فصل: مسألة: الشروط التي تمنع في المزارعة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


باب المزارعة

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وتجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض‏]‏

معنى المزارعة‏:‏ دفع الأرض إلى من يزرعها ويعمل عليها‏,‏ والزرع بينهما وهي جائزة في قول كثير من أهل العلم قال البخاري‏:‏ قال أبو جعفر‏:‏ ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع وزارع على وسعد‏,‏ وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم‏,‏ وعروة وآل أبى بكر وآل علي‏,‏ وابن سيرين وممن رأى ذلك سعيد بن المسيب وطاوس وعبد الرحمن بن الأسود‏,‏ وموسى بن طلحة والزهري وعبد الرحمن بن أبي ليلى‏,‏ وابنه وأبو يوسف ومحمد وروى ذلك عن معاذ‏,‏ والحسن وعبد الرحمن بن يزيد قال البخاري‏:‏ وعامل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر‏,‏ وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وكرهها عكرمة ومجاهد‏,‏ والنخعي وأبو حنيفة وروى عن ابن عباس الأمران جميعا وأجازها الشافعي في الأرض بين النخيل إذا كان بياض الأرض أقل‏,‏ فإن كان أكثر فعلى وجهين ومنعها في الأرض البيضاء لما روى ‏(‏رافع بن خديج قال‏:‏ كنا نخابر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال‏:‏ نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمر كان لنا نافعا وطواعية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنفع قال قلنا‏:‏ ما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ من كانت له أرض فليزرعها‏,‏ ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى‏)‏ وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏ما كنا نرى بالمزارعة بأسا حتى سمعت رافع بن خديج يقول‏:‏ نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها‏)‏ وقال جابر‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المخابرة‏)‏ وهذه كلها أحاديث صحاح‏,‏ متفق عليها والمخابرة‏:‏ المزارعة واشتقاقها من الخبار وهي الأرض اللينة والخبير‏:‏ الأكار وقيل‏:‏ المخابرة معاملة أهل خيبر وقد جاء حديث جابر مفسرا‏,‏ فروى البخاري عن جابر قال‏:‏ كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف‏,‏ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإن لم يفعل فليمسك أرضه‏)‏ وروي تفسيرها عن زيد بن ثابت فروى أبو داود بإسناده عن زيد قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المخابرة قلت‏:‏ وما المخابرة‏؟‏ قال‏:‏ أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع‏)‏ ولنا ما روى ابن عمر‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر‏)‏ متفق عليه وقد روى ذلك ابن عباس وجابر بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وقال أبو جعفر‏:‏ ‏(‏عامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر‏,‏ ثم عمر وعثمان وعلي‏,‏ ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع‏)‏ وهذا أمر صحيح مشهور عمل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى مات ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا ثم أهلوهم من بعدهم‏,‏ ولم يبق بالمدينة أهل بيت إلا وعمل به وعمل به أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بعده فروى البخاري عن ابن عمر‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر فكان يعطى أزواجه مائة وسق‏,‏ ثمانون وسقا تمرا وعشرون وسقا شعيرا فقسم عمر خيبر‏,‏ فخير أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقطع لهن من الأرض والماء أو يمضى لهن الأوسق فمنهن من اختار الأرض‏,‏ ومنهن من اختار الأوسق فكانت عائشة اختارت الأرض‏)‏ ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأن النسخ إنما يكون في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأما شيء عمل به إلى أن مات ثم عمل به خلفاؤه بعده‏,‏ وأجمعت الصحابة رضوان الله عليهم عليه وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد‏,‏ فكيف يجوز نسخه ومتى كان نسخه‏؟‏ فإن كان نسخ في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكيف عمل به بعد نسخه وكيف خفي نسخه‏,‏ فلم يبلغ خلفاءه مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها‏؟‏ فأين كان راوى النسخ‏,‏ حتى لم يذكره ولم يخبرهم به‏؟‏ فأما ما احتجوا به فالجواب عن حديث رافع من أربعة أوجه‏:‏ أحدها أنه قد فسر المنهي عنه في حديثه بما لا يختلف في فساده‏,‏ فإنه قال‏:‏ كنا من أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه‏,‏ فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما بالذهب والورق‏,‏ فلم ينهنا متفق عليه وفي لفظ‏:‏ فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس وهذا خارج عن محل الخلاف‏,‏ فلا دليل فيه عليه ولا تعارض بين الحديثين الثاني أن خبره ورد في الكراء بثلث أو ربع والنزاع في المزارعة‏,‏ ولم يدل حديثه عليها أصلا وحديثه الذي فيه المزارعة يحمل على الكراء أيضا لأن القصة واحدة رويت بألفاظ مختلفة‏,‏ فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر الثالث أن أحاديث رافع مضطربة جدا مختلفة اختلافا كثيرا يوجب ترك العمل بها لو انفردت فكيف يقدم على مثل حديثنا‏؟‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حديث رافع ألوان وقال أيضا‏:‏ حديث رافع ضروب وقال ابن المنذر‏:‏ قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لذلك‏,‏ منها الذي ذكرناه ومنها خمس أخرى وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة زيد بن ثابت وابن عباس قال زيد بن ثابت‏:‏ أنا أعلم بذلك منه‏,‏ وإنما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلين قد اقتتلا فقال‏:‏ ‏"‏ إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع ‏"‏ رواه أبو داود والأثرم وروى البخاري‏,‏ عن عمرو بن دينار قال‏:‏ قلت لطاوس‏:‏ لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها قال‏:‏ إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرنى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينه عنها‏,‏ ولكن قال‏:‏ ‏"‏ أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجا معلوما ‏"‏ ثم إن أحاديث رافع منها ما يخالف الإجماع وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق ومنها ما لا يختلف في فساده‏,‏ كما قد بينا وتارة يحدث عن بعض عمومته وتارة عن سماعه‏,‏ وتارة عن ظهير بن رافع وإذا كانت أخبار رافع هكذا وجب إخراجها واستعمال الأخبار الواردة في شأن خيبر‏,‏ الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها وبها عمل الخلفاء الراشدون وغيرهم‏,‏ فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث الواهية الجواب الرابع أنه لو قدر صحة خبر رافع وامتنع تأويله وتعذر الجمع‏,‏ لوجب حمله على أنه منسوخ لأنه لا بد من نسخ أحد الخبرين ويستحيل القول بنسخ حديث خيبر لكونه معمولا به من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حين موته ثم من بعده إلى عصر التابعين‏,‏ فمتى كان نسخه‏؟‏ وأما حديث جابر في النهي عن المخابرة فيجب حمله على أحد الوجوه التي حمل عليها خبر رافع فإنه قد روى حديث خيبر أيضا فيجب الجمع بين حديثيه‏,‏ مهما أمكن ثم لو حمل على المزارعة لكان منسوخا بقصة خيبر لاستحالة نسخها كما ذكرنا‏,‏ وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت فإن قال أصحاب الشافعي‏:‏ تحمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل وأحاديث النهي عن الأرض البيضاء جمعا بينهما قلنا‏:‏ هذا بعيد لوجوه خمسة‏:‏ أحدها أنه يبعد أن تكون بلدة كبيرة يأتى منها أربعون ألف وسق ليس فيها أرض بيضاء‏,‏ ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض فينقل الرواة كلهم القصة على العموم من غير تفصيل مع الحاجة إليه الثاني أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه‏,‏ وما ذكرناه دلت عليه بعض الروايات وفسره الراوى له بما ذكرناه وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث‏,‏ والجمع بينهما بحمل بعضها على ما فسره رواية به أولى من التحكم بما لا دليل عليه الثالث أن قولهم يفضي إلى تقييد كل واحد من الحديثين وما ذكرناه حمل لأحدهما وحده الرابع أن فيما ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين وأهليهم‏,‏ وفقهاء الصحابة وهم أعلم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته ومعانيها وهو أولى من قول من خالفهم الخامس‏,‏ أن ما ذهبنا إليه مجمع عليه فإن أبا جعفر روى ذلك عن كل أهل بيت بالمدينة وعن الخلفاء الأربعة وأهليهم‏,‏ وفقهاء الصحابة واستمرار ذلك وهذا مما لا يجوز خفاؤه ولم ينكره من الصحابة منكر‏,‏ فكان إجماعا وما روى في مخالفته فقد بينا فساده فيكون هذا إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم‏,‏ لا يسوغ لأحد خلافه والقياس يقتضيه فإن الأرض عين تنمى بالعمل فيها فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها‏,‏ كالأثمان في المضاربة والنخل في المساقاة أو نقول‏:‏ أرض‏,‏ فجازت المزارعة عليها كالأرض بين النخيل ولأن الحاجة داعية إلى المزارعة لأن أصحاب الأرض قد لا يقدرون على زرعها والعمل عليها‏,‏ والأكرة يحتاجون إلى الزرع ولا أرض لهم فاقتضت حكمة الشرع جواز المزارعة كما قلنا في المضاربة والمساقاة بل الحاجة ها هنا آكد لأن الحاجة إلى الزرع آكد منها إلى غيره‏,‏ لكونه مقتاتا ولكون الأرض لا ينتفع بها إلا بالعمل عليها بخلاف المال‏,‏ ويدل على ذلك قول راوى حديثهم‏:‏ نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمر كان لنا نافعا والشارع لا ينهى عن المنافع وإنما ينهى عن المضار والمفاسد فيدل ذلك على غلط الراوى في النهي عنه‏,‏ وحصول المنفعة فيما ظنه منهيا عنه إذا ثبت هذا فإن حكم المزارعة حكم المساقاة في أنها إنما تجوز بجزء للعامل من الزرع‏,‏ وفي جوازها ولزومها وما يلزم العامل ورب الأرض‏,‏ وغير ذلك من أحكامها‏.‏

