فصل: مسألة: لو حلف أن يقضيه حقه في وقت فقضاه قبله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


باب جامع الأيمان

مسألة

قال أبو القاسم - -رحمه الله- تعالى -‏:‏ ‏[‏ويرجع في الأيمان إلى النية‏]‏

وجملة ذلك أن مبنى اليمين على نية الحالف فإذا نوى بيمينه ما يحتمله‏,‏ انصرفت يمينه إليه سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا له‏,‏ فالموافق للظاهر أن ينوي باللفظ موضوعه الأصلي مثل أن ينوي باللفظ العام العموم وبالمطلق الإطلاق‏,‏ وبسائر الألفاظ ما يتبادر إلى الأفهام منها والمخالف يتنوع أنواعا أحدها أن ينوي بالعام الخاص‏,‏ مثل أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة ويريد لحما بعينه وفاكهة بعينها ومنها أن يحلف على فعل شيء أو تركه مطلقا‏,‏ وينوي فعله أو تركه في وقت بعينه مثل أن يحلف‏:‏ لا أتغدى يعني اليوم أو‏:‏ لآكلن يعني الساعة ومنها‏,‏ أن ينوي بيمينه غير ما يفهمه السامع منه كما ذكرنا في المعاريض في مسألة إذا تأول في يمينه فله تأويله ومنها‏,‏ أن يريد بالخاص العام مثل أن يحلف‏:‏ لا شربت لفلان الماء من العطش ينوي قطع كل ما له فيه منة أو‏:‏ لا يأوي مع امرأته في دار يريد جفاءها بترك اجتماعها معه في جميع الدور‏,‏ أو حلف‏:‏ لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها به فيتعلق يمينه بالانتفاع به أو بثمنه‏,‏ مما لها فيه منة عليه وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف لفظه لأن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين لفظه‏,‏ فلو أحنثناه على ما سواه لأحنثناه على ما نوى لا على ما حلف‏,‏ ولأن النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك لا يحنث بمخالفتها ولنا أنه نوى بكلامه ما يحتمله‏,‏ ويسوغه في اللغة التعبير به عنه فينصرف يمينه إليه كالمعاريض‏,‏ وبيان احتمال اللفظ أنه يسوغ في كلام العرب التعبير بالخاص عن العام قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يملكون من قطمير‏}‏ ‏{‏ولا يظلمون فتيلا‏}‏{‏فإذا لا يأتون الناس نقيرا‏}‏ والقطمير‏:‏ لفافة النواة والفتيل ما في شقها والنقير‏:‏ النقرة التي في ظهرها ولم يرد ذلك بعينه‏,‏ بل نفى كل شيء وقال الحطيئة يهجو بني العجلان‏:‏

ولا يظلمون الناس حبة خردل **

ولم يرد الحبة بعينها إنما أراد لا يظلمونهم شيئا وقد يذكر العام‏,‏ ويراد به الخاص كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ - يعني رجلا واحدا - ‏{‏إن الناس قد جمعوا لكم‏}‏ يعني أبا سفيان وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تدمر كل شيء‏}‏ ولم يرد السماء والأرض ولا مساكنهم وإذا احتمله اللفظ وجب صرف اليمين إليه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏إنما لامرئ ما نوى‏)‏ ولأن كلام الشارع يحمل على مراده‏,‏ إذا ثبت ذلك بالدليل فكذلك كلام غيره وقولهم‏:‏ إن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين قلنا‏:‏ وهذا كذلك فإنما انعقدت عليه اليمين على ما نواه‏,‏ ولفظه مصروف إليه وليست هذه نية مجردة بل لفظ منوي به ما يحتمله

فصل

ومن شرط انصراف اللفظ إلى ما نواه‏,‏ احتمال اللفظ له فإن نوى ما لا يحتمله اللفظ مثل أن يحلف لا يأكل خبزا‏,‏ يعني به لا يدخل بيتا فإن يمينه لا تنصرف إلى المنوي لأنها نية مجردة لا يحتملها اللفظ‏,‏ فأشبه ما لو نوى ذلك بغير يمين‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها‏]‏

وجملته أنه إذا عدمت النية نظرنا في سبب اليمين‏,‏ وما أثارها لدلالته على النية فإذا حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار نظرنا فإن كان سبب يمينه غيظا من جهة الدار‏,‏ لضرر لحقه منها أو منة عليه بها اختصت بيمينه بها‏,‏ وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقتضي جفاءها ولا أثر للدار فيه تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار وكذلك إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها‏,‏ إن كان سببه المنة عليه منها فكيفما انتفع به أو بثمنه حنث وإن كان سبب يمينه خشونة غزلها ورداءته لم يتعد بيمينه لبسه والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في التي قبلها‏,‏ وقد دللنا على تعلق اليمين بما نواه والسبب دليل على النية فيتعلق اليمين به‏,‏ وقد ثبت أن كلام الشارع إذا كان خاصا في شيء لسبب عام تعدى إلى ما يوجد فيه السبب كتنصيصه على تحريم التفاضل في أعيان ستة‏,‏ أثبت الحكم في كل ما يوجد فيه معناها كذلك في كلام الآدمي مثله فأما إن كان اللفظ عاما والسبب خاصا‏,‏ مثل من دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى أو حلف لا يقعد فإن كانت له نية فيمينه على ما نوى وإن لم تكن له نية فكلام أحمد يقتضي روايتين إحداهما‏,‏ أن اليمين محمولة على العموم لأن أحمد سئل عن رجل حلف أن لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم‏؟‏ فقال‏:‏ النذر يوفي به يعني لا يدخله ووجه ذلك أن لفظ الشارع إذا كان عاما‏,‏ لسبب خاص وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب كذلك يمين الحالف وذكر القاضي فيمن حلف على زوجته أو عبده أن لا يخرج إلا بإذنه‏,‏ فعتق العبد وطلق الزوجة وخرجا بغير إذنه‏,‏ لا يحنث لأن قرينة الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها وإنما يملك منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما فكأنه قال‏:‏ ما دمتما في ملكي ولأن السبب يدل على النية في الخصوص‏,‏ كدلالته عليها في العموم ولو نوى الخصوص لاختصت يمينه به فكذلك إذا وجد ما يدل عليها ولو حلف لعامل لا يخرج إلا بإذنه فعزل أو حلف أن لا يرى منكرا إلا رفعه إلى فلان القاضي فعزل‏,‏ ففيه وجهان بناء على ما تقدم أحدهما‏:‏ لا تنحل اليمين بعزله قال القاضي‏:‏ هذا قياس المذهب لأن اليمين إذا تعلقت بعين موصوفة تعلقت بالعين وإن تغيرت الصفة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر‏,‏ تنحل اليمين بعزله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يقال‏:‏ رفعه إليه إلا في حال ولايته فعلى هذا إن رأى المنكر في ولايته فأمكنه رفعه فلم يرفعه إليه حتى عزل لم يبر برفعه إليه حال كونه معزولا وهل يحنث بعزله‏؟‏ فيه وجهان أحدهما‏,‏ يحنث لأنه قد فات رفعه إليه فأشبه ما لو مات والثاني لا يحنث لأنه لم يتحقق فواته‏,‏ لاحتمال أن يلي فيرفعه إليه بخلاف ما إذا مات فإنه يحنث لأنه قد تحقق فواته‏,‏ وإذا مات قبل إمكان رفعه إليه حنث أيضا لأنه قد فات فأشبه ما لو حلف ليضربن عبده في غد فمات العبد اليوم‏,‏ ويحتمل أن يحنث لأنه لم يتمكن من فعل المحلوف عليه فأشبه المكره وإن قلنا‏:‏ لا تنحل يمينه بعزله فرفعه إليه بعد عزله بر بذلك‏.‏

فصل

فإن اختلف السبب والنية‏,‏ مثل أن امتنت عليه امرأته بغزلها فحلف أن لا يلبس ثوبا من غزلها ينوي اجتناب اللبس خاصة‏,‏ دون الانتفاع بثمنه وغيره قدمت النية على السبب وجها واحدا لأن النية وافقت مقتضى اللفظ وإن نوى بيمينه ثوبا واحدا‏,‏ فكذلك في ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي‏:‏ يقدم السبب لأن اللفظ ظاهر في العموم والسبب يؤكد ذلك الظاهر ويقويه لأن السبب هو الامتنان وظاهر حاله قطع النية‏,‏ فلا يلتفت إلى نيته المخالفة للظاهرين والأول أصح لأن السبب إنما اعتبر لدلالته على القصد فإذا خالف حقيقة القصد‏,‏ لم يعتبر وكان وجوده كعدمه فلم يبق إلا لفظه بعمومه‏,‏ والنية تخصه على ما بيناه فيما مضى‏.‏

مسألة

قال ‏[‏ولو حلف لا يسكن دارا هو ساكنها خرج من وقته‏,‏ وإن تخلف عن الخروج من وقته حنث‏]‏

