فصل: فصل: الصلوات المفروضة ووجوبها في أول الوقت

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب الصلاة

الصلاة في اللغة الدعاء قال الله تعالى ‏{‏وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏ أي ادع لهم‏,‏ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏إذا دعى أحدكم فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائمًا فليصل‏)‏ وقال الشاعر‏:‏

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ** يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ** نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

وهي في الشرع عبارة عن الأفعال المعلومة‏,‏ فإذا ورد في الشرع أمر بصلاة أو حكم ذمعلق عليها انصرف بظاهره إلى الصلاة الشرعية وهي واجبة بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة‏}‏ وأما السنة فما روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله‏,‏ وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان‏,‏ وحج البيت من استطاع إليه سبيلا‏)‏ متفق عليه مع أي وأخبار كثيرة نذكر بعضها في غير هذا الموضع -إن شاء الله تعالى- وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة‏.‏

فصل

والصلوات المكتوبات خمس في اليوم والليلة ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها‏,‏ ولا يجب غيرها إلا لعارض من نذر أو غيره هذا قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة‏:‏ الوتر واجب لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر‏)‏ وهذا يقتضي وجوبه وقال عليه السلام ‏(‏الوتر حق‏)‏ رواه ابن ماجه ‏.‏

ولنا ما روى ابن شهاب عن أنس بن مالك قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏فرض الله على أمتى خمسين صلاة‏)‏ فذكر الحديث‏,‏ إلى أن قال ‏(‏فرجعت إلى ربى فقال‏:‏ هي خمس وهي خمسون ما يبدل القول لدي‏)‏ متفق عليه وعن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول ‏(‏خمس صلوات افترضهن الله على عباده‏,‏ فمن جاء بهن لم ينقص منهن شيئا استخفافا بهن فإن الله جاعل له يوم القيامة عهدا أن يدخله الجنة ومن جاء بهن وقد نقص منهن شيئا‏,‏ لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له‏)‏ وروي عن طلحة بن عبيد الله ‏(‏أن أعرابيا أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ ماذا فرض الله على من الصلاة قال‏:‏ خمس صلوات قال‏:‏ فهل على غيرها‏؟‏ قال‏:‏ لا إلا أن تطوع شيئا فقال الرجل‏:‏ والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها‏,‏ ولا أنقص منها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أفلح الرجل إن صدق‏)‏ متفق عليه وزيادة الصلاة يجوز أن تكون في السنن فلا يتعين كونها فرضا ولأنها صلاة تصلي على الراحلة من غير ضرورة فكانت نافلة كالسنن الرواتب‏.‏

باب المواقيت

أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محدودة‏,‏ وقد ورد في ذلك أحاديث صحاح جياد نذكر أكثرها في مواضعها -إن شاء الله تعالى-‏.‏

مسألة

قال أبو القاسم -رحمه الله-‏:‏ ‏[‏وإذا زالت الشمس وجبت صلاة الظهر‏]‏ بدأ الخرقي بذكر صلاة الظهر لأن جبريل بدأ بها حين أم النبي - صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس وجابر وبدأ بها - صلى الله عليه وسلم- حين علم الصحابة مواقيت الصلاة‏,‏ في حديث بريدة وغيره وبدأ بها الصحابة حين سئلوا عن الأوقات في حديث أبي برزة وجابر وغيرهما تسمى الأولى والهجير والظهر وقال أبو برزة‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يصلي الهجيرة التي يدعونها الأولى حين تدحض الشمس‏)‏ متفق عليه يعنى حين تزول الشمس وأجمع أهل العلم على أن أول وقت الظهر‏:‏ إذا زالت الشمس قاله ابن المنذر‏,‏ وابن عبد البر وقد تظاهرت الأخبار بذلك فمنها ما روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال ‏(‏أمنى جبريل عند البيت مرتين فصلى بي الظهر في الأولى منهما‏,‏ حين كان الفيء مثل الشراك ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس‏,‏ وأفطر الصائم ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم‏,‏ وصلى في المرة الثانية الظهر حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ثم صلى المغرب لوقت الأولى‏,‏ ثم صلى العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض ثم التفت إلى جبريل وقال‏:‏ يا محمد‏,‏ هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين‏)‏ رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي‏,‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن وروى جابر نحوه ولم يذكر فيه ‏(‏لوقت العصر بالأمس‏)‏ وقال البخاري‏:‏ أصح حديث في المواقيت حديث جابر وروى بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أن رجلا سأله عن وقت الصلاة‏,‏ فقال‏:‏ صل معنا هذين اليومين فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن ثم أمره فأقام الظهر ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية لم يخالطها صفرة‏,‏ ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر‏,‏ فلما كان اليوم الثاني أمره فأبرد في الظهر فأنعم أن يبرد بها وصلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة‏,‏ آخرها فوق الذي كان وصلى المغرب حين غاب الشفق وصلى العشاء حين غاب ثلث الليل‏,‏ وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال‏:‏ أين السائل عن وقت الصلاة‏؟‏ فقال الرجل‏:‏ أنا يا رسول الله فقال‏:‏ وقت صلاتكم بين ما رأيتم‏)‏ رواه مسلم وغيره وروى أبو داود عن أبي موسى نحوه‏,‏ إلا أنه قال‏:‏ ‏(‏بدأ فأقام الفجر حين انشق الفجر فصلى حين كان الرجل لا يعرف وجه صاحبه أو أن الرجل لا يعرف من إلى جنبه‏,‏ فلما كان الغد صلى الفجر وانصرف فقلنا‏:‏ طلعت الشمس‏)‏ وفي الباب أحاديث كثيرة‏.‏