فصل

وإذا كان في الأرض شجر وبينه بياض أرض فساقاه على الشجر‏,‏ وزارعه الأرض التي بين الشجر جاز سواء قل بياض الأرض أو كثر نص عليه أحمد‏,‏ وقال‏:‏ قد دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر على هذا وبهذا قال كل من أجاز المزارعة في الأرض المفردة فإذا قال‏:‏ ساقيتك على الشجر وزارعتك على الأرض بالنصف جاز وإن قال‏:‏ عاملتك على الأرض والشجر على النصف جاز لأن المعاملة تشملهما وإن قال‏:‏ زارعتك‏:‏ الأرض بالنصف‏,‏ وساقيتك على الشجر بالربع جاز كما يجوز أن يساقيه على أنواع من الشجر ويجعل له في كل نوع قدرا وإن قال‏:‏ ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف جاز لأن المزارعة مساقاة من حيث إنها تحتاج إلى السقي فيها لحاجة الشجر إليه وقال أصحاب الشافعي‏:‏ لا يصح لأن المساقاة لا تتناول الأرض‏,‏ وتصح في النخل وحده وقيل‏:‏ ينبنى على تفريق الصفقة ولنا أنه عبر عن عقد بلفظ عقد يشاركه في المعنى المشهور به في الاشتقاق فصح كما لو عبر بلفظ البيع في السلم‏,‏ ولأن المقصود المعنى وقد علم بقرائن أحواله وهكذا إن قال في الأرض البيضاء‏:‏ ساقيتك على هذه الأرض بنصف ما يزرع فيها فأما إن قال‏:‏ ساقيتك على الشجر بالنصف ولم يذكر الأرض لم تدخل في العقد‏,‏ وليس للعامل أن يزرع وبهذا قال الشافعي وقال مالك وأبو يوسف‏:‏ للداخل زرع البياض فإن تشارطا أن ذلك بينهما‏,‏ فهو جائز وإن اشترط صاحب الأرض أنه يزرع البياض لم يصح لأن الداخل يسقى لرب الأرض‏,‏ فتلك زيادة ازدادها عليه ولنا أن هذا لم يتناوله العقد فلم يدخل فيه كما لو كانت أرضا منفردة‏.‏