وجملة ذلك إن ساكن الدار إذا حلف لا يسكنها فمتى أقام فيها بعد يمينه زمنا يمكنه فيه الخروج‏,‏ حنث لأن استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم السكنى عليها ألا تراه يقول‏:‏ سكنت هذه الدار شهرا كما يقول‏:‏ لبست هذا الثوب شهرا‏؟‏ وبهذا قال الشافعي وإن أقام لنقل رحله وقماشه‏,‏ لم يحنث لأن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال فيحتاج أن ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلا ويحكى عن مالك‏,‏ أنه إن أقام دون اليوم والليلة لم يحنث لأن ذلك قليل يحتاج إليه في الانتقال فلم يحنث به وعن زفر‏,‏ أنه قال‏:‏ يحنث وإن انتقل في الحال لأنه لا بد أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة فيحنث بها وليس بصحيح فإن ما لا يمكن الاحتراز منه لا يراد باليمين ولا يقع عليه‏,‏ وأما إذا أقام زمنا يمكنه الانتقال فيه فإنه يحنث لأنه فعل ما يقع عليه اسم السكنى فحنث به‏,‏ كموضع الاتفاق ألا ترى أنه لو حلف لا يدخل الدار فدخل إلى أول جزء منها‏,‏ حنث وإن كان قليلا‏؟‏

فصل

وإن أقام لنقل متاعه وأهله لم يحنث وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي‏:‏ يحنث ولنا‏,‏ أن الانتقال إنما يكون بالأهل والمال على ما سنذكره فلا يمكنه التحرز من هذه الإقامة‏,‏ فلا يقع اليمين عليها وعلى هذا إن خرج بنفسه وترك أهله وماله في المسكن مع إمكان نقلهم عنه‏,‏ حنث وقال الشافعي‏:‏ لا يحنث إذا خرج بنية الانتقال لأنه إذا خرج بنية الانتقال فليس بساكن ولأنه يجوز أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله ولنا أن السكنى تكون بالأهل والمال‏,‏ ولهذا يقال‏:‏ فلان ساكن البلد الفلاني وهو غائب عنه بنفسه وإذا نزل بلدا بأهله وماله يقال‏:‏ سكنه ولو نزله بنفسه لا يقال‏:‏ سكنه وقولهم‏:‏ إنه نوى السكنى بنفسه لا يصح فإن من خرج إلى مكان لينقل أهله إليه ولم ينو السكنى بنفسه‏,‏ فأشبه من خرج يشتري متاعا وإن خرج عازما على السكنى بنفسه منفردا عن أهله الذي في الدار لم يحنث‏,‏ ويدين فيما بينه وبين الله - تعالى ذكره القاضي وحكي عن مالك أنه اعتبر نقل عياله دون ماله والأولى إن شاء الله‏,‏ أنه إذا انتقل بأهله فسكن في موضع آخر فإنه لا يحنث‏,‏ وإن بقي متاعه في الدار لأن مسكنه حيث حل أهله به ونوى الإقامة به ولهذا لو حلف لا يسكن دارا لم يكن ساكنا لها‏,‏ فنزلها بأهله ناويا للسكنى بها حنث وقال القاضي‏:‏ إن نقل إليها ما يتأثث به ويستعمله في منزله‏,‏ فهو ساكن وإن سكنها بنفسه‏.‏

فصل

وإن أكره على المقام لم يحنث لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان‏,‏ وما استكرهوا عليه‏)‏ وكذلك إن كان في جوف الليل في وقت لا يجد منزلا يتحول إليه أو يحول بينه وبين المنزل أبواب مغلقة لا يمكنه فتحها أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله‏,‏ فأقام في طلب النقلة أو انتظارا لزوال المانع منها أو خرج طالبا للنقلة فتعذرت عليه إما لكونه لم يجد مسكنا يتحول إليه‏,‏ لتعذر الكراء أو غيره أو لم يجد بهائم ينتقل عليها ولا يمكنه النقلة بدونها‏,‏ فأقام ناويا للنقلة متى قدر عليها لم يحنث‏,‏ وإن أقام أياما وليالي لأن إقامته عن غير اختيار منه لعدم تمكنه من النقلة فإنه إذا لم يجد مسكنا لا يمكنه ترك أهله‏,‏ وإلقاء متاعه في الطريق فلم يحنث به كالمقيم للإكراه وإن أقام في هذا الوقت‏,‏ غير ناو للنقلة حنث ويكون نقله لما يحتاج إلى نقله‏,‏ على ما جرت به العادة فلو كان ذا متاع كثير فنقله قليلا قليلا على العادة‏,‏ بحيث لا يترك النقل المعتاد لم يحنث وإن أقام أياما ولا يلزمه جمع دواب البلد لنقله‏,‏ ولا النقلة بالليل ولا وقت الاستراحة عند التعب ولا أوقات الصلوات لأن العادة لم تجر بالنقل فيها‏,‏ ولو ذهب رحله أو أودعه أو أعاره وخرج لم يحنث لأن يده زالت عن المتاع وإن تردد إلى الدار لنقل المتاع أو عائدا لمريض‏,‏ أو زائرا لصديق لم يحنث وقال القاضي‏:‏ إن دخلها ومن رأيه الجلوس عنده حنث‏,‏ وإلا فلا ولنا أن هذا ليس بسكنى ولذلك لو حلف ليسكنن دارا‏,‏ لم يبر بالجلوس فيها لأنه على هذا الوجه ولا يسمى ساكنا به بهذا العذر فلم يحنث به‏,‏ كما لو لم ينو الجلوس وإن كان له في الدار امرأة أو عائلة فأرادهم على الخروج معه والانتقال عنها‏,‏ فأبوا ولم يمكنه إخراجهم فخرج وتركهم‏,‏ لم يحنث لأن هذا مما لا يمكنه فأشبه ما لم يمكنه نقله من رحله‏.‏

فصل

وإن حلف لا يساكن فلانا فالحكم في الاستدامة على ما ذكرنا في الحلف على السكنى وإن انتقل أحدهما‏,‏ وبقي الآخر لم يحنث لزوال المساكنة وإن سكنا في دار واحدة وكل واحد في بيت ذي باب وغلق‏,‏ رجع إلى بيته بيمينه أو إلى سببها وما دلت عليه قرائن أحواله في المحلوف على المساكنة فيه فإن عدم ذلك كله‏,‏ حنث وهذا قول مالك وقال الشافعي‏:‏ إن كانت الدار صغيرة فهما متساكنان لأن الصغيرة مسكن واحد وإن كانت كبيرة‏,‏ إلا أن أحدهما في البيت والآخر في الصفة أو كانا في صفتين أو بيتين ليس على أحدهما غلق‏,‏ دون صاحبه فهما متساكنان وإن كانا في بيتين كل واحد منهما له غلق‏,‏ أو كانا في خان فليسا متساكنين لأن كل واحد منهما ينفرد بمسكنه دون الآخر فأشبها المتجاورين كل واحد منهما ينفرد بمسكنه ولنا‏,‏ أنهما في دار واحدة فكانا متساكنين كالصغيرة‏,‏ وفارق المتجاورين في الدارين فإنهما ليسا متساكنين ويمينه على نفي المساكنة‏,‏ لا على المجاورة ولو كانا في دار واحدة حالة اليمين فخرج أحدهما منها وقسماها حجرتين‏,‏ وفتحا لكل واحدة منهما بابا وبينهما حاجز ثم سكن كل واحد منهما في حجرة‏,‏ لم يحنث لأنهما غير متساكنين وإن تشاغلا ببناء الحاجز بينهما وهما متساكنان حنث لأنهما تساكنا قبل انفراد إحدى الدارين من الأخرى وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه خلافا‏.‏

فصل

وإن حلف‏:‏ لا ساكنت فلانا في هذه الدار وقسماها حجرتين‏,‏ وبنيا بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما لنفسه بابا ثم سكنا فيهما‏,‏ لم يحنث لما ذكرنا في التي قبلها وهذا قول الشافعي وابن المنذر‏,‏ وأبي ثور وأصحاب الرأي وقال مالك‏:‏ لا يعجبني ذلك ويحتمله قياس المذهب لكونه عين الدار فلا ينحل بتغيرها‏,‏ كما لو حلف لا يدخلها فصارت نصا والأول أصح لأنه لم يساكنه فيها لكون المساكنة في الدار لا تحصل مع كونهما دارين‏,‏ وفارق الدخول فإنه دخلها متغيرة‏.‏

فصل

وإن حلف ليخرجن من هذه الدار اقتضت يمينه الخروج بنفسه وأهله‏,‏ كما لو حلف لا يسكنها وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة تناولت يمينه الخروج بنفسه لأن الدار يخرج منها صاحبها في اليوم مرات عادة فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد‏,‏ وإنما أراد الخروج الذي هو النقلة والخروج من البلد بخلاف ذلك وإذا خرج الحالف فهل له العود فيه‏؟‏ عن أحمد روايتان إحداهما‏,‏ لا شيء عليه في العود ولا يحنث به لأن يمينه على الخروج وقد خرج فانحلت يمينه لفعل ما حلف عليه‏,‏ فلم يحنث فيما بعد والثانية يحنث بالعود لأن ظاهر حاله قصد هجران ما حلف على الرحيل منه ولا يحصل ذلك بالعود ويمكن حمل هذه الرواية على أن للمحلوف عليه سببا هيج يمينه‏,‏ أو دلت قرينة حاله على إرادته هجرانه أو نوى ذلك بيمينه فاقتضت يمينه دوام اجتنابها وإن لم يكن كذلك‏,‏ لم يحنث بالعود لأن اليمين تحمل عند عدم ذلك على مقتضى اللفظ ومقتضاه ها هنا الخروج وقد فعله‏,‏ فانحلت يمينه وكذلك الحكم إذا حلف على الرحيل منها إلا أنه إذا حلف على الرحيل من بلد لم يبر إلا بالرحيل بأهله‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ ولو حلف لا يدخل دارا‏,‏ فحمل فأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث‏]‏