فصل

ومعنى زوال الشمس ميلها عن كبد السماء ويعرف ذلك بطول ظل الشخص بعد تناهى قصره‏,‏ فمن أراد معرفة ذلك فليقدر ظل الشمس ثم يصبر قليلا ثم يقدره ثانيا‏,‏ فإن كان دون الأول فلم تزل وإن زاد ولم ينقص فقد زالت وأما معرفة ذلك بالأقدام‏,‏ فتختلف باختلاف الشهور والبلدان فكلما طال النهار قصر الظل وإذا قصر طال الظل‏,‏ فكل يوم يزيد أو ينقص فنذكر ذلك في وسط كل شهر على ما حكى أبو العباس السنجي‏,‏ -رحمه الله- تقريبا قال‏:‏ إن الشمس تزول في نصف حزيران على قدم وثلث‏,‏ وهو أقل ما تزول عليه الشمس وفي نصف تموز ونصف أيار على قدم ونصف وثلث وفي نصف آب ونيسان على ثلاثة أقدام‏,‏ وفي نصف آذار وأيلول على أربعة أقدام ونصف وهو وقت استواء الليل والنهار وفي نصف تشرين الأول وشباط على ستة أقدام ونصف وفي نصف تشرين الثاني وكانون الثاني على تسعة أقدام‏,‏ وفي نصف كانون الأول على عشرة أقدام وسدس وهذا أنهى ما تزول عليه الشمس فهذا ما تزول عليه الشمس في أقاليم العراق والشام وما سامتهما من البلدان فإذا أردت معرفة ذلك فقف على مستو من الأرض‏,‏ وعلم الموضع الذي انتهى إليه ظلك ثم ضع قدمك اليمنى بين يدي قدمك اليسرى وألصق عقبك بإبهامك‏,‏ فما بلغت مساحة هذا القدر بعد انتهاء النقص فهو الوقت الذي زالت عليه الشمس ووجبت به صلاة الظهر‏.‏

فصل

وتجب صلاة الظهر بزوال الشمس وكذلك جميع الصلوات تجب بدخول وقتها في حق من هو من أهل الوجوب‏,‏ فأما أهل الأعذار كالحائض والمجنون والصبى والكافر فتجب في حقه بأول جزء أدركه من وقتها بعد زوال عذره وبهذا قال الشافعي -رحمه الله- وقال أبو حنيفة -رحمه الله-‏:‏ يجب تأخير وقتها إذا بقي منه ما لا يتسع لأكثر منها لأنه في أول الوقت يتخير بين فعلها وتركها فلم تكن واجبة كالنافلة ولنا أنه مأمور بها في أول الوقت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ والأمر يقتضي الوجوب على الفور ولأن دخول الوقت سبب للوجوب فيترتب عليه حكمه حين وجوده ولأنها يشترط لها نية الفريضة‏,‏ ولو لم تجب لصحت بدون نية الواجب كالنافلة وتفارق النافلة فإنها لا يشترط لها ذلك ويجوز تركها غير عازم على فعلها‏,‏ وهذه إنما يجوز تأخيرها مع العزم على فعلها كما تؤخر صلاة المغرب ليلة مزدلفة عن وقتها وكما تؤخر سائر الصلوات عن وقتها إذا كان مشتغلا بتحصيل شرطها‏.‏