فصل

وإن زارعه أرضا فيها شجرات يسيرة لم يجز أن يشترط العامل ثمرتها‏,‏ وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وأجازه مالك إذا كان الشجر بقدر الثلث أو أقل لأنه يسير‏,‏ فيدخل تبعا ولنا أنه اشترط الثمرة كلها فلم يجز كما لو كان الشجر أكثر من الثلث‏.‏

فصل

وإن آجره بياض أرض‏,‏ وساقاه على الشجر الذي فيها جاز لأنهما عقدان يجوز إفراد كل واحد منهما فجاز الجمع بينهما كالبيع‏,‏ والإجارة ويحتمل أن لا يجوز بناء على الوجه الذي لا يجوز الجمع بينهما في الأصل والأول أولى إلا أن يفعلا ذلك حيلة على شراء الثمرة قبل وجودها‏,‏ أو قبل بدو صلاحها فلا يجوز سواء جمعا بين العقدين‏,‏ أو عقدا أحدهما بعد الآخر لما ذكرنا في إبطال الحيل‏.‏

مسألة

قال [إذا كان البذر من رب الأرض]

ظاهر المذهب أن المزارعة إنما تصح إذا كان البذر من رب الأرض والعمل من العامل نص عليه أحمد في رواية جماعة واختار عامة الأصحاب وهو مذهب ابن سيرين والشافعي واسحاق لأنه عقد يشترك العامل ورب المال في نمائه فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما كالمساقاة والمضاربة. وقد روي عن أحمد ما يدل على أن البذر يجوز أن يكون من العامل فإنه قال في رواية مهنا في الرجل يكون له الأرض فيها نخل وشجر يدفعها إلى قوم يزرعون الأرض ويقومون على الشجر على أن له النصف فلا بأس بذلك، وقد دفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على هذا، فأجاز دفع الأرض لزرعها عنه وهو قول أبي يوسف وطائفة من اهل الحديث وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وروي عن سعد وابن مسعود وابن عمر أن البذر من العامل ولعلهم أرادوا أنه يجوز أن يكون من العامل فيكون كقول عمر ولا يكون قولا ثالثا. والدليل على صحة ما ذكرنا قول ابن عمر دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر نخل خيبر وارضها على أن يعملوها من اموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرتها. وفي لفظ على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها. أخرجهما البخاري فجعل عملها من أموالهم وزرعها عليهم ولم يذكر شيئا آخر، وظاهره أن البذر من أهل خيبر، والأصل المعول عليه في المزارعة قصة خيبر ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن البذر على المسلمين ولو كان شرطا لما أخل بذكره ولو فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لنقل ولم يجز الاخلال بنقله، ولأن عمر رضي الله عنه فعل الأمرين جميعا فإن البخاري روى عنه أنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا فظاهر هذا أن ذلك اشتهر فلم ينكر فكان إجماعا، فإن قيل هذا بمنزلة بيعتين في بيعة فكيف يفعله عمر رضي الله عنه؟ قلنا يحتمل أنه قال ذلك ليخبرهم في أي العقدين شاءوا فمن اختار عقدا عقده معينا كما لو قال في البيع إن شئت بعتكه بعشرة صحاح، وإن شئت بأحد عشر مكسورة فاختار أحدهما فعقد البيع معه عليه معينا، ويجوز أن يكون مجيئه بالبذر أو شروعه في العمل بغير بذر مع إقرار عمر له على ذلك وعلمه به جرى مجرى العقد ولهذا روي عن أحمد رحمه الله صحة الإجارة فيما إذا قال إن خطته روميا فلك درهم وإ ن خطته فارسيا فلك نصف درهم، وما ذكره أصحابنا من القياس يخالف ظاهر النص والإجماع الذين ذكرناهما فكيف يعمل به؛ ثم هو منتقض بما إذا اشترك مالان وبدن صاحب أحدهما.

