فصل: فصل: من أعطى شيئًا ليستعين به في الغزو

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


فصل‏:‏

ويستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم كلها‏,‏ ليكون أجمع لهم وإذا حضر النفير صادفهم مجتمعين فيبلغ الخبر جميعهم‏,‏ وإن جاء خبر يحتاجون إلى سماعه أو أمر يراد إعلامهم به يعلمونه‏,‏ ويراهم عين الكفار فيعلم كثرتهم فيخوف بهم قال أحمد‏:‏ إن كانوا متفرقين يرى الجاسوس قلتهم قال‏:‏ وبلغني عن الأوزاعي أنه قال في المساجد التي بالثغر‏:‏ لو أن لي عليها ولاية‏,‏ لسمرت أبوابها ـ ولم يقل‏:‏ لخربتها ـ حتى تكون صلاتهم في موضع واحد حتى إذا جاء النفير وهم متفرقون لم يكونوا مثلهم إذا كانوا في موضع واحد‏.‏

وفي الحرس في سبيل الله فضل كبير قال ابن عباس‏:‏ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله‏,‏ وعين باتت تحرس في سبيل الله‏)‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن غريب وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏رحم الله حارس الحرس‏)‏ وعن سهل بن الحنظلية ‏(‏أنهم ساروا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان عشية‏,‏ قال‏:‏ من يحرسنا الليلة‏؟‏‏)‏ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي‏:‏ أنا يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ فاركب ‏"‏ فركب فرسا له وجاء إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له‏:‏ ‏"‏ استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه‏,‏ ولا أغرن من قبلك الليلة ‏"‏ فلما أصبحنا جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مصلاه فركع ركعتين‏,‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ هل أحسستم فارسكم الليلة‏؟‏ قالوا‏:‏ لا فثوب بالصلاة فجعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاته وسلم‏,‏ قال‏:‏ ‏"‏ أبشروا قد جاءكم فارسكم ‏"‏ فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال‏:‏ إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما‏,‏ فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏"‏ هل نزلت الليلة‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏قد أوجبت‏,‏ فلا عليك أن لا تعمل بعدها‏)‏ رواه أبو داود وعن عثمان رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها‏,‏ وصيام نهارها‏)‏ رواه ابن سنجر‏.‏

‏[‏وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما‏]‏

روى نحو هذا عن عمر وعثمان وبه قال مالك‏,‏ والأوزاعي والثوري والشافعي‏,‏ وسائر أهل العلم وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال‏:‏ يا رسول الله أجاهد‏؟‏ فقال‏:‏ ألك أبوان‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ففيهما فجاهد‏)‏ وعن ابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثله‏,‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح وفي رواية‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال‏:‏ ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما‏)‏ وعن أبي سعيد ‏(‏أن رجلا هاجر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ هل لك باليمن أحد‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏,‏ أبواي قال‏:‏ أذنا لك‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد‏,‏ وإلا فبرهما‏)‏ رواهن أبو داود ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين يقدم فأما إن كان أبواه غير مسلمين‏,‏ فلا إذن لهما وبذلك قال الشافعي وقال الثوري‏:‏ لا يغزو إلا بإذنهما لعموم الأخبار ولنا أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يجاهدون وفيهم من له أبوان كافران من غير استئذانهما منهم أبو بكر الصديق‏,‏ وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر وأبوه رئيس المشركين يومئذ‏,‏ قتل ببدر وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد‏,‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏لا تجد قوما‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏‏.‏ الآية وعموم الأخبار مخصص بما رويناه فأما إن كان أبواه رقيقين فعموم كلام الخرقي يقتضي وجوب استئذانهما لعموم الأخبار‏,‏ ولأنهما أبوان مسلمان فأشبها الحرين ويحتمل أن لا يعتبر إذنهما لأنه لا ولاية لهما وإن كانا مجنونين فلا إذن لهما لأنه لا يمكن استئذانهما‏.‏

قال وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما‏,‏ وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركها يعني إذا وجب عليه الجهاد لم يعتبر إذن والديه لأنه صار فرض عين وتركه معصية ولا طاعة لأحد في معصية الله وكذلك كل ما وجب مثل الحج‏,‏ والصلاة في الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب قال الأوزاعي لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض والجمع والحج والقتال لأنها عبادة تعينت عليه‏,‏ فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة ولأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏‏.‏ ولم يشترط إذن الوالدين‏.‏