فصل

ويستقر وجوبها بما وجبت به فلو أدرك جزءا من أول وقتها ثم جن‏,‏ أو حاضت المرأة لزمهما القضاء إذا أمكنهما وقال الشافعي وإسحاق‏:‏ لا يستقر إلا بمضى زمن يمكن فعلها فيه ولا يجب القضاء بما دون ذلك واختاره أبو عبد الله بن بطة لأنه لم يدرك من الوقت ما يمكنه أن يصلي فيه‏,‏ فلم يجب القضاء كما لو طرأ العذر قبل ذلك الوقت ولنا أنها صلاة وجبت عليه فوجب قضاؤها إذا فاتته‏,‏ كالتى أمكن أداؤها وفارقت التي طرأ العذر قبل دخول وقتها فإنها لم تجب وقياس الواجب على غيره غير صحيح‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏فإذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقتها‏]‏ يعنى أن الفيء إذا زاد على ما زالت عليه الشمس قدر ظل طول الشخص‏,‏ فذلك آخر وقت الظهر قال الأثرم‏:‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ وأى شيء آخر وقت الظهر‏؟‏ قال‏:‏ أن يصير الظل مثله قيل له‏:‏ فمتى يكون الظل مثله‏؟‏ قال‏:‏ إذا زالت الشمس فكان الظل بعد الزوال مثله فهو ذاك ومعرفة ذلك أن يضبط ما زالت عليه الشمس‏,‏ ثم ينظر الزيادة عليه فإن كانت قد بلغت قدر الشخص فقد انتهى وقت الظهر ومثل شخص الإنسان ستة أقدام ونصف بقدمه‏,‏ أو يزيد قليلا فإذا أردت اعتبار الزيادة بقدمك مسحتها على ما ذكرناه في الزوال ثم أسقطت منه القدر الذي زالت عليه الشمس‏,‏ فإذا بلغ الباقي ستة أقدام ونصف فقد بلغ المثل فهو آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وبهذا قال مالك‏,‏ والثوري والشافعي والأوزاعي ونحوه قال أبو يوسف‏,‏ ومحمد وأبو ثور وداود وقال عطاء‏:‏ لا تفريط للظهر حتى تدخل الشمس صفرة وقال طاوس‏:‏ وقت الظهر والعصر إلى الليل وحكي عن مالك‏:‏ وقت الاختيار إلى أن يصير ظل كل شيء مثله ووقت الأداء إلى أن يبقى من غروب الشمس قدر ما يؤدى فيه العصر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- جمع بين الظهر والعصر في الحضر وقال أبو حنيفة‏:‏ وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال ‏(‏إنما مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجيرا‏,‏ فقال‏:‏ من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط‏؟‏ فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط‏؟‏ فعملت النصارى ثم قال‏:‏ من يعمل لي من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين‏؟‏ فأنتم هم فغضب اليهود والنصارى‏,‏ وقالوا‏:‏ ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء‏؟‏ قال‏:‏ هل نقصتكم من حقكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏؟‏ قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء‏)‏ أخرجه البخاري وهذا يدل على أن من الظهر إلى العصر أكثر من العصر إلى المغرب ولنا ‏(‏أن جبريل عليه السلام صلى بالنبى - صلى الله عليه وسلم- الظهر حين كان الفيء مثل الشراك في اليوم الأول وفي اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله ثم قال‏:‏ الوقت ما بين هذين‏)‏ وحديث مالك محمول على العذر بمطر أو مرض‏,‏ وما احتج به أبو حنيفة لا حجة له فيه لأنه قال‏:‏ إلى صلاة العصر وفعلها يكون بعد دخول الوقت وتكامل الشروط على أن أحاديثنا قصد بها بيان الوقت وخبرهم قصد به ضرب المثل‏,‏ فالأخذ بأحاديثنا أولى قال ابن عبد البر خالف أبو حنيفة في قوله هذا الآثار والناس وخالفه أصحابه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وإذا زاد شيئا وجبت العصر‏]‏ وجملته أن وقت العصر من حين الزيادة على المثل أدنى زيادة متصل بوقت الظهر لا فصل بينهما‏,‏ وغير الخرقي قال‏:‏ إذا صار ظل الشيء مثله فهو آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وهو قريب مما قال الخرقي وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا زاد على المثلين لما تقدم من الحديث ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏}‏ ولو كان على ما ذكرتموه لكان وسط النهار وحكي عن ربيعة‏:‏ أن وقت الظهر والعصر إذا زالت الشمس وقال إسحاق آخر وقت الظهر وأول وقت العصر يشتركان في قدر الصلاة فلو أن رجلين يصليان معا‏,‏ أحدهما يصلي الظهر والآخر العصر حين صار ظل كل شيء مثله كان كل واحد منهما مصليا لها في وقتها وحكي ذلك عن ابن المبارك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏صلى بى الظهر لوقت العصر بالأمس‏)‏ ‏.‏

ولنا ما تقدم في حديث جبريل عليه السلام وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة طرفي النهار‏}‏ لا ينفي ما قلنا فإن الطرف ما تراخى عن الوسط‏,‏ وهو موجود في مسألتنا وقول النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏لوقت العصر بالأمس‏)‏ أراد مقارنة الوقت يعنى أن ابتداء صلاته اليوم العصر متصل بوقت انتهاء صلاة الظهر في اليوم الثاني‏,‏ أو مقارب له لأنه قصد به بيان المواقيت وإنما تبين أول الوقت بابتداء فعل الصلاة وتبين آخره بالفراغ منها‏,‏ وقد بينه قول النبي - صلى الله عليه وسلم- في حديث عبد الله بن عمرو ‏(‏وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر‏)‏ رواه مسلم وأبو داود وفي حديث رواه أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏إن للصلاة أولا وآخرا وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر‏)‏ أخرجه الترمذي‏.‏

مسألة

قال‏:‏ وإذا صار ظل كل شيء مثليه خرج وقت الاختيار اختلفت الرواية عن أحمد رضي الله عنه في آخر وقت الاختيار فروى‏:‏ حين يصير ظل كل شيء مثليه وهو قول مالك‏,‏ والثوري والشافعي لقوله في حديث ابن عباس وجابر‏:‏ ‏(‏الوقت ما بين هذين‏)‏ وروي عن أحمد‏,‏ -رحمه الله- أن آخره ما لم تصفر الشمس وهي أصح عنه حكاه عنه جماعة منهم الأثرم‏,‏ قال‏:‏ سمعته يسأل عن آخر وقت العصر‏؟‏ فقال‏:‏ هو تغير الشمس قيل‏:‏ ولا تقول بالمثل والمثلين‏؟‏ قال‏:‏ لا هذا عندي أكثر وهذا قول أبي ثور‏,‏ وأبي يوسف ومحمد ونحوه عن الأوزاعي لحديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏وقت العصر ما لم تصفر الشمس‏)‏ رواه مسلم وفي حديث أبي هريرة‏,‏ عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس‏)‏ وفي حديث بريدة ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- صلى العصر في اليوم الثاني والشمس بيضاء نقية لم تخالطها صفرة‏)‏ قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية فقد صلاها في وقتها وفي هذا دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب ولعلهما متقاربان يوجد أحدهما قريبا من الآخر‏.‏