فصل

فإن كان البذر منهما نصفين وشرطا أن الزرع بينهما نصفان فهو بينهما‏,‏ سواء قلنا بصحة المزارعة أو فسادها لأنها إن كانت صحيحة فالزرع بينهما على ما شرطاه وإن كانت فاسدة فلكل واحد منهما بقدر بذره‏,‏ لكن إن حكمنا بصحتها لم يرجع أحدهما على صاحبه بشيء وإن قلنا‏:‏ من شرط صحتها إخراج رب المال البذر فهي فاسدة فعلى العامل نصف أجر الأرض‏,‏ وله على رب الأرض نصف أجر عمله فيتقاصان بقدر الأقل منهما ويرجع أحدهما على صاحبه بالفضل وإن شرطا التفاضل في الزرع‏,‏ وقلنا بصحتها فالزرع بينهما على ما شرطاه ولا تراجع بينهما وإن قلنا بفسادها‏,‏ فالزرع بينهما على قدر بذرهما ويتراجعان كما ذكرنا وكذلك إن تفاضلا في البذر‏,‏ وشرطا التساوى في الزرع أو شرطا لأحدهما أكثر من قدر بذره أو أقل‏.‏

فصل

فإن قال صاحب الأرض‏:‏ أجرتك نصف أرضى هذه بنصف بذرك ونصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرج المزارع البذر كله‏,‏ لم يصح لأن المنفعة غير معلومة وكذلك لو جعلها أجرة لأرض أخرى أو دار لم يجز‏,‏ ويكون الزرع كله للمزارع وعليه أجر مثل الأرض وإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا تختلف معه ومعرفة البذر‏,‏ جاز وكان الزرع بينهما ويحتمل أن لا يصح لأن البذر عوض فيشترط قبضه‏,‏ كما لو كان مبيعا وما حصل فيه قبض وإن قال‏:‏ أجرتك نصف أرضى بنصف منفعتك‏,‏ ومنفعة بقرك وآلتك وأخرجا البذر‏,‏ فهي كالتى قبلها إلا أن الزرع يكون بينهما على كل حال‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏فإن اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي‏,‏ لم يجز‏]‏

وكانت للمزارع أجرة مثله وكذلك يبطل إن أخرج المزارع البذر ويصير الزرع للمزارع وعليه أجرة الأرض أما إذا اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره‏,‏ فلا يصح لأنه كأنه اشترط لنفسه قفزانا معلومة وذلك شرط فاسد تفسد به المزارعة‏,‏ لأن الأرض ربما لا يخرج منها إلا تلك القفزان فيختص رب المال بها وربما لا تخرجها الأرض وأما إذا أخرج المزارع البذر‏,‏ فهو مبنى على الروايتين في صحة هذا الشرط وقد ذكر الخرقي أنه فاسد فإذا أخرج المزارع البذر فسدت كما لو أخرج العامل في المضاربة رأس المال من عنده ومتى فسدت المزارعة‏,‏ فالزرع لصاحب البذر لأنه عين ما له ينقلب من حال إلى حال وينمو‏,‏ فصار كصغار الشجر إذا غرس فطال والبيضة إذا حضنت فصارت فرخا والبذر ها هنا من المزارع‏,‏ فكان الزرع له وعليه أجر الأرض لأن ربها إنما بذلها له بعوض لم يسلم له فرجع إلى عوض منافعها النابتة بزرعها على صاحب الزرع ولو فسدت‏,‏ والبذر من رب الأرض كان الزرع له وعليه أجر مثل العامل لذلك‏,‏ وإن كان البذر منهما فالزرع بينهما ويتراجعان بما يفضل لأحدهما على صاحبه من أجر مثل الأرض التي فيها نصيب العامل‏,‏ وأجر العامل بقدر عمله في نصيب صاحب الأرض‏.‏

فصل

وإن زارعه على أن لرب الأرض زرعا بعينه وللعامل زرعا بعينه مثل أن يشترط لأحدهما زرع ناحية‏,‏ وللآخر زرع أخرى أو يشترط أحدهما ما على السواقى والجداول إما منفردا‏,‏ أو مع نصيبه فهو فاسد بإجماع العلماء لأن الخبر صحيح في النهي عنه غير معارض ولا منسوخ‏,‏ ولأنه يؤدى إلى تلف ما عين لأحدهما دون الآخر فينفرد أحدهما بالغلة دون صاحبه‏.‏

فصل

والشروط الفاسدة في المساقاة والمزارعة تنقسم قسمين أحدهما ما يعود بجهالة نصيب كل واحد منهما مثل ما ذكرنا ها هنا‏,‏ أو أن يشترط أحدهما نصيبا مجهولا أو دراهم معلومة أو أقفزة معينة‏,‏ أو أنه إن سقى سيحا فله كذا وإن سقى بكلفة فله كذا فهذا يفسدها لأنه يعود إلى جهالة المعقود عليه فأشبه البيع بثمن مجهول‏,‏ والمضاربة مع جهالة نصيب أحدهما وإن شرط البذر من العامل فالمنصوص عن أحمد فساد العقد لأن الشرط إذا فسد لزم كون الزرع لرب البذر‏,‏ لكونه نماء ماله فلا يحصل لرب الأرض شيء منه ويستحق الأجر‏,‏ وهذا معنى الفساد فأما إن شرط ما لا يفضي إلى جهالة الربح كعمل رب المال معه أو عمل العامل في شيء آخر‏,‏ فهل تفسد المساقاة والمزارعة‏؟‏ يخرج على روايتين بناء على الشرط الفاسد في البيع والمضاربة‏.‏

فصل

وإن دفع رجل بذره إلى صاحب الأرض ، ليزرعه في أرضه ، ويكون ما يخرج بينهما ، فهو فاسد أيضا ؛ لأن البذر ليس من رب الأرض ، ولا من العامل ، ويكون الزرع لصاحب البذر ، وعليه أجر الأرض والعمل . وإن قال صاحب الأرض لرجل : أنا أزرع الأرض ببذري وعواملي ، ويكون سقيها من مائك ، والزرع بيننا . ففيها روايتان : إحداهما لا يصح . اختارها القاضي ؛ لأن موضوع المزارعة على أن يكون من أحدهما الأرض ، ومن الآخر العمل ، وليس من صاحب الماء أرض ولا عمل ولا بذر ، لأن الماء لا يباع ولا يستأجر ، فكيف تصح المزارعة به ؟ والثانية ، يصح اختارها أبو بكر ، ونقلها عن أحمد يعقوب بن بختان ، وحرب ؛ لأن الماء أحد ما يحتاج إليه في الزرع ، فجاز أن يكون من أحدهما ، كالأرض والعمل . والأول أصح ؛ لأن هذا ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص ؛ لما ذكرناه