نص عليه أحمد هذا‏,‏ في رواية أبي طالب وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأن الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه وإن حمل بأمره‏,‏ فأدخلها حنث لأنه دخل مختارا فأشبه ما لو دخل راكبا وإن حمل بغير أمره‏,‏ ولكنه أمكنه الامتناع فلم يمتنع حنث أيضا لأنه دخلها غير مكره فأشبه ما لو حمل بأمره وقال أبو الخطاب‏:‏ في الحنث وجهان أحدهما‏,‏ لا يحنث لأنه لم يفعل الدخول ولم يأمر به فأشبه ما لو لم يمكنه الامتناع ومتى دخل باختياره‏,‏ حنث سواء كان ماشيا أو راكبا‏,‏ أو محمولا أو ألقى نفسه في ماء فجره إليها أو سبح فيه فدخلها‏,‏ وسواء دخلها من بابها أو تسور حائطها أو دخل من طاقة فيها‏,‏ أو نقب حائطا ودخل من ظهرها أو غير ذلك‏.‏

فصل

وإن أكره بالضرب ونحوه على دخولها‏,‏ فدخلها لم يحنث في أحد الوجهين‏,‏ وهو أحد قولي الشافعي وفي الآخر يحنث وهو قول أصحاب الرأي ونحوه قول النخعي لأنه فعل ما حلف على تركه ودخلها ولنا‏,‏ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏)‏ ولأنه دخلها مكرها‏,‏ فأشبه ما لو حمل مكرها‏.‏

فصل

وإن رقى فوق سطحها حنث وبهذا قال مالك وأبو ثور‏,‏ وأصحاب الرأي وقال الشافعي‏:‏ لا يحنث ولأصحابه فيما إذا كان السطح محجرا وجهان واحتجوا بأن السطح يقيها الحر والبرد ويحرزها‏,‏ فهو كحيطانها ولنا أن سطح الدار منها وحكمه حكمها سواء‏,‏ فحنث بدخوله كالمحجر أو كما لو دخل بين حيطانها‏,‏ ودليل ذلك أنه يصح الاعتكاف في سطح المسجد ويمنع الجنب من اللبث فيه‏,‏ ولو حلف ليخرجن من الدار فصعد سطحها لم يبر‏,‏ ولو حلف أن لا يخرج منها فصعد سطحها لم يحنث‏,‏ ولأنه داخل في حدود الدار ومملوك لصاحبها ويملك بشرائها‏,‏ ويخرج من ملك صاحبها ببيعها والبائت عليه يقال‏:‏ بات في داره وبهذا يفارق ما وراء حائطها وإن كان في اليمين قرينة لفظية أو حالية تقتضي اختصاص الإرادة بداخل الدار‏,‏ مثل أن يكون سطح الدار طريقا وسبب يمينه يقتضي ترك صلة أهل الدار لم يحنث بالمرور على سطحها‏,‏ وكذلك إن نوى بيمينه باطن الدار تقيدت يمينه بما نواه لأنه ليس للمرء إلا ما نواه‏.‏

فصل

فإن تعلق بغصن شجرة في الدار لم يحنث وإن صعد حتى صار في مقابلة سطحها بين حيطانها‏,‏ حنث وإن لم ينزل بين حيطانها احتمل أن يحنث لأنه في هوائها وهواؤها ملك لصاحبها‏,‏ فأشبه ما لو قام على سطحها واحتمل أن لا يحنث لأنه لا يسمى داخلا ولا هو على شيء من أجزائها‏,‏ وكذلك إن كانت الشجرة في غير الدار فتعلق بفرع ماد على الدار في مقابلة سطحها وإن قام على حائط الدار احتمل وجهين أحدهما إنه يحنث وهو قول أبي ثور‏,‏ وأصحاب الرأي لأنه داخل في حدها فأشبه القائم على سطحها والثاني لا يحنث لأنه لا يسمى دخولا وإن قام في طبق الباب فكذلك لأنه بمنزلة حائطها وقال القاضي‏:‏ إذا قام على العتبة‏,‏ لم يحنث لأن الباب إذا أغلق حصل خارجا منها ولا يسمى داخلا فيها‏.‏

فصل

وإن حلف أن لا يضع قدمه في الدار فدخلها راكبا أو ماشيا‏,‏ منقولا أو حافيا حنث كما لو حلف أن لا يدخلها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال أبو ثور‏:‏ إن دخلها راكبا‏,‏ لم يحنث لأنه لم يضع قدمه فيها ولنا أنه قد دخل الدار فحنث‏,‏ كما لو دخلها ماشيا ولا نسلم أنه لم يضع قدمه فيها فإن قدمه موضوعة على الدابة فيها فأشبه ما لو دخلها منتعلا وعلى أن هذا في العرف عبارة عن اجتناب الدخول‏,‏ فتحمل اليمين عليه فإن قيل‏:‏ هذا مجاز لا يحمل اليمين عليه قلنا‏:‏ المجاز إذا اشتهر صار من الأسماء العرفية فينصرف اللفظ بإطلاقه إليه‏,‏ كلفظ الرواية والدابة وغيرهما‏.‏

فصل

وإن حلف لا يدخل هذه الدار من بابها فدخلها من غير الباب‏,‏ لم يحنث لأن يمينه لم تتناول غير الباب ويتخرج أنه يحنث إذا أراد بيمينه اجتناب الدار ولم يكن للباب سبب هيج يمينه كما لو حلف لا يأوي مع زوجته في دار‏,‏ فآوى معها في غيرها وإن حول بابها في مكان آخر فدخل فيه حنث لأنه دخلها من بابها وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وإن حلف‏:‏ لا دخلت من باب هذه الدار فكذلك وإن جعل لها باب آخر‏,‏ مع بقاء الأول فدخل منه حنث لأنه دخل من باب الدار وإن قلع الباب‏,‏ ونصب في دار أخرى وبقي الممر حنث بدخوله‏,‏ ولا يحنث بالدخول من الموضع الذي نصب فيه الباب لأن الدخول في الممر لا من المصراع‏.‏

فصل

فإن حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا مملوكة له أو دارا يسكنها بأجرة أو عارية أو غصب‏,‏ حنث وبذلك قال أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي‏:‏ لا يحنث إلا بدخول دار يملكها لأن الإضافة في الحقيقة إلى المالك بدليل أنه لو قال‏:‏ هذه الدار لفلان كان مقرا له بملكها ولو قال‏:‏ أردت أنه يسكنها لم يقبل ولنا أن الدار تضاف إلى ساكنها‏,‏ كإضافتها إلى مالكها قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ أراد بيوت أزواجهن التي يسكنها وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقرن في بيوتكن‏}‏ ولأن الإضافة للاختصاص وكذلك يضاف الرجل إلى أخيه بالأخوة‏,‏ وإلى أبيه بالبنوة وإلى ولده بالأبوة وإلى امرأته بالزوجية‏,‏ وساكن الدار مختص بها فكانت إضافتها إليه صحيحة وهي مستعملة في العرف‏,‏ فوجب أن يحنث بدخولها كالمملوكة له وقولهم‏:‏ إن هذه الإضافة مجاز ممنوع بل هي حقيقة لما ذكرناه‏,‏ ولو كانت مجازا لكنه مشهور فيتناوله اللفظ‏,‏ كما لو حلف‏:‏ لا شربت من رواية فلان فإنه يحنث بالشرب من مزادته وأما الإقرار فإنه لو قال‏:‏ هذه دار زيد وفسر إقراره بسكناها احتمل أن نقول‏:‏ يقبل تفسيره وإن سلمنا‏,‏ فإن قرينة الإقرار تصرفه إلى الملك وكذلك لو حلف‏:‏ لا دخلت مسكن زيد حنث بدخوله الدار التي يسكنها ولو قال‏:‏ هذا المسكن لزيد كان مقرا له بها ولا خلاف في هذه المسألة‏,‏ وهي نظيرة مسألتنا‏.‏

فصل

ولو حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة استأجرها فلان حنث وإن ركب دابة استعارها‏,‏ لم يحنث ذكره أبو الخطاب وكذلك لو ركب دابة غصبها فلان وفارق مسألة الدار فإنه لم يحنث في الدار لكونه استعارها ولا غصبها وإنما حنث لسكناه بها‏,‏ فأضيفت الدار إليه لذلك ولو غصبها أو استعارها من غير أن يسكنها لم تصح إضافتها إليه‏,‏ ولا يحنث الحالف فيكون كمستعير الدابة وغاصبها سواء‏.‏