فصل

ولا يجوز تأخير العصر عن وقت الاختيار لغير عذر لما تقدم من الأخبار‏,‏ وروى مسلم وأبو داود بإسنادهما عن أنس بن مالك قال‏:‏ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏تلك صلاة المنافقين‏,‏ تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم‏,‏ حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرني شيطان أو على قرني شيطان‏,‏ قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا‏)‏ ولو أبيح تأخيرها لما ذمه عليه‏,‏ وجعله علامة النفاق‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ومن أدرك منها ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها مع الضرورة‏]‏ وجملة ذلك أن من أخر الصلاة ثم أدرك منها ركعة قبل غروب الشمس فهو مدرك لها‏,‏ ومؤد لها في وقتها سواء أخرها لعذر أو لغير عذر إلا أنه إنما يباح تأخيرها لعذر وضرورة‏,‏ كحائض تطهر أو كافر يسلم أو صبي يبلغ‏,‏ أو مجنون يفيق أو نائم يستيقظ أو مريض يبرأ‏,‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏"‏ مع الضرورة ‏"‏ فأما إدراكها بإدراك ركعة منها فيستوي فيه المعذور وغيره وكذلك سائر الصلوات يدركها بإدراك ركعة منها في وقتها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة‏)‏ متفق عليه وفي رواية ‏(‏من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر‏)‏ متفق عليه ولا أعلم في هذا خلافا‏.‏

فصل

وهل يدرك الصلاة بإدراك ما دون ركعة‏؟‏ فيه روايتان‏:‏ إحداهما لا يدركها بأقل من ذلك‏,‏ وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب مالك لظاهر الخبر الذي رويناه فإن تخصيصه الإدراك بركعة يدل على أن الإدراك لا يحصل بأقل منها ولأنه إدراك للصلاة فلا يحصل بأقل من ركعة كإدراك الجمعة والثانية‏,‏ يدركها بإدراك جزء منها أي جزء كان قال القاضي‏:‏ ظاهر كلام أحمد أنه يكون مدركا لها بإدراكه وقال أبو الخطاب‏:‏ من أدرك من الصلاة مقدار تكبيرة الإحرام قبل أن يخرج الوقت فقد أدركها وهذا مذهب أبي حنيفة وللشافعي قولان كالمذهبين ولأن أبا هريرة روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته‏,‏‏)‏ متفق عليه وللنسائى ‏(‏فقد أدركها‏)‏ ولأن الإدراك إذا تعلق به حكم في الصلاة استوى فيه الركعة وما دونها كإدراك الجماعة وإدراك المسافر صلاة المقيم‏,‏ ولفظ الحديث الأول يدل بمفهومه والمنطوق أولى منه والقياس يبطل بإدراك ركعة دون تشهدها‏.‏

فصل

وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى‏,‏ في قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- وغيرهم منهم‏:‏ على بن أبي طالب وأبو هريرة‏,‏ وأبو أيوب وأبو سعيد وعبيدة السلماني والحسن‏,‏ والضحاك وأبو حنيفة وأصحابه وروي عن زيد بن ثابت وعائشة أنها صلاة الظهر وبه قال عبد الله بن شداد لما روي عن زيد بن ثابت‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- منها فنزلت‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ رواه أبو داود وروت عائشة ‏(‏عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قرأ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر‏)‏ رواه أبو داود والترمذي‏,‏ وقال حديث صحيح وقال طاوس وعطاء وعكرمة‏,‏ ومجاهد والشافعي‏:‏ هي الصبح لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين‏}‏ والقنوت طول القيام وهو مختص بالصبح ولأنها من أثقل الصلاة على المنافقين‏,‏ ولهذا اختصت بالوصية وبالمحافظة عليها وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب‏}‏ يعنى صلاة الفجر والعصر وروى جرير بن عبد الله قال‏:‏ ‏(‏كنا جلوسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذ نظر إلى القمر ليلة البدر‏,‏ فقال‏:‏ أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها‏)‏ متفق عليه وللبخاري ‏(‏فافعلوا‏)‏ ثم قرأ جرير ‏{‏وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها‏}‏ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار‏,‏ ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم‏,‏ وهو أعلم بهم‏:‏ كيف تركتم عبادى‏؟‏ فيقولون‏:‏ تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون‏)‏ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏من صلى البردين دخل الجنة‏)‏ يريد هاتين الصلاتين وقال‏:‏ ‏(‏لو يعلمون ما في صلاة العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا‏)‏ متفق على هذه الأحاديث وقيل‏:‏ هي المغرب لأن الأولى هي الظهر فتكون المغرب الثالثة‏,‏ والثالثة من كل خمس هي الوسطى ولأنها وسطى في عدد الركعات ووسطى في الأوقات لأن عدد ركعاتها ثلاث فهي وسطى بين الأربع والاثنين‏,‏ ووقتها في آخر النهار وأول الليل وخصت من بين الصلاة بأنها وتر والله وتر يحب الوتر‏,‏ وبأنها تصلي في أول وقتها في جميع الأمصار والأعصار ويكره تأخيرها عنه وكذلك صلاها جبريل بالنبى - صلى الله عليه وسلم- في اليومين لوقت واحد ولذلك ذهب بعض الأئمة إلى أنها ليس لها إلا وقت واحد لذلك‏,‏ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏لا تزال أمتى أو قال‏:‏ هذه الأمة بخير أو قال على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم‏)‏ رواه أبو داود وقيل‏:‏ هي العشاء لما روى ابن عمر‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏مكثنا ليلة ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لصلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فقال‏:‏ إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم‏,‏ ولولا أن أشق على أمتى لصليت بهم هذه الساعة وقال‏:‏ إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الغداة والعشاء الآخرة ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا‏)‏ متفق عليهما ‏.‏

