتَكَلِّمُونَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ الْجَلِيَّة وَلَا يَلْزَم مِنْ رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى إِثْبَات جِهَة - تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ- بَلْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ لَا فِي جِهَة كَمَا يَعْلَمُونَهُ لَا فِي جِهَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
265- قَوْله فِي الْإِسْنَاد (الْجَهْضَمِيّ وَأَبُو غَسَّان الْمِسْمَعِيّ) أَمَّا (الْجَهْضَمِيّ) فَبِفَتْحِ الْجِيم وَالضَّاد الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْهَاء بَيْنهمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي أَوَّل شَرْح الْمُقَدِّمَة، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ بَيَان أَبِي غَسَّان، وَأَنَّهُ يَجُوز صَرْفه، وَتَرْك صَرْفه وَأَنَّ اِسْمه: مَالِك بْن عَبْد الْوَاحِد، وَأَنَّ (الْمِسْمَعِيّ) بِكَسْرِ الْمِيم الْأُولَى وَفَتْح الثَّانِيَة مَنْسُوب إِلَى مِسْمَع بْن رَبِيعَة جَدّ الْقَبِيلَة، وَهَذَا كُلّه وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنِّي أُعِيدهُ لِطُولِ الْعَهْد بِمَوْضِعِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد اللَّه بْن قَيْس) هُوَ أَبُو بَكْر بْن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَاسْم أَبِي بَكْر: عَمْرو، وَقِيلَ: عَامِر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا بَيْن الْقَوْم وَبَيْن أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبّهمْ إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء فِي جَنَّة عَدْن» قَالَ الْعُلَمَاء: كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاطِب الْعَرَب بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَيُقَرِّب الْكَلَام إِلَى أَفْهَامهمْ، وَيَسْتَعْمِل الِاسْتِعَارَة وَغَيْرهَا مِنْ أَنْوَاع الْمَجَاز لِيُقَرِّب مُتَنَاوَلهَا، فَعَبَّرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زَوَال الْمَانِع وَرَفْعه عَنْ الْأَبْصَار بِإِزَالَةِ الرِّدَاء. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي جَنَّة عَدْن» أَيْ: النَّاظِرُونَ فِي جَنَّة عَدْن فَهِيَ ظَرْف لِلنَّاظِرِ.
266- قَوْله: (حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن مَيْسَرَة حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ ثَابِت الْبُنَانِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة...» الْحَدِيث) هَذَا الْحَدِيث هَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ وَغَيْرهمْ مِنْ رِوَايَة حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ ثَابِت عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ وَأَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ وَغَيْرهمَا: لَمْ يَرْوِهِ هَكَذَا مَرْفُوعًا عَنْ ثَابِت غَيْر حَمَّاد بْن سَلَمَة، وَرَوَاهُ سُلَيْمَان بْن الْمُغِيرَة وَحَمَّاد بْن زَيْد، وَحَمَّاد بْن وَاقِد عَنْ ثَابِت عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى مِنْ قَوْله لَيْسَ فيه ذِكْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا ذِكْر صُهَيْبٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي صِحَّة الْحَدِيث؛ فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول أَنَّ الْمَذْهَب الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الْأُصُول وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَصَحَّحَهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: أَنَّ الْحَدِيث إِذَا رَوَاهُ بَعْض الثِّقَات مُتَّصِلًا وَبَعْضهمْ مُرْسَلًا أَوْ بَعْضهمْ مَرْفُوعًا وَبَعْضهمْ مَوْقُوفًا حُكِمَ بِالْمُتَّصِلِ وَبِالْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُمَا زِيَادَة ثِقَة وَهِيَ مَقْبُولَة عِنْد الْجَمَاهِير مِنْ كُلّ الطَّوَائِف، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الرُّؤْيَةِ:

267- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر؟» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «هَلْ تُضَامُونَ»، وَرَوَى: «تُضَارُّونَ» بِتَشْدِيدِ الرَّاء وَبِتَخْفِيفِهَا وَالتَّاء مَضْمُومَة فيهمَا وَمَعْنَى الْمُشَدَّد: هَلْ تُضَارُّونَ غَيْركُمْ فِي حَالَة الرُّؤْيَة بِزَحْمَةٍ أَوْ مُخَالَفَة فِي الرُّؤْيَة أَوْ غَيْرهَا لِخَفَائِهِ كَمَا تَفْعَلُونَ أَوَّل لَيْلَة مِنْ الشَّهْر؟ وَمَعْنَى الْمُخَفَّف: هَلْ يَلْحَقكُمْ فِي رُؤْيَته ضَيْر؟ وَهُوَ الضَّرَر وَرُوِيَ أَيْضًا: «تُضَامُونَ» بِتَشْدِيدِ الْمِيم وَتَخْفِيفهَا، فَمَنْ شَدَّدَهَا فَتَحَ التَّاء، وَمَنْ خَفَّفَهَا ضَمَّ التَّاء، وَمَعْنَى الْمُشَدَّد: هَلْ تَتَضَامُّونَ وَتَتَلَطَّفُونَ فِي التَّوَصُّل إِلَى رُؤْيَته؟ وَمَعْنَى الْمُخَفَّف: هَلْ يَلْحَقكُمْ ضَيْم- وَهُوَ الْمَشَقَّة وَالتَّعَب-؟ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: وَقَالَ فيه بَعْض أَهْل اللُّغَة تُضَارُّونَ أَوْ تَضَامُّون بِفَتْحِ التَّاء وَتَشْدِيد الرَّاء وَالْمِيم، وَأَشَارَ الْقَاضِي بِهَذَا إِلَى أَنَّ غَيْر هَذَا الْقَائِل يَقُولهُمَا بِضَمِّ التَّاء سَوَاء شَدَّدَ أَوْ خَفَّفَ، وَكُلّ هَذَا صَحِيح ظَاهِر الْمَعْنَى، وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ: «لَا تَضَامُّون أَوْ لَا تُضَارُّونَ» عَلَى الشَّكّ وَمَعْنَاهُ: لَا يَشْتَبِه عَلَيْكُمْ وَتَرْتَابُونَ فيه فَيُعَارِض بَعْضكُمْ بَعْضًا فِي رُؤْيَته. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» مَعْنَاهُ: تَشْبِيه الرُّؤْيَة بِالرُّؤْيَةِ فِي الْوُضُوح وَزَوَال الشَّكّ وَالْمَشَقَّة وَالِاخْتِلَاف.