فصل

وإن حلف لا يدخل دار هذا العبد ولا يركب دابته‏,‏ ولا يلبس ثوبه فدخل دارا جعلت برسمه أو ركب دابة جعلت برسمه‏,‏ أو لبس ثوبا جعل برسمه حنث وعند الشافعي لا يحنث لأنه لا يملك شيئا والإضافة تقتضي الملك‏,‏ وقد قدمنا الكلام معه في الفصل الذي قبل هذا ويخص هذا الفصل بأن الملكية لا تمكن ها هنا ولا تصح الإضافة بمعناها فتعين حمل الإضافة ها هنا على إضافة الاختصاص دون الملك وإن حلف لا يدخل دار زيد‏,‏ فدخل دار عبده حنث وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن دار العبد ملك لسيده وإن حلف لا يلبس ثوب السيد‏,‏ ولا يركب دابته فلبس ثوب عبده وركب دابته‏,‏ حنث وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يحنث لأن العبد بهما أخص ولنا أنهما مملوكان للسيد فتناولهما يمين الحالف‏,‏ كالدار وما ذكروه يبطل بالدار‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ ولو حلف لا يدخل دارا فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئا منه‏,‏ حنث ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل بجميعه أما إذا حلف ليدخلن أو يفعل شيئا‏,‏ لم يبر إلا بفعل جميعه والدخول إليها بجملته‏]‏

لا يختلف المذهب في شيء من ذلك ولا نعلم بين أهل العلم فيه اختلافا لأن اليمين تناولت فعل الجميع‏,‏ كما لو أمره الله - تعالى بفعل شيء لم يخرج من عهدة الأمر إلا بفعل الجميع ولأن اليمين على فعل شيء إخبار بفعله في المستقبل مؤكد بالقسم والخبر بفعل شيء يقتضي فعله كله‏,‏ فأما إن حلف لا يدخل فأدخل بعضه ولا يفعل شيئا‏,‏ ففعل بعضه ففيه روايتان إحداهما لا يحنث حكي عن مالك لأن اليمين يقتضي المنع من فعل المحلوف عليه‏,‏ فاقتضت المنع من فعل شيء منه كالنهي فنظير الحالف على الدخول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادخلوا الباب سجدا‏}‏ ‏{‏ادخلوا عليهم الباب‏}‏ فلا يكون المأمور ممتثلا إلا بدخول جملته‏,‏ ونظير الحلف على ترك الدخول قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا تدخلوا بيوت النبي‏}‏ لا يكون المنهي ممتثلا إلا بترك الدخول كله فكذلك الحالف على ترك الدخول لا يبرأ إلا بتركه كله‏,‏ فمتى أدخل بعضه لم يكن تاركا لما حلف عليه فكان مخالفا كالمنهي عن الدخول ووجه الجمع بينهما‏,‏ أن الآمر والناهي يقصد الحمل على فعل الشيء أو المنع منه والحالف يقصد بيمينه ذلك فكانا سواء‏,‏ يحققه أن الآمر بالفعل أو الحالف عليه يقصد فعل الجميع فلا يكون ممتثلا ولا بارا إلا بفعله كله‏,‏ والناهي والحالف على الترك يقصد ترك الجميع فلا يكون ممتثلا ولا بارا إلا بترك الجميع‏,‏ وفاعل البعض ما فعل الجميع ولا ترك الجميع فلا يكون ممتثلا للأمر ولا النهي‏,‏ ولا بارا بالحلف على الفعل ولا الترك والرواية الثانية لا يحنث إلا بأن يدخل كله قال أحمد في رواية صالح‏,‏ وحنبل فيمن حلف على امرأته لا تدخل بيت أخيها‏:‏ لم تطلق حتى تدخل كلها ألا ترى أن عوف بن مالك‏,‏ قال‏:‏ كلي أو بعضي‏؟‏ لأن الكل لا يكون بعضا والبعض لا يكون كلا وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب أبي حنيفة‏,‏ والشافعي وهكذا كل شيء حلف أن لا يفعله ففعل بعضه لا يحنث حتى يفعله كله لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج رأسه إلى عائشة وهو معتكف‏,‏ فترجله وهي حائض والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد والحائض ممنوعة من اللبث فيه وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لأبي بن كعب‏:‏ ‏"‏ إني لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة ‏"‏ فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها ولأن يمينه تعلقت بالجميع‏,‏ فلم تنحل بالبعض كالإثبات وهذا الخلاف في اليمين المطلقة فأما إن نوى الجميع أو البعض فيمينه على ما نوى وكذلك إن اقترنت به قرينة تقتضي أحد الأمرين‏,‏ تعلقت يمينه به فلو قال‏:‏ والله لا شربت هذا النهر أو هذه البركة تعلقت يمينه ببعضه‏,‏ وجها واحدا لأن فعل الجميع ممتنع فلا ينصرف يمينه إليه وكذلك لو قال‏:‏ والله لا آكل الخبز‏,‏ ولا أشرب الماء وما أشبهه مما علق على اسم جنس أو علقه على اسم جمع كالمسلمين‏,‏ والمشركين والفقراء والمساكين‏,‏ فإنما يحنث بالبعض وبهذا قال أبو حنيفة‏:‏ وسلمه أصحاب الشافعي في اسم الجنس دون الجمع وإن علقه على اسم جنس مضاف كماء النهر حنث أيضا بفعل البعض‏,‏ إذا كان مما لا يمكن شربه كله وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر‏,‏ لا يحنث لأن لفظه يقتضي جميعه فلم يتعلق ببعضه كماء الإداوة ولنا أنه لا يمكن شرب جميعه‏,‏ فتعلقت اليمين ببعضه كما لو حلف لا يكلم الناس فكلم بعضهم‏,‏ وبهذا فارق ماء الإداوة وإن نوى بيمينه فعل الجميع أو كان في لفظه ما يقتضي ذلك‏,‏ لم يحنث إلا بفعل الجميع وإن قال‏:‏ والله لا صمت يوما لم يحنث حتى يكمله وإن حلف‏:‏ لا صليت صلاة ولا أكلت أكلة لم يحنث حتى يكمل الصلاة والأكلة وإن قال لامرأته‏:‏ إن حضت حيضة‏,‏ فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر من حيضة مستقبلة وإن قال لامرأتيه‏:‏ إن حضتما فأنتما طالقتان لم تطلق واحدة منهما حتى تحيضا كلتاهما فهذا وأشباهه مما يدل على إرادته فعل الجميع فوجب تعلق اليمين به وقال أحمد في رجل قال لامرأته‏:‏ إذا صمت يوما‏,‏ فأنت طالق‏:‏ إذا غابت الشمس من ذلك اليوم طلقت وقال القاضي‏:‏ إذا حلف‏:‏ لا صليت صلاة لم يحنث حتى يفرغ مما يسمى صلاة ولو حلف لا يصلي ولا يصوم حنث في الصلاة بتكبيرة الإحرام‏,‏ وفي الصيام بطلوع الفجر إذا نوى الصيام وبهذا قال الشافعي ووافق أبو حنيفة في الصيام وقال في الصلاة‏:‏ لا يحنث حتى يسجد سجدة ولنا أنه يسمى مصليا بدخوله في الصلاة‏,‏ فحنث به كما لو سجد سجدة ولأنه شرع فيما حلف عليه‏,‏ أشبه الصيام يشرع فيه واختار أبو الخطاب أنه لا يحنث حتى يصلي ركعة بسجدتيها ولا يحنث في الصيام حتى يصوم يوما كاملا لأن ما دون ذلك لا يكون بمفرده صوما ولا صلاة والأول أولى فإن كل جزء من ذلك صلاة وصيام لكن يشترط لصحته إتمامه‏,‏ وكذلك يقال لمن أفسد ذلك‏:‏ بطل صومه وصلاته‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ ومن حلف ألا يلبس ثوبا وهو لابسه نزعه من وقته فإن لم يفعل‏,‏ حنث‏]‏

وجملة ذلك أن من حلف لا يلبس ثوبا هو لابسه فإن نزعه في الحال وإلا حنث وكذلك إن حلف لا يركب دابة هو راكبها‏,‏ فإن نزل في أول حالة الإمكان وإلا حنث وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور‏:‏ لا يحنث باستدامة اللبس والركوب حتى يبتدئه لأنه لو حلف لا يتزوج ولا يتطهر‏,‏ فاستدام ذلك لم يحنث كذا ها هنا ولنا أن استدامة اللبس والركوب تسمى لبسا وركوبا‏,‏ ويسمى به لابسا وراكبا ولذلك يقال‏:‏ لبست هذا الثوب شهرا وركبت دابتي يوما فحنث‏,‏ باستدامته كما لو حلف لا يسكن فاستدام السكنى‏,‏ وقد اعتبر الشرع هذا في الإحرام حيث حرم لبس المخيط فأوجب الكفارة في استدامته‏,‏ كما أوجبها في ابتدائه وفارق التزويج فإنه لا يطلق على الاستدامة‏,‏ فلا يقال‏:‏ تزوجت شهرا وإنما يقال‏:‏ منذ شهر ولهذا لم تحرم استدامته في الإحرام كابتدائه‏.‏

فصل

وإن حلف لا يتزوج ولا يتطيب ولا يتطهر‏,‏ فاستدام ذلك لم يحنث في قولهم جميعا لأنه لا يطلق على مستديم هذه الأفعال اسم الفعل فلا يقال‏:‏ تزوجت شهرا ولا‏:‏ تطهرت شهرا ولا‏:‏ تطيبت شهرا وإنما يقال‏:‏ منذ شهر ولم ينزل الشارع استدامة التزويج والطيب منزلة ابتدائها في تحريمه في الإحرام‏,‏ وإيجاب الكفارة فيه‏.‏