ولنا ما روي عن على رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب‏:‏ شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا‏)‏ متفق عليه وعن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏صلاة الوسطى صلاة العصر‏)‏ وعن سمرة مثله قال الترمذي في كل واحد منهما‏:‏ هذا حديث حسن صحيح وهذا نص لا يجوز التعريج معه على شيء يخالفه ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله‏)‏ متفق عليه‏,‏ وقال‏:‏ ‏(‏من فاتته صلاة العصر حبط عمله‏)‏ رواه البخاري وابن ماجه وقال‏:‏ ‏(‏إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين‏,‏ ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد‏)‏ يعنى النجم رواه البخاري وما ذكر في صلاة الصبح فقد شاركته صلاة العصر في أكثره ورواية عائشة ‏"‏ وصلاة العصر ‏"‏ فالواو زائدة كالواو في قوله تعالى ‏{‏وليكون من الموقنين‏}‏ وفي قوله ‏{‏وخاتم النبيين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وقوموا لله قانتين‏}‏ فالقنوت قيل‏:‏ هو الطاعة أي قوموا لله مطيعين وقيل‏:‏ القنوت السكوت قال زيد بن أرقم‏:‏ كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت ‏{‏وقوموا لله قانتين‏}‏ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ثم ما روينا نص صريح فكيف يترك بمثل هذا الوهم‏,‏ أو يعارض به‏؟‏‏.‏

مسألة

قال‏:‏ وإذا غابت الشمس وجبت المغرب ولا يستحب تأخيرها إلى أن يغيب الشفق أما دخول وقت المغرب بغروب الشمس فإجماع أهل العلم لا نعلم بينهم خلافا فيه والأحاديث دالة عليه وآخره‏:‏ مغيب الشفق وبهذا قال الثوري‏,‏ وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي‏,‏ وبعض أصحاب الشافعي وقال مالك والأوزاعي والشافعي ليس لها إلا وقت واحد‏,‏ عند مغيب الشمس لأن جبريل عليه السلام صلاها بالنبى - صلى الله عليه وسلم- في اليومين لوقت واحد في بيان مواقيت الصلاة وقال النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏لا تزال أمتى بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن يشتبك النجم‏)‏ ولأن المسلمين مجمعون على فعلها في وقت واحد في أول الوقت وعن طاوس‏:‏ لا تفوت المغرب والعشاء حتى الفجر ونحوه عن عطاء لما ذكرناه في الظهر والعصر ولنا حديث بريدة ‏(‏‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق‏)‏ وفي لفظ رواه الترمذي‏:‏ ‏(‏فأخر المغرب إلى أن يغيب الشفق‏)‏ وروى أبو موسى ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أخر المغرب في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق‏)‏ رواه مسلم وأبو داود وفي حديث عبد الله بن عمرو‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال ‏(‏وقت المغرب ما لم يغب الشفق‏)‏ رواه مسلم وفي حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏إن للصلاة أولا وآخرا وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس‏,‏ وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق‏)‏ رواه الترمذي وهذه نصوص صحيحة لا يجوز مخالفتها بشيء محتمل ولأنها إحدى الصلوات فكان لها وقت متسع كسائر الصلوات ولأنها إحدى صلاتى جمع‏,‏ فكان وقتها متصلا بوقت التي تجمع إليها كالظهر والعصر ولأن ما قبل مغيب الشفق وقت لاستدامتها فكان وقتا لابتدائها كأول وقتها وأحاديثهم محمولة على الاستحباب والاختيار وكراهة التأخير‏,‏ ولذلك قال الخرقي ‏"‏ ولا يستحب تأخيرها ‏"‏ فإن الأحاديث فيها تأكيد لفعلها في أول وقتها وأقل أحوالها تأكيد الاستحباب وإن قدر أن الأحاديث متعارضة وجب حمل أحاديثهم على أنها منسوخة لأنها في أول فرض الصلاة بمكة وأحاديثنا بالمدينة متأخرة‏,‏ فتكن ناسخة لما قبلها مما يخالفها والله أعلم‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏فإذا غاب الشفق وهو الحمرة في السفر‏,‏ وفي الحضر البياض لأن في الحضر قد تنزل الحمرة فتواريها الجدران فيظن أنها قد غابت فإذا غاب البياض فقد تيقن‏,‏ ووجبت عشاء الآخرة إلى ثلث الليل‏]‏ لا خلاف في دخول وقت العشاء بغيبوبة الشفق وإنما اختلفوا في الشفق ما هو‏؟‏ فمذهب إمامنا -رحمه الله- ‏,‏ أن الشفق الذي يخرج به وقت المغرب ويدخل به وقت العشاء هو الحمرة وهذا قول ابن عمر‏,‏ وابن عباس وعطاء ومجاهد‏,‏ وسعيد بن جبير والزهري ومالك‏,‏ والثوري وابن أبي ليلى والشافعي‏,‏ وإسحاق وصاحبى أبي حنيفة وعن أنس وأبي هريرة‏:‏ الشفق البياض وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز‏,‏ وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وابن المنذر لأن النعمان بن بشير قال‏:‏ أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة صلاة العشاء‏,‏ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يصليها لسقوط القمر لثالثة رواه أبو داود وروي عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يصلي هذه الصلاة حين يسود الأفق‏)‏ ‏.‏