وإن خرج في جهاد تطوع بإذنهما‏,‏ فمنعاه منه بعد سيره وقبل وجوبه فعليه الرجوع لأنه معنى لو وجد في الابتداء منع‏,‏ فإذا وجد في أثنائه منع كسائر الموانع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع‏,‏ أو يحدث له عذر من مرض أو ذهاب نفقة أو نحوه فإن أمكنه الإقامة في الطريق‏,‏ وإلا مضى مع الجيش فإذا حضر الصف تعين عليه بحضوره‏,‏ ولم يبق لهما إذن وإن كان رجوعهما عن الإذن بعد تعين الجهاد عليه لم يؤثر رجوعهما شيئا وإن كانا كافرين فأسلما ومنعاه‏,‏ كان ذلك كمنعهما بعد إذنهما سواء وحكم الغريم يأذن في الجهاد ثم يمنع منه حكم الوالد‏,‏ على ما فصلناه فأما إن حدث للإنسان في نفسه عذر من مرض أو عمى أو عرج فله الانصراف سواء التقى الزحفان‏,‏ أو لم يلتقيا لأنه لا يمكنه القتال ولا فائدة في مقامه‏.‏

وإن أذن له والداه في الغزو وشرطا عليه أن لا يقاتل‏,‏ فحضر القتال تعين عليه وسقط شرطهما كذلك قال الأوزاعي وابن المنذر لأنه صار واجبا عليه‏,‏ فلم يبق لهما في تركه طاعة ولو خرج بغير إذنهما فحضر القتال ثم بدا له الرجوع لم يجز له ذلك‏.‏

فصل‏:‏

ومن عليه دين حال أو مؤجل‏,‏ لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا بإذن غريمه إلا أن يترك وفاء أو يقيم به كفيلا‏,‏ أو يوثقه برهن وبهذا قال الشافعي ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه لأنه لا تتوجه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو‏,‏ كما لو لم يكن عليه دين ولنا أن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها وقد جاء ‏(‏أن رجلا جاء إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال‏:‏ يا رسول الله‏,‏ إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا تكفر عني خطاياي‏؟‏ قال‏:‏ نعم إلا الدين‏,‏ فإن جبريل قال لي ذلك‏)‏ رواه مسلم وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه لأنه تعلق بعينه فكان مقدما على ما في ذمته‏,‏ كسائر فروض الأعيان ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة‏,‏ لأن فيه تغريرا بتفويت الحق وإن ترك وفاء أو أقام كفيلا فله الغزو بغير إذن نص عليه أحمد في من ترك وفاء‏,‏ لأن عبد الله بن حرام أبا جابر بن عبد الله خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد‏,‏ وقضاه عنه ابنه بعلم النبي ولم يذمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك ولم ينكر فعله‏,‏ بل مدحه وقال ‏(‏ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه وقال لابنه جابر أشعرت أن الله أحيا أباك‏,‏ وكلمه كفاحا‏)‏‏.‏