قَوْله: (الطَّوَاغِيت) هُوَ جَمْع طَاغُوت، قَالَ اللَّيْث وَأَبُو عُبَيْدَة وَالْكِسَائِيّ وَجَمَاهِير أَهْل اللُّغَة: الطَّاغُوت كُلّ مَا عُبِدَ مِنْ دُون اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ وَغَيْرهمْ: الطَّاغُوت الشَّيْطَان، وَقِيلَ: هُوَ الْأَصْنَام، قَالَ الْوَاحِدِيّ: الطَّاغُوت يَكُون وَاحِدًا وَجَمْعًا وَيُؤَنَّث وَيُذَكَّر.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} فَهَذَا فِي الْوَاحِد، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْجَمْع: {الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوت يُخْرِجُونَهُمْ} وَقَالَ فِي الْمُؤَنَّث: {وَاَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا الطَّاغُوت أَنْ يَعْبُدُوهَا} قَالَ الْوَاحِدِيّ وَمِثْله مِنْ الْأَسْمَاء الْفُلْك يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا وَمُذَكَّرًا أَوْ مُؤَنَّثًا قَالَ النَّحْوِيُّونَ: وَزْنه (فَعْلُوت) وَالتَّاء زَائِدَة، وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ طَغَى وَتَقْدِيره طَغْوُوت ثُمَّ قُلِبَتْ الْوَاو أَلِفًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّة فيها مُنَافِقُوهَا» قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا بَقُوا فِي زُمْرَة الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَسَتِّرِينَ بِهِمْ فَيَتَسَتَّرُونَ بِهِمْ أَيْضًا فِي الْآخِرَة وَسَلَكُوا مَسْلَكهمْ وَدَخَلُوا فِي جُمْلَتهمْ وَتَبِعُوهُمْ وَمَشَوْا فِي نُورهمْ، حَتَّى ضُرِبَ بَيْنهمْ بِسُوَرٍ لَهُ بَاب بَاطِنه فيه الرَّحْمَة وَظَاهِره مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَاب، وَذَهَبَ عَنْهُمْ نُور الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَطْرُودُونَ عَنْ الْحَوْض الَّذِينَ يُقَال لَهُمْ: سُحْقًا سُحْقًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَأْتِيهِمْ اللَّه فِي صُورَة غَيْر صُورَته الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُول: أَنَا رَبّكُمْ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك هَذَا مَكَاننَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّه فِي صُورَته الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُول: أَنَا رَبّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ» اِعْلَمْ أَنَّ لِأَهْلِ الْعِلْم فِي أَحَادِيث الصِّفَات وَآيَات الصِّفَات قَوْلَيْنِ: أَحَدهمَا: وَهُوَ مَذْهَب مُعْظَم السَّلَف أَوْ كُلّهمْ أَنَّهُ لَا يُتَكَلَّم فِي مَعْنَاهَا، بَلْ يَقُولُونَ: يَجِب عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِن بِهَا وَنَعْتَقِد لَهَا مَعْنًى يَلِيق بِجَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَعَظَمَته مَعَ اِعْتِقَادنَا الْجَازِم أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَأَنَّهُ مُنَزَّه عَنْ التَّجَسُّم وَالِانْتِقَال وَالتَّحَيُّز فِي جِهَة وَعَنْ سَائِر صِفَات الْمَخْلُوق، وَهَذَا الْقَوْل هُوَ مَذْهَب جَمَاعَة مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَة مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ وَهُوَ أَسْلَم. وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَب مُعْظَم الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهَا تُتَأَوَّل عَلَى مَا يَلِيق بِهَا عَلَى حَسَب مَوَاقِعهَا، وَإِنَّمَا يَسُوغ تَأْوِيلهَا لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْله بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَب وَقَوَاعِد الْأُصُول وَالْفُرُوع، ذَا رِيَاضَة فِي الْعِلْم، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَب يُقَال فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَأْتِيهِمْ اللَّه» أَنَّ الْإِتْيَان عِبَارَة عَنْ رُؤْيَتهمْ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَة أَنَّ مَنْ غَابَ عَنْ غَيْره لَا يُمْكِنهُ رُؤْيَته إِلَّا بِالْإِتْيَانِ، فَعَبَّرَ بِالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيء هُنَا عَنْ الرُّؤْيَة مَجَازًا، وَقِيلَ: الْإِتْيَان فِعْل مِنْ أَفْعَال اللَّه تَعَالَى سَمَّاهُ إِتْيَانًا، وَقِيلَ: الْمُرَاد: «يَأْتِيهِمْ اللَّه» أَيْ: يَأْتِيهِمْ بَعْض مَلَائِكَة اللَّه، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا الْوَجْه أَشْبَه عِنْدِي بِالْحَدِيثِ، قَالَ: وَيَكُون هَذَا الْمَلَك الَّذِي جَاءَهُمْ فِي الصُّورَة الَّتِي أَنْكَرُوهَا مِنْ سِمَات الْحَدَث الظَّاهِرَة عَلَى الْمَلَك وَالْمَخْلُوق، قَالَ: أَوْ يَكُون مَعْنَاهُ: يَأْتِيهِمْ اللَّه فِي صُورَة، أَيْ: يَأْتِيهِمْ بِصُورَةٍ وَيَظْهَر لَهُمْ مِنْ صُوَر مَلَائِكَته وَمَخْلُوقَاته الَّتِي لَا تُشْبِه صِفَات الْإِلَه لِيَخْتَبِرَهُمْ، وَهَذَا آخِر اِمْتِحَان الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا قَالَ لَهُمْ هَذَا الْمَلَك أَوْ هَذِهِ الصُّورَة: (أَنَا رَبّكُمْ) رَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَات الْمَخْلُوق مَا يُنْكِرُونَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ رَبّهمْ، وَيَسْتَعِيذُونَ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَأْتِيهِمْ اللَّه فِي صُورَته الَّتِي يَعْرِفُونَ» فَالْمُرَاد بِالصُّورَةِ هُنَا الصِّفَة، وَمَعْنَاهُ: فَيَتَجَلَّى اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَهُمْ عَلَى الصِّفَة الَّتِي يَعْلَمُونَهَا وَيَعْرِفُونَهُ بِهَا، وَإِنَّمَا عَرَفُوهُ بِصِفَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَقَدَّمَتْ لَهُمْ رُؤْيَة لَهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لَا يُشْبِه شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاته، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُشْبِه شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاته، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَبّهمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبّنَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالصُّورَةِ عَنْ الصِّفَة لِمُشَابَهَتِهَا إِيَّاهَا وَلِمُجَانَسَةِ الْكَلَام فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْر الصُّورَة.