ولنا ما روت عائشة‏,‏ رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالعشاء حتى ناداه عمر بالصلاة‏:‏ نام النساء والصبيان فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ ما ينتظرها أحد غيركم قال‏:‏ ولا يصلي يومئذ إلا بالمدينة وكان يصلون فيما بين أن يغيب الشفق الأول إلى ثلث الليل‏)‏ رواه البخاري والشفق الأول هو الحمرة وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏وقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق‏)‏ رواه أبو داود وروى ‏"‏ ثور الشفق ‏"‏ وفور الشفق‏:‏ فورانه وسطوعه وثوره‏:‏ ثوران حمرته وإنما يتناول هذا الحمرة وآخر وقت المغرب أول وقت العشاء وروي عن ابن عمر‏,‏ عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت العشاء‏)‏ رواه الدارقطني وما رووه لا حجة لهم فيه فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يؤخر الصلاة عن أول الوقت قليلا‏,‏ وهو الأفضل والأولى ولهذا روى عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه ‏(‏قال لبلال‏:‏ اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والمتوضئ من وضوئه‏,‏ والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته‏)‏ إذا ثبت هذا فإنه إن كان في مكان يظهر له الأفق ويبين له مغيب الشفق‏,‏ فمتى ذهبت الحمرة وغابت دخل وقت العشاء وإن كان في مكان يستتر عنه الأفق بالجدران والجبال‏,‏ استظهر حتى يغيب البياض ليستدل بغيبته على مغيب الحمرة فيعتبر غيبة البياض‏,‏ لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏فإذا ذهب ثلث الليل ذهب وقت الاختيار ووقت الضرورة مبقى إلى أن يطلع الفجر الثاني وهو البياض الذي يرى من قبل المشرق‏,‏ فينتشر ولا ظلمة بعده‏]‏ اختلفت الرواية في آخر وقت الاختيار فروى عن أحمد أنه ثلث الليل‏,‏ نص عليه أحمد في رواية الجماعة وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي هريرة‏,‏ وعمر بن عبد العزيز ومالك لأن في حديث جبريل أنه صلى بالنبى - صلى الله عليه وسلم- في المرة الثانية ثلث الليل‏,‏ وقال‏:‏ ‏(‏الوقت فيما بين هذين‏)‏ وفي حديث بريدة ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- صلاها في اليوم الثاني ثلث الليل‏)‏ وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏صلوا فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل‏)‏ وفي حديثها الآخر‏:‏ وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق الأول إلى ثلث الليل ولأن ثلث الليل يجمع الروايات والزيادة تعارضت الأخبار فيها فكان ثلث الليل أولى‏,‏ والرواية الثانية أن آخره نصف الليل وهو قول الثوري وابن المبارك وأبي ثور وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي‏,‏ لما روي عن أنس بن مالك قال‏:‏ ‏(‏أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلاة العشاء إلى نصف الليل‏)‏ رواه البخاري وعن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم‏,‏ لأمرت بهذه الصلاة أن تؤخر إلى شطر الليل‏)‏ رواه أبو داود والنسائي وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال ‏(‏وقت العشاء إلى نصف الليل‏)‏ رواه أبو داود والأولى -إن شاء الله تعالى- أن لا يؤخرها عن ثلث الليل‏,‏ وإن أخرها إلى نصف الليل جاز وما بعد النصف وقت ضرورة الحكم فيه حكم وقت الضرورة في صلاة العصر‏,‏ على ما مضى شرحه وبيانه ثم لا يزال الوقت ممتدا حتى يطلع الفجر الثاني‏.‏

فصل

وتسمى هذه الصلاة العشاء ولا يستحب تسميتها العتمة‏,‏ وكان ابن عمر إذا سمع رجلا يقول‏:‏ العتمة صاح وغضب وقال‏:‏ إنما هو العشاء وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم فإنها العشاء‏,‏ وإنهم يعتمون بالإبل‏)‏ وعن أبي هريرة مثله رواهما ابن ماجه وإن سماها العتمة جاز فقد روى أبو داود بإسناده عن معاذ أنه قال‏:‏ أبقينا - يعنى - انتظرنا - رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في صلاة العتمة ولأن هذا نسبة لها إلى الوقت الذي تجب فيه فأشبهت صلاة الصبح والظهر وسائر الصلوات‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وإذا طلع الفجر الثاني وجبت صلاة الصبح والوقت مبقى إلى ما قبل أن تطلع الشمس‏,‏ ومن أدرك منها ركعة قبل أن تطلع فقد أدركها وهذا مع الضرورة‏]‏ وجملته أن وقت الصبح يدخل بطلوع الفجر الثاني إجماعا وقد دلت عليه أخبار المواقيت‏,‏ وهو البياض المستطير المنتشر في الأفق ويسمى الفجر الصادق لأنه صدقك عن الصبح وبينه لك والصبح ما جمع بياضا وحمرة‏,‏ ومنه سمى الرجل الذي في لونه بياض وحمرة أصبح وأما الفجر الأول فهو البياض المستدق صعدا من غير اعتراض‏,‏ فلا يتعلق به حكم ويسمى الفجر الكاذب ثم لا يزال وقت الاختيار إلى أن يسفر النهار لما تقدم في حديث جبريل وبريدة وما بعد ذلك وقت عذر وضرورة حتى تطلع الشمس لقول النبي - صلى الله عليه وسلم- في حديث عبد الله بن عمرو‏:‏ ‏(‏ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس ومن أدرك منها ركعة قبل أن تطلع الشمس كان مدركا لها‏)‏ وفي إدراكها بما دون ذلك اختلاف قد ذكرناه وقال أصحاب الرأي‏,‏ فيمن طلعت الشمس وقد صلى ركعة‏:‏ تفسد صلاته لأنه صار في وقت نهى عن الصلاة فيه وهذا لا يصح لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح‏)‏ متفق عليه وفي رواية ‏(‏من أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته‏)‏ متفق عليه ولأنه أدرك ركعة من الصلاة في وقتها فكان مدركا لها في وقتها كبقية الصلوات‏,‏ وإنما نهى عن النافلة فأما الفرائض فتصلى في كل وقت بدليل أن قبل طلوع الشمس وقت نهى أيضا‏,‏ ولا يمنع من فعل الفجر فيه‏.‏