فصل

وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض‏,‏ ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر والعمل على أن ما رزق الله بينهم فعملوا‏,‏ فهذا عقد فاسد نص عليه في رواية أبى داود ومهنا‏,‏ وأحمد بن القاسم وذكر حديث مجاهد ‏(‏‏,‏ في أربعة اشتركوا في زرع على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أحدهم‏:‏ على الفدان وقال الآخر‏:‏ قبلي الأرض وقال الآخر‏:‏ قبلي البذر وقال الآخر‏:‏ قبلي العمل فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الزرع لصاحب البذر وألغى صاحب الأرض‏,‏ وجعل لصاحب العمل كل يوم درهما ولصاحب الفدان شيئا معلوما‏)‏ فقال أحمد‏:‏ لا يصح والعمل على غيره وذكر هذا الحديث سعيد بن منصور‏,‏ عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي وعن واصل بن أبي جميل‏,‏ عن مجاهد وقال في آخره‏:‏ فحدثت به مكحولا فقال‏:‏ ما يسرنى بهذا الحديث وصيفا وحكم هذه المسألة حكم المسألة التي ذكرناها في صدر الفصل‏,‏ وهما فاسدان لأن موضوع المزارعة على أن البذر من رب الأرض أو من العامل وليس هو ها هنا من واحد منهما وليست شركة لأن الشركة تكون بالأثمان‏,‏ وإن كانت بالعروض اعتبر كونها معلومة ولم يوجد شيء من ذلك ها هنا وليست إجارة لأن الإجارة تفتقر إلى مدة معلومة‏,‏ وعوض معلوم وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله‏,‏ ولصاحبيه عليه أجر مثلهما لأنهما دخلا على أن يسلم لهما المسمى فإذا لم يسلم عاد إلى بدله وبهذا قال الشافعي‏,‏ وأبو ثور وقال أصحاب الرأي‏:‏ يتصدق بالفضل والصحيح أن النماء لصاحب البذر ولا تلزمه الصدقة به كسائر ماله ولو كانت الأرض لثلاثة‏,‏ فاشتركوا على أن يزرعوها ببذرهم ودوابهم وأعوانهم على أن ما أخرج الله بينهم على قدر مالهم فهو جائز وبهذا قال مالك‏,‏ والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا لأن أحدهم لا يفضل صاحبيه بشيء‏.‏

فصل

وإذا زارع رجلا‏,‏ وآجره أرضه فزرعها وسقط من الحب شيء فنبت في تلك الأرض عاما آخر‏,‏ فهو لصاحب الأرض نص عليه أحمد في رواية أبى داود ومحمد بن الحارث وقال الشافعي‏:‏ هو لصاحب الحب لأنه عين ما له‏,‏ فهو كما لو بذره قصدا ولنا أن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف وزال ملكه عنه لأن العادة ترك ذلك لمن يأخذه ولهذا أبيح التقاطه ورعيه ولا نعلم خلافا في إباحة التقاط ما خلفه الحصادون من سنبل وحب وغيرهما‏,‏ فجرى ذلك مجرى نبذه على سبيل الترك له وصار كالشيء التافه يسقط منه كالثمرة واللقمة ونحوهما والنوى لو التقطه إنسان‏,‏ فغرسه كان له دون من سقط منه كذا ها هنا‏.‏