مسألة‏:‏

قال ويقاتل أهل الكتاب والمجوس ولا يدعون لأن الدعوة قد بلغتهم ويدعي عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا أما قوله في أهل الكتاب والمجوس‏:‏ لا يدعون قبل القتال فهو على عمومه لأن الدعوة قد انتشرت وعمت‏,‏ فلم يبق منهم من لم تبلغه الدعوة إلا نادر بعيد وأما قوله‏:‏ يدعي عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا فليس بعام فإن من بلغته الدعوة منهم لا يدعون وإن وجد منهم من لم تبلغه الدعوة‏,‏ دعى قبل القتال وكذلك إن وجد من أهل الكتاب من لم تبلغه الدعوة دعوا قبل القتال قال أحمد إن الدعوة قد بلغت وانتشرت‏,‏ ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة لم يجز قتالهم قبل الدعوة وذلك لما روى بريدة قال‏:‏ كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏إذا بعث أميرا على سرية أو جيش‏,‏ أمره بتقوى الله في خاصته وبمن معه من المسلمين وقال‏:‏ إذا لقيت عدوك من المشركين‏,‏ فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام‏,‏ فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا‏,‏ فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم‏,‏ فإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم‏)‏ رواه أبو داود ومسلم وهذا يحتمل أنه كان في بدء الأمر قبل انتشار الدعوة‏,‏ وظهور الإسلام فأما اليوم فقد انتشرت الدعوة‏,‏ فاستغنى بذلك عن الدعاء عند القتال قال أحمد كان النبي يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب حتى أظهر الله الدين وعلا الإسلام‏,‏ ولا أعرف اليوم أحدا يدعى قد بلغت الدعوة كل أحد والروم قد بلغتهم الدعوة‏,‏ وعلموا ما يراد منهم وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام وإن دعا فلا بأس وقد روى ابن عمر رضي الله عنه ‏(‏أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أغار على بني المصطلق‏,‏ وهم غارون آمنون وإبلهم تسقى على الماء فقتل المقاتلة وسبي الذرية‏)‏ متفق عليه‏,‏ وعن الصعب بن جثامة قال‏:‏ سمعت ‏(‏رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسأل عن الديار من ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم‏,‏ فقال هم منهم‏)‏ متفق عليه وقال سلمة بن الأكوع‏:‏ ‏(‏أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر فغزونا ناسا من المشركين فبيتناهم‏)‏ رواه أبو داود‏,‏ ويحتمل أن يجعل الأمر بالدعوة في حديث بريدة على الاستحباب فإنها مستحبة في كل حال وقد روى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏أمر عليا‏,‏ حين أعطاه الراية يوم خيبر وبعثه إلى قتالهم أن يدعوهم وهم ممن بلغتهم الدعوة‏)‏ رواه البخاري ودعا خالد بن الوليد طليحة الأسدي حين تنبأ‏,‏ فلم يرجع فأظهره الله عليه ودعا سلمان أهل فارس فإذا ثبت هذا‏,‏ فإن كان المدعو من أهل الكتاب أو مجوسا دعاهم إلى الإسلام‏,‏ فإن أبوا دعاهم إلى إعطاء الجزية فإن أبوا قاتلهم‏,‏ وإن كانوا من غيرهم دعاهم إلى الإسلام فإن أبوا‏,‏ قاتلهم ومن قتل قبل الدعاء لم يضمن لأنه لا إيمان له ولا أمان فلم يضمن‏,‏ كنساء من بلغته الدعوة وصبيانهم‏.‏

مسألة‏:‏

ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا وجملته أن الكفار ثلاثة أقسام قسم أهل كتاب وهم اليهود والنصارى‏,‏ ومن اتخذ التوراة والإنجيل كتابا كالسامرة والفرنج ونحوهم فهؤلاء تقبل منهم الجزية‏,‏ ويقرون على دينهم إذا بذلوها لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقسم لهم شبهة كتاب وهم المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب في قبول الجزية منهم‏,‏ وإقرارهم بها لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذين القسمين وقسم لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب وهم من عدا هذين القسمين‏,‏ من عبدة الأوثان ومن عبد ما استحسن وسائر الكفار‏,‏ فلا تقبل منهم الجزية ولا يقبل منهم سوى الإسلام هذا ظاهر المذهب وهو مذهب الشافعي وروي عن أحمد أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب وهو مذهب أبي حنيفة لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق‏,‏ فيقرون ببذل الجزية كالمجوس وحكي عن مالك أنها تقبل من جميع الكفار‏,‏ إلا كفار قريش لحديث بريدة الذي في المسألة‏:‏ قبل هذه وهو عام ولأنهم كفار‏,‏ فأشبهوا المجوس ولنا عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله‏)‏ خص منهما أهل الكتاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏‏.‏ والمجوس بقوله‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ فمن عداهما يبقى على مقتضى العموم ولأن الصحابة رضي الله عنهم‏,‏ توقفوا في أخذ الجزية من المجوس ولم يأخذ عمر منهم الجزية حتى روى له عبد الرحمن بن عوف‏,‏ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ وثبت عندهم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏أخذ الجزية من مجوس هجر‏)‏ وهذا يدل على أنهم لم يقبلوا الجزية ممن سواهم فإنهم إذا توقفوا في من له شبهة كتاب ففي من لا شبهة له أولى‏,‏ ثم أخذوا الجزية منهم للخبر المختص بهم فيدل على أنهم لم يأخذوها من غيرهم ولأن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ يدل على اختصاص أهل الكتاب ببذل الجزية‏,‏ إذ لو كان عاما في جميع الكفار لم يختص أهل الكتاب بإضافتها إليهم ولأنهم تغلظ كفرهم لكفرهم بالله وجميع كتبه ورسله‏,‏ ولم تكن لهم شبهة فلم يقروا ببذل الجزية كقريش وعبدة الأوثان من العرب‏,‏ ولأن تغليظ الكفر له أثر في تحتم القتل وكونه لا يقر بالجزية بدليل المرتد وأما المجوس‏,‏ فإن لهم شبهة كتاب والشبهة تقوم مقام الحقيقة فيما يبني على الاحتياط فحرمت دماؤهم للشبهة‏,‏ ولم يثبت حل نسائهم وذبائحهم لأن الحل لا يثبت بالشبهة ولأن الشبهة لما اقتضت تحريم دمائهم اقتضت تحريم ذبائحهم ونسائهم‏,‏ ليثبت التحريم في المواضع كلها تغليبا له على الإباحة ولا نسلم أنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق‏.‏