فصل

إذا شك في دخول الوقت لم يصل حتى يتيقن دخوله أو يغلب على ظنه ذلك‏,‏ مثل من هو ذو صنعة جرت عادته بعمل شيء مقدر إلى وقت الصلاة أو قارئ جرت عادته بقراءة جزء فقرأه وأشباه هذا‏,‏ فمتى فعل ذلك وغلب على ظنه دخول الوقت أبيحت له الصلاة‏,‏ ويستحب تأخيرها قليلا احتياطا لتزداد غلبة ظنه إلا أن يخشى خروج الوقت‏,‏ أو تكون صلاة العصر في وقت الغيم فإنه يستحب التبكير بها لما روى بريدة قال‏:‏ ‏(‏كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في غزاة‏,‏ فقال‏:‏ بكروا بصلاة العصر في الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله‏)‏ رواه البخاري وابن ماجه ومعناه - والله أعلم - التبكير بها إذا دخل وقت فعلها‏,‏ ليقين أو غلبة ظن وذلك لأن وقتها المختار في زمن الشتاء يضيق‏,‏ فيخشى خروجه‏.‏

فصل

ومن أخبره ثقة عن علم عمل به لأنه خبر ديني فقبل فيه قول الواحد كالرواية وإن أخبره عن اجتهاده لم يقلده‏,‏ واجتهد لنفسه حتى يغلب على ظنه لأنه يقدر على الصلاة باجتهاد نفسه فلم يصل باجتهاد غيره‏,‏ كحالة اشتباه القبلة والبصير والأعمى والمطمور القادر على التوصل إلى الاستدلال سواء لاستوائهم في إمكان التقدير بمرور الزمان كما بينا فمتى صلى في هذه المواضع‏,‏ فبان أنه وافق الوقت أو بعده أجزأه لأنه أدى ما فرض عليه وخوطب بأدائه وإن بان أنه صلى قبل الوقت لم يجزه لأن المخاطبة بالصلاة وسبب الوجوب وجد بعد فعله‏,‏ فلم يسقط حكمه بما وجد قبله وإن صلى من غير دليل مع الشك لم تجزه صلاته سواء أصاب أو أخطأ لأنه صلى مع الشك في شرط الصلاة من غير دليل‏,‏ فلم يصح كما لو اشتبهت عليه القبلة فصلى من غير اجتهاد‏.‏

فصل

وإذا سمع الأذان من ثقة عالم بالوقت فله تقليده لأن الظاهر أنه لا يؤذن إلا بعد دخول الوقت‏,‏ فجرى مجرى خبره وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏المؤذن مؤتمن‏)‏ رواه أبو داود ولولا أنه يقلد ويرجع إليه ما كان مؤتمنا وجاء عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين صلاتهم وصيامهم‏)‏ رواه ابن ماجه ولأن الآذان مشروع للإعلام بالوقت فلو لم يجز تقليد المؤذن لم تحصل الحكمة التي شرع الآذان من أجلها‏,‏ ولم يزل الناس يجتمعون في مساجدهم وجوامعهم في أوقات الصلاة فإذا سمعوا الآذان قاموا إلى الصلاة وبنوا على أذان المؤذن من غير اجتهاد في الوقت‏,‏ ولا مشاهدة ما يعرفونه من غير نكير فكان إجماعا‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏والصلاة في أول الوقت أفضل إلا عشاء الآخرة‏,‏ وفي شدة الحر الظهر‏]‏ وجملته أن الأوقات ثلاثة أضرب‏:‏ وقت فضيلة وجواز وضرورة فأما وقت الجواز والضرورة‏,‏ فقد ذكرناهما وأما وقت الفضيلة فهذا الذي ذكره الخرقي قال أحمد‏:‏ أول الوقت أعجب إلى إلا في صلاتين‏:‏ صلاة العشاء‏,‏ وصلاة الظهر يبرد بها في الحر رواه الأثرم وهكذا كان يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم- قال سيار بن سلامة‏:‏ دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمى فسأله أبى‏:‏ ‏(‏كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يصلي المكتوبة‏؟‏ قال‏:‏ كان يصلي الهجير التي يدعونها الأولى‏,‏ حين تدحض الشمس ويصلى العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية ونسيت ما قال في المغرب قال‏:‏ وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة‏,‏ وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ويقرأ بالستين إلى المائة‏)‏ ‏,‏ وقال جابر ‏(‏كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت‏,‏ والعشاء أحيانا وأحيانا إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم قد أبطئوا أخر‏,‏ والصبح كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يصليها بغلس‏)‏ متفق عليهما وقد روى الأموى في ‏"‏ المغازى ‏"‏ حديثا أسنده إلى عبد الرحمن بن غنم‏,‏ قال‏:‏ حدثنا معاذ بن جبل قال‏:‏ ‏(‏لما بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قال‏:‏ أظهر كبير الإسلام وصغيره‏,‏ وليكن من أكبرها الصلاة فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين إذا كان الشتاء فصل صلاة الفجر في أول الفجر‏,‏ ثم أطل القراءة على قدر ما تطيق ولا تملهم وتكره إليهم أمر الله‏,‏ ثم عجل الصلاة الأولى بعد أن تميل الشمس وصل العصر والمغرب في الشتاء والصيف على ميقات واحد العصر والشمس بيضاء مرتفعة والمغرب حين تغيب الشمس‏,‏ وتوارى بالحجاب وصل العشاء فأعتم بها فإن الليل طويل‏,‏ فإذا كان الصيف فأسفر بالصبح فإن الليل قصير وإن الناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوها‏,‏ وصل الظهر بعد أن ينقص الظل وتتحرك الريح فإن الناس يقيلون فأمهلهم حتى يدركوها‏,‏ وصل العتمة فلا تعتم بها ولا تصلها حتى يغيب الشفق‏)‏ وروى أيضا في كتابه عن عمر أنه قال‏:‏ والصلاة لها وقت شرطه الله لا تصح الصلاة إلا به وقت صلاة الفجر حين يزايل الرجل أهله ويحرم على الصائم الطعام والشراب‏,‏ فأعطوها نصيبها من القراءة ووقت صلاة الظهر إذا كان القيظ واشتد الحر حين يكون ظلك مثلك‏,‏ وذلك حين يهجر المهجر وذلك لئلا يرقد عن الصلاة فإذا كان في الشتاء فحين تزيغ عن الفلك حتى تكون على حاجبك الأيمن والعصر والشمس بيضاء نقية قبل أن تصفر‏,‏ والمغرب حين يفطر الصائم والعشاء حين يغسق الليل وتذهب حمرة الأفق إلى أن يذهب ثلث الليل الأول‏,‏ من نام عنها بعد ذلك فلا أرقد الله عينه هذه مواقيت الصلاة ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ‏}‏‏.‏