وَأَمَّا قَوْلهمْ: (نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْك) فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِل أَنْ تَكُون هَذِهِ الِاسْتِعَاذَة مِنْ الْمُنَافِقِينَ خَاصَّة، وَأَنْكَرَ الْقَاضِي عِيَاض هَذَا وَقَالَ: لَا يَصِحّ أَنْ تَكُون مِنْ قَوْل الْمُنَافِقِينَ وَلَا يَسْتَقِيم الْكَلَام بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّوَاب، وَلَفْظ الْحَدِيث مُصَرِّح بِهِ أَوْ ظَاهِر فيه وَإِنَّمَا اِسْتَعَاذُوا مِنْهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَوْنهمْ رَأَوْا سِمَات الْمَخْلُوق.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَتَّبِعُونَهُ» فَمَعْنَاهُ يَتَّبِعُونَ أَمْره إِيَّاهُمْ بِذَهَابِهِمْ إِلَى الْجَنَّة أَوْ يَتَّبِعُونَ مَلَائِكَته الَّذِينَ يَذْهَبُونَ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيُضْرَب الصِّرَاط بَيْن ظَهْرَيْ جَهَنَّم» هُوَ بِفَتْحِ الظَّاء وَسُكُون الْهَاء وَمَعْنَاهُ: يُمَدّ الصِّرَاط عَلَيْهَا، وَفِي هَذَا إِثْبَات الصِّرَاط، وَمَذْهَب أَهْل الْحَقّ إِثْبَاته، وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَف عَلَى إِثْبَاته. وَهُوَ جِسْر عَلَى مَتْن جَهَنَّم يَمُرّ عَلَيْهِ النَّاس كُلّهمْ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَنْجُونَ عَلَى حَسَب حَالهمْ أَيْ: مَنَازِلهمْ، وَالْآخَرُونَ يَسْقُطُونَ فيها، أَعَاذَنَا اللَّه الْكَرِيم مِنْهَا، وَأَصْحَابنَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرهمْ مِنْ السَّلَف يَقُولُونَ: إِنَّ الصِّرَاط أَدَقّ مِنْ الشَّعْرَة وَأَحَدّ مِنْ السَّيْف كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هُنَا فِي رِوَايَته الْأُخْرَى الْمَذْكُورَة فِي الْكِتَاب. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَكُون أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّل مَنْ يُجِيز» هُوَ بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْجِيم وَالزَّاي آخِره وَمَعْنَاهُ: يَكُون أَوَّل مَنْ يَمْضِي عَلَيْهِ وَيَقْطَعهُ يُقَال: أَجَزْت الْوَادِي وَجُزْته لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد، وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: أَجَزْته قَطَعْته، وَجُزْته مَشَيْت فيه. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَتَكَلَّم يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُل» مَعْنَاهُ لِشِدَّةِ الْأَهْوَال وَالْمُرَاد لَا يَتْلُكُمْ فِي حَال الْإِجَازَة، وَإِلَّا فَفِي يَوْم الْقِيَامَة مَوَاطِن يَتَكَلَّم النَّاس فيها، وَتُجَادِل كُلّ نَفْس عَنْ نَفْسهَا، وَيَسْأَل بَعْضهمْ بَعْضًا وَيَتَلَاوَمُونَ، وَيُخَاصِم التَّابِعُونَ الْمَتْبُوعِينَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَدَعْوَى الرُّسُل يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ» هَذَا مِنْ كَمَال شَفَقَتهمْ وَرَحْمَتهمْ لِلْخَلْقِ وَفيه أَنَّ الدَّعَوَات تَكُون بِحَسَبِ الْمَوَاطِن فَيُدْعَى فِي كُلّ مَوْطِن بِمَا يَلِيق بِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي جَهَنَّم كَلَالِيب مِثْل شَوْك السَّعْدَان» أَمَّا (الْكَلَالِيب) فَجَمْع كَلُّوب بِفَتْحِ الْكَاف وَضَمّ اللَّام الْمُشَدَّدَة، وَهُوَ حَدِيدَة مَعْطُوفَة الرَّأْس يُعَلَّق فيها اللَّحْم وَتُرْسَل فِي التَّنُّور، قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: هِيَ خَشَبَة فِي رَأْسهَا عُقَّافَة حَدِيد، وَقَدْ تَكُون حَدِيدًا كُلّهَا وَيُقَال لَهَا أَيْضًا: كُلَّاب.
وَأَمَّا السَّعْدَان فَبِفَتْحِ السِّين وَإِسْكَان الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَهُوَ نَبْت لَهُ شَوْكَة عَظِيمَة مِثْل الْحَسَك مِنْ كُلّ الْجَوَانِب.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْطَف النَّاس بِأَعْمَالِهِمْ» هُوَ بِفَتْحِ الطَّاء وَيَجُوز كَسْرهَا، يُقَال: خَطِفَ وَخَطَفَ بِكَسْرِ الطَّاء وَفَتْحهَا وَالْكَسْر أَفْصَح، وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ: تَخْطَفهُمْ بِسَبَبِ أَعْمَالهمْ، وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ: تَخْطَفهُمْ عَلَى قَدْر أَعْمَالهمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمِنْهُمْ الْمُؤْمِن بَقِيَ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُجَازَى حَتَّى يُنَجَّى» أَمَّا الْأَوَّل: فَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ رُوِيَ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه: أَحَدهَا: (الْمُؤْمِن يَقِي بِعَمَلِهِ) بِالْمِيمِ وَالنُّون وَبَقِيَ بِالْيَاءِ وَالْقَاف، وَالثَّانِي: الْمُوثَق بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْقَاف، وَالثَّالِث: الْمُوبَق يَعْنِي: بِعَمَلِهِ فَالْمُوبَق بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَالْقَاف وَيَعْنَى: بِفَتْحِ الْيَاء الْمُثَنَّاة وَبَعْدهَا الْعَيْن ثُمَّ النُّون قَالَ الْقَاضِي هَذَا أَصَحّهَا، وَكَذَا قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: هَذَا الثَّالِث هُوَ الصَّوَاب، قَالَ وَفِي (يَقِي) عَلَى الْوَجْه الْأَوَّل ضَبَطَانِ: أَحَدهمَا: بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة، وَالثَّانِي: بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت مِنْ الْوِقَايَة، قُلْت: وَالْمَوْجُود فِي مُعْظَم الْأُصُول بِبِلَادِنَا هُوَ الْوَجْه الْأَوَّل وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمِنْهُمْ الْمُجَازَى» فَضَبَطْنَاهُ بِالْجِيمِ وَالزَّاي مِنْ الْمُجَازَاة وَهَكَذَا هُوَ فِي أُصُول بِلَادنَا فِي هَذَا الْمَوْضِع، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه فِي ضَبْطه خِلَافًا فَقَالَ: رَوَاهُ الْعُذْرِيّ وَغَيْره (الْمُجَازَى) كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (الْمُخَرْدَل) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالدَّال وَاللَّام، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ فِي الْبُخَارِيّ (الْمُجَرْدَل) بِالْجِيمِ. فَأَمَّا الَّذِي بِالْخَاءِ فَمَعْنَاهُ: الْمُقَطَّع أَيْ: بِالْكَلَالِيبِ يُقَال: خَرْدَلْت اللَّحْم أَيْ قَطَّعْته، وَقِيلَ: خَرْدَلْت بِمَعْنَى صَرَعْت، وَيُقَال بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَيْضًا، وَالْجَرْدَلَة بِالْجِيمِ: الْإِشْرَاف عَلَى الْهَلَاك وَالسُّقُوط.