مسألة‏:‏

وواجب على الناس إذا جاء العدو‏,‏ أن ينفروا المقل منهم والمكثر ولا يخرجوا إلى العدو إلا بإذن الأمير‏,‏ إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه فلا يمكنهم أن يستأذنوه قوله‏:‏ المقل منهم والمكثر يعني به ـ والله أعلم ـ الغني والفقير أي مقل من المال ومكثر منه‏,‏ ومعناه أن النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو إليهم ولا يجوز لأحد التخلف‏,‏ إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال وذلك لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏إذا استنفرتم فانفروا‏)‏‏.‏ وقد ذم الله تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب‏,‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ولأنهم إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين فوجب على الجميع فلم يجز لأحد التخلف عنه‏,‏ فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير لأن أمر الحرب موكول إليه وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم‏,‏ ومكامن العدو وكيدهم فينبغي أن يرجع إلى رأيه لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم لهم‏,‏ فلا يجب استئذانه لأن المصلحة تتعين في قتالهم والخروج إليه لتعين الفساد في تركهم‏,‏ ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجا من المدينة تبعهم فقاتلهم‏,‏ من غير إذن فمدحه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال‏:‏ خير رجالتنا سلمة بن الأكوع وأعطاه سهم فارس وراجل‏.‏

فصل

وسئل أحمد عن الإمام إذا غضب على الرجل فقال‏:‏ اخرج‏,‏ عليك أن لا تصحبني فنادى بالنفير يكون إذنا له‏؟‏ قال‏:‏ لا إنما قصد له وحده‏,‏ فلا يصحبه حتى يأذن له قال‏:‏ وإذا نودي بالصلاة والنفير فإن كان العدو بالبعد إنما جاءهم طليعة للعدو‏,‏ صلوا ونفروا إليهم وإذا استغاثوا بهم وقد ورد العدو‏,‏ أغاثوا ونصروا وصلوا على ظهور دوابهم ويومئون والغياث عندي أفضل من صلاة الجماعة والطالب والمطلوب في هذا الموضع يصلي على ظهر دابته وهو يسير أفضل ـ إن شاء الله تعالى ـ وإذا سمع النفير وقد أقيمت الصلاة يصلي‏,‏ ويخفف ويتم الركوع والسجود ويقرأ بسور قصار وقد نفر من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جنب ـ يعنى غسيل الملائكة حنظلة بن الراهب ـ قال‏:‏ ولا يقطع الصلاة إذا كان فيها وإذا جاء النفير والإمام يخطب يوم الجمعة‏,‏ لا ترى أن ينفروا‏؟‏ قال‏:‏ ولا تنفر الخيل إلا على حقيقة ولا تنفر على الغلام إذا أبق إذا أنفروهم فلا يكون هلاك الناس بسبب غلام‏,‏ وإذا نادى الإمام‏:‏ الصلاة جامعة لأمر يحدث فيشاور فيه لم يتخلف عنه أحد إلا من عذر‏.‏