فصل

في إجارة الأرض‏,‏ تجوز إجارتها بالورق والذهب وسائر العروض‏,‏ سوى المطعوم في قول أكثر العلم قال أحمد‏:‏ فلما اختلفوا في الذهب والورق وقال ابن المنذر‏:‏ أجمع عوام أهل العلم على أن اكتراء الأرض وقتا معلوما جائز بالذهب والفضة روينا هذا القول عن سعد ورافع بن خديج‏,‏ وابن عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة‏,‏ والقاسم وسالم وعبد الله بن الحارث‏,‏ ومالك والليث والشافعي‏,‏ وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وروى عن طاوس‏,‏ والحسن كراهة ذلك لما روى رافع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏نهى عن كراء المزارع‏)‏ متفق عليه ولنا ‏(‏أن رافعا قال‏:‏ أما بالذهب والورق فلم ينهنا‏)‏ يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- متفق عليه ولمسلم ‏(‏أما بشيء معلوم مضمون فلا بأس‏)‏ وعن حنظلة بن قيس أنه ‏(‏سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال‏:‏ نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كراء الأرض قال فقلت‏:‏ بالذهب والفضة‏؟‏ قال‏:‏ إنما نهى عنها ببعض ما يخرج منها أما بالذهب والفضة فلا بأس‏)‏ متفق عليه‏,‏ وعن سعد قال‏:‏ ‏(‏كنا نكري الأرض بما على السواقى وما صعد بالماء منها فنهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة‏)‏ رواه أبو داود‏,‏ ولأنها عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها فجازت إجارتها بالأثمان ونحوها كالدور والحكم في العروض كالحكم في الأثمان وأما حديثهم‏,‏ فقد فسره الراوى بما ذكرناه عنه فلا يجوز الاحتجاج به على غيره وحديثنا مفسر لحديثهم فإن راويهما واحد‏,‏ وقد رواه عاما وخاصا فيحمل العام على الخاص مع موافقة الخاص لسائر الأحاديث والقياس وقول أكثر أهل العلم‏.‏ فأما إجارتها بطعام‏,‏ فتنقسم ثلاثة أقسام أحدها أن يؤجرها بمطعوم غير الخارج منها معلوم فيجوز نص عليه أحمد‏,‏ في رواية الحسن بن ثواب وهو قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي‏,‏ والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ومنع منه مالك‏,‏ حتى منع إجارتها باللبن والعسل وقد روى عن أحمد أنه قال‏:‏ ربما تهيبته قال القاضي‏:‏ هذا من أحمد على سبيل الورع ومذهبه الجواز والحجة لمالك‏,‏ ما روى رافع بن خديج عن بعض عمومته قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من كانت له أرض فلا يكريها بطعام مسمى‏)‏ رواه أبو داود وابن ماجه وروى ظهير بن رافع قال‏:‏ ‏(‏دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ ما تصنعون بمحاقلكم‏؟‏ قلت‏:‏ نؤاجرها على الربع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال‏:‏ لا تفعلوا ازرعوها أو أمسكوها‏)‏ متفق عليه وروى أبو سعيد قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة‏)‏ والمحاقلة‏:‏ استكراء الأرض بالحنطة ولنا قول رافع‏:‏ فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس به ولأنه عوض معلوم مضمون‏,‏ لا يتخذ وسيلة إلى الربا فجازت إجارتها به كالأثمان وحديث ظهير بن رافع قد سبق الكلام عليه في المزارعة‏,‏ على أنه يحتمل النهي عن إجارتها بذلك إذا كان خارجا منها ويحتمل النهي عنه إذا آجرها بالربع والأوسق وحديث أبى سعيد يحتمل المنع من كرائها بالحنطة إذا اكتراها لزرع الحنطة‏.‏ القسم الثاني‏,‏ إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها كإجارتها بقفزان حنطة لزرعها‏,‏ فقال أبو الخطاب‏:‏ فيها روايتان إحداهما المنع وهي التي ذكرها القاضي مذهبا وهي قول مالك لما تقدم من الأحاديث ولأنها ذريعة إلى المزارعة عليها بشيء معلوم من الخارج منها‏,‏ لأنه يجعل مكان قوله زارعتك آجرتك فتصير مزارعة بلفظ الإجارة‏,‏ والذرائع معتبرة والثانية جواز ذلك اختارها أبو الخطاب وهو قول أبى حنيفة والشافعي لما ذكرنا في القسم الأول ولأن ما جازت إجارته بغير المطعوم‏,‏ جازت به كالدور‏.‏ القسم الثالث إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها‏,‏ كنصف وثلث وربع‏,‏ فالمنصوص عن أحمد جوازه وهو قول أكثر الأصحاب واختار أبو الخطاب أنها لا تصح وهو قول أبى حنيفة والشافعي وهو الصحيح إن شاء الله لما تقدم من الأحاديث في النهي‏,‏ من غير معارض لها ولأنها إجارة بعوض مجهول فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى‏,‏ ولأنها إجارة لعين ببعض نمائها فلم تجز كسائر الأعيان‏,‏ ولأنه لا نص في جوازها ولا يمكن قياسها على المنصوص فإن النصوص إنما وردت بالنهى عن إجارتها بذلك ولا نعلم في تجويزها نصا‏,‏ والمنصوص على جوازه إجارتها بذهب أو فضة أو شيء مضمون معلوم وليست هذه كذلك فأما نص أحمد في الجواز‏,‏ فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة فيكون حكمها حكم المزارعة في جوازها ولزومها‏,‏ وفيما يلزم العامل ورب الأرض وسائر أحكامها والله أعلم‏.‏