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَأْكُل النَّار مِنْ اِبْن آدَم إِلَّا أَثَر السُّجُود حَرَّمَ اللَّه عَلَى النَّار أَنْ تَأْكُل أَثَر السُّجُود» ظَاهِر هَذَا أَنَّ النَّار لَا تَأْكُل جَمِيع أَعْضَاء السُّجُود السَّبْعَة الَّتِي يَسْجُد الْإِنْسَان عَلَيْهَا وَهِيَ: الْجَبْهَة وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ، وَهَكَذَا قَالَهُ بَعْض الْعُلَمَاء، وَأَنْكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه وَقَالَ: الْمُرَاد بِأَثَرِ السُّجُود الْجَبْهَة خَاصَّة. وَالْمُخْتَار الْأَوَّل، فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرَ مُسْلِم بَعْدَ هَذَا مَرْفُوعًا أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار يَحْتَرِقُونَ فيها إِلَّا دَارَات الْوُجُوه، فَالْجَوَاب: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْم مَخْصُوصُونَ مِنْ جُمْلَة الْخَارِجِينَ مِنْ النَّار بِأَنَّهُ لَا يَسْلَم مِنْهُمْ مِنْ النَّار إِلَّا دَارَات الْوُجُوه، وَأَمَّا غَيْرهمْ فَيَسْلَم جَمِيع أَعْضَاء السُّجُود مِنْهُمْ عَمَلًا بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيث، فَهَذَا الْحَدِيث عَامّ وَذَلِكَ خَاصّ فَيُعْمَل بِالْعَامِّ إِلَّا مَا خَصَّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّار قَدْ اِمْتَحَشُوا» هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالشِّين الْمُعْجَمَة وَهُوَ بِفَتْحِ التَّاء وَالْحَاء هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه عَنْ مُتْقِنِي شُيُوخهمْ، قَالَ: وَهُوَ وَجْه الْكَلَام وَبِهِ ضَبَطَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْهَرَوِيّ، وَقَالُوا فِي مَعْنَاهُ اِحْتَرَقُوا.
قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ بَعْض شُيُوخنَا بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الْحَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُت الْحَبَّة فِي حَمِيل السَّيْل» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ) بِالْمِيمِ وَالنُّون، وَهُوَ صَحِيح وَمَعْنَاهُ: يَنْبُتُونَ بِسَبَبِهِ.
وَأَمَّا (الْحِبَّة) فَبِكَسْرِ الْحَاء وَهِيَ بِزْر الْبُقُول وَالْعُشْب تَنْبُت فِي الْبَرَارِي وَجَوَانِب السُّيُول وَجَمْعهَا (حِبَب) بِكَسْرِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْبَاء.
وَأَمَّا (حَمِيل السَّيْل) فَبِفَتْحِ الْحَاء وَكَسْر الْمِيم، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ السَّيْل مِنْ طِين أَوْ غُثَاء وَمَعْنَاهُ: مَحْمُول السَّيْل، وَالْمُرَاد التَّشْبِيه فِي سُرْعَة النَّبَات وَحُسْنه وَطَرَاوَته.
قَوْله: (قَشَبَنِي رِيحهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا) أَمَّا (قَشَبَنِي) فَبِقَافٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ شِين مُعْجَمَة مُخَفَّفَة مَفْتُوحَة وَمَعْنَاهُ: سَمَّنِي وَآذَانِي وَأَهْلَكَنِي، كَذَا قَالَهُ الْجَمَاهِير مِنْ أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ مَعْنَاهُ: غَيْر جِلْدِي وَصُورَتِي.
وَأَمَّا (ذَكَاؤُهَا) فَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع رِوَايَات الْحَدِيث: «وَذَكَاؤُهَا» بِالْمَدِّ وَهُوَ بِفَتْحِ الذَّال الْمُعْجَمَة وَمَعْنَاهُ: لَهَبهَا وَاشْتِعَالهَا وَشِدَّة وَهَجهَا، وَالْأَشْهَر فِي اللُّغَة ذَكَاهَا مَقْصُور، وَذَكَرَ جَمَاعَات أَنَّ الْمَدّ وَالْقَصْر لُغَتَانِ يُقَال: ذَكَتْ النَّار تَذْكُو ذَكًا إِذَا اِشْتَعَلَتْ، وَأَذْكَيْتهَا أَنَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ عَسَيْت} هُوَ بِفَتْحِ التَّاء عَلَى الْخِطَاب، وَيُقَال: بِفَتْحِ السِّين وَكَسْرهَا لُغَتَانِ وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع، قَرَأَ نَافِع بِالْكَسْرِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْأَفْصَح الْأَشْهَر فِي اللُّغَة، قَالَ اِبْن السِّكِّيت: وَلَا يُنْطَق فِي عَسَيْت بِمُسْتَقْبَلٍ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا قَامَ عَلَى بَاب الْجَنَّة اِنْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّة فَرَأَى مَا فيها مِنْ الْخَيْر» أَمَّا (الْخَيْر) فَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْيَاء الْمُثَنَّاة تَحْت، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَات وَالْأُصُول، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ بَعْض الرُّوَاة فِي مُسْلِم رَوَاهُ (الْحَبْر) بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَمَعْنَاهُ السُّرُور، قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: كِلَاهُمَا صَحِيح قَالَ: وَالثَّانِي أَظْهَر، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ: (الْحَبْرَة وَالسُّرُور) وَالْحَبْرَة: الْمَسَرَّة.
وَأَمَّا (اِنْفَهَقَتْ) فَبِفَتْحِ الْفَاء وَالْهَاء وَالْقَاف وَمَعْنَاهُ اِنْفَتَحَتْ وَاتَّسَعَتْ.
قَوْله: «فَلَا يَزَال يَدْعُو اللَّه تَعَالَى حَتَّى يَضْحَك اللَّه تَعَالَى مِنْهُ» قَالَ الْعُلَمَاء: ضَحِك اللَّه تَعَالَى مِنْهُ هُوَ رِضَاهُ بِفِعْلِ عَبْده وَمَحَبَّته إِيَّاهُ وَإِظْهَار نِعْمَته عَلَيْهِ وَإِيجَابهَا عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَسْأَل رَبّه وَيَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَيُذَكِّرُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا» مَعْنَاهُ يَقُول لَهُ تَمَنَّ مِنْ الشَّيْء الْفُلَانِيّ، وَمِنْ الشَّيْء الْآخَر يُسَمِّي لَهُ أَجْنَاس مَا يَتَمَنَّى، وَهَذَا مِنْ عَظِيم رَحْمَته سُبْحَانه وَتَعَالَى.