فصل

وإن حلف لا يدخل دارا هو فيها فأقام فيها ففيه وجهان أحدهما‏,‏ يحنث لأن استدامة المقام في ملك الغير كابتدائه في التحريم قال أحمد في رجل حلف على امرأته‏:‏ لا دخلت أنا وأنت هذه الدار وهما جميعا فيها قال‏:‏ أخاف أن يكون قد حنث والثاني‏,‏ لا يحنث ذكره القاضي واختاره أبو الخطاب وهو قول أصحاب الرأي لأن الدخول لا يستعمل في الاستدامة ولهذا يقال‏:‏ دخلتها منذ شهر ولا يقال‏:‏ دخلتها شهرا فجرى مجرى التزويج‏,‏ ولأن الدخول الانفصال من خارج إلى داخل ولا يوجد في الإقامة وللشافعي قولان كالوجهين ويحتمل أن من أحنثه إنما كان لأن ظاهر حال الحالف أنه يقصد هجران الدار ومباينتها‏,‏ والإقامة فيها تخالف ذلك فجرى مجرى الحالف على ترك السكنى بها‏.‏

فصل

فإن حلف لا يضاجع امرأته على فراش وهما متضاجعان‏,‏ فاستدام ذلك حنث لأن المضاجعة تقع على الاستدامة ولهذا يقال‏:‏ اضطجع على الفراش ليلة وإن كان هو مضطجعا على الفراش وحده‏,‏ فاضطجعت عنده عليه نظرت فإن قام لوقته لم يحنث وإن استدام‏,‏ حنث لما ذكرنا وإن حلف لا يصوم ‏,‏ وهو صائم ‏,‏ فأتم يومه ‏,‏ فقال القاضي‏:‏ لا يحنث ويحتمل أن يحنث لأن الصوم يقع على الاستدامة ‏,‏ يقال‏:‏ صام يوما لو شرع في صوم يوم العيد ‏,‏ فظن أنه من رمضان ‏,‏ فبان أنه يوم العيد ‏,‏ حرمت عليه استدامته وإن حلف لا يسافر ‏,‏ وهو مسافر ‏,‏ فأخذ في العود أو أقام ‏,‏ لم يحنث ‏,‏ وإن مضى في سفره ‏,‏ حنث لأن الاستدامة سفر ‏,‏ ولهذا يقال‏:‏ سافرت شهرا‏.‏

فصل

وإن حلف ليلبسن امرأته حليا فألبسها خاتما من فضة أو مخنقة من لؤلؤ‏,‏ أو جوهر وحده بر في يمينه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يبر لأنه ليس بحلي وحده ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وتستخرجوا منه حلية تلبسونها‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا‏}‏ وجاء في الحديث‏,‏ عن عبد الله بن عمرو أنه قال‏:‏ قال الله - تعالى للبحر الشرقي‏:‏ إني جاعل فيك الحلية والصيد والطيب ولأن الفضة حلي إذا كانت سوارا أو خلخالا فكانت حليا إذا كانت خاتما‏,‏ كالذهب والجوهر واللؤلؤ حلي مع غيره فكان حليا وحده‏,‏ كالذهب فإن ألبسها عقيقا أو سبجا لم يبر وقال الشافعي‏:‏ إن كان من أهل السواد بر‏,‏ وفي غيرهم وجهان لأن هذا حلي في عرفهم ولنا أن هذا ليس بحلي فلا يبر به‏,‏ كالودع وخرز الزجاج وما ذكروه يبطل بالودع وإن حلف لا يلبس حليا فلبس دراهم أو دنانير في مرسلة‏,‏ ففيه وجهان أحدهما لا يحنث لأنه ليس بحلي إذا لم يلبسه فكذلك إذا لبسه والثاني‏:‏ يحنث لأنه ذهب وفضة لبسه‏,‏ فكان حليا كالسوار والخاتم وإن لبس سيفا محلى لم يحنث لأن السيف ليس بحلي وإن لبس منطقة محلاة‏,‏ ففيه وجهان أحدهما لا يحنث لأن الحلية لها دونه فأشبه السيف المحلى والثاني‏,‏ يحنث لأنها من حلي الرجال ولا يقصد بلبسها محلاة في الغالب إلا التجمل بها وإن حلف لا يلبس خاتما فلبسه في غير الخنصر من أصابعه‏,‏ حنث وقال الشافعي‏:‏ لا يحنث لأن اليمين تقتضي لبسا معينا معتادا وليس هذا معتادا‏,‏ فأشبه ما لو أدخل القلنسوة في رجله ولنا أنه لابس لما حلف على ترك لبسه فأشبه ما لو ائتزر بالسراويل‏,‏ وأما إدخال القلنسوة في رجله فهو عبث وسفه بخلاف هذا‏,‏ فإنه لا فرق بين الخنصر وغيرها إلا من حيث الاصطلاح على تخصيصه بالخنصر‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ ولو حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما‏,‏ اشتراه زيد وبكر حنث إلا أن يكون أراد أن لا يتفرد أحدهما بالشراء‏]‏

وبهذا قال أبو حنيفة‏,‏ ومالك وقال الشافعي‏:‏ لا يحنث وذكره أبو الخطاب احتمالا لأن كل جزء لم ينفرد أحدهما بشرائه فلم يحنث به كما لو حلف لا يلبس ثوبا اشتراه زيد‏,‏ فلبس ثوبا اشتراه زيد هو وغيره ولنا أن زيدا مشتر لنصفه وهو طعام‏,‏ وقد أكله فيجب أن يحنث كما لو اشتراه زيد‏,‏ ثم خلطه بما اشتراه عمرو فأكل الجميع وأما الثوب‏,‏ فلا نسلم وإن سلمناه فالفرق بينهما أن نصف الثوب ليس بثوب‏,‏ ونصف الطعام طعام وقد أكله بعد أن اشتراه زيد وإن اشترى زيد نصفه مشاعا أو اشترى نصفه‏,‏ ثم اشترى الآخر باقيه فأكل منه حنث والخلاف فيه على ما تقدم ولو اشترى زيد نصفه معينا‏,‏ ثم خلطه بالنصف الآخر فأكل الجميع أو أكثر من النصف‏,‏ حنث بغير خلاف لأنه أكل مما اشتراه زيد يقينا وإن أكل نصفه أو أقل من نصفه‏,‏ ففيه وجهان أحدهما يحنث لأنه يستحيل في العادة انفراد ما اشتراه زيد من غيره فيكون الحنث ظاهرا ظهورا كثيرا والثاني‏,‏ لا يحنث لأن الأصل عدم الحنث ولم يتيقن أكله مما اشتراه زيد وكل موضع لا يحنث‏,‏ فحكمه حكم من حلف لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة‏,‏ على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى- وإن أكل من طعام اشتراه زيد ثم باعه‏,‏ أو اشتراه لغيره حنث ويحتمل أن لا يحنث‏.‏

فصل

فإن حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها‏,‏ حنث وبه قال الشافعي وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها ففيه روايتان إحداهما يحنث‏,‏ كالتي قبلها والثانية لا يحنث وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه لم يلبس ثوبا كاملا من غزلها وكذلك إن حلف لا يلبس ثوبا نسجه زيد‏,‏ ولا يأكل من قدر طبخها ولا يدخل دارا اشتراها أو لا يلبس ثوبا خاطه زيد فلبس ثوبا نسجه هو وغيره أو خاطاه‏,‏ أو أكل من قدر طبخاها أو دخل دارا اشترياها ففي هذا كله من الخلاف والقول مثلما في المسألة الأولى وإن حلف أن لا يلبس ما خاطه زيد‏,‏ حنث بلبس ثوب خاطاه جميعا لأنه لبس مما خاطه زيد بخلاف ما إذا قال‏:‏ ثوبا خاطه زيد وإن حلف أن لا يدخل دارا لزيد فدخل دارا له ولغيره‏,‏ خرج فيه وجهان والخلاف فيها على ما مضى‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ ولو حلف لا يزورهما أو لا يكلمهما‏,‏ فزار أو كلم أحدهما حنث إلا أن يكون أراد ألا يجتمع فعله بهما‏]‏

يمكن أن تكون هذه المسألة مبنية على من حلف أن لا يفعل شيئا‏,‏ ففعل بعضه فإن هذا حالف على كلام شخصين وزيارتهما فتكليمه أحدهما وزيارته فعل لبعض ما حلف عليه‏,‏ وقد مضى الكلام في هذا ويمكن أن يقال‏:‏ تقدير يمينه‏:‏ لا كلمت هذا ولا كلمت هذا لأن المعطوف يقدر له بعد حرف العطف فعل وعامل‏,‏ مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه فيصير كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم‏}‏ أي‏:‏ وحرمت عليكم بناتكم فيصير كل واحد منهما محلوفا عليه منفردا فيحنث به‏,‏ فإن قصد ألا يجتمع فعله بهما لم يحنث إلا بذلك لأنه قصد بيمينه ما يحتمله فانصرف إليه‏,‏ وإن قصد ترك كلام كل واحد منهما منفردا حنث بفعله لأنه عقد يمينه على ترك ذلك وإن قال‏:‏ والله لا كلمت زيدا ولا عمرا حنث بكلام كل واحد منهما بغير إشكال فإن هذا يقتضي ترك كلام كل واحد منهما منفردا‏,‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا‏}‏ أي لا يملكون شيئا من ذلك‏.‏