مسألة‏:‏

ولا يدخل مع المسلمين من النساء إلى أرض العدو إلا الطاعنة في السن‏,‏ لسقى الماء ومعالجة الجرحى كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجملته أنه يكره دخول النساء الشواب أرض العدو لأنهن لسن من أهل القتال‏,‏ وقلما ينتفع بهن فيه لاستيلاء الخور والجبن عليهن ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن‏,‏ وقد روى حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها ‏(‏خرجت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة خيبر سادسة ست نسوة فبلغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبعث إلينا‏,‏ فجئنا فرأينا منه الغضب فقال‏:‏ مع من خرجتن‏؟‏ فقلنا‏:‏ يا رسول الله‏,‏ خرجنا نغزل الشعر ونعين به في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى‏,‏ ونناول السهام ونسقي السويق فقال‏:‏ قمن حتى إذا فتح الله خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال‏,‏ فقلت لها‏:‏ يا جدة ما كان ذلك‏؟‏ قالت‏:‏ تمرا‏)‏ قيل للأوزاعي‏:‏ هل كانوا يغزون معهم بالنساء في الصوائف‏؟‏ قال‏:‏ لا إلا بالجواري فأما المرأة الطاعنة في السن وهي الكبيرة‏,‏ إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء ومعالجة الجرحى‏,‏ فلا بأس به لما روينا من الخبر وكانت أم سليم ونسيبة بنت كعب تغزوان مع النبي‏,‏ فأما نسيبة فكانت تقاتل وقطعت يدها يوم اليمامة وقالت الربيع‏:‏ ‏(‏كنا نغزو مع النبي لسقي الماء ومعالجة الجرحى‏)‏ وقال أنس كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار‏,‏ يسقين الماء ويداوين الجرحى‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح فإن قيل‏:‏ فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخرج معه من تقع عليها القرعة من نسائه وخرج بعائشة مرات قيل‏:‏ تلك امرأة واحدة‏,‏ يأخذها لحاجته إليها ويجوز مثل ذلك للأمير عند حاجته ولا يرخص لسائر الرعية لئلا يفضي إلى ما ذكرنا ‏.‏

فصل

ينبغي للأمير أن يرفق بجيشه‏,‏ ويسير بهم سير أضعفهم لئلا يشق عليهم وإن دعت الحاجة إلى الجد في السير جاز له فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏جد في السير جدا شديدا‏,‏ حين بلغه قول عبد الله بن أبي‏:‏ ليخرجن الأعز منها الأذل ليشتغل الناس عن الخوض فيه‏)‏ وإن ابن عمر جد في السير حين استصرخ على صفية امرأته ولا يميل الأمير مع موافقيه في المذهب والنسب على مخالفيه فيهما لئلا يكسر قلوبهم فيخذلونه عند حاجته إليهم ويكثر المشاورة لذوي الرأي من أصحابه فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏ ويتخير المنازل لأصحابه‏,‏ وإذا وجد رجل رجلا قد أصيبت فرسه ومع الآخر فضل استحب له حمله‏,‏ ولم يجب نص عليه أحمد فإن خاف تلفه فقال القاضي‏:‏ يجب عليه بذل فضل مركوبه ليحيي به صاحبه‏,‏ كما يلزمه بذل فضل طعامه للمضطر إليه وتخليصه من عدوه‏.‏

فصل

وسئل أحمد عن الرجلين يشتريان الفرس بينهما يغزوان عليه‏,‏ يركب هذا عقبة وهذا عقبة‏:‏ ما سمعت فيه بشيء وأرجو أن لا يكون به بأس قيل له‏:‏ أيما أحب إليك‏؟‏ يعتزل الرجل في الطعام أو يرافق‏؟‏ قال‏:‏ يرافق هذا أرفق‏,‏ يتعاونون وإذا كنت وحدك لم يمكنك الطبخ ولا غيره ولا بأس بالنهد‏,‏ قد تناهد الصالحون وكان الحسن إذا سافر ألقى معهم ويزيد أيضا بعدما يلقى ومعنى النهد‏,‏ أن يخرج كل واحد من الرفقة شيئا من النفقة يدفعونه إلى رجل ينفق عليهم منه ويأكلون جميعا‏,‏ وكان الحسن البصري يدفع إلى وكيلهم مثل واحد منهم ثم يعود فيأتي سرا بمثل ذلك يدفعه إليه وقال أحمد‏:‏ ما أرى أن يغزو ومعه مصحف يعني لا يدخل به أرض العدو لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو‏)‏ رواه أبو داود‏,‏ والأثرم‏.‏