قَوْله فِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة: «لَك ذَلِكَ وَمِثْله مَعَهُ» وَفِي رِوَايَة أَبِي سَعِيد: «وَعَشَرَة أَمْثَاله»، قَالَ الْعُلَمَاء: وَجْه الْجَمْع بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَم أَوَّلًا بِمَا فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة ثُمَّ تَكَرَّمَ اللَّه تَعَالَى فَزَادَ مَا فِي رِوَايَة أَبِي سَعِيد فَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْمَعْهُ أَبُو هُرَيْرَة.
269- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَة اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَة أَحَدهمَا» مَعْنَاهُ: لَا تُضَارُّونَ أَصْلًا كَمَا لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتهمَا أَصْلًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى إِذَا مَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُد اللَّه تَعَالَى مِنْ بَرّ وَفَاجِر وَغُبَّر أَهْل الْكِتَاب» أَمَّا الْبَرّ فَهُوَ الْمُطِيع.
وَأَمَّا (غُبَّر) فَبِضَمِّ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفَتْح الْبَاء الْمُوَحَّدَة الْمُشَدَّدَة وَمَعْنَاهُ بَقَايَاهُمْ جَمْع غَابِر.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّار كَأَنَّهَا سَرَاب يَحْطِم بَعْضهَا بَعْضًا» أَمَّا السَّرَاب فَهُوَ الَّذِي يَتَرَاءَى لِلنَّاسِ فِي الْأَرْض الْقَفْر وَالْقَاع الْمُسْتَوِي وَسَط النَّهَار فِي الْحَرّ الشَّدِيد لَامِعًا مِثْل الْمَاء يَحْسَبهُ الظَّمْآن مَاء حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدهُ شَيْئًا، فَالْكُفَّار يَأْتُونَ جَهَنَّم- أَعَاذَنَا اللَّه الْكَرِيم وَسَائِر الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَمِنْ كُلّ مَكْرُوه- وَهُمْ عِطَاش فَيَحْسَبُونَهَا مَاء فَيَتَسَاقَطُونَ فيها.
وَأَمَّا: «يَحْطِم بَعْضهَا بَعْضًا» فَمَعْنَاهُ: لِشِدَّةِ اِتِّقَادهَا وَتَلَاطُم أَمْوَاج لَهَبهَا. وَالْحَطْم: الْكَسْر وَالْإِهْلَاك، وَالْحُطَمَة: اِسْم مِنْ أَسْمَاء النَّار لِكَوْنِهَا تَحْطِم مَا يُلْقَى فيها.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاهُمْ رَبّ الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَة مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فيها» مَعْنَى رَأَوْهُ فيها: عَلِمُوهَا لَهُ وَهِيَ صِفَته الْمَعْلُومَة لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُشْبِههُ شَيْء.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِتْيَان وَالصُّورَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «قَالُوا: رَبّنَا فَارَقْنَا النَّاس فِي الدُّنْيَا أَفْقَر مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبهُمْ» مَعْنَى قَوْلهمْ: التَّضَرُّع إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي كَشْف هَذِهِ الشِّدَّة عَنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَزِمُوا طَاعَته سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَفَارَقُوا فِي الدُّنْيَا النَّاس الَّذِينَ زَاغُوا عَنْ طَاعَته- سُبْحَانه- مِنْ قَرَابَاتهمْ وَغَيْرهمْ مِمَّنْ كَانُوا يَحْتَاجُونَ فِي مَعَايِشهمْ وَمَصَالِح دُنْيَاهُمْ إِلَى مُعَاشَرَتهمْ لِلِارْتِفَاقِ بِهِمْ، وَهَذَا كَمَا جَرَى لِلصَّحَابَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَغَيْرهمْ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيع الْأَزْمَان فَإِنَّهُمْ يُقَاطِعُونَ مَنْ حَادَّ اللَّه وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ حَاجَتهمْ فِي مَعَايِشهمْ إِلَى الِارْتِفَاق بِهِمْ وَالِاعْتِضَاد بِمُخَالَطَتِهِمْ، فَآثَرُوا رِضَى اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى ظَاهِر فِي هَذَا الْحَدِيث لَا شَكّ فِي حُسْنه، وَقَدْ أَنْكَرَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه هَذَا الْكَلَام الْوَاقِع فِي صَحِيح مُسْلِم، وَادَّعَى أَنَّهُ مُغَيَّر وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ الصَّوَاب مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى إِنَّ بَعْضهمْ لَيَكَاد أَنْ يَنْقَلِب» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (لَيَكَاد أَنْ يَنْقَلِب) بِإِثْبَاتِ (أَنْ)، وَإِثْبَاتهَا مَعَ (كَادَ) لُغَة كَمَا أَنَّ حَذْفهَا مَعَ (عَسَى) لُغَة وَيَنْقَلِب بِيَاءٍ مُثَنَّاة مِنْ تَحْت ثُمَّ نُون ثُمَّ قَاف ثُمَّ لَام ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة. وَمَعْنَاهُ وَاَللَّه أَعْلَم: يَنْقَلِب عَنْ الصَّوَاب، وَيَرْجِع عَنْهُ لِلِامْتِحَانِ الشَّدِيد الَّذِي جَرَى. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُكْشَف عَنْ سَاق» ضَبْط (يُكْشَف) بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّهَا وَهُمَا صَحِيحَانِ. وَفَسَّرَ اِبْن عَبَّاس وَجُمْهُور أَهْل اللُّغَة وَغَرِيب الْحَدِيث السَّاق هُنَا بِالشِّدَّةِ أَيْ يُكْشَف عَنْ شِدَّة وَأَمْر مَهُول، وَهَذَا مَثَل تَضْرِبهُ الْعَرَب لِشِدَّةِ الْأَمْر، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: قَامَتْ الْحَرْب عَلَى سَاق، وَأَصْله أَنَّ الْإِنْسَان إِذَا وَقَعَ فِي أَمْر شَدِيد شَمَّرَ سَاعِده وَكَشَفَ عَنْ سَاقه لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: وَقِيلَ الْمُرَاد بِالسَّاقِ هُنَا نُور عَظِيم، وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اِبْن فَوْرَكٍ: وَمَعْنَى ذَلِكَ مَا يَتَجَدَّد لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْد رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى مِنْ الْفَوَائِد وَالْأَلْطَاف.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقِيلَ: قَدْ يَكُون السَّاق عَلَامَة بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ظُهُور جَمَاعَة مِنْ الْمَلَائِكَة عَلَى خِلْقَة عَظِيمَة لِأَنَّهُ يُقَال: سَاق مِنْ النَّاس كَمَا يُقَال: رِجْل مِنْ جَرَاد، وَقِيلَ: قَدْ يَكُون سَاق مَخْلُوقًا جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَامَة لِلْمُؤْمِنِينَ خَارِجَة عَنْ السُّوق الْمُعْتَادَة، وَقِيلَ: كَشْف الْخَوْف وَإِزَالَة الرُّعْب عَنْهُمْ وَمَا كَانَ غَلَبَ عَلَى قُلُوبهمْ مِنْ الْأَهْوَال، فَتَطْمَئِنَّ حِينَئِذٍ نُفُوسهمْ عِنْد ذَلِكَ، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَهَذِهِ الرُّؤْيَة الَّتِي فِي هَذَا الْمَقَام يَوْم الْقِيَامَة غَيْر الرُّؤْيَة الَّتِي فِي الْجَنَّة لِكَرَامَةِ أَوْلِيَاء اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا هَذِهِ لِلِامْتِحَانِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُد لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْقَاء نَفْسه إِلَّا أَذِنَ اللَّه لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُد اِتِّقَاء وَرِيَاء إِلَّا جَعَلَ اللَّه ظَهْره طَبَقَة وَاحِدَة» هَذَا السُّجُود اِمْتِحَان مِنْ اللَّه تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِهَذَا مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} عَلَى جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وَهَذَا اِسْتِدْلَال بَاطِل؛ فَإِنَّ الْآخِرَة لَيْسَتْ دَار تَكْلِيف بِالسُّجُودِ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد اِمْتِحَانهمْ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَبَقَة» فَبِفَتْحِ الطَّاء وَالْبَاء.
قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْره: الطَّبَق فَقَار الظَّهْر أَيْ صَارَ فَقَاره وَاحِدَة كَالصَّحِيفَةِ فَلَا يَقْدِر عَلَى السُّجُود. وَاَللَّه أَعْلَم.
ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث قَدْ يُتَوَهَّم مِنْهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَرَوْنَ اللَّه تَعَالَى مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ طَائِفَة حَكَاهُ اِبْن فَوْرَكٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّة فيها مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّه تَعَالَى» وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بَاطِل؛ بَلْ لَا يَرَاهُ الْمُنَافِقُونَ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدّ بِهِ مِنْ عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث تَصْرِيح بِرُؤْيَتِهِمْ اللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا فيه أَنَّ الْجَمْع الَّذِي فيه الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ يَرَوْنَ الصُّورَة ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرَوْنَ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَرَاهُ جَمِيعهمْ، وَقَدْ قَامَتْ دَلَائِل الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى أَنَّ الْمُنَافِق لَا يَرَاهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْفَعُونَ رُءُوسهمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَته» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (صُورَته) بِالْهَاءِ فِي آخِرهَا، وَوَقَعَ فِي أَكْثَر الْأُصُول أَوْ كَثِير مِنْهَا (فِي صُورَة) بِغَيْرِ هَاء، وَكَذَا هُوَ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيِّ، وَالْأَوَّل أَظْهَر، وَهُوَ الْمَوْجُود فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَافِظِ عَبْد الْحَقّ، وَمَعْنَاهُ: وَقَدْ أَزَالَ الْمَانِع لَهُمْ مِنْ رُؤْيَته وَتَجَلَّى لَهُمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يُضْرَب الْجِسْر عَلَى جَهَنَّم وَتَحِلّ الشَّفَاعَة» الْجِسْر: بِفَتْحِ الْجِيم وَكَسْرهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَهُوَ الصِّرَاط. وَمَعْنَى تَحِلّ الشَّفَاعَة بِكَسْرِ الْحَاء وَقِيلَ بِضَمِّهَا أَيْ: تَقَع وَيُؤْذَن فيها.
قَوْله: «قِيلَ: يَا رَسُول اللَّه وَمَا الْجِسْر؟ قَالَ: دَحْض مَزَلَّة» هُوَ بِتَنْوِينِ دَحْض وَدَاله مَفْتُوحَة وَالْحَاء سَاكِنَة. وَ«مَزَلَّة» بِفَتْحِ الْمِيم وَفِي الزَّاي لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ الْفَتْح وَالْكَسْر، وَالدَّحْض وَالْمَزَلَّة بِمَعْنًى وَاحِد، وَهُوَ الْمَوْضِع الَّذِي تَزِلّ فيه الْأَقْدَام وَلَا تَسْتَقِرّ. وَمِنْهُ دَحَضَتْ الشَّمْس أَيْ: مَالَتْ، وَحُجَّة دَاحِضَة لَا ثَبَات لَهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيه خَطَاطِيف وَكَلَالِيب وَحَسَك» أَمَّا الْخَطَاطِيف: فَجَمْع خُطَّاف بِضَمِّ الْخَاء فِي الْمُفْرَد. وَالْكَلَالِيب بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانهمَا، وَأَمَّا الْحَسَك فَبِفَتْحِ الْحَاء وَالسِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ شَوْك صُلْب مِنْ حَدِيد.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَاجٍ مُسَلَّم وَمَخْدُوش مُرْسَل وَمَكْدُوس فِي نَار جَهَنَّم» أَنَّهُمْ ثَلَاثَة أَقْسَام، قِسْم يَسْلَم فَلَا يَنَالهُ شَيْء أَصْلًا، وَقِسْم يُخْدَش ثُمَّ يُرْسَل فَيُخَلَّص، وَقِسْم يُكَرْدَس. وَيُلْقَى فَيَسْقُط فِي جَهَنَّم.
وَأَمَّا مَكْدُوس فَهُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه عَنْ أَكْثَر الرُّوَاة قَالَ: وَرَوَاهُ الْعُذْرِيّ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَمَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ السَّوْق، وَبِالْمُهْمَلَةِ كَوْن الْأَشْيَاء بَعْضهَا عَلَى بَعْض، وَمِنْهُ تَكَدَّسَتْ الدَّوَابّ فِي سَيْرهَا إِذَا رَكِبَ بَعْضهَا بَعْضًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَد مِنْكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَة فِي اِسْتِقْصَاء الْحَقّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّار» اِعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة ضُبِطَتْ عَلَى أَوْجُه، أَحَدهَا: (اِسْتِيضَاء) بِتَاءٍ مُثَنَّاة مِنْ فَوْق ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْت ثُمَّ ضَاد مُعْجَمَة، وَالثَّانِي: (اِسْتِضَاء) بِحَذْفِ الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت، وَالثَّالِث: (اِسْتِيفَاء) بِإِثْبَاتِ الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت وَبِالْفَاءِ بَدَل الضَّاد، وَالرَّابِع: (اِسْتِقْصَاء) بِمُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْق ثُمَّ قَاف ثُمَّ صَاد مُهْمَلَة. فَالْأَوَّل مَوْجُود فِي كَثِير مِنْ الْأُصُول بِبِلَادِنَا، وَالثَّانِي هُوَ الْمَوْجُود فِي أَكْثَرهَا، وَهُوَ الْمَوْجُود فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيِّ، وَالثَّالِث فِي بَعْضهَا، وَهُوَ الْمَوْجُود فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ لِعَبْدِ الْحَقّ الْحَافِظ، وَالرَّابِع فِي بَعْضهَا، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي عِيَاض غَيْره، وَادَّعَى اِتِّفَاق الرُّوَاة وَجَمِيع النُّسَخ عَلَيْهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ تَصْحِيف وَوَهْم وَفيه تَغْيِير، وَأَنَّ صَوَابه مَا وَقَعَ فِي كِتَاب الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة اِبْن كَثِير: «بِأَشَدَّ مُنَاشَدَة فِي اِسْتِقْصَاء الْحَقّ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْم الْقِيَامَة لِإِخْوَانِهِمْ»، وَبِهِ يَتِمّ الْكَلَام وَيَتَوَجَّه. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه، وَلَيْسَ الْأَمْر عَلَى مَا قَالَهُ؛ بَلْ جَمِيع الرِّوَايَات الَّتِي ذَكَرْنَاهَا صَحِيحَة لِكُلٍّ مِنْهَا مَعْنًى حَسَن.
وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ عَنْ اللَّيْث: «فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَة فِي الْحَقّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ إِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانهمْ»، وَهَذِهِ الرِّوَايَة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّيْث تُوَضِّح الْمَعْنَى فَمَعْنَى الرِّوَايَة الْأُولَى وَالثَّانِيَة: أَنَّكُمْ إِذَا عَرَضَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا أَمْر مُهِمّ وَالْتَبَسَ الْحَال فيه وَسَأَلْتُمْ اللَّه تَعَالَى بَيَانه وَنَاشَدْتُمُوهُ فِي اِسْتِيضَائِهِ وَبَالَغْتُمْ فيها لَا تَكُون مُنَاشَدَة أَحَدكُمْ مُنَاشَدَة بِأَشَدَّ مِنْ مُنَاشَدَة الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الشَّفَاعَة لِإِخْوَانِهِمْ، وَأَمَّا الرِّوَايَة الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة فَمَعْنَاهُمَا أَيْضًا: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد يُنَاشِد اللَّه تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فِي اِسْتِيفَاء حَقّه أَوْ اِسْتِقْصَائِهِ وَتَحْصِيله مِنْ خَصْمه وَالْمُتَعَدِّي عَلَيْهِ بِأَشَدَّ مِنْ مُنَاشَدَة الْمُؤْمِنِينَ اللَّه تَعَالَى فِي الشَّفَاعَة لِإِخْوَانِهِمْ يَوْم الْقِيَامَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى: «مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال دِينَار مِنْ خَيْر وَنِصْف مِثْقَال مِنْ خَيْر وَمِثْقَال ذَرَّة». قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: قِيلَ: مَعْنَى الْخَيْر هُنَا الْيَقِين، قَالَ: وَالصَّحِيح أَنَّ مَعْنَاهُ شَيْء زَائِد عَلَى مُجَرَّد الْإِيمَان لِأَنَّ مُجَرَّد الْإِيمَان الَّذِي هُوَ التَّصْدِيق لَا يَتَجَزَّأ، وَإِنَّمَا يَكُون هَذَا التَّجَزُّؤ لِشَيْءٍ زَائِد عَلَيْهِ مِنْ عَمَل صَالِح أَوْ ذِكْر خَفِيّ أَوْ عَمَل مِنْ أَعْمَال الْقَلْب مِنْ شَفَقَة عَلَى مِسْكَيْنِ أَوْ خَوْف مِنْ اللَّه تَعَالَى وَنِيَّة صَادِقَة، وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فِي الْكِتَاب: «يَخْرُج مِنْ النَّار مَنْ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَكَانَ فِي قَلْبه مِنْ الْخَيْر مَا يَزِنُ كَذَا»، وَمِثْله الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَقُول اللَّه تَعَالَى: شَفَعَتْ الْمَلَائِكَة وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِض قَبْضَة مِنْ النَّار فَيُخْرِج مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه».
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه: فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ مَعَهُمْ مُجَرَّد الْإِيمَان وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يُؤْذَن فِي الشَّفَاعَة فيهمْ، وَإِنَّمَا دَلَّتْ الْآثَار عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لِمَنْ عِنْده شَيْء زَائِد عَلَى مُجَرَّد الْإِيمَان، وَجَعَلَ لِلشَّافِعِينَ مِنْ الْمَلَائِكَة وَالنَّبِيِّينَ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّدَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِ مَا تُكِنُّهُ الْقُلُوب وَالرَّحْمَة لِمَنْ لَيْسَ عِنْده إِلَّا مُجَرَّد الْإِيمَان، وَضَرَبَ بِمِثْقَالِ الذَّرَّة الْمَثَل لِأَقَلِّ الْخَيْر فَإِنَّهَا أَقَلّ الْمَقَادِير.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَوْله تَعَالَى: «مَنْ كَانَ فِي قَلْبه ذَرَّة وَكَذَا» دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَع مِنْ الْعَمَل إِلَّا مَا حَضَرَ لَهُ الْقَلْب وَصَحِبَتْهُ نِيَّة، وَفيه دَلِيل عَلَى زِيَادَة الْإِيمَان وَنُقْصَانه وَهُوَ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَرْ فيها خَيْرًا» هَكَذَا هُو: (خَيْرًا) بِإِسْكَانِ الْيَاء أَيْ: صَاحِب خَيْر.
قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى: «شَفَعَتْ الْمَلَائِكَة» هُوَ بِفَتْحِ الْفَاء وَإِنَّمَا ذَكَرْته- وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا- لِأَنِّي رَأَيْت مَنْ يُصَحِّفُهُ، وَلَا خِلَاف فيه يُقَال: شَفَعَ يَشْفَع شَفَاعَة، فَهُوَ شَافِع وَشَفِيع، وَالْمُشَفِّع بِكَسْرِ الْفَاء الَّذِي يَقْبَل الشَّفَاعَة، وَالْمُشَفَّع بِفَتْحِهَا الَّذِي تُقْبَل شَفَاعَته.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَقْبِض قَبْضَة مِنْ النَّار» مَعْنَاهُ يَجْمَع جَمَاعَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُخْرِج مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا» مَعْنَى عَادُوا: صَارُوا وَلَيْسَ بِلَازِمٍ فِي عَادَ أَنْ يَصِير إِلَى حَالَة كَانَ عَلَيْهَا قِيلَ ذَلِكَ بَلْ مَعْنَاهُ: صَارَ.
وَأَمَّا (الْحُمَم) بِضَمِّ الْحَاء وَفَتْح الْمِيم الْأُولَى الْمُخَفَّفَة وَهُوَ الْفَحْم، الْوَاحِدَة حُمَمَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَر فِي أَفْوَاه الْجَنَّة» أَمَّا (النَّهَر) فَفيه لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فَتْح الْهَاء وَإِسْكَانهَا وَالْفَتْح أَجْوَد، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآن الْعَزِيز.