فصل

فإن قال‏:‏ أنت طالق إن كلمت زيدا وعمرا أو‏:‏ عبدي حر إن كلمت زيدا وعمرا لم يقع الطلاق ولا العتق إلا بتكليمهما لأنه جعل تكليمهما معا شرطا لوقوع ذلك‏,‏ ولا يثبت المشروط إلا بوجود الشرط جميعه وكذلك لو قال لامرأتيه‏:‏ إن حضتما فأنتما طالقتان لم يقع الطلاق على واحدة منهما إلا بحيضهما جميعا وتفارق اليمين بالله - تعالى‏,‏ فإن مقتضاها المنع من فعل المحلوف عليه فتحصل المخالفة بفعل البعض وقد جمع بعض أصحابنا بينهما في الحنث بفعل البعض لكون المقصود من الحلف كله على ترك شيء المنع من فعله‏,‏ فيستويان أما إذا قال‏:‏ إذا حضتما فأنتما طالقتان فليس ذلك بيمين لأنه لا يقصد بهذا منع من شيء ولا حث عليه‏,‏ إنما هو شرط مجرد وليس فيه معنى اليمين‏.‏

فصل

ومن حلف على فعل شيء فقال‏:‏ والله لا آكل خبزا ولحما ولا زبدا وتمرا‏,‏ ولا أدخل هاتين الدارين ولا أعصي الله في هذين البلدين ولا أمسك هاتين المرأتين ففعل بعض ما حلف عليه‏,‏ مثل أن أكل أحدهما أو دخل إحدى الدارين وعصى الله في أحد البلدين‏,‏ أو أمسك إحدى المرأتين فهل يحنث‏؟‏ يخرج على روايتين وإن قصد بيمينه أن لا يجمع بينهما أو المنع من كل واحد منهما‏,‏ فيمينه على ما نواه وإن قال‏:‏ والله لا آكل سمكا وأشرب لبنا بالفتح وهو من أهل العربية لم يحنث إلا بالجمع بينهما لأن الواو ها هنا بمعنى ‏(‏ مع‏)‏ ‏,‏ ولذلك اقتضت الفتح وإن عطف أحدهما على الآخر بتكرار ‏"‏ لا ‏"‏ اقتضى المنع من كل واحد منهما منفردا‏,‏ وحنث بفعله‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ ولو حلف أن لا يلبس ثوبا فاشترى به أو بثمنه ثوبا فلبسه‏,‏ حنث إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب وكذلك إن انتفع بثمنه‏]‏

هذه المسألة فرع أصل تقدم ذكره في أول الباب وهو أن الأسباب معتبرة في الأيمان فيتعدى‏,‏ الحكم بتعديها فإذا امتن عليه بثوب فحلف أن لا يلبسه‏,‏ لتنقطع المنة به حنث بالانتفاع به في غير اللبس من أخذ ثمنه لأنه نوع انتفاع به يلحق المنة به فإن لم يقصد قطع المنة ولا كان سبب يمينه يقتضي ذلك‏,‏ لم يحنث إلا بما تناولته يمينه وهو لبسه خاصة فلو أبدله بثوب غيره‏,‏ ثم لبسه أو انتفع به في غير اللبس أو باعه وأخذ ثمنه‏,‏ لم يحنث لعدم تناول اليمين له لفظا ونية وسببا‏.‏

فصل

فإن فعل شيئا عليه فيه لها منة سوى الانتفاع بالثوب وبعوضه مثل أن سكن‏,‏ دارها أو أكل طعامها أو لبس ثوبا لها غير المحلوف عليه‏,‏ لم يحنث لأن المحلوف عليه الثوب فتعلقت يمينه به أو بما حصل به‏,‏ ولم يتعد إلى غيره لاختصاص اليمين والسبب به‏.‏

فصل

وإن امتنت عليه امرأته بثوب فحلف أن لا يلبسه قطعا لمنتها‏,‏ فاشتراه غيرها ثم كساه إياه أو اشتراه الحالف‏,‏ ولبسه على وجه لا منة لها فيه فهل يحنث‏؟‏ على وجهين أحدهما يحنث لمخالفته ليمينه‏,‏ ولأن لفظ الشارع إذا كان أعم من السبب وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب كذا في اليمين ولأنه لو خاصمته امرأة له‏,‏ فقال‏:‏ نسائي طوالق طلقن كلهن وإن كان سبب الطلاق واحدة كذا ها هنا والثاني‏,‏ لا يحنث لأن السبب اقتضى تقييد لفظه بما وجد فيه السبب فصار كالمنوي أو كما لو خصصه بقرينة لفظية‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ ولو حلف أن لا يأوي مع زوجته في دار فأوى معها في غيرها‏,‏ حنث إذا كان أراد بيمينه جفاء زوجته‏,‏ ولم يكن للدار سبب هيج يمينه‏]‏

وهذه أيضا من فروع اعتبار النية وذلك أنه متى قصد جفاءها بترك الأوي معها ولم يكن للدار أثر في يمينه‏,‏ كان ذكر الدار كعدمه وكأنه حلف على ألا يأوي معها فإذا أوى معها في غيرها‏,‏ فقد أوى معها فحنث لمخالفته ما حلف على تركه وصار هذا بمنزلة سؤال الأعرابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ واقعت أهلي في نهار رمضان فقال‏:‏ ‏"‏ أعتق رقبة ‏"‏ لما كان ذكر أهله لا أثر له في إيجاب الكفارة‏,‏ حذفناه من السبب وصار السبب الوقاع سواء كان لأهل أو لغيرهم وإن كان للدار أثر في يمينه‏,‏ مثل أن كان يكره سكناها أو خوصم من أجلها أو امتن عليه بها‏,‏ لم يحنث إذا أوى معها في غيرها لأنه قصد بيمينه الجفاء في الدار بعينها فلم يخالف ما حلف عليه وإن عدم السبب والنية لم يحنث إلا بفعل ما تناوله لفظه‏,‏ وهو الأوي معها في تلك الدار بعينها لأنه يجب اتباع لفظه إذا لم تكن نية ولا سبب يصرف اللفظ عن مقتضاه أو يقتضي زيادة عليه‏,‏ ومعنى الأوي الدخول فمتى حلف لا يأوي معها فدخل معها الدار حنث‏,‏ قليلا كان لبثهما أو كثيرا قال الله - تعالى - مخبرا عن فتى موسى‏:‏ ‏{‏إذ أوينا إلى الصخرة‏}‏ قال أحمد‏:‏ ما كان ذلك إلا ساعة أو ما شاء الله - تعالى - يقال‏:‏ وأويت أنا‏,‏ وآويت غيري قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ أوى الفتية إلى الكهف‏}‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وآويناهما إلى ربوة‏}‏‏.‏

فصل

وإن برها بهدية أو غيرها أو اجتمع معها فيما ليس بدار ولا بيت لم يحنث‏,‏ سواء كانت الدار سببا في يمينه أو لم يكن لأنه قصد جفاءها بهذا النوع فلم يحنث بغيره وإن حلف لا يأوي معها في دار لسبب فزال السبب الموجب ليمينه‏,‏ مثل أن كان السبب امتنانها بها عليه فملك الدار أو صارت لغيرها‏,‏ فأوى معها فيها فهل يحنث‏؟‏ على وجهين تقدم ذكرهما وتعليلهما‏.‏

فصل

فإن حلف أن لا يدخل عليها فيما ليس ببيت‏,‏ فحكمه حكم المسألة التي قبلها إذا قصد جفاءها ولم يكن البيت سببا هيج يمينه حنث‏,‏ وإلا فلا فإن دخل على جماعة هي فيهم يقصد الدخول عليها معهم حنث‏,‏ وكذلك إن لم يقصد شيئا وإن استثناها بقلبه ففيه وجهان أحدهما‏:‏ لا يحنث كما لو حلف أن لا يسلم عليها‏,‏ فسلم على جماعة هي فيهم يقصد بقلبه السلام على غيرها فإنه لا يحنث والثاني‏:‏ يحنث لأن الدخول فعل لا يتميز‏,‏ فلا يصح تخصيصه بالقصد وقد وجد في حق الكل على السواء وهي فيهم فيحنث به‏,‏ كما لو لم يقصد استثناءها وفارق السلام فإنه قول يصح تخصيصه بالقصد ولهذا يصح أن يقال‏:‏ السلام عليكم إلا فلانا ولا يصح أن يقال دخلت عليكم إلا فلانا ولأن السلام قول يتناول ما يتناوله الضمير في ‏"‏ عليكم ‏"‏‏,‏ والضمير عام يصح أن يراد به الخاص فصح أن يراد به من سواها والفعل لا يتأتى هذا فيه وإن دخل بيتا لا يعلم أنها فيه‏,‏ فوجدها فيه فهو كالدخول عليها ناسيا فإن قلنا‏:‏ لا يحنث بذلك فخرج حين علم بها‏,‏ لم يحنث وكذلك إن حلف لا يدخل عليها فدخلت هي عليه فخرج في الحال‏,‏ لم يحنث وإن أقام فهل يحنث‏؟‏ على وجهين بناء على من حلف لا يدخل دارا هو فيها فاستدام المقام بها فهل يحنث‏؟‏ على وجهين‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ ولو حلف أن يضرب عبده في غد‏,‏ فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه وإن مات العبد‏,‏ حنث‏]‏

أما إذا مات الحالف من يومه فلا حنث عليه لأن الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه في وقته وهو الغد والحالف قد خرج عن أن يكون من أهل التكليف قبل الغد‏,‏ فلا يمكن حنثه وكذلك إن جن الحالف في يومه فلم يفق إلا بعد خروج الغد لأنه خرج عن كونه من أهل التكليف وإن هرب العبد أو مرض العبد أو الحالف أو نحو ذلك‏,‏ فلم يقدر على ضربه في الغد حنث وإن لم يمت الحالف ففيه مسائل أحدها‏,‏ أن يضرب العبد في غد أي وقت كان منه فإنه يبر في يمينه‏,‏ بلا خلاف الثانية أمكنه ضربه في غد فلم يضربه حتى مضى الغد‏,‏ وهما في الحياة حنث أيضا بلا خلاف الثالثة‏,‏ مات العبد من يومه فإنه يحنث وهذا أحد قولي الشافعي ويتخرج أن لا يحنث وهو قول أبي حنيفة ومالك‏,‏ والقول الثاني للشافعي لأنه فقد ضربه بغير اختياره فلم يحنث كالمكره والناسي ولنا‏,‏ أنه لم يفعل ما حلف عليه في وقته من غير إكراه ولا نسيان وهو من أهل الحنث‏,‏ فحنث كما لو أتلفه باختياره وكما لو حلف ليحجن العام‏,‏ فلم يقدر على الحج لمرض أو عدم النفقة وفارق الإكراه والنسيان‏,‏ فإن الامتناع لمعنى في الحالف وها هنا الامتناع لمعنى في المحل فأشبه ما لو ترك ضربه لصعوبته‏,‏ أو ترك الحالف الحج لصعوبة الطريق وبعدها عليه فأما إن كان تلف المحلوف عليه بفعله أو اختياره حنث وجها واحدا لأنه فوت الفعل على نفسه قال القاضي‏:‏ ويحنث الحالف ساعة موته لأن يمينه انعقدت من حين حلفه‏,‏ وقد تعذر عليه الفعل في الحال كما لو لم يؤقت‏,‏ ويتخرج أن لا يحنث قبل الغد لأن الحنث مخالفة ما عقد يمينه عليه فلا تحصل المخالفة إلا بترك الفعل في وقته الرابعة مات العبد في غد قبل التمكن من ضربه‏,‏ فهو كما لو مات في يومه الخامسة مات العبد في غد بعد التمكن من ضربه‏,‏ قبل ضربه فإنه يحنث وجها واحدا وقال بعض أصحاب الشافعي‏:‏ يحنث قولا واحدا وقال بعضهم‏:‏ فيه قولان ولنا‏,‏ أنه يمكنه ضربه في وقته فلم يضربه فحنث‏,‏ كما لو مضى الغد قبل ضربه السادسة مات الحالف في غد بعد التمكن من ضربه‏,‏ فلم يضربه حنث وجها واحدا لما ذكرنا السابعة‏,‏ ضربه في يومه فإنه لا يبر وهذا قول أصحاب الشافعي وقال القاضي وأصحاب أبي حنيفة‏:‏ يبر لأن يمينه للحث على ضربه‏,‏ فإذا ضربه اليوم فقد فعل المحلوف عليه وزيادة فأشبه ما لو حلف ليقضينه حقه في غد‏,‏ فقضاه اليوم ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته فلم يبر‏,‏ كما لو حلف ليصومن يوم الجمعة فصام يوم الخميس وفارق قضاء الدين‏,‏ فإن المقصود تعجيله لا غير وفي قضاء اليوم زيادة في التعجيل فلا يحنث فيها لأنه علم من قصده إرادة أن لا يتجاوز غدا بالقضاء‏,‏ فصار كالملفوظ به إذ كان مبنى الأيمان على النية ولا يصح قياس ما ليس بمثله عليه‏,‏ وسائر المحلوفات لا تعلم منها إرادة التعجيل عن الوقت الذي وقته لها فامتنع الإلحاق وتعين التمسك باللفظ الثامنة‏,‏ ضربه بعد موته لم يبر لأن اليمين تنصرف إلى ضربه حيا يتألم بالضرب‏,‏ وقد زال هذا بالموت التاسعة ضربه ضربا لا يؤلمه لم يبر لما ذكرناه العاشرة‏,‏ خنقه أو نتف شعره أو عصر ساقه‏,‏ بحيث يؤلمه فإنه يبر لأنه يسمى ضربا لما تقدم ذكرنا له الحادية عشرة جن العبد‏,‏ فضربه فإنه يبر لأنه حي يتألم بالضرب وإن لم يضربه‏,‏ حنث وإن حلف لا يضربه في غد ففيه نحو من هذه المسائل ومتى فات ضربه بموته أو غيره لم يحنث لأنه لم يضربه‏.‏

فصل

وإن قال‏:‏ والله لأشربن ماء هذا الكوز غدا فاندفق اليوم‏,‏ أو‏:‏ لآكلن هذا الخبز غدا فتلف فهو على نحو مما ذكرنا في العبد قال صالح‏:‏ سألت أبي عن الرجل يحلف أن يشرب هذا الماء فانصب‏؟‏ قال‏:‏ يحنث وكذلك إن حلف أن يأكل هذا الرغيف‏,‏ فأكله كلب‏؟‏ قال‏:‏ يحنث لأن هذا لا يقدر عليه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ ومن حلف أن لا يكلمه حينا فكلمه قبل الستة أشهر حنث‏]‏

وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يكلمه حينا‏,‏ فإن قيد ذلك بلفظه أو بنيته بزمن تقيد به وإن أطلقه‏,‏ انصرف إلى ستة أشهر روي ذلك عن ابن عباس وهو قول أصحاب الرأي وقال مجاهد والحكم وحماد‏,‏ ومالك‏:‏ هو سنة لقوله الله تعالى‏:‏ ‏{‏تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها‏}‏ أي كل عام وقال الشافعي وأبو ثور‏:‏ لا قدر له ويبر بأدنى زمن لأن الحين اسم مبهم يقع على القليل والكثير‏,‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتعلمن نبأه بعد حين‏}‏ قيل‏:‏ أراد يوم القيامة وقال‏:‏ ‏{‏هل أتى على الإنسان حين من الدهر‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فذرهم في غمرتهم حتى حين‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏حين تمسون وحين تصبحون‏}‏ ويقال‏:‏ جئت منذ حين وإن كان أتاه من ساعة ولنا أن الحين المطلق في كلام الله - تعالى - أقله ستة أشهر قال عكرمة وسعيد بن جبير‏,‏ وأبو عبيد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تؤتي أكلها كل حين‏}‏‏:‏ إنه ستة أشهر فيحمل مطلق كلام الآدمي على مطلق كلام الله - تعالى ولأنه قول ابن عباس ولا نعلم له مخالفا في الصحابة‏,‏ وما استشهدوا به من المطلق في كلام الله - تعالى فما ذكرناه أقله فيحمل عليه لأنه اليقين‏.‏

فصل

فإن حلف لا يكلمه حقبا فذلك ثمانون عاما‏,‏ وقال مالك أربعون عاما لأن ذلك يروى عن ابن عباس وقال القاضي وأصحاب الشافعي‏:‏ هو أدنى زمان لأنه لم ينقل فيه عن أهل اللغة تقدير ولنا ما روي عن ابن عباس‏,‏ أنه قال في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لابثين فيها أحقابا ‏}‏‏:‏ الحقب ثمانون سنة وما ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لا يصح لأن قول ابن عباس حجة ولأن ما ذكروه يفضي إلى حمل كلام الله - تعالى‏:‏ ‏{‏لابثين فيها أحقابا‏}‏ وقول موسى‏:‏ ‏{‏أو أمضي حقبا‏}‏ إلى اللكنة لأنه أخرج ذلك مخرج التكثير‏,‏ فإذا صار معنى ذلك ‏{‏لابثين فيها‏}‏ ساعات أو لحظات أو أمضى لحظات وساعات صار مقتضى ذلك التقليل‏,‏ وهو ضد ما أراد الله - تعالى بكلامه وضد المفهوم منه ولم يذكره أحد من المفسرين فيما نعلم‏,‏ فلا يجوز تفسير الحقب به‏.‏

فصل

فإن حلف لا يكلمه الدهر أو الأبد أو الزمان فذلك على الأبد لأن بالألف واللام وهي للإستغراق فتقضي الدهر كله

فصل

إن حلف على أيام فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع قال الله تعالى ‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات‏}‏ وهي أيام التشريق وإن حلف على أشهر‏,‏ فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع وإن حلف على شهور فاختار أبو الخطاب أنها ثلاثة لذلك وقال غيره‏:‏ يتناول يمينه اثني عشر شهرا لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا‏}‏ ولأن الشهور جمع الكثرة‏,‏ وأقله عشرة فلا يحمل على ما يحمل عليه جمع القلة‏.‏

مسألة

قال ‏[‏ولو حلف أن يقضيه حقه في وقت فقضاه قبله‏,‏ لم يحنث إذا كان أراد بيمينه إن لا يجاوز ذلك الوقت‏]‏

وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد‏,‏ وأبو ثور وقال الشافعي يحنث إذا قضاه قبله لأنه ترك فعل ما حلف عليه مختارا فحنث كما لو قضاه بعده، ولنا أن مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد فإذا قضاه قبله‏,‏ فقد قضى قبل خروج الغد وزاد خيرا ولأن مبنى الأيمان على النية‏,‏ ونية هذا بيمينه ترك تعجيل القضاء قبل خروج الغد فتعلقت يمينه بهذا المعنى كما لو صرح به‏,‏ فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين فإن كانت تقتضي التعجيل فهو كما لو نواه لأن السبب يدل على النية‏,‏ وإن لم ينو ذلك ولا كان السبب يقتضيه فظاهر كلام الخرقي‏,‏ أنه لا يبر إلا بقضائه في الغد ولا يبر بقضائه قبله وقال القاضي‏:‏ يبر على كل حال لأن اليمين للحث على الفعل فمتى عجله‏,‏ فقد أتى بالمقصود فيه كما لو نوى ذلك والأول أصح‏,‏ إن شاء الله لأنه ترك فعل ما تناولته يمينه لفظا ولم تصرفها عنه نية ولا سبب فتصرف كما لو حلف ليصومن شعبان‏,‏ فصام رجبا ويحتمل ما قاله القاضي في القضاء خاصة لأن عرف هذه اليمين في القضاء التعجيل فتنصرف اليمين المطلقة إليه‏.‏

فصل

فأما غير قضاء الحق كأكل شيء‏,‏ أو شربه أو بيع شيء أو شرائه‏,‏ أو ضرب عبد ونحوه فمتى عين وقته‏,‏ ولم ينو ما يقتضي تعجيله ولا كان سبب يمينه يقتضيه لم يبر إلا بفعله في وقته وذكر القاضي‏,‏ أنه يبر بتعجيله عن وقته وحكي ذلك عن أصحاب أبي حنيفة ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته من غير نية تصرف يمينه‏,‏ ولا سبب فيحنث كالصيام ولو فعل بعض المحلوف عليه قبل وقته‏,‏ وبعضه في وقته لم يبر لأن اليمين في الإثبات لا يبر فيها إلا بفعل جميع المحلوف عليه فترك بعضه في وقته‏,‏ كترك جميعه إلا أن ينوي أن لا يجاوز ذلك الوقت أو يقتضي ذلك سببها‏.‏

فصل

ومن حلف لا يبيع ثوبه بعشرة‏,‏ فباعه بها أو بأقل منها حنث وإن باعه بأكثر منها لم يحنث وقال الشافعي لا يحنث إذا باعه بأقل لأنه لم يتناوله يمينه ولنا‏,‏ أن العرف في هذا أن لا يبيعه بها ولا بأقل منها بدليل أنه لو وكل في بيعه إنسانا‏,‏ وأمره أن لا يبيعه بعشرة لم يكن له بيعه بأقل منها ولأن هذا تنبيه على امتناعه من بيعه بما دون العشرة‏,‏ والحكم يثبت بالبينة كثبوته باللفظ إن حلف‏:‏ لا اشتريته بعشرة فاشتراه بأقل لم يحنث وإن اشتراه بها أو بأكثر‏,‏ حنث لما ذكرنا ومقتضى مذهب الشافعي أن لا يحنث إذا اشتراه بأكثر منها لأن يمينه لم تتناوله لفظا ولنا أنها تناولته عرفا وتنبيها‏,‏ فكان حانثا كما لو حلف‏:‏ ما له على حبة فإنه يحنث إذا كان له عليه أكثر منها ويبرأ بيمينه مما زاد عليها‏,‏ كبراءته منها قيل لأحمد رجل إن حلف لا ينقص هذا الثوب عن كذا قال‏:‏ قد أخذته ولكن هب لي كذا قال‏:‏ هذا حيلة قيل له‏:‏ فإن قال البائع‏:‏ بعتك بكذا وأهب لفلان شيئا آخر قال هذا كله ليس بشيء فكرهه‏.‏

فصل

فإن حلف ليقضينه حقه في غد‏,‏ فمات الحالف من يومه لم يحنث لما ذكرنا فيما إذا حلف ليضربن عبده في غد فمات من يومه وإن مات‏,‏ المستحق فحكي عن القاضي أنه يحنث لأنه قد تعذر قضاؤه فأشبه ما لو حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد قبل اليوم وقال أبو الخطاب‏:‏ إن قضى ورثته‏,‏ لم يحنث لأن قضاء ورثته يقوم مقام قضائه في إبراء ذمته فكذلك في البر في يمينه بخلاف ما إذا مات العبد‏,‏ فإنه لا يقوم ضرب غيره مقام ضربه وقال أصحاب الرأي وأبو ثور‏:‏ تنحل اليمين بموت المستحق ولا يحنث‏,‏ سواء قضى ورثته أو لم يقضهم لأنه تعذر عليه فعل ما حلف عليه بغير اختياره أشبه المكره وقد سبق الكلام على هذا‏,‏ في مسألة من حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد اليوم وإن أبرأه المستحق من الحق فهل يحنث‏؟‏ على وجهين‏,‏ بناء على المكره هل يحنث‏؟‏ على روايتين وإن قضاه عوضا عن حقه لم يحنث‏,‏ عند ابن حامد لأنه قد قضى حقه وقال القاضي‏:‏ يحنث لأنه لم يقضه الحق الذي عليه بعينه‏.‏

فصل

فإن حلف ليقضينه عند رأس الهلال أو مع رأسه أو إلى رأس الهلال‏,‏ أو إلى استهلاله أو عند رأس الشهر أو مع رأسه‏,‏ فقضاه عند غروب الشمس من ليلة الشهر بر في يمينه وإن أخر ذلك مع إمكانه حنث وإن شرع في عده أو كيله أو وزنه‏,‏ فتأخر القضاء لكثرته لم يحنث لأنه لم يترك القضاء وكذلك إذا حلف ليأكلن هذا الطعام في هذا الوقت‏,‏ فشرع في أكله فيه وتأخر الفراغ لكثرته لم يحنث لأن أكله كله غير ممكن في هذا الوقت اليسير‏,‏ فكانت يمينه على الشروع فيه في ذلك الوقت أو على مقارنة فعله لذلك الوقت للعلم بالعجز عن غير ذلك ومذهب الشافعي في هذا كله كما ذكرنا‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ ولو حلف أن لا يشرب ماء هذا الإناء‏,‏ فشرب بعضه حنث إلا أن يكون أراد أن لا يشربه كله‏]‏

وجملة ذلك أنه إذا حلف ليفعلن شيئا‏,‏ لم يبر إلا بفعل جميعه وإن حلف أن لا يفعله وأطلق‏,‏ ففعل بعضه ففيه روايتان تقدم ذكرهما وإن نوى فعل جميعه‏,‏ أو كان في يمينه ما يدل عليه لم يحنث إلا بفعل جميعه وإن نوى فعل البعض أو كان في يمينه ما يدل عليه حنث بفعل البعض‏,‏ رواية واحدة فإن حلف أن لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه فهل يحنث بذلك‏؟‏ فيه روايتان وإن حلف‏:‏ لا يشرب ماء دجلة‏,‏ أو ماء هذا النهر حنث بشرب أدنى شيء منه لأن شرب جميعه ممتنع بغير يمينه فلا حاجة إلى توكيد المنع بيمينه فتصرف يمينه إلى منع نفسه مما يمكن فعله‏,‏ وهو شرب البعض كما لو حلف‏:‏ لا شربت الماء وبهذا قال أبو حنيفة وقال أصحاب الشافعي‏:‏ إن حلف على الجنس كالناس والماء والخبز والتمر ونحوه‏,‏ حنث بفعل البعض وإن تناولت يمينه الجميع كالمسلمين والمشركين والمساكين‏,‏ لم يحنث بفعل البعض وإن تناولت اسم جنس يضاف كماء النهر‏,‏ وماء دجلة ففيه وجهان ولنا أنه حلف على - ما لا يمكنه فعل جميعه‏,‏ فتناولت يمينه بعضه منفردا كاسم الجنس فإن حلف‏:‏ لا شربت من الفرات فشرب من مائه‏,‏ حنث سواء كرع فيه أو اغترف منه ثم شرب وبهذا قال الشافعي‏,‏ وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يحنث حتى يكرع فيه لأن حقيقة ذلك الكرع فلم يحنث بغيره‏,‏ كما لو حلف‏:‏ لا شربت من هذا الإناء فصب منه في غيره وشرب ولنا أن معنى يمينه أن لا يشرب من ماء الفرات لأن الشرب يكون من مائها ومنها في العرف‏,‏ فحملت اليمين عليه كما لو حلف‏:‏ لا شربت من هذه البئر ولا أكلت من هذه الشجرة‏,‏ ولا شربت من هذه الشاة ويفارق الكوز فإن الشرب في العرف منه لأنه آلة للشرب بخلاف النهر‏,‏ وما ذكروه يبطل بالبئر والشاة والشجرة وقد سلموا أنه لو استقى من البئر أو احتلب لبن الشاة‏,‏ أو التقط من الشجرة وشرب وأكل حنث‏,‏ فكذا في مسألتنا‏.‏

فصل

وإن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه حنث لأنه من ماء الفرات‏,‏ ولو حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه ففيه وجهان أحدهما‏,‏ يحنث لأن معنى الشرب منه الشرب من مائه فحنث كما لو حلف‏:‏ لا شربت من مائه وهذا أحد الاحتمالين لأصحاب الشافعي والثاني‏,‏ لا يحنث وهو قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف فإن عنه رواية‏,‏ أنه يحنث وإنما قلنا‏:‏ إنه لا يحنث لأن ما أخذه النهر يضاف إلى ذلك النهر لا إلى الفرات ويزول بإضافته إليه عن إضافته إلى الفرات‏,‏ فلا يحنث به كغير الفرات‏.‏