مسألة‏:‏

وإذا غزا الأمير بالناس لم يجز لأحد أن يتعلف ولا يحتطب‏,‏ ولا يبارز علجا ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثا‏,‏ إلا بإذنه يعني لا يخرج من العسكر لتعلف وهو تحصيل العلف للدواب ولا لاحتطاب‏,‏ ولا غيره إلا بإذن الأمير لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏ ‏{‏وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏ ولأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو ومكامنهم‏,‏ ومواضعهم وقربهم وبعدهم فإذا خرج خارج بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كمينا للعدو‏,‏ فيأخذوه أو طليعة لهم أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك وإذا كان بإذن الأمير‏,‏ لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن وربما يبعث معهم من الجيش من يحرسهم ويطلع لهم وأما المبارزة فتجوز بإذن الأمير‏,‏ في قول عامة أهل العلم إلا الحسن فإنه لم يعرفها‏,‏ وكرهها ولنا أن حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر‏,‏ بإذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبارز على عمرو بن عبد ود في غزوة الخندق فقتله وبارز مرحبا يوم حنين وقيل بارزه محمد بن مسلمة وبارزه قبل ذلك عامر بن الأكوع فاستشهد وبارز البراء بن مالك مرزبان الزأرة فقتله وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفا وروي عنه أنه قال‏:‏ قتلت تسعة وتسعين رئيسا من المشركين مبارزة‏,‏ سوى من شاركت فيه وبارز شبر بن علقمة أسوارا فقتله فبلغ سلبه اثني عشر ألفا فنفله إياه سعد ولم يزل أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبارزون في عصر النبي وبعده‏,‏ ولم ينكره منكر فكان ذلك إجماعا وكان أبو ذر يقسم أن قوله تعالى ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏‏.‏ نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة‏,‏ وعلى وعبيدة بارزوا عتبة‏,‏ وشيبة والوليد بن عتبة وقال أبو قتادة بارزت رجلا يوم حنين‏,‏ فقتلته إذا ثبت هذا فإنه ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن وبه قال الثوري وإسحاق ورخص فيها مالك‏,‏ والشافعي وابن المنذر لخبر أبي قتادة فإنه لم يعلم أنه استأذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكذلك أكثر من حكينا عنهم المبارزة‏,‏ لم يعلم منهم استئذان ولنا أن الإمام أعلم بفرسانه وفرسان العدو ومتى برز الإنسان إلى من لا يطيقه كان معرضا نفسه للهلاك‏,‏ فيكسر قلوب المسلمين فينبغي أن يفوض ذلك إلى الإمام ليختار للمبارزة من يرضاه لها‏,‏ فيكون أقرب إلى الظفر وجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب المشركين فإن قيل‏:‏ فقد أبحتم له أن ينغمس في الكفار وهو سبب لقتله قلنا‏:‏ إذا كان مبارزا تعلقت قلوب الجيش به وارتقبوا ظفره‏,‏ فإن ظفر جبر قلوبهم وسرهم وكسر قلوب الكفار‏,‏ وإن قتل كان بالعكس والمنغمس يطلب الشهادة لا يترقب منه ظفر ولا مقاومة فافترقا وأما مبارزة أبي قتادة فغير لازمة‏,‏ فإنها كانت بعد التحام الحرب رأى رجلا يريد أن يقتل مسلما فضربه أبو قتادة‏,‏ فضمه ضمة كاد يقتله وليس هذا هو المبارزة المختلف فيها بل المختلف فيها أن يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب يدعو إلى المبارزة‏,‏ فهذا هو الذي يعتبر له إذن الإمام لأن عين الطائفتين تمتد إليهما وقلوب الفريقين تتعلق بهما‏,‏ وأيهما غلب سر أصحابه وكسر قلوب أعدائه بخلاف غيره‏,‏ إذا ثبت هذا فالمبارزة تنقسم ثلاثة أقسام مستحبة ومباحة‏,‏ ومكروهة أما المستحبة فإذا خرج علج يطلب البراز استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن الأمير لأن فيه ردا عن المسلمين‏,‏ وإظهارا لقوتهم والمباح أن يبتدئ الرجل الشجاع بطلبها فيباح ولا يستحب لأنه لا حاجة إليها ولا يأمن أن يغلب‏,‏ فيكسر قلوب المسلمين إلا أنه لما كان شجاعا واثقا من نفسه أبيح له لأنه بحكم الظاهر غالب‏,‏ والمكروه أن يبرز الضعيف المنة الذي لا يثق من نفسه فتكره له المبارزة لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا‏.‏

فصل‏:‏

إذا خرج كافر يطلب البراز‏,‏ جاز رميه وقتله لأنه مشرك لا عهد له ولا أمان له فأبيح قتله كغيره‏,‏ إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن من خرج يطلب المبارزة لا يعرض له فيجري ذلك مجرى الشرط وإذا خرج إليه أحد يبارزه بشرط أن لا يعينه عليه سواه وجب الوفاء بشرطه لأن المؤمنين عند شروطهم فإن انهزم المسلم تاركا للقتال‏,‏ أو مثخنا بجراحته جاز لكل أحد قتاله لأن المسلم إذا صار إلى هذه الحال فقد انقضى قتاله وإن كان المسلم شرط عليه أن لا يقاتل حتى يرجع إلى صفه وفي له بالشرط‏,‏ إلا أن يترك قتاله أو أثخنه بالجراح فيتبعه ليقتله‏,‏ أو يجهز عليه فيجوز أن يحولوا بينه وبينه فإن قاتلهم قاتلوه لأنه إذا منعهم إنقاذه فقد نقض أمانه وإن أعان الكفار صاحبهم‏,‏ فعلى المسلمين أن يعينوا صاحبهم أيضا ويقاتلوا من أعان عليه ولا يقاتلونه لأنه ليس بصنع من جهته‏,‏ فإن كان قد استنجدهم أو علم منه الرضا بفعلهم صار ناقضا لأمانه‏,‏ وجاز لهم قتله وذكر الأوزاعي أنه ليس للمسلمين معاونة صاحبهم وإن أثخن بالجراح قيل له‏:‏ فخاف المسلمون على صاحبهم‏؟‏ قال‏:‏ وإن لأن المبارزة إنما تكون هكذا ولكن لو حجزوا بينهما‏,‏ وخلوا سبيل العلج قال‏:‏ فإن أعان العدو صاحبهم فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم ولنا أن حمزة‏,‏ وعليا أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن ربيعة حين أثخن عبيدة

فصل‏:‏

وتجوز الخدعة في الحرب للمبارز وغيره لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏الحرب خدعة‏)‏ وهو حديث حسن صحيح وروى أن عمرو بن عبد ود بارز عليا كرم الله وجهه‏,‏ فلما أقبل عليه قال علي‏:‏ ما برزت لأقاتل اثنين فالتفت عمرو فوثب عليه فضربه فقال عمرو‏:‏ خدعتني فقال على‏:‏ الحرب خدعة‏.‏

فصل‏:‏

قال أحمد‏:‏ إذا غزوا في البحر‏,‏ فأراد رجل أن يقيم بالساحل يستأذن الوالى الذي هو على جميع المراكب ولا يجزئه أن يستأذن الوالي الذي في مركبه‏.‏

مسألة‏:‏

ومن أعطى شيئا يستعين به في غزاته‏,‏ فما فضل فهو له فإن لم يعط لغزاة بعينها رد ما فضل في الغزو إذا حمل الرجل على دابة فهي له حين الرجوع من الغزو ‏)‏ وجملته أن من أعطى شيئا من المال يستعين به في الغزو‏,‏ لم يخل إما أن يعطى لغزوة بعينها أو في الغزو مطلقا فإن أعطى لغزوة بعينها‏,‏ فما فضل بعد الغزو فهو له هذا قول عطاء ومجاهد وسعيد بن المسيب وكان ابن عمر إذا أعطى شيئا في الغزو يقول لصاحبه‏:‏ إذا بلغت وادي القرى فشأنك به ولأنه أعطاه على سبيل المعاونة والنفقة‏,‏ لا على سبيل الإجارة فكان الفاضل له كما لو وصى أن يحج عنه فلان حجة بألف وإن أعطاه شيئا لينفقه في سبيل الله‏,‏ أو في الغزو مطلقا ففضل منه فضل أنفقه في غزاة أخرى لأنه أعطاه الجميع لينفقه في جهة قربة‏,‏ فلزمه إنفاق الجميع فيها كما لو وصى أن يحج عنه بألف