وَأَمَّا (الْأَفْوَاه) فَجَمْع فُوَّهَة بِضَمِّ الْفَاء وَتَشْدِيد الْوَاو الْمَفْتُوحَة وَهُوَ جَمْع سُمِعَ مِنْ الْعَرَب عَلَى غَيْر قِيَاس، وَأَفْوَاه الْأَزِقَّة وَالْأَنْهَار أَوَائِلهَا.
قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع كَأَنَّ الْمُرَاد فِي الْحَدِيث مُفْتَتَح مِنْ مَسَالِك قُصُور الْجَنَّة وَمَنَازِلهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَكُون إِلَى الشَّمْس أُصَيْفِر وَأُخَيْضِر وَمَا يَكُون مِنْهَا إِلَى الظِّلّ يَكُون أَبْيَض» أَمَّا (يَكُون) فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَتَامَّة لَيْسَ لَهَا خَبَر مَعْنَاهَا مَا يَقَع، وَأُصَيْفِر وَأُخَيْضِر مَرْفُوعَانِ، وَأَمَّا يَكُون أَبْيَض: «فَيَكُون» فيه نَاقِصَة وَأَبْيَض مَنْصُوب وَهُوَ خَبَرهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابهمْ الْخَوَاتِم» أَمَّا اللُّؤْلُؤ فَمَعْرُوف وَفيه أَرْبَع قِرَاءَات فِي السَّبْع بِهَمْزَتَيْنِ فِي أَوَّله وَآخِره، وَبِحَذْفِهِمَا وَبِإِثْبَاتِ الْهَمْزَة فِي أَوَّله دُونَ آخِره وَعَكْسه.
وَأَمَّا (الْخَوَاتِم) فَجَمْع خَاتَم بِفَتْحِ التَّاء وَكَسْرهَا، وَيُقَال أَيْضًا: خَيْتَام وَخَاتَام.
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: الْمُرَاد بِالْخَوَاتِمِ هُنَا أَشْيَاء مِنْ ذَهَب أَوْ غَيْر ذَلِكَ تُعَلَّق فِي أَعْنَاقهمْ عَلَامَة يُعْرَفُونَ بِهَا، قَالَ: مَعْنَاهُ تَشْبِيه صَفَائِهِمْ وَتَلَأْلُئِهِمْ بِاللُّؤْلُؤِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعْرِفهُمْ أَهْل الْجَنَّة هَؤُلَاءِ عُتَقَاء اللَّه» أَيْ يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاء اللَّه.
قَوْله: (قَرَأْت عَلَى عِيسَى بْن حَمَّاد زُغْبَة) هُوَ بِضَمِّ الزَّاي وَإِسْكَان الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَبَعْدهَا بَاءَ مُوَحَّدَة وَهُوَ لَقَب لِحَمَّادٍ وَالِد عِيسَى، ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ الْجَيَّانِيّ.
قَوْله: (وَزَادَ بَعْد قَوْله بِغَيْرِ عَمَل عَمِلُوهُ وَلَا قَدَم قَدَّمُوهُ) هَذَا مِمَّا قَدْ يُسْأَل عَنْهُ فَيُقَال: لَمْ يَتَقَدَّم فِي الرِّوَايَة الْأُولَى ذِكْره (الْقَدَم) وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ (وَلَا خَيْر قَدَّمُوهُ) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُول: زَادَ بَعْد قَوْله: (وَلَا قَدَم) إِذْ لَمْ يَجْرِ لِلْقَدَمِ ذِكْر، وَجَوَابه: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَة الَّتِي فيها الزِّيَادَة وَقَعَ فيها: (وَلَا قَدَم) بَدَل قَوْله فِي الْأُولَى (خَيْر) وَوَقَعَ فيها الزِّيَادَة فَأَرَادَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه بَيَان الزِّيَادَة، وَلَمْ يُمْكِنهُ أَنْ يَقُول زَادَ بَعْد قَوْله: وَلَا خَيْر قَدَّمُوهُ؛ إِذْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر فِي هَذِهِ الرِّوَايَة فَقَالَ: زَادَ بَعْد قَوْله وَلَا قَدَم قَدَّمُوهُ أَيْ زَادَ بَعْد قَوْله فِي رِوَايَته وَلَا قَدَم قَدَّمُوهُ. وَاعْلَمْ أَيّهَا الْمُخَاطَب أَنَّ هَذَا لَفْظه فِي رِوَايَته وَأَنَّ زِيَادَته بَعْد هَذَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَالْقَدَم هُنَا بِفَتْحِ الْقَاف وَالدَّال وَمَعْنَاهُ الْخَيْر كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيث اللَّيْث فَيَقُولُونَ: رَبّنَا أَعْطَيْتنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ وَمَا بَعْدَهُ فَأَقَرَّ بِهِ عِيسَى بْن حَمَّاد) أَمَّا قَوْله: (وَمَا بَعْده) فَمَعْطُوف عَلَى فَيَقُولُونَ رَبّنَا، أَيْ: لَيْسَ فيه فَيَقُولُونَ رَبّنَا وَلَا مَا بَعْده.
وَأَمَّا قَوْله (فَأَقَرَّ بِهِ عِيسَى) فَمَعْنَاهُ أَقَرَّ بِقَوْلِ لَهُ أَوَّلًا أَخْبَرَكُمْ اللَّيْث بْن سَعْد إِلَى آخِره. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن عَوْن حَدَّثَنَا هِشَام بْن سَعْد حَدَّثَنَا زَيْد بْن أَسْلَم بِإِسْنَادِهِمَا نَحْو حَدِيث حَفْص بْن مَيْسَرَة) فَقَوْله (بِإِسْنَادِهِمَا) يَعْنِي بِإِسْنَادِ مَيْسَرَة وَإِسْنَاد سَعِيد بْن أَبِي هِلَال الرَّاوِيَيْنِ فِي الطَّرِيقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ عَطَاء بْن يَسَار عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَمُرَاد مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ زَيْد بْن أَسْلَم رَوَاهُ عَنْ عَطَاء عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ، وَرَوَاهُ عَنْ زَيْد بِهَذَا الْإِسْنَاد ثَلَاثَة مِنْ أَصْحَابه حَفْص بْن مَيْسَرَة وَسَعِيد بْن أَبِي هِلَال وَهِشَام بْن سَعْد، فَأَمَّا رِوَايَتَا حَفْص وَسَعِيد فَتَقَدَّمَتَا مُبَيَّنَتَيْنِ فِي الْكِتَاب، وَأَمَّا رِوَايَة هِشَام فَهِيَ مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَاد بِإِسْنَادِهِمَا وَمِنْ حَيْثُ الْمَتْن نَحْو حَدِيث حَفْص. وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم.