فصل: مسألة: إذا شهد عند القاضي من لا يعرفه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب القضاء

الأصل في القضاء ومشروعيته الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله‏}‏ وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما‏}‏ وأما السنة فما روى عمرو بن العاص‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏ متفق عليه في أي وأخبار سوى ذلك كثيرة وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس‏.‏

فصل‏:‏

والقضاء من فروض الكفايات لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه‏,‏ فكان واجبا عليهم كالجهاد والإمامة قال أحمد‏:‏ لا بد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس‏,‏ وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأداء الحق فيه ولذلك جعل الله فيه أجرا مع الخطأ‏,‏ وأسقط عنه حكم الخطأ ولأن فيه أمرا بالمعروف ونصرة المظلوم‏,‏ وأداء الحق إلى مستحقه وردا للظالم عن ظلمه وإصلاحا بين الناس‏,‏ وتخليصا لبعضهم من بعض وذلك من أبواب القرب ولذلك تولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء قبله فكانوا يحكمون لأممهم‏,‏ وبعث عليا إلى اليمن قاضيا وبعث أيضا معاذا قاضيا وقد روي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ لأن أجلس قاضيا بين اثنين‏,‏ أحب إلى من عبادة سبعين سنة وعن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏(‏جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لي‏:‏ اقض بينهما قلت‏:‏ أنت أولى بذلك قال‏:‏ وإن كان قلت‏:‏ علام أقضي قال‏:‏ اقض فإن أصبت فلك عشرة أجور‏,‏ وإن أخطأت فلك أجر واحد‏)‏ رواه سعيد في ‏"‏ سننه ‏"‏‏.‏

فصل‏:‏

وفيه خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه ولذلك كان السلف رحمة الله عليهم‏,‏ يمتنعون منه أشد الامتناع ويخشون على أنفسهم خطره قال خاقان بن عبد الله‏:‏ أريد أبو قلابة على قضاء البصرة فهرب إلى اليمامة‏,‏ فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها‏,‏ وقيل‏:‏ ليس ها هنا غيرك قال‏:‏ فانزلوا الأمر على ما قلتم فإنما مثلي مثل سابح وقع في البحر فسبح يومه‏,‏ فانطلق ثم سبح اليوم الثاني فمضى أيضا‏,‏ فلما كان اليوم الثالث فترت يداه وكان يقال‏:‏ أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة ولعظم خطره قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن وقيل في هذا الحديث‏:‏ إنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء‏,‏ وإنما وصفه بالمشقة فكأن من وليه قد حمل على مشقة كمشقة الذبح‏.‏

فصل‏:‏

والناس في القضاء على ثلاثة أضرب منهم من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه‏,‏ ولم تجتمع فيه شروطه فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏القضاة ثلاثة ذكر منهم رجلا قضى بين الناس بجهل فهو في النار‏)‏ ولأن من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه‏,‏ فيأخذ الحق من مستحقه ويدفعه إلى غيره ومنهم من يجوز له ولا يجب عليه‏,‏ وهو من كان من أهل العدالة والاجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن يلي القضاء بحكم حاله وصلاحيته‏,‏ ولا يجب عليه لأنه لم يتعين له وظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من السلامة‏,‏ ولما ورد فيه من التشديد والذم ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي وقد أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر القضاء فأباه وقال أبو عبد الله بن حامد‏:‏ إن كان رجلا خاملا‏,‏ لا يرجع إليه في الأحكام ولا يعرف فالأولى له توليه ليرجع إليه في الأحكام‏,‏ ويقوم به الحق وينتفع به المسلمون وإن كان مشهورا في الناس بالعلم‏,‏ يرجع إليه في تعليم العلم والفتوى فالأولى الاشتغال بذلك لما فيه من النفع مع الأمن من الغرر ونحو هذا قال أصحاب الشافعي‏,‏ وقالوا أيضا‏:‏ إذا كان ذا حاجة وله في القضاء رزق فالأولى له الاشتغال به‏,‏ فيكون أولى من سائر المكاسب لأنه قربة وطاعة وعلى كل حال فإنه يكره للإنسان طلبه والسعي في تحصيله لأن أنسا روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏من ابتغى القضاء‏,‏ وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه‏,‏ أنزل الله عليه ملكا يسدده‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن غريب ‏(‏وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن سمرة‏:‏ يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها‏)‏ متفق عليه الثالث‏:‏ من يجب عليه‏,‏ وهو من يصلح للقضاء ولا يوجد سواه فهذا يتعين عليه لأنه فرض كفاية‏,‏ لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه كغسل الميت وتكفينه وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين عليه فإنه سئل‏:‏ هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره‏؟‏ قال‏:‏ لا يأثم فهذا يحتمل أنه يحمل على ظاهره‏,‏ في أنه لا يجب عليه لما فيه من الخطر بنفسه فلا يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره‏,‏ ولذلك امتنع أبو قلابة منه وقد قيل له‏:‏ ليس غيرك ويحتمل أن يحمل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره فإن أحمد قال‏:‏ لا بد للناس من حاكم‏,‏ أتذهب حقوق الناس‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز للقاضي أخذ الرزق ورخص فيه شريح‏,‏ وابن سيرين والشافعي وأكثر أهل العلم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل زيد بن ثابت على القضاء‏,‏ وفرض له رزقا ورزق شريحا في كل شهر مائة درهم وبعث إلى الكوفة عمارا وعثمان بن حنيف وابن مسعود ورزقهم كل يوم شاة نصفها لعمار ونصفها لابن مسعود وعثمان وكان ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم وكتب إلى معاذ بن جبل‏,‏ وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام أن انظرا رجالا من صالحي من قبلكم‏,‏ فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم وارزقوهم‏,‏ واكفوهم من مال الله وقال أبو الخطاب‏:‏ يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة فأما مع عدمها فعلى وجهين وقال أحمد‏:‏ ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجرا وإن كان فبقدر شغله‏,‏ مثل والي اليتيم وكان ابن مسعود والحسن يكرهان الأجر على القضاء وكان مسروق وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليه أجرا‏,‏ وقالا‏:‏ لا نأخذ أجرا على أن نعدل بين اثنين وقال أصحاب الشافعي‏:‏ إن لم يكن متعينا جاز له أخذ الرزق عليه وإن تعين لم يجز إلا مع الحاجة والصحيح جواز أخذ الرزق عليه بكل حال لأن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا له الرزق كل يوم درهمين ولما ذكرناه من أن عمر رزق زيدا وشريحا وابن مسعود‏,‏ وأمر بفرض الرزق لمن تولى من القضاة ولأن بالناس حاجة إليه ولو لم يجز فرض الرزق لتعطل‏,‏ وضاعت الحقوق فأما الاستئجار عليه فلا يجوز قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ على القضاء أجرا وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأنه قربة يختص فاعله أن يكون في أهل القربة‏,‏ فأشبه الصلاة ولأنه لا يعمله الإنسان عن غيره وإنما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة‏,‏ ولأنه عمل غير معلوم فإن لم يكن للقاضي رزق فقال للخصمين‏:‏ لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا عليه جاز ويحتمل أن لا يجوز‏.‏

فصل‏:‏

وإذا كان الإمام في بلد فعليه أن يبعث القضاة إلى الأمصار غير بلده ‏(‏فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث عليا قاضيا إلى اليمن‏,‏ وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن أيضا وقال له‏:‏ بم تحكم‏؟‏ قال‏:‏ بكتاب الله تعالى قال‏:‏ فإن لم تجد قال‏:‏ فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ فإن لم تجد قال‏:‏ أجتهد رأيي قال‏:‏ الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏)‏ وبعث عمر شريحا على قضاء الكوفة وكعب بن سوار على قضاء البصرة وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولية القضاء في الشام لأن أهل كل بلد يحتاجون إلى القاضي ولا يمكنهم المصير إلى بلد الإمام ومن أمكنه ذلك شق عليه‏,‏ فوجب إغناؤهم عنه‏.‏

فصل‏:‏

وإذا أراد الإمام تولية قاض فإن كان له خبرة بالناس ويعرف من يصلح للقضاء ولاه‏,‏ وإن لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم على من يصلح وإن ذكر له رجل لا يعرفه‏,‏ أحضره وسأله وإن عرف عدالته وإلا بحث عن عدالته‏,‏ فإذا عرفها ولاه ويكتب له عهدا يأمره فيه بتقوى الله والتثبت في القضاء‏,‏ ومشاورة أهل العلم وتصفح أحوال الشهود وتأمل الشهادات‏,‏ وتعاهد اليتامى وحفظ أموالهم وأموال الوقوف وغير ذلك مما يحتاج إلى مراعاته ثم إن كان البلد الذي ولاه قضاءه بعيدا‏,‏ لا يستفيض إليه الخبر بما يكون في بلد الإمام أحضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما العهد وأقرآه غيره بحضرته‏,‏ وأشهدهما على توليته ليمضيا معه إلى بلد ولايته فيقيما له الشهادة ويقول لهما‏:‏ اشهدا على إني قد وليته قضاء البلد الفلاني‏,‏ وتقدمت إليه بما اشتمل هذا العهد عليه وإن كان البلد قريبا من بلد الإمام يستفيض إليه ما يجري في بلد الإمام مثل أن يكون بينهما خمسة أيام أو ما دونها‏,‏ جاز أن يكتفي بالاستفاضة دون الشهادة لأن الولاية تثبت بالاستفاضة وبهذا قال الشافعي إلا أن عنده في ثبوت الولاية بالاستفاضة في البلد القريب وجهين وقال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ تثبت بالاستفاضة ولم يفصلوا بين القريب والبعيد لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولى عليا ومعاذا قضاء اليمن وهو بعيد من غير شهادة‏,‏ وولى الولاة في البلدان البعيدة وفوض إليهم الولاية والقضاء ولم يشهد وكذلك خلفاؤه ولم ينقل عنهم الإشهاد على تولية القضاء‏,‏ مع بعد بلدانهم ولنا أن القضاء لا يثبت إلا بأحد الأمرين وقد تعذرت الاستفاضة في البلد البعيد لعدم وصولها إليه‏,‏ فتعين الإشهاد ولا نسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشهد على توليته فإن الظاهر أنه لم يبعث واليا إلا ومعه جماعة‏,‏ فالظاهر أنه أشهدهم وعدم نقله لا يلزم منه عدم فعله وقد قام دليله فتعين وجوده‏.‏

مسألة‏:‏

قال أبو القاسم -رحمه الله- تعالى‏:‏ ‏[‏ ولا يولى قاض حتى يكون بالغا‏,‏ عاقلا مسلما حرا‏,‏ عدلا عالما فقيها‏,‏ ورعا ‏]‏