فصل‏:‏

ومن أعطى شيئًا ليستعين به في الغزو فقال أحمد‏:‏ لا يترك لأهله منه شيئًا لأنه ليس يملكه‏,‏ إلا أن يصير إلى رأس مغزاه فيكون كهيئة ماله فيبعث إلى عياله منه‏,‏ ولا يتصرف فيه قبل الخروج لئلا يتخلف عن الغزو فلا يكون مستحقا لما أنفقه‏,‏ إلا أن يشتري منه سلاحا أو آلة الغزو فإن قصد إعطاءه لمن يغزو به‏,‏ فقال أحمد‏:‏ لا يتخذ منه سفرة فيها طعام فيطعم منها أحدا لأنه إنما أعطيها لينفقها في جهة مخصوصة وهي الجهاد‏.‏

مسألة‏:‏

وإذا حمل الرجل على دابة‏,‏ فإذا رجع من الغزو فهي له إلا أن يقول‏:‏ هي حبيس فلا يجوز أن تباع إلا أن تصير في حال لا تصلح فيه للغزو فتباع وتجعل في حبيس آخر‏,‏ وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله أو كان في مكان لا ينتفع به جاز أن يباع‏,‏ ويجعل في مكان ينتفع به وكذلك الأضحية إذا أبدلها بخير منها قوله‏:‏ حمل الرجل على دابة يعني أعطيها ليغزو عليها فإذا غزا عليها‏,‏ ملكها كما يملك النفقة المدفوعة إليه إلا أن تكون عارية فتكون لصاحبها‏,‏ أو حبيسا فتكون حبيسا بحاله قال عمر رضي الله عنه‏:‏ حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه‏,‏ وظننت أنه بائعه برخص فسألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال‏:‏ ‏(‏لا تشتره ولا تعد في صدقتك‏,‏ وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه‏)‏ متفق عليه وهذا يدل على أنه ملكه‏,‏ لولا ذلك ما باعه ويدل على أنه ملكه بعد الغزو لأنه أقامه للبيع بالمدينة ولم يكن ليأخذه من عمر‏,‏ ثم يقيمه للبيع في الحال فدل على أنه أقامه للبيع بعد غزوه عليه وذكر أحمد نحوا من هذا الكلام وسئل‏:‏ متى يطيب له الفرس‏؟‏ قال‏:‏ إذا غزا عليه قيل له‏:‏ فإن العدو جاءنا فخرج على هذا الفرس في الطلب إلى خمسة فراسخ ثم رجع قال‏:‏ لا حتى يكون غزو قيل له‏:‏ فحديث ابن عمر‏:‏ إذا بلغت وادي القرى‏,‏ فشأنك به قال ابن عمر كان يصنع ذلك في ماله ورأى أنه إنما يستحقه إذا غزا عليه وهذا قول أكثر أهل العلم‏,‏ منهم سعيد بن المسيب والقاسم ويحيى الأنصاري‏,‏ ومالك والليث والثوري ونحوه عن الأوزاعي قال ابن المنذر‏:‏ ولم أعلم أحدا يقول‏:‏ إن له أن يبيعه في مكانه وكان مالك لا يرى أن ينتفع بثمنه في غير سبيل الله‏,‏ إلا أن يقول له‏:‏ شأنك به ما أردت ولنا حديث عمر وليس فيه ما اشترط مالك‏,‏ فأما إذا قال‏:‏ هي حبيس فلا يجوز بيعها وقد سبق شرح هذه المسألة‏:‏ في باب الوقف ويأتي شرح حكم الأضحية في بابها‏,‏ إن شاء الله‏.‏