وجملته أنه يشترط في القاضي ثلاثة شروط‏:‏

أحدها‏:‏ الكمال وهو نوعان كمال الأحكام‏,‏ وكمال الخلقة أما كمال الأحكام فيعتبر في أربعة أشياء أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا وحكي عن ابن جرير أنه لا تشترط الذكورية لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه ولنا‏,‏ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة‏)‏ ولأن القاضي يحضر محافل الخصوم والرجال ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والمرأة ناقصة العقل‏,‏ قليلة الرأي ليست أهلا للحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها‏,‏ ولو كان معها ألف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل وقد نبه الله تعالى على ضلالهن ونسيانهن بقوله تعالى ‏{‏أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏ ولا تصلح للإمامة العظمى‏,‏ ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد‏,‏ فيما بلغنا ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا وأما كمال الخلقة فأن يكون متكلما سميعا بصيرا لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم‏,‏ ولا يفهم جميع الناس إشارته والأصم لا يسمع قول الخصمين والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه‏,‏ والمقر من المقر له والشاهد من المشهود له وقال بعض أصحاب الشافعي‏:‏ يجوز أن يكون أعمى لأن شعيبا كان أعمى ولهم في الأخرس الذي تفهم إشارته وجهان ولنا أن هذه الحواس تؤثر في الشهادة‏,‏ فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع وهذا لأن منصب الشهادة دون منصب القضاء والشاهد يشهد في أشياء يسيرة يحتاج إليه فيها وربما أحاط بحقيقة علمها‏,‏ والقاضي ولايته عامة ويحكم في قضايا الناس عامة فإذا لم يقبل منه الشهادة‏,‏ فالقضاء أولى وما ذكروه عن شعيب فلا نسلم فيه فإنه لم يثبت أنه كان أعمى‏,‏ ولو ثبت فيه ذلك فلا يلزم ها هنا فإن شعيبا عليه السلام‏,‏ كان من آمن معه من الناس قليلا وربما لا يحتاجون إلى حكم بينهم لقلتهم وتناصفهم فلا يكون حجة في مسألتنا‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ العدالة فلا يجوز تولية فاسق ولا من فيه نقص يمنع الشهادة‏,‏ وسنذكر ذلك في الشهادة إن شاء الله - تعالى وحكي عن الأصم أنه قال‏:‏ يجوز أن يكون القاضي فاسقا لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها‏,‏ فصلوها لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة‏)‏ ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا‏}‏ فأمر بالتبين عند قول الفاسق‏,‏ ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله ويجب التبين عند حكمه ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدا فلئلا يكون قاضيا أولى فأما الخبر فأخبر بوقوع كونهم أمراء‏,‏ لا بمشروعيته والنزاع في صحة توليته لا في وجودها‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ أن يكون من أهل الاجتهاد وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية وقال بعضهم‏:‏ يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد لأن الغرض منه فصل الخصائم فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز‏,‏ كما يحكم بقول المقومين ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ ولم يقل بالتقليد وقال‏:‏ ‏{‏لتحكم بين الناس بما أراك الله‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول‏}‏ وروى بريدة‏,‏ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏{‏القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة‏,‏ ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار‏,‏ ورجل جار في الحكم فهو في النار‏}‏ رواه ابن ماجه والعامي يقضي على الجهل ولأن الحكم آكد من الفتيا لأنه فتيا وإلزام‏,‏ ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى فإن قيل‏:‏ فالمفتي يجوز أن يخبر بما سمع قلنا‏:‏ نعم إلا أنه لا يكون مفتيا في تلك الحال وإنما هو مخبر‏,‏ فيحتاج أن يخبر عن رجل بعينه من أهل الاجتهاد فيكون معمولا بخبره لا بفتياه ويخالف قول المقومين لأن ذلك لا يمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم إذا ثبت هذا‏,‏ فمن شرط الاجتهاد معرفة ستة أشياء الكتاب والسنة والإجماع‏,‏ والاختلاف والقياس ولسان العرب أما الكتاب‏,‏ فيحتاج أن يعرف منه عشرة أشياء الخاص والعام والمطلق‏,‏ والمقيد والمحكم والمتشابه‏,‏ والمجمل والمفسر والناسخ‏,‏ والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام وذلك نحو خمسمائة ولا يلزمه معرفة سائر القرآن فأما السنة‏,‏ فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق منها بالأحكام دون سائر الأخبار من ذكر الجنة والنار والرقائق ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف من الكتاب‏,‏ ويزيد معرفة التواتر والآحاد والمرسل‏,‏ والمتصل والمسند والمنقطع‏,‏ والصحيح والضعيف ويحتاج إلى معرفة ما أجمع عليه‏,‏ وما اختلف فيه ومعرفة القياس وشروطه‏,‏ وأنواعه وكيفية استنباطه الأحكام ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكر ليتعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة‏,‏ وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه فإن قيل‏:‏ هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز اشتراطها‏؟‏ قلنا‏:‏ ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها‏,‏ وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب‏,‏ خليفتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووزيراه وخير الناس بعده في حال إمامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة‏,‏ حتى يسألا الناس فيخبرا ‏(‏فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة فقال‏:‏ ما لك في كتاب الله شيء ولا أعلم لك في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا‏,‏ ولكن ارجعي حتى أسأل الناس ثم قام فقال‏:‏ أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجدة‏؟‏ فقام المغيرة بن شعبة فقال‏:‏ أشهد أن رسول الله أعطاها السدس وسأل عمر عن إملاص المرأة فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي قضى فيه بغرة‏)‏ ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم‏,‏ فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد فلا تكون شرطا له وهو سابق عليها وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل بل من عرف أدلة مسألة‏,‏ وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها وإن جهل غيرها‏,‏ كمن يعرف الفرائض وأصولها ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ولذلك ما من إمام إلا وقد توقف في مسائل وقيل‏:‏ من يجيب في كل مسألة فهو مجنون‏,‏ وإذا ترك العالم‏:‏ لا أدري أصيبت مقاتله وحكي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها‏:‏ لا أدري ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهدا وإنما المعتبر أصول هذه الأمور وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله‏,‏ فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا‏,‏ له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

ليس من شرط الحاكم كونه كاتبا وقيل‏:‏ يشترط ذلك ليعلم ما يكتبه كاتبه ولا يتمكن من إخفائه عنه ولنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أميا‏,‏ وهو سيد الحكام وليس من ضرورة الحاكم الكتابة فلا تعتبر شروطها‏,‏ وإن احتاج إلى ذلك جاز توليته لمن يعرفه كما أنه قد يحتاج إلى القسمة بين الناس وليس من شرطه معرفة المساحة‏,‏ ويحتاج إلى التقويم وليس من شرط القضاء أن يكون عالما بقيمة الأشياء ولا معرفته بعيوب كل شيء‏.‏

فصل‏:‏

وينبغي أن يكون الحاكم قويا من غير عنف‏,‏ لينا من غير ضعف لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله‏,‏ ويكون حليما متأنيا ذا فطنة وتيقظ‏,‏ لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة صحيح السمع والبصر‏,‏ عالما بلغات أهل ولايته عفيفا ورعا‏,‏ نزها بعيدا من الطمع صدوق اللهجة‏,‏ ذا رأي ومشورة لكلامه لين إذا قرب وهيبة إذا أوعد‏,‏ ووفاء إذا وعد ولا يكون جبارا ولا عسوفا‏,‏ فيقطع ذا الحجة عن حجته قال علي رضي الله عنه‏:‏ لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال عفيف حليم عالم بما كان قبله‏,‏ يستشير ذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال‏:‏ ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال‏,‏ إن فاتته واحدة كانت فيه وصمة‏:‏ العقل والفقه والورع‏,‏ والنزاهة والصرامة والعلم بالسنن‏,‏ والحكم ورواه سعيد وفيه‏:‏ يكون فهما حليما عفيفا‏,‏ صلبا سآلا عما لا يعلم وفي رواية‏:‏ محتملا للأئمة ولا يكون ضعيفا مهينا‏,‏ لأن ذلك يبسط المتخاصمين إلى التهاتر والتشاتم بين يديه وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لأعزلن فلانا عن القضاء ولأستعملن رجلا إذا رآه الفاجر فرقه‏.‏

فصل‏:‏

وله أن ينتهر الخصم إذا التوى‏,‏ ويصيح عليه وإن استحق التعزير عزره بما يرى من أدب أو حبس وإن افتات عليه بأن يقول‏:‏ حكمت علي بغير الحق أو‏:‏ ارتشيت فله تأديبه وله أن يعفو وإن بدأ المنكر باليمين قطعها عليه‏,‏ وقال‏:‏ البينة على خصمك فإن عاد نهره فإن عاد عزره إن رأى وأمثال ذلك مما فيه إساءة الأدب فله مقابلة فاعله‏,‏ وله العفو‏.‏

فصل‏:‏

وإن ولى الإمام رجلا القضاء فإن كانت ولايته في غير بلده فأراد السير إلى بلاد ولايته‏,‏ بحث عن قوم من أهل ذلك البلد ليسألهم عنه ويتعرف منهم ما يحتاج إلى معرفته فإن لم يجد‏,‏ سأل في طريقه فإن لم يجد سأل إذا دخل البلد عن أهله‏,‏ ومن به من العلماء والفضلاء وأهل العدالة والستر وسائر ما يحتاج إلى معرفته وإذا قرب من البلد‏,‏ بعث من يعلمهم بقدومه ليتلقوه ويجعل قدومه يوم الخميس إن أمكنه لأن النبي كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس‏,‏ ثم يقصد الجامع فيصلي فيه ركعتين كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل إذا دخل المدينة‏,‏ ويسأل الله تعالى التوفيق والعصمة والمعونة وأن يجعل عمله صالحا ويجعله لوجهه خالصا‏,‏ ولا يجعل لأحد فيه شيئا ويفوض أمره إلى الله تعالى ويتوكل عليه‏,‏ ويأمر مناديه فينادي في البلد أن فلانا قدم عليكم قاضيا فاجتمعوا لقراءة عهده‏,‏ وقت كذا وكذا وينصرف إلى منزله الذي قد أعد له وينبغي أن يكون في وسط البلد ليتساوى أهل المدينة فيه ولا يشق على بعضهم قصده‏,‏ فإذا اجتمعوا أمر بعهده فقرئ عليهم ليعلموا التولية ويأتوا إليه‏,‏ ويعد الناس يوما يجلس فيه للقضاء ثم ينصرف إلى منزله وأول ما يبدأ فيه من أمر الحكم أن يبعث إلى الحاكم المعزول فيأخذ منه ديوان الحكم وهو ما فيه وثائق الناس من المحاضر‏,‏ وهي نسخ ما ثبت عند الحاكم والسجلات نسخ ما حكم به وما كان عنده من حجج الناس ووثائقهم مودعة في ديوان الحكم‏,‏ فكانت عنده بحكم الولاية فإذا انتقلت الولاية إلى غيره كان عليه تسليمها إليه‏,‏ فتكون مودعة عنده في ديوانه ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه إلى مجلسه على أكمل حالة وأعدلها‏,‏ خليا من الغضب والجوع الشديد والعطش والفرح الشديد والحزن الكثير‏,‏ والهم العظيم والوجع المؤلم ومدافعة الأخبثين أو أحدهما‏,‏ والنعاس الذي يغمر القلب ليكون أجمع لقلبه وأحضر لذهنه وأبلغ في تيقظه للصواب‏,‏ وفطنته لموضع الرأي ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان‏)‏ فنص على الغضب ونبه على ما في معناه من سائر ما ذكرناه ويسلم على من يمر به من المسلمين في طريقه ويذكر الله بقلبه ولسانه حتى يأتي مجلسه‏,‏ ويستحب أن يجعله في موضع بارز للناس فسيح كالرحبة والفضاء الواسع أو الجامع ولا يكره القضاء في المساجد فعل ذلك شريح‏,‏ والحسن والشعبي ومحارب بن دثار‏,‏ ويحيى بن يعمر وابن أبي ليلى وابن خلدة‏,‏ قاض لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وروي عن عمر وعثمان وعلي أنهم كانوا يقضون في المسجد وقال مالك‏:‏ القضاء في المسجد من أمر الناس القديم وبه قال مالك وإسحاق‏,‏ وابن المنذر وقال الشافعي‏:‏ يكره ذلك إلا أن يتفق خصمان عنده في المسجد لما روي أن عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن‏,‏ أن لا تقضي في المسجد لأنه تأتيك الحائض والجنب ولأن الحاكم يأتيه الذمي والحائض والجنب وتكثر غاشيته ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد‏,‏ وربما أدى إلى السب وما لم تبن له المساجد ولنا إجماع الصحابة بما قد رويناه عنهم وقال الشعبي‏:‏ رأيت عمر وهو مستند إلى القبلة يقضي بين الناس وقال مالك‏:‏ هو من أمر الناس القديم ولأن القضاء قربة وطاعة وإنصاف بين الناس‏,‏ فلم يكره في المسجد ولا نعلم صحة ما رووه عن عمر وقد روي عنه خلافه وأما الحائض‏,‏ فإن عرضت لها حاجة إلى القضاء وكلت أو أتته في منزله والجنب يغتسل ويدخل‏,‏ والذمي يجوز دخوله بإذن مسلم وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجلس في مسجده مع حاجة الناس إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد‏,‏ وربما رفعوا أصواتهم فقد روي عن كعب بن مالك أنه قال‏:‏ ‏(‏تقاضيت ابن أبي حدرد دينا في المسجد حتى ارتفعت أصواتنا فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فأشار إلي‏,‏ أن ضع من دينك الشطر فقلت‏:‏ نعم يا رسول الله فقال‏:‏ فقم فاقضه‏)‏ وينبغي أن يكون جلوسه في وسط البلد لئلا يبعد على قاصديه‏,‏ ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن الوصول إليه لما روى القاسم بن مخيمرة عن أبي مريم صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏من ولي من أمور الناس شيئا واحتجب دون حاجتهم‏,‏ احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره‏)‏ رواه الترمذي ولأن حاجبه ربما قدم المتأخر وأخر المتقدم لغرض له وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم ولا بأس باتخاذ حاجب في غير مجلس القضاء ويبسط له شيء يجلس عليه ولا يجلس على التراب ولا على حصير المسجد لأن ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم‏,‏ ويجعل جلوسه مستقبل القبلة لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة وهذه الآداب المذكورة في هذا الفصل ليست شرطا في الحكم إلا الخلو من الغضب وما في معناه فإن في اشتراطه روايتين‏.‏

فصل‏:

وإذا جلس الحاكم في مجلسه‏,‏ فأول ما ينظر فيه أمر المحبوسين لأن الحبس عذاب وربما كان فيهم من لا يستحق البقاء فيه فينفذ إلى حبس القاضي الذي كان قبله ثقة‏,‏ يكتب اسم كل محبوس وفيم حبس‏؟‏ ولمن حبس‏؟‏ فيحمله إليه فيأمر مناديا ينادي في البلد ثلاثة أيام‏:‏ ألا إن القاضي فلان بن فلان ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا‏,‏ فمن كان له محبوس فليحضر فإذا حضر ذلك اليوم وحضر الناس ترك الرقاع التي فيها اسم المحبوسين بين يديه‏,‏ ومد يده إليها فما وقع في يده منها نظر إلى اسم المحبوس وقال‏:‏ من خصم فلان المحبوس فإذا قال خصمه‏:‏ أنا بعث معه ثقة إلى الحبس‏,‏ فأخرج خصمه وحضر معه مجلس الحكم ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يتسع زمانه للنظر فيه في ذلك المجلس‏,‏ ولا يخرج غيرهم فإذا حضر المحبوس وخصمه لم يسأل خصمه‏:‏ لم حبسته‏؟‏ لأن الظاهر أن الحاكم إنما حبسه بحق‏,‏ لكن يسأل المحبوس‏:‏ بم حبست‏؟‏ ولا يخلو جوابه من خمسة أقسام أحدها أن يقول‏:‏ حبسني بحق له حال أنا مليء به فيقول له الحاكم‏:‏ اقضه‏,‏ وإلا رددتك في الحبس الثاني أن يقول‏:‏ له على دين أنا معسر به فيسأل خصمه‏,‏ فإن صدقه فلسه الحاكم وأطلقه وإن كذبه نظر في سبب الدين‏,‏ فإن كان شيئا حصل له به مال كقرض أو شراء لم يقبل قوله في الإعسار إلا ببينة بأن ماله تلف أو نفد‏,‏ أو ببينة أنه معسر فيزول الأصل الذي ثبت ويكون القول قوله فيما يدعيه عليه من المال وإن لم يثبت له أصل مال‏,‏ ولم تكن لخصمه بينة بذلك فالقول قول المحبوس مع يمينه أنه معسر لأن الأصل الإعسار وإن شهدت لخصمه بينة بأن له مالا لم تقبل حتى تعين ذلك المال بما يتميز به‏,‏ فإن شهدت عليه البينة بدار معينة أو غيرها وصدقها فلا كلام‏,‏ وإن كذبها وقال‏:‏ ليس هذا لي وإنما هو في يدي لغيري لم يقبل إلا أن يقر به إلى واحد بعينه‏,‏ فإن كان الذي أقر له به حاضرا نظرت فإن كذبه في إقراره‏,‏ سقط وقضى من المال دينه وإن صدقه نظرت‏,‏ فإن كان له به بينة فهو أولى لأن له بينة وصاحب اليد يقر له به‏,‏ وإن لم تكن له بينة فذكر القاضي أنه لا يقبل قولهما ويقضي الدين منه لأن البينة شهدت لصاحب اليد بالملك‏,‏ فتضمنت شهادتها وجوب القضاء منه فإذا لم تقبل شهادتها في حق نفسه قبلت فيما تضمنته لأنه حق لغيره ولأنه متهم في إقراره لغيره‏,‏ لأنه قد يفعل ذلك ليخلص ماله ويعود إليه فتلحقه تهمة‏,‏ فلم تبطل البينة بقوله وفيه وجه آخر يثبت الإقرار وتسقط البينة لأنها تشهد بالملك لمن لا يدعيه وينكره الجواب الثالث‏,‏ أن يقول‏:‏ حبسني لأن البينة شهدت علي لخصمي بحق ليبحث عن حال الشهود فهذا ينبني على أصل وهو أن الحاكم هل له ذلك أو لا‏؟‏ فيه وجهان أحدهما‏:‏ ليس له ذلك لأن الحبس عذاب فلا يتوجه عليه قبل ثبوت الحق عليه فعلى هذا لا يرده إلى الحبس إن صدقه خصمه في هذا والثاني‏,‏ يجوز حبسه لأن المدعي قد أقام ما عليه وإنما بقي ما على الحاكم من البحث ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين فعلى هذا الوجه‏,‏ يرده إلى الحبس حتى يكشف عن حال شهوده وإن كذبه خصمه وقال‏:‏ بل قد عرف الحاكم عدالة شهودي وحكم عليه بالحق فالقول قوله لأن الظاهر أن حبسه بحق الجواب الرابع‏,‏ أن يقول‏:‏ حبسني الحاكم بثمن كلب أو قيمة خمر أرقته لذمي لأنه كان يرى ذلك فإن صدقه خصمه فذكر القاضي أنه يطلقه لأن غرم هذا ليس بواجب وفيه وجه آخر‏,‏ أن الحاكم ينفذ حكم الحاكم الأول لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده وفيه وجه آخر أنه يتوقف ويجتهد أن يصطلحا على شيء لأنه لا يمكنه فعل أحد الأمرين المتقدمين وللشافعي قولان كهذين الوجهين الأخيرين وإن كذبه خصمه‏,‏ وقال‏:‏ بل حبست بحق واجب غير هذا فالقول قوله لأن الظاهر حبسه بحق الجواب الخامس أن يقول‏:‏ حبست ظلما ولا حق علي فينادي منادي الحاكم بذكر ما قاله‏,‏ فإن حضر رجل فقال‏:‏ أنا خصمه فأنكره وكانت للمدعي بينة كلف الجواب على ما مضى وإن لم تكن له بينة‏,‏ أو لم يظهر له خصم فالقول قوله مع يمينه أنه لا خصم له أو لا حق عليه‏,‏ ويخلي سبيله‏.‏

فصل‏:

ثم ينظر في أمر الأوصياء لأنهم يكونون ناظرين في أموال اليتامى والمجانين وتفرقة الوصية بين المساكين فيقصدهم الحاكم بالنظر لأن المنظور عليه لا يمكنه المطالبة بحقه فإن الصغير والمجنون لا قول لهما‏,‏ والمساكين لا يتعين الأخذ منهم فإذا قدم إليه الوصي فإن كان الحاكم قبله نفذ وصيته‏,‏ لم يعزله لأن الحاكم ما نفذ وصيته إلا وقد عرف أهليته في الظاهر ولكن يراعيه فإن تغيرت حاله بفسق أو ضعف‏,‏ أضاف إليه أمينا قويا يعينه وإن كان الأول ما نفذ وصيته نظر فيه‏,‏ فإن كان أمينا قويا أقره وإن كان أمينا أو ضعيفا‏,‏ ضم إليه من يعينه وإن كان فاسقا عزله وأقام غيره وعلى قول الخرقي‏,‏ يضم إليه أمين ينظر عليه وإن كان قد تصرف أو فرق الوصية وهو أهل للوصية‏,‏ نفذ تصرفه وإن كان ليس بأهل وكان أهل الوصية بالغين عاقلين معينين‏,‏ صح الدفع إليهم لأنهم قبضوا حقوقهم وإن كانوا غير معينين كالفقراء والمساكين‏,‏ ففيه وجهان أحدهما عليه الضمان ذكره القاضي‏,‏ وأصحاب الشافعي لأنه ليس له التصرف والثاني لا ضمان عليه لأنه أوصله إلى أهله وكذلك إن فرق الوصية غير الموصى إليه بتفريقها فعلى وجهين‏.‏

فصل‏:‏

ثم ينظر في أمناء الحاكم‏,‏ وهم من رد إليهم الحاكم النظر في أمر الأطفال وتفرقة الوصايا التي لم يعين لها وصي فإن كانوا بحالهم‏,‏ أقرهم لأن الذي قبله ولاهم ومن تغير حاله منهم عزله إن فسق‏,‏ وإن ضعف ضم إليه أمينا‏.‏

فصل‏:‏

ثم ينظر في أمر الضوال واللقطة التي تولى الحاكم حفظها فإن كانت مما يخاف تلفه كالحيوان أو في حفظه مؤنة كالأموال الجافية‏,‏ باعها وحفظ ثمنها لأربابها وإن لم تكن كذلك كالأثمان‏,‏ حفظها لأربابها ويكتب عليها لتعرف‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ ولا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان ‏]‏

لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان كره ذلك شريح‏,‏ وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة والشافعي ‏(‏وكتب أبو بكرة إلى عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان‏,‏ أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان‏)‏ متفق عليه وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى‏:‏ إياك والغضب والقلق والضجر‏,‏ والتأذي بالناس والتنكر لهم عند الخصومة فإذا رأيت الخصم يتعمد الظلم‏,‏ فأوجع رأسه ولأنه إذا غضب تغير عقله ولم يستوف رأيه وفكره وفي معنى الغضب كل ما شغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد‏,‏ والوجع المزعج ومدافعة أحد الأخبثين وشدة النعاس‏,‏ والهم والغم والحزن‏,‏ والفرح فهذه كلها تمنع الحاكم لأنها تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر‏,‏ الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب فهي في معنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه فإن حكم في الغضب أو ما شاكله‏,‏ فحكي عن القاضي أنه لا ينفذ قضاؤه لأنه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وقال في ‏"‏ المجرد ‏"‏‏:‏ ينفذ قضاؤه وهو مذهب الشافعي لما روي‏,‏ أن ‏(‏النبي -صلى الله عليه وسلم- اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للزبير‏:‏ اسق‏,‏ ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري‏:‏ أن كان ابن عمتك فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال للزبير‏:‏ اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر‏)‏ متفق عليه فحكم في حال غضبه وقيل‏:‏ إنما يمنع الغضب الحاكم إذا كان قبل أن يتضح له الحكم في المسألة‏:‏ فأما إن اتضح الحكم‏,‏ ثم عرض الغضب لم يمنعه لأن الحق قد استبان قبل الغضب فلا يؤثر الغضب فيه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا نزل به الأمر المشكل عليه مثله‏,‏ شاور فيه أهل العلم والأمانة ‏]‏

وجملته أن الحاكم إذا حضرته قضية تبين له حكمها في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله أو إجماع‏,‏ أو قياس جلي حكم ولم يحتج إلى رأي غيره ‏(‏لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين بعثه إلى اليمن‏:‏ بم تحكم‏؟‏ قال‏:‏ بكتاب الله قال‏:‏ فإن لم تجد‏؟‏ قال‏:‏ بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ فإن لم تجد‏؟‏ قال‏:‏ أجتهد رأيي ولا آلو قال‏:‏ الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما يرضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏)‏ وإن احتاج إلى الاجتهاد‏,‏ استحب له أن يشاور لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ قال الحسن‏:‏ إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لغنيا عن مشاورتهم وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده وقد شاور النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق‏,‏ وفي لقاء الكفار يوم بدر وروي‏:‏ ‏(‏ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏)‏ وشاور أبو بكر الناس في ميراث الجدة وعمر في دية الجنين وشاور الصحابة في حد الخمر وروي‏:‏ أن عمر كان يكون عنده جماعة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم عثمان‏,‏ وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف‏,‏ إذا نزل به الأمر شاورهم فيه ولا مخالف في استحباب ذلك قال أحمد‏:‏ لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما‏,‏ وولي محارب بن دثار قضاء الكوفة فكان يجلس بين الحكم وحماد يشاورهما ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه‏,‏ يشاورون وينتظرون ولأنه قد ينتبه بالمشاورة ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة ولأن الإحاطة بجميع العلوم متعذرة وقد ينتبه لإصابة الحق ومعرفة الحادثة من هو دون القاضي‏,‏ فكيف بمن يساويه أو يزيد عليه فقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جاءته الجدتان‏,‏ فورث أم الأم وأسقط أم الأب فقال له عبد الرحمن بن سهل‏:‏ يا خليفة رسول الله‏,‏ لقد أسقطت التي لو ماتت ورثها وورثت التي لو ماتت لم يرثها فرجع أبو بكر فأشرك بينهما وروى عمر بن شبة‏,‏ عن الشعبي أن كعب بن سوار كان جالسا عند عمر فجاءته امرأة‏,‏ فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا قط أفضل من زوجي والله إنه ليبيت ليله قائما‏,‏ ويظل نهاره صائما في اليوم الحار ما يفطر فاستغفر لها وأثنى عليها وقال‏:‏ مثلك أثنى الخير قال‏:‏ واستحيت المرأة فقامت راجعة‏,‏ فقال كعب‏:‏ يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها‏؟‏ قال‏:‏ وما شكت‏؟‏ قال‏:‏ شكت زوجها أشد الشكاية قال‏:‏ أو ذاك أرادت‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ردوا علي المرأة فقال‏:‏ لا بأس بالحق أن تقوليه إن هذا زعم أنك جئت تشكين زوجك أنه يجتنب فراشك قالت‏:‏ أجل‏,‏ إني امرأة شابة وإني لأبتغي ما يبتغي النساء فأرسل إلى زوجها فجاء‏,‏ فقال لكعب‏:‏ اقض بينهما قال‏:‏ أمير المؤمنين أحق أن يقضي بينهما قال‏:‏ عزمت عليك لتقضين بينهما فإنك فهمت من أمرهما ما لم أفهم قال‏:‏ فإني أرى كأنها عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن‏,‏ فأقضي له بثلاثة أيام بلياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة فقال عمر‏:‏ والله ما رأيك الأول أعجب إلي من الآخر اذهب فأنت قاض على البصرة إذا ثبت هذا‏,‏ فإنه يشاور أهل العلم والأمانة لأن من ليس كذلك فلا قول له في الحادثة ولا يسكن إلى قوله قال سفيان‏:‏ وليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل الأمانة ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حجتهم‏,‏ ليبين له الحق‏.‏

فصل‏:

والمشاورة ها هنا لاستخراج الأدلة ويعرف الحق بالاجتهاد ولا يجوز أن يقلد غيره‏,‏ ويحكم بقول سواه سواء ظهر له الحق فخالفه غيره فيه أو لم يظهر له شيء‏,‏ وسواء ضاق الوقت أو لم يضق وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتقليد وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف‏,‏ ومحمد وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا كان الحاكم من أهل الاجتهاد جاز له ترك رأيه لرأي من هو أفقه منه عنده إذا صار إليه فهو ضرب من الاجتهاد ولأنه يعتقد أنه أعرف منه بطريق الاجتهاد ولنا‏,‏ أنه من أهل الاجتهاد فلم يجز له تقليد غيره كما لو كان مثله‏,‏ كالمجتهدين في القبلة وما ذكره ليس بصحيح فإن من هو أفقه منه يجوز عليه الخطأ فإذا اعتقد أن ما قاله خطأ‏,‏ لم يجز له أن يعمل به وإن كان لم يبن له الحق فلا يجوز له أن يحكم بما يجوز أن يبين له خطؤه إذا اجتهد‏.‏

فصل‏:‏

قال أصحابنا‏:‏ يستحب أن يحضر مجلسه أهل العلم من كل مذهب‏,‏ حتى إذا حدثت حادثة يفتقر إلى أن يسألهم عنها سألهم ليذكروا أدلتهم فيها وجوابهم عنها‏,‏ فإنه أسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه فإن حكم باجتهاده‏,‏ فليس لأحد منهم أن يرد عليه وإن خالف اجتهاده لأن فيه افتياتا عليه إلا أن يحكم بما يخالف نصا أو إجماعا‏.‏

فصل‏:‏

وينبغي له أن يحضر شهوده مجلسه ليستوفي بهم الحقوق‏,‏ وتثبت بهم الحجج والمحاضر فإن كان ممن يحكم بعلمه فإن شاء أدناهم إليه‏,‏ وإن شاء باعدهم منه بحيث إذا احتاج إلى إشهادهم على حكمه استدعاهم ليشهدوا بذلك وإن كان ممن لا يحكم بعلمه‏,‏ أجلسهم بالقرب منه حتى يسمعوا كلام المتخاصمين لئلا يقر منهم مقر ثم ينكر ويجحد فيحفظوا عليه إقراره‏,‏ ويشهدوا به‏.‏

فصل‏:‏

وإذا اتصلت به الحادثة واستنارت الحجة لأحد الخصمين حكم وإن كان فيها لبس‏,‏ أمرهما بالصلح فإن أبيا أخرهما إلى البيان فإن عجلها قبل البيان‏,‏ لم يصلح حكمه وممن رأى الإصلاح بين الخصمين شريح وعبد الله بن عتبة وأبو حنيفة‏,‏ والشعبي والعنبري وروي عن عمر‏,‏ أنه قال‏:‏ ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن قال أبو عبيد‏:‏ إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين‏,‏ وتبين له موضع الظالم فليس له أن يحملهما على الصلح ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر وروي عن شريح أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة‏.‏

فصل‏:‏

وإذا حدثت حادثة نظر في كتاب الله فإن وجدها‏,‏ وإلا نظر في سنة رسوله فإن لم يجدها نظر في القياس‏,‏ فألحقها بأشبه الأصول بها لما ذكرنا من حديث معاذ بن جبل وهو حديث يرويه عمرو بن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة عن رجال من أصحاب معاذ من أهل حمص‏,‏ وعمرو والرجال مجهولون إلا أنه حديث مشهور في كتب أهل العلم رواه سعيد بن منصور‏,‏ والإمام أحمد وغيرهما تلقاه العلماء بالقبول‏,‏ وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه فروى سعيد أن عمر قال لشريح‏:‏ انظر ما يتبين لك في كتاب الله‏,‏ فلا تسأل عنه أحدا وما لا يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه السنة‏,‏ وما لم يتبين لك في السنة فاجتهد فيه رأيك وعن ابن مسعود مثل ذلك‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا يحكم الحاكم بعلمه ‏]‏

ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها هذا قول شريح‏,‏ والشعبي ومالك وإسحاق‏,‏ وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى‏:‏ يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف وأبي ثور‏,‏ والقول الثاني للشافعي واختيار المزني ‏(‏لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قالت له هند‏:‏ إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي قال‏:‏ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏)‏ فحكم لها من غير بينة ولا إقرار‏,‏ لعلمه بصدقها وروى ابن عبد البر في ‏"‏ كتابه ‏"‏ أن عروة ومجاهدا رويا أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب‏,‏ أنه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا قال عمر‏:‏ إني لأعلم الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان‏,‏ فأتني بأبي سفيان فأتاه به فقال له عمر‏:‏ يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا‏,‏ ونظر عمر فقال‏:‏ يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ها هنا فضعه ها هنا فقال‏:‏ والله لا أفعل فقال‏:‏ والله لتفعلن فقال‏:‏ والله لا أفعل فعلاه بالدرة‏,‏ وقال‏:‏ خذه لا أم لك فضعه ها هنا فإنك ما علمت قديم الظلم فأخذ أبو سفيان الحجر‏,‏ ووضعه حيث قال عمر ثم إن عمر استقبل القبلة فقال‏:‏ اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه‏,‏ وأذللته لي بالإسلام قال‏:‏ فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال‏:‏ اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر قالوا‏:‏ فحكم بعلمه ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين‏,‏ لأنهما يغلبان على الظن فما تحققه وقطع به كان أولى‏,‏ ولأنه يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياسا عليه وقال أبو حنيفة‏:‏ ما كان من حقوق الله‏,‏ لا يحكم فيه بعلمه لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة وأما حقوق الآدميين فما علمه قبل ولايته لم يحكم به وما علمه في ولايته‏,‏ حكم به لأن ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته ولنا‏,‏ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض‏,‏ فأقضي له على نحو ما أسمع منه‏)‏ فدل على أنه إنما يقضي بما يسمع لا بما يعلم ‏(‏وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في قضية الحضرمي والكندي‏:‏ شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك‏)‏ وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان‏,‏ فقال له أحدهما‏:‏ أنت شاهدي فقال‏:‏ إن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد وذكر ابن عبد البر في ‏"‏ كتابه ‏"‏‏,‏ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏بعث أبا جهم على الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج‏,‏ فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطاهم الأرش ثم قال‏:‏ إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم‏,‏ أرضيتم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم فصعد النبي -صلى الله عليه وسلم- المنبر فخطب وذكر القصة وقال‏:‏ أرضيتم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا فهم بهم المهاجرون‏,‏ فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطاهم ثم صعد فخطب الناس‏,‏ ثم قال‏:‏ أرضيتم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏)‏ وهذا يبين أنه لم يأخذ بعلمه وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لو رأيت حدا على رجل لم أحده حتى تقوم البينة ولأن تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى‏,‏ ويحيله على علمه فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفتى في حق أبي سفيان من غير حضوره‏,‏ ولو كان حكما عليه لم يحكم عليه في غيبته وحديث عمر الذي رووه كان إنكارا لمنكر رآه لا حكما‏,‏ بدليل أنه ما وجدت منهما دعوى وإنكار بشروطهما ودليل ذلك ما رويناه عنه ثم لو كان حكما كان معارضا بما رويناه عنه‏,‏ ويفارق الحكم بالشاهدين فإنه لا يفضي إلى تهمة بخلاف مسألتنا وأما الجرح والتعديل فإنه يحكم فيه بعلمه‏,‏ بغير خلاف لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه لتسلسل فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما‏,‏ فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين‏,‏ فيتسلسل وما نحن فيه بخلافه‏.‏

فصل‏:

ولا خلاف في أن للحاكم أن يحكم بالبينة والإقرار في مجلس حكمه إذا سمعه معه شاهدان‏,‏ فإن لم يسمعه معه أحد أو سمعه شاهد فنص أحمد على أنه يحكم به وقال القاضي‏:‏ لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان لأنه حكم بعلمه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا ينقض من حكم غيره إذا رفع إليه‏,‏ إلا ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماعا ‏]‏

وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه‏,‏ فبان له خطؤه أو بان له خطأ نفسه نظرت فإن كان الخطأ لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع‏,‏ نقض حكمه وبهذا قال الشافعي وزاد‏:‏ إذا خالف نصا جليا نقضه وعن مالك وأبي حنيفة‏,‏ أنهما قالا‏:‏ لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الإجماع ثم ناقضا ذلك فقال مالك‏:‏ إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا حكم ببيع متروك التسمية أو حكم بين العبيد بالقرعة‏,‏ نقض حكمه وقال محمد بن الحسن‏:‏ إذا حكم بالشاهد واليمين نقض حكمه وهذه مسائل خلاف موافقة للسنة واحتجوا على أنه لا ينقض ما لم يخالف الإجماع بأنه يسوغ فيه الخلاف فلم ينقض حكمه فيه‏,‏ كما لا نص فيه وحكي عن أبي ثور وداود أنه ينقض جميع ما بان له خطؤه لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى‏:‏ لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم‏,‏ فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه‏,‏ كما لو خالف الإجماع وحكي عن مالك أنه وافقهما في قضاء نفسه ولنا على نقضه إذا خالف نصا أو إجماعا أنه قضاء لم يصادف شرطه‏,‏ فوجب نقضه كما لو لم يخالف الإجماع وبيان مخالفته للشرط‏,‏ أن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص بدليل خبر معاذ ولأنه إذا ترك الكتاب والسنة‏,‏ فقد فرط فوجب نقض حكمه كما لو خالف الإجماع‏,‏ أو كما لو حكم بشهادة كافرين وما قالوه يبطل بما حكيناه عنهم فإن قيل‏:‏ أليس إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم بان له الخطأ لم يعد‏؟‏ قلنا‏:‏ الفرق بينهما من ثلاثة أوجه أحدها أن استقبال القبلة يسقط حال العذر في حال المسايفة والخوف من عدو أو سبع أو نحوه‏,‏ مع العلم ولا يجوز ترك الحق إلى غيره مع العلم بحال الثاني أن الصلاة من حقوق الله - تعالى‏,‏ تدخلها المسامحة الثالث أن القبلة يتكرر فيها اشتباه القبلة فيشق القضاء وها هنا إذا بان له الخطأ لا يعود الاشتباه بعد ذلك وأما إذا تغير اجتهاده من غير أن يخالف نصا ولا إجماعا‏,‏ أو خالف اجتهاده اجتهاد من قبله لم ينقضه لمخالفته لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك‏,‏ فإن أبا بكر حكم في مسائل باجتهاده وخالفه عمر ولم ينقض أحكامه وعلي خالف عمر في اجتهاده‏,‏ فلم ينقض أحكامه وخالفهما علي فلم ينقض أحكامهما‏,‏ فإن أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد وخالفه عمر‏,‏ ففاضل بين الناس وخالفهما علي فسوى بين الناس وحرم العبيد ولم ينقض واحد منهم ما فعله من قبله وجاء أهل نجران إلى علي فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين‏,‏ كتابك بيدك وشفاعتك بلسانك فقال‏:‏ ويحكم إن عمر كان رشيد الأمر‏,‏ ولن أرد قضاء قضى به عمر رواه سعيد وروي أن عمر حكم في المشتركة بإسقاط الإخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد وقال‏:‏ تلك على ما قضينا‏,‏ وهذه على ما قضينا وقضى في الجد بقضايا مختلفة ولم يرد الأولى ولأنه يؤدي إلى نقض الحكم بمثله وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الحكم أصلا لأن الحاكم الثاني يخالف الذي قبله‏,‏ والثالث يخالف الثاني فلا يثبت حكم فإن قيل‏:‏ فقد روي أن شريحا حكم في ابني عم أحدهما أخ لأم‏,‏ أن المال للأخ فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال‏:‏ علي بالعبد فجيء به فقال‏:‏ في أي كتاب الله وجدت ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏ فقال له علي‏:‏ فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس‏}‏ ونقض حكمه قلنا‏:‏ لم يثبت عندنا أن عليا نقض حكمه ولو ثبت فيحتمل أن يكون علي رضي الله عنه اعتقد أنه خالف نص الكتاب في الآية التي ذكرها‏,‏ فنقض حكمه لذلك‏.‏

فصل‏:‏

إذا تغير اجتهاده قبل الحكم فإنه يحكم بما تغير اجتهاده إليه ولا يجوز أن يحكم باجتهاده الأول لأنه إذا حكم فقد حكم بما يعتقد أنه باطل‏,‏ وهذا كما قلنا فيمن تغير اجتهاده في القبلة بعد ما صلى لا يعيد وإن كان قبل أن يصلي صلى إلى الجهة التي تغير اجتهاده إليها ولذلك إذا بان فسق الشهود قبل الحكم‏,‏ لم يحكم بشهادتهم ولو بان بعد الحكم لم ينقضه‏.‏

فصل‏:‏

وليس على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله لأن الظاهر صحتها وصوابها‏,‏ وأنه لا يولي القضاء إلا من هو من أهل الولاية فإن تتبعها نظر في الحاكم قبله فإن كان ممن يصلح للقضاء‏,‏ فما وافق من أحكامه الصواب أو لم يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا لم يسغ نقضه‏,‏ وإن كان مخالفا لأحد هذه الثلاثة وكان في حق لله - تعالى كالعتاق والطلاق‏,‏ نقضه لأن له النظر في حقوق الله سبحانه وإن كان يتعلق بحق آدمي لم ينقضه إلا بمطالبة صاحبه لأن الحاكم لا يستوفي حقا لمن لا ولاية عليه بغير مطالبته‏,‏ فإن طلب صاحبه ذلك نقضه وإن كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقضت قضاياه المخالفة للصواب كلها سواء كانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أو لا يسوغ لأن حكمه غير صحيح‏,‏ وقضاؤه كلا قضاء لعدم شرط القضاء فيه وليس في نقض قضاياه نقض الاجتهاد بالاجتهاد لأن الأول ليس باجتهاد‏,‏ ولا ينقض ما وافق الصواب لعدم الفائدة في نقضه فإن الحق وصل إلى مستحقه وقال أبو الخطاب ينقض قضاياه كلها ما أخطأ فيه وما أصاب وهو مذهب الشافعي لأن وجود قضائه كعدمه ولا أعلم فيه فائدة فإن الحق لو وصل إلى مستحقه بطريق القهر من غير حكم‏,‏ لم يغير ذلك وكذلك إذا كان بقضاء وجوده كعدمه والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

وحكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته‏,‏ في قول جمهور العلماء منهم مالك والأوزاعي والشافعي‏,‏ وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود‏,‏ ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلاق نفذ حكمه ظاهرا وباطنا فلو أن رجلين تعمدا الشهادة على رجل أنه طلق امرأته‏,‏ فقبلهما القاضي بظاهر عدالتهما ففرق بين الزوجين لجاز لأحد الشاهدين نكاحها بعد قضاء عدتها‏,‏ وهو عالم بتعمده الكذب ولو أن رجلا ادعى نكاح امرأة وهو يعلم أنه كاذب‏,‏ وأقام شاهدي زور فحكم الحاكم حلت له بذلك‏,‏ وصارت زوجته قال ابن المنذر‏:‏ وتفرد أبو حنيفة فقال‏:‏ لو استأجرت امرأة شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها‏,‏ وهما يعلمان كذبهما وتزويرهما فحكم الحاكم بطلاقها لحل لها أن تتزوج‏,‏ وحل لأحد الشاهدين نكاحها واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا ادعى على امرأة نكاحها فرفعها إلى علي رضي الله عنه فشهد له شاهدان بذلك فقضى بينهما بالزوجية فقالت‏:‏ والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين‏,‏ اعقد بيننا عقدا حتى أحل له فقال‏:‏ شاهداك زوجاك فدل على أن النكاح ثبت بحكمه ولأن اللعان ينفسخ به النكاح وإن كان أحدهما كاذبا فالحكم أولى ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إنما أنا بشر‏,‏ وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه‏,‏ فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏ متفق عليه وهذا يدخل فيه ما إذا ادعى أنه اشترى منه شيئا‏,‏ فحكم له ولأنه حكم بشهادة زور فلا يحل له ما كان محرما عليه‏,‏ كالمال المطلق وأما الخبر عن علي إن صح فلا حجة لهم فيه لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه‏,‏ ولم يجبها إلى التزويج لأن فيه طعنا على الشهود فأما اللعان فإنما حصلت الفرقة به لا بصدق الزوج‏,‏ ولهذا لو قامت البينة به لم ينفسخ النكاح إذا ثبت هذا فإذا شهد على امرأة بنكاح‏,‏ وحكم به الحاكم ولم تكن زوجته فإنها لا تحل له‏,‏ ويلزمها في الظاهر وعليها أن تمتنع ما أمكنها فإن أكرهها عليه‏,‏ فالإثم عليه دونها وإن وطئها الرجل فقال أصحابنا‏,‏ وبعض الشافعية‏:‏ عليه الحد لأنه وطئها وهو يعلم أنها أجنبية وقيل‏:‏ لا حد عليه لأنه وطء مختلف في حله فيكون ذلك شبهة وليس لها أن تتزوج غيره وقال أصحاب الشافعي‏:‏ تحل لزوج ثان غير أنها ممنوعة منه في الحكم وقال القاضي‏:‏ يصح النكاح ولنا‏,‏ أن هذا يقضي إلى الجمع بين الوطء للمرأة من اثنين أحدهما يطؤها بحكم الظاهر والآخر‏,‏ بحكم الباطن وهذا فساد فلا يشرع ولأنها منكوحة لهذا الذي قامت له البينة‏,‏ في قول بعض الأئمة فلم يجز تزويجها لغيره كالمتزوجة بغير ولي وحكى أبو الخطاب‏,‏ عن أحمد رواية أخرى مثل مذهب أبي حنيفة‏,‏ في أن حكم الحاكم يزيل الفسوخ والعقود والأول هو المذهب‏.‏

فصل‏:‏

وإذا استعدى رجل على رجل إلى الحاكم ففيه روايتان إحداهما أنه يلزمه أن يعديه‏,‏ ويستدعي خصمه سواء علم بينهما معاملة أو لم يعلم وسواء كان المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه أو لا يعامله‏,‏ كالفقير يدعي على ذي ثروة وهيئة نص على هذا في رواية الأثرم في الرجل يستعدي‏,‏ على الحاكم أنه يحضره ويستحلفه وهذا اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة‏,‏ والشافعي لأن في تركه تضييعا للحقوق وإقرارا للظلم فإنه قد ثبت له الحق على من هو أرفع منه بغصب‏,‏ أو يشتري منه شيئا ولا يوفيه أو يودعه شيئا أو يعيره إياه فلا يرده‏,‏ ولا تعلم بينهما معاملة فإذا لم يعد عليه سقط حقه‏,‏ وهذا أعظم ضررا من حضور مجلس الحاكم فإنه لا نقيصة فيه وقد حضر عمر وأبي عند زيد‏,‏ وحضر هو وآخر عند شريح وحضر علي عند شريح وحضر المنصور عند رجل ولد طلحة بن عبيد الله والرواية الثانية لا يستدعيه إلا أن يعلم بينهما معاملة‏,‏ ويتبين أن لما ادعاه أصلا روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو مذهب مالك لأن في ادعائه على كل أحد تبذيل أهل المروءات وإهانة لذوي الهيئات فإنه لا يشاء أحد أن يبذلهم عند الحاكم إلا فعل‏,‏ وربما فعل هذا من لا حق له ليفتدي المدعى عليه من حضوره وشر خصمه بطائفة من ماله والأولى أولى لأن ضرر تضييع الحق أعظم من هذا وللمستدعى عليه أن يوكل من يقوم مقامه أن كره الحضور وإن كان المستدعى عليه امرأة نظرت فإن كانت برزة وهي التي تبرز لقضاء حوائجها‏,‏ فحكمها حكم الرجل وإن كانت مخدرة وهي التي لا تبرز لقضاء حوائجها أمرت بالتوكيل فإن توجهت اليمين عليها‏,‏ بعث الحاكم أمينا معه شاهدان فيستحلفها بحضرتهما فإن أقرت‏,‏ شهدا عليها وذكر القاضي أن الحاكم يبعث من يقضي بينها وبين خصمها في دارها وهو مذهب الشافعي لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها‏)‏ فبعث إليها ولم يستدعها وإذا حضروا عندها كان بينها وبينهم ستر تتكلم من ورائه‏,‏ فإن اعترفت للمدعي أنها خصمه حكم بينهما وإن أنكرت ذلك‏,‏ جيء بشاهدين من ذوي رحمها يشهدان أنها المدعى عليها ثم يحكم بينهما‏,‏ فإن لم تكن له بينة التحفت بجلبابها وأخرجت من وراء الستر لموضع الحاجة وما ذكرناه أولى‏,‏ إن شاء الله لأنه أستر لها وإذا كانت خفرة منعها الحياء من النطق بحجتها‏,‏ والتعبير عن نفسها سيما مع جهلها بالحجة وقلة معرفتها بالشرع وحججه‏.‏

فصل‏:‏

ولا يخلو المستعدى عليه من أن يكون حاضرا أو غائبا فإن كان حاضرا في البلد أو قريبا منه‏,‏ فإن شاء الحاكم بعث مع المستعدي عونا يحضر المدعى عليه وإن شاء بعث معه قطعة من شمع أو طين مختوما بخاتمه فإذا بعث معه ختما‏,‏ فعاد فذكر أنه امتنع أو كسر الختم بعث إليه عيونا‏,‏ فإن امتنع أنفذ صاحب المعونة فأحضره فإذا حضر وشهد عليه شاهدان بالامتناع‏,‏ عزره إن رأى ذلك بحسب ما يراه تأديبا له إما بالكلام وكشف رأسه‏,‏ أو بالضرب أو بالحبس فإن اختبأ بعث الحاكم من ينادي على بابه ثلاثا أنه إن لم يحضر سمر بابه وختم عليه‏,‏ ويجمع أماثل جيرانه ويشهدهم على إعذاره فإن لم يحضر وسأل المدعي أن يسمر عليه منزله‏,‏ ويختم عليه وتقرر عند الحاكم أن المنزل منزله سمره أو ختمه فإن لم يحضر بعث الحاكم من ينادي على بابه بحضرة شاهدي عدل‏,‏ أنه إن لم يحضر مع فلان أقام عنه وكيلا وحكم عليه‏,‏ فإن لم يحضر أقام عنه وكيلا وسمع البينة عليه‏,‏ وحكم عليه كما يحكم على الغائب وقضى حقه من ماله إن وجد له مالا وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف‏,‏ وأهل البصرة حكاه عنهم أحمد وإن لم يجد له مالا ولم تكن للمدعي بينة فكان أحمد ينكر التهجم عليه‏,‏ ويشتد عليه حتى يظهر وقال الشافعي‏:‏ إن علم له مكانا أمر بالهجوم عليه فيبعث خصيانا أو غلمانا لم يبلغوا الحلم‏,‏ وثقات من النساء معهم ذوو عدل من الرجال فيدخل النساء والصبيان فإذا حصلوا في صحن الدار دخل الرجال‏,‏ ويؤمر الخصيان بالتفتيش ويتفقد النساء النساء فإن ظفروا به‏,‏ أخذوه فأحضروه وإن استعدى على غائب نظرت فإن كان الغائب في غير ولاية القاضي لم يكن له أن يعدي عليه وله الحكم عليه‏,‏ على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى- وإن كان في ولايته وله في بلده خليفة فإن كانت له بينة‏,‏ ثبت الحق عنده وكتب به إلى خليفته ولم يحضره‏,‏ وإن لم تكن له بينة حاضرة نفذه إلى خصمه ليخاصمه عند خليفته‏,‏ وإن لم يكن له فيه خليفة وكان فيه من يصلح للقضاء أذن له في الحكم بينهما‏,‏ وإن لم يكن فيه من يصلح للقضاء قيل له‏:‏ حرر دعواك لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار‏,‏ وقيمة الكلب أو خمر الذمي فلا يكلفه الحضور لما لا يقضي عليه به‏,‏ مع المشقة فيه بخلاف الحاضر فإنه لا مشقة في حضوره‏,‏ فإذا تحررت بعث فأحضر خصمه بعدت المسافة أو قربت وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف‏:‏ إن كان يمكنه أن يحضر ويعود فيأوي إلى موضعه أحضره‏,‏ وإلا لم يحضره ويوجد من يحكم بينهما وقيل‏:‏ إن كانت المسافة دون مسافة القصر أحضره‏,‏ وإلا فلا ولنا أنه لا بد من فصل الخصومة بين المتخاصمين فإذا لم يمكن إلا بمشقة‏,‏ فعل ذلك كما لو امتنع من الحضور فإنه يؤدب ويعزر ولأن إلحاق المشقة به أولى من إلحاقها بمن ينفذه الحاكم ليحكم بينهما وإن كانت امرأة برزة‏,‏ لم يشترط في سفرها هذا محرم نص عليه أحمد لأنه لحق آدمي وحق الآدمي مبني على الشح والضيق‏.‏

فصل‏:‏

وإن استعدى على الحاكم المعزول لم يعده حتى يعرف ما يدعيه‏,‏ فيسأله عنه صيانة للقاضي عن الامتهان فإن ذكر أنه يدعي عليه حقا من دين أو غصب أعداه وحكم بينهما كغير القاضي وكذلك إن ادعى أنه أخذ منه رشوة على الحكم لأن أخذ الرشوة عليه لا يجوز‏,‏ فهي كالغصب وإن ادعى عليه الجوز في الحكم وكان للمدعي بينة أحضره‏,‏ وحكم بالبينة وإن لم يكن معه بينة ففيه وجهان أحدهما‏,‏ لا يحضره لأن في إحضاره وسؤاله امتهانا له وأعداء القاضي كثير وإذا فعل هذا معه لم يؤمن ألا يدخل في القضاء أحد‏,‏ خوفا من عاقبته والثاني يحضره لجواز أن يعترف فإن حضر واعترف‏,‏ حكم عليه وإن أنكر فالقول قوله من غير يمين لأن قول القاضي مقبول بعد العزل‏,‏ كما يقبل في ولايته وإن ادعى عليه أنه قتل ابنه ظلما فهل يستحضره من غير بينة‏؟‏ فيه وجهان فإن أحضره‏,‏ فاعترف حكم عليه وإلا فالقول قوله وإن ادعى أنه أخرج عينا من يده بغير حق‏,‏ فالقول قول الحاكم من غير يمين ويقبل قوله للمحكوم له بها على ما سنذكره‏,‏ -إن شاء الله تعالى-‏.‏

فصل‏:‏

وإن ادعى على شاهدين أنهما شهدا عليه زورا أحضرهما فإن اعترفا‏,‏ أغرمهما وإن أنكرا وللمدعي بينة على إقرارهما بذلك‏,‏ فأقامها لزمهما ذلك وإن أنكرا لم يستحلفا لأن إحلافهما يطرق عليهما الدعاوى في الشهادة والامتهان‏,‏ وربما منع ذلك إقامة الشهادة وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا‏.‏

مسألة‏:‏

قال ‏[‏ وإذا شهد عنده من لا يعرفه سأل عنه‏,‏ فإن عدله اثنان قبل شهادته ‏]‏

وجملته أنه إذا شهد عند الحاكم شاهدان فإن عرفهما عدلين‏,‏ حكم بشهادتهما وإن عرفهما فاسقين لم يقبل قولهما‏,‏ وإن لم يعرفهما سأل عنهما لأن معرفة العدالة شرط في قبول الشهادة بجميع الحقوق وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وعن أحمد رواية أخرى‏:‏ يحكم بشهادتهما إذا عرف إسلامهما‏,‏ بظاهر الحال إلا أن يقول الخصم‏:‏ هما فاسقان وهذا قول الحسن والمال والحد في هذا سواء لأن الظاهر من المسلمين العدالة ولهذا قال عمر رضي الله عنه‏:‏ المسلمون عدول بعضهم على بعض وروي ‏(‏أن أعرابيا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فشهد برؤية الهلال‏,‏ فقال له النبي‏:‏ -صلى الله عليه وسلم- أتشهد أن لا إله إلا الله‏؟‏ فقال‏:‏ نعم فقال‏:‏ أتشهد إني رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم فصام وأمر الناس بالصيام‏)‏ ولأن العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله - تعالى‏,‏ ودليل ذلك الإسلام فإذا وجد فليكتف به‏,‏ ما لم يقم على خلافه دليل وقال أبو حنيفة في الحدود والقصاص كالرواية الأولى وفي سائر الحقوق كالثانية لأن الحدود والقصاص مما يحتاط لها وتندرئ بالشبهات بخلاف غيرها ولنا‏,‏ أن العدالة شرط فوجب العلم بها كالإسلام أو كما لو طعن الخصم فيهما فأما الأعرابي المسلم‏,‏ فإنه كان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله - تعالى - عليهم فإن من ترك دينه في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إيثارا لدين الإسلام وصحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثبتت عدالته وأما قول عمر‏,‏ فالمراد به أن الظاهر العدالة ولا يمنع ذلك وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة‏,‏ فقد روي عنه أنه أتى بشاهدين فقال لهما عمر‏:‏ لست أعرفكما‏,‏ ولا يضركما إن لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما فأتيا برجل فقال له عمر‏:‏ تعرفهما‏؟‏ فقال‏:‏ نعم فقال عمر‏:‏ صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ عاملتهما في الدنانير والدراهم التي تقطع فيها الرحم‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما‏؟‏ قال لا قال‏:‏ يا ابن أخي‏,‏ لست تعرفهما جيئا بمن يعرفكما وهذا بحث يدل على أنه لا يكتفى بدونه إذا ثبت هذا فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط الإسلام والبلوغ والعقل‏,‏ والعدالة وليس فيها ما يخفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة فيحتاج إلى البحث عنها لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏ ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه‏,‏ أو نخبر عنه فيأمر الحاكم بكتب أسمائهم وكناهم‏,‏ ونسبهم ويرفعون فيها بما يتميزون به عن غيرهم ويكتب صنائعهم‏,‏ ومعايشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم ليسأل عن جيرانهم‏,‏ وأهل سوقهم ومسجدهم ومحلتهم ونحلتهم‏,‏ فيكتب‏:‏ أسود أو أبيض أو أنزع أو أغم أوأشهل أو أكحل‏,‏ أقنى الأنف أو أفطس أو رقيق الشفتين أو غليظهما طويل أو قصير أو ربعة‏,‏ ونحو هذا ليتميز ولا يقع اسم على اسم‏,‏ ويكتب اسم المشهود له والمشهود عليه وقدر الحق ويكتب ذلك كله لأصحاب مسائله‏,‏ لكل واحد رقعة وإنما ذكرنا المشهود له لئلا يكون بينه وبين الشاهد قرابة تمنع الشهادة أو شركة‏,‏ وذكرنا اسم المشهود عليه لئلا تكون بينه وبين الشاهد عداوة وذكرنا قدر الحق لأنه ربما كان ممن يرون قبوله في اليسير دون الكثير فتطيب نفس المزكى به إذا كان يسيرا‏,‏ ولا تطيب إذا كان كثيرا وينبغي للقاضي أن يخفي عن كل واحد من أصحاب مسائله ما يعطي الآخر من الرقاع لئلا يتواطئوا وإن شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه من جوار الشاهد وأهل الخبرة به‏,‏ وإن شاء أطلق ولم يعين المسئول ويكون السؤال سرا لئلا يكون فيه هتك المسئول عنه‏,‏ وربما يخاف المسئول من الشاهد أو من المشهود له أو المشهود عليه أن يخبر بما عنده أو يستحيي وينبغي أن يكون أصحاب مسائله غير معروفين له لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة وأن يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والأنفس‏,‏ ذوي عقول وافرة أبرياء من الشحناء والبغض لئلا يطعنوا في الشهود أو يسألوا عن الشاهد عدوه فيطعن فيه‏,‏ فيضيع حق المشهود له ولا يكونون من أهل الأهواء والعصبية يميلون إلى من وافقهم على من خالفهم‏,‏ ويكونون أمناء ثقات لأن هذا موضع أمانة فإذا رجع أصحاب مسائله فأخبر اثنان بالعدالة قبل شهادته‏,‏ وإن أخبرا بالجرح رد شهادته وإن أخبر أحدهما بالعدالة‏,‏ والآخر بالجرح بعث آخرين فإن عادا فأخبرا بالتعديل‏,‏ تمت بينة التعديل وسقط الجرح لأن بينته لم تتم وإن أخبرا بالجرح‏,‏ ثبت ورد الشهادة وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل تمت البينتان‏,‏ ويقدم الجرح ولا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين ويقبل قول أصحاب المسائل وقيل‏:‏ لا يقبل إلا شهادة المسئولين‏,‏ ويكلف اثنين منهم أن يشهدوا بالتزكية والجرح عنده على شروط الشهادة في اللفظ وغيره ولا تقبل من صاحب المسألة لأن ذلك شهادة على شهادة‏,‏ مع حضور شهود الأصل ووجه القول الأول أن شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة لا شهادة على شهادة‏,‏ فيكتفى بمن يشهد بها كسائر شهادات الاستفاضة ولأنه موضع حاجة فلا يلزم المزكي الحضور للتزكية وليس للحاكم إجباره عليها‏,‏ فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات ولأننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل لتعذرت التزكية لأنه قد يتفق أن لا يكون في جيران الشاهد من يعرفه الحاكم‏,‏ فلا يقبل قوله فيفوت التعديل والجرح‏.‏

فصل‏:‏

قال القاضي‏:‏ ولا بد من معرفة إسلام الشاهد ويحصل ذلك بأحد أربعة أمور أحدها‏,‏ إخباره عن نفسه أنه مسلم أو إتيانه بكلمة الإسلام وهي شهادة أن لا إله إلا الله‏,‏ وأن محمدا عبده ورسوله لأنه لو لم يكن مسلما صار مسلما بذلك الثاني اعتراف المشهود عليه بإسلامه لأن ذلك حق عليه الثالث خبرة الحاكم لأننا اكتفينا بذلك في عدالته‏,‏ فكذلك في إسلامه الرابع بينة تقوم به ولا بد من معرفة الحرية في موضع تعتبر فيه ويكفي في ذلك أحد أمور ثلاثة بينة‏,‏ أو اعتراف المشهود عليه أو خبرة الحاكم ولا يكفي اعتراف الشاهد لأنه لا يملك أن يصير حرا فلا يملك الإقرار به‏,‏ بخلاف الإسلام‏.‏

فصل‏:‏

وإذا شهد عند الحاكم مجهول الحال فقال المشهود عليه‏:‏ هو عدل ففيه وجهان أحدهما يلزم الحاكم الحكم بشهادته لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه‏,‏ وقد اعترف بها ولأنه إذا أقر بعدالته فقد أقر بما يوجب الحكم لخصمه عليه‏,‏ فيؤخذ بإقراره كسائر أقاريره والثاني لا يجوز الحكم بشهادته لأن في الحكم بها تعديلا له‏,‏ فلا يثبت بقول واحد ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بقول فاسق‏,‏ لم يجز الحكم به ولأنه لا يخلو إما أن يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه‏,‏ لا يجوز أن يقال مع تعديله لأن التعديل لا يثبت بقول الواحد ولا يجوز مع انتفاء تعديله لأن الحكم بشهادة غير العدل غير جائز بدليل شهادة من ظهر فسقه ومذهب الشافعي مثل هذا‏,‏ فإن قلنا بالأول فلا يثبت تعديله في حق غير المشهود عليه لأنه لم توجد بينة التعديل وإنما حكم عليه لإقراره بوجود شروط الحكم‏,‏ وإقراره يثبت في حقه دون غيره كما لو أقر بحق عليه وعلى غيره ثبت في حقه دون غيره‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجراحة أولى ‏]‏

وبهذا قال أبو حنيفة‏,‏ والشافعي وقال مالك‏:‏ ينظر أيهما أعدل‏؟‏ اللذان جرحاه أو اللذان عدلاه‏؟‏ فيؤخذ بقول أعدلهما ولنا أن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل‏,‏ فوجب تقديمه لأن التعديل يتضمن ترك الريب والمحارم والجارح مثبت لوجود ذلك والإثبات مقدم على النفي‏,‏ ولأن الجارح يقول‏:‏ رأيته يفعل كذا والمعدل مستنده أنه لم يره يفعل ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بأن يراه الجارح يفعل المعصية‏,‏ ولا يراه المعدل فيكون مجروحا‏.‏

فصل‏:‏

ولا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين وبهذا قال مالك والشافعي‏,‏ ومحمد بن الحسن وابن المنذر وروي عن أحمد‏:‏ يقبل ذلك من واحد وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه خبر لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فقبل من واحد‏,‏ كالرواية ولنا أنه إثبات صفة من يبني الحاكم حكمه على صفته فاعتبر فيه العدد‏,‏ كالحضانة وفارق الرواية فإنها على المساهلة ولا نسلم أنها لا تفتقر إلى لفظ الشهادة‏,‏ ويعتبر في التعديل والجرح لفظ الشهادة فيقول في التعديل‏:‏ أشهد أنه عدل ويكفي هذا وإن لم يقل‏:‏ علي ولي وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول شريح وأهل العراق‏,‏ ومالك وبعض الشافعية وقال أكثرهم‏:‏ لا يكفيه إلا أن يقول‏:‏ عدل علي ولي واختلفوا في تعليله فقال بعضهم‏:‏ لئلا تكون بينهما عداوة أو قرابة وقال بعضهم‏:‏ لئلا يكون عدلا في شيء دون شيء ولنا‏,‏ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ فإذا شهدا أنه عدل ثبت ذلك بشهادتهما فيدخل ذلك في عموم الأمر‏,‏ لأنه إذا كان عدلا لزم أن يكون له وعليه وفي حق سائر الناس‏,‏ وفي كل شيء ولا يحتاج إلى ذكره ولا يصح ما ذكروه فإن الإنسان لا يكون عدلا في شيء دون شيء ولا في حق شخص دون شخص‏,‏ فإنها لا توصف بهذا ولا تنتفي أيضا بقوله‏:‏ عدل ولي فإن من ثبتت عدالته لم تزل بقرابة ولا عداوة‏,‏ وإنما ترد شهادته للتهمة مع كونه عدلا ثم إن هذا إذا كان معلوما انتقاؤه بينهما لم يحتج إلى ذكره ولا نفيه عن نفسه‏,‏ كما لو شهد بالحق من عرف الحاكم عدالته لم يحتج إلى أن ينفي عن نفسه ذلك ولأن العداوة لا تمنع من شهادته له بالتزكية‏,‏ وإنما تمنع الشهادة عليه وهذا شاهد له بالتزكية والعدالة فلا حاجة به إلى نفي العداوة‏.‏

فصل‏:‏

ولا يكفي أن يقول‏:‏ لا أعلم منه إلا الخير وهذا مذهب الشافعي وقال أبو يوسف‏:‏ يكفي لأنه إذا كان من أهل الخبرة به‏,‏ ولا يعلم إلا الخير فهو عدل ولنا أنه لم يصرح بالتعديل‏,‏ فلم يكن تعديلا كما لو قال‏:‏ أعلم منه خيرا وما ذكروه لا يصح لأن الجاهل بحال أهل الفسق لا يعلم منهم إلا الخير‏,‏ لأنه يعلم إسلامهم وهو خير ولا يعلم منهم غير ذلك وهم غير عدول‏.‏

فصل‏:‏

قال أصحابنا‏:‏ لا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة‏,‏ والمعرفة المتقادمة وهذا مذهب الشافعي لخبر عمر الذي قدمناه ولأن عادة الناس إظهار الصالحات وإسرار المعاصي فإذا لم يكن ذا خبرة باطنة‏,‏ فربما اغتر بحسن ظاهره وهو فاسق في الباطن وهذا يحتمل أن يريدوا به أن الحاكم إذا علم أن المعدل لا خبرة له لم تقبل شهادته بالتعديل‏,‏ كما فعل عمر رضي الله عنه ويحتمل أنهم أرادوا أنه لا تجوز للمعدل الشهادة بالعدالة إلا أن تكون له خبرة باطنة فأما الحاكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل ولا يعرف حقيقة الحال‏,‏ فله أن يقبل الشهادة من غير كشف وإن استكشف الحال كما فعل عمر رضي الله عنه فلا بأس‏.‏

فصل‏:‏

ولا يسمع الجرح إلا مفسرا‏,‏ ويعتبر فيه اللفظ فيقول‏:‏ أشهد أنني رأيته يشرب الخمر أو يعامل بالربا أو يظلم الناس بأخذ أموالهم أو ضربهم‏,‏ أو سمعته يقذف أو يعلم ذلك باستفاضته في الناس ولا بد من ذكر السبب وتعيينه وبهذا قال الشافعي وسوار وقال أبو حنيفة‏:‏ يقبل الجرح المطلق وهو أن يشهد أنه فاسق‏,‏ أو أنه ليس بعدل وعن أحمد مثله لأن التعديل يسمع مطلقا فكذلك الجرح ولأن التصريح بالسبب يجعل الجارح فاسقا ويوجب عليه الحد في بعض الحالات‏,‏ وهو أن يشهد عليه بالزنى فيفضي الجرح إلى جرح الجارح وتبطيل شهادته‏,‏ ولا يتجرح بها المجروح ولنا أن الناس يختلفون في أسباب الجرح كاختلافهم في شارب النبيذ‏,‏ فوجب أن لا يقبل مجرد الجرح لئلا يجرحه بما لا يراه القاضي جرحا ولأن الجرح ينقل عن الأصل فإن الأصل في المسلمين العدالة‏,‏ والجرح ينقل عنها فلا بد أن يعرف الناقل لئلا يعتقد نقله بما لا يراه الحاكم ناقلا وقولهم‏:‏ إنه يفضي إلى جرح الجارح‏,‏ وإيجاب الحد عليه قلنا‏:‏ ليس كذلك لأنه يمكنه التعريض من غير تصريح فإن قيل‏:‏ ففي بيان السبب هتك المجروح قلنا‏:‏ لا بد من هتكه فإن الشهادة عليه بالفسق هتك له ولكن جاز ذلك للحاجة الداعية إليه كما جازت الشهادة عليه به لإقامة الحد عليه بل ها هنا أولى فإن فيه دفع الظلم عن المشهود عليه‏,‏ وهو حق آدمي فكان أولى بالجواز ولأن هتك عرضه بسببه‏,‏ لأنه تعرض للشهادة مع ارتكابه ما يوجب جرحه فكان هو الهاتك لنفسه إذ كان فعله هو المحوج للناس إلى جرحه فإن صرح الجارح بقذفه بالزنى‏,‏ فعليه الحد إن لم يأت بتمام أربعة شهداء وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي‏:‏ لا حد عليه إذا كان بلفظ الشهادة لأنه لم يقصد إدخال المعرة عليه ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏ الآية ولأن أبا بكرة ورفيقيه شهدوا على المغيرة بالزنى ولم يكمل زياد شهادته فجلدهم عمر حد القذف بمحضر الصحابة‏,‏ فلم ينكره منكر فكان إجماعا ويبطل ما ذكروه بما إذا شهدوا عليه لإقامة الحد عليه‏.‏

فصل‏:‏

وإذا أقام المدعى عليه بينة أن هذين الشاهدين شهدا بهذا الحق عند حاكم‏,‏ فرد شهادتهما لفسقهما بطلت شهادتهما لأن الشهادة إذا ردت لفسق لم تقبل مرة ثانية‏.‏

فصل‏:‏

ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء‏,‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يقبل لأنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فأشبه الرواية وأخبار الديات، ولنا أنها شهادة فيما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال‏,‏ فأشبه الشهادة في القصاص وما ذكروه غير مسلم‏.‏

فصل‏:‏

ولا يقبل الجرح من الخصم بلا خلاف بين العلماء فلو قال المشهود عليه‏:‏ هذان فاسقان أو عدوان لي أو آباء للمشهود له لم يقبل قوله لأنه متهم في قوله‏,‏ ويشهد بما يجر إليه نفعا فأشبه الشهادة لنفسه ولو قبلنا قوله‏,‏ لم يشأ أحد أن يبطل شهادة من شهد عليه إلا أبطلها فتضيع الحقوق وتذهب حكمة شرع البينة‏.‏

فصل‏:‏

ولا تقبل شهادة المتوسمين‏,‏ وذلك إذا حضر مسافران فشهدا عند حاكم لا يعرفهما لم تقبل شهادتهما وقال مالك‏:‏ يقبلهما إذا رأى فيهما سيما الخير لأنه لا سبيل إلى معرفة عدالتهما ففي التوقف عن قبولهما تضييع الحقوق‏,‏ فوجب الرجوع فيهما إلى السيماء الجميلة ولنا أن عدالتهما مجهولة فلم يجز الحكم بشهادتهما‏,‏ كشاهدي الحضر وما ذكروه معارض بأن قبول شهادتهما يفضي إلى أن يقضي بشهادتهما بدفع الحق إلى غير مستحقه‏.‏

فصل‏:‏

قال أحمد‏:‏ ينبغي للقاضي أن يسأل عن شهوده كل قليل لأن الرجل ينتقل من حال إلى حال وهل هذا مستحب أو واجب‏؟‏ فيه وجهان أحدهما مستحب لأن الأصل بقاء ما كان فلا يزول حتى يثبت الجرح والثاني‏,‏ يجب البحث كلما مضت مدة يتغير الحال فيها لأن العيب يحدث وذلك على ما يراه الحاكم ولأصحاب الشافعي وجهان مثل هذين‏.‏

فصل‏:‏

وليس للحاكم أن يرتب شهودا لا يقبل غيرهم لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ ولأن فيه إضرارا بالناس لأن كثيرا من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها تقع عند غير المرتبين‏,‏ فمتى ادعى إنسان شهادة غير المرتبين وجب على الحاكم سماع بينته والنظر في عدالة شاهديه‏,‏ ولا يجوز ردهم بكونهم من غير المرتبين لأن ذلك يخالف الكتاب والسنة والإجماع لكن له أن يرتب شهودا يشهدهم الناس فيستغنون بإشهادهم عن تعديلهم‏,‏ ويستغني الحاكم عن الكشف عن أحوالهم فيكون فيه تخفيف من وجه ويكونون أيضا يزكون من عرفوا عدالته من غيرهم إذا شهد‏.‏

فصل‏:

ولا بأس أن يعظ الشاهدين‏,‏ كما روي عن شريح أنه كان يقول للشاهدين إذا حضرا‏:‏ يا هذان ألا تريان‏؟‏ إني لم أدعكما‏,‏ ولست أمنعكما أن ترجعا وإنما يقضي علي هذا أنتما وأنا متق بكما‏,‏ فاتقيا وفي لفظ‏:‏ وإني بكما أقضي اليوم وبكما أتقي يوم القيامة وروى أبو حنيفة قال كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاء رجل‏,‏ فادعى على رجل حقا فأنكره فأحضر المدعي شاهدين‏,‏ فشهدا له فقال المشهود عليه‏:‏ والذي به تقوم السماء والأرض لقد كذبا علي في الشهادة وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال‏:‏ سمعت ابن عمر يقول‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏إن الطير لتخفق بأجنحتها‏,‏ وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار‏)‏ فإن صدقتما فاثبتا‏,‏ وإن كذبتما فغطيا رءوسكما وانصرفا فغطيا رءوسهما وانصرفا‏.‏