فصل

ولا نعلم في استحباب تعجيل الظهر في غير الحر والغيم خلافا قال الترمذي وهو الذي اختاره أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم وذلك لما ثبت من حديث أبي برزة وجابر‏,‏ وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وقالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت أحدا كان أشد تعجيلا للظهر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولا من أبي بكر ولا من عمر قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن وعن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏الوقت الأول من الصلاة رضوان الله والوقت الأخير عفو الله تعالى‏)‏ قال الترمذي هذا حديث غريب وأما في شدة الحر فكلام الخرقي يقتضي استحباب الإبراد بها على كل حال‏,‏ وهو ظاهر كلام أحمد قال الأثرم‏:‏ وعلى هذا مذهب أبي عبد الله سواء يستحب تعجيلها في الشتاء والإبراد بها في الحر وهو قول إسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر لظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة‏,‏ فإن شدة الحر من فيح جهنم‏)‏ رواه الجماعة عن أبي هريرة وهذا عام وقال القاضي‏:‏ إنما يستحب الإبراد بثلاثة شروط‏:‏ شدة الحر وأن يكون في البلدان الحارة ومساجد الجماعات فأما من صلاها في بيته‏,‏ أو في مسجد بفناء بيته فالأفضل تعجيلها وهذا مذهب الشافعي لأن التأخير إنما يستحب لينكسر الحر ويتسع في الحيطان‏,‏ ويكثر السعى إلى الجماعات ومن لا يصلي في جماعة لا حاجة به إلى التأخير وقال القاضي في الجامع لا فرق بين البلدان الحارة وغيرها ولا بين كون المسجد ينتابه الناس أو لا فإن أحمد -رحمه الله- ‏,‏ كان يؤخرها في مسجده ولم يكن بهذه الصفة والأخذ بظاهر الخبر أولى ومعنى الإبراد بها تأخيرها حتى ينكسر الحر ويتسع في الحيطان‏,‏ وفي حديث أبي ذر‏:‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏أبرد حتى رأينا فيء التلول‏)‏ وهذا إنما يكن مع كثرة تأخيرها ولا يؤخرها إلى آخر وقتها‏,‏ بل يصليها في وقت إذا فرغ يكون بينه وبين آخر الوقت فضل وقد روى ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏كان قدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في الصيف ثلاثة أقدام‏,‏ وفي الشتاء خمسة أقدام إلى تسعة أقدام‏)‏ رواه أبو داود والنسائي فأما الجمعة فيسن تعجيلها في كل وقت بعد الزوال من غير إبراد لأن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ ‏(‏كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا زالت الشمس‏)‏ متفق عليه ولم يبلغنا أنه أخرها‏,‏ بل كان يعجلها حتى قال سهل بن سعد‏:‏ ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة أخرجه البخاري ولأن السنة التبكير بالسعى إليها ويجتمع الناس لها‏,‏ فلو أخرها لتأذى الناس بتأخير الجمعة‏.‏

فصل

ذكر القاضي أنه يستحب تأخير الظهر والمغرب في الغيم وتعجيل العصر والعشاء فيه قال‏:‏ ونص عليه أحمد -رحمه الله- في رواية الجماعة منهم المروذي فقال‏:‏ يؤخر الظهر في يوم الغيم ويعجل العصر‏,‏ ويؤخر المغرب ويعجل العشاء وعلل القاضي ذلك بأنه وقت يخاف منه العوارض والموانع من المطر والريح‏,‏ والبرد فتلحق المشقة في الخروج لكل صلاة وفي تأخير الصلاة الأولى من صلاتى الجمع‏,‏ وتعجيل الثانية دفع لهذه المشقة لكونه يخرج إليهما خروجا واحدا فيحصل به الرفق‏,‏ كما يحصل بجمع الصلاتين في وقت إحداهما وبهذا قال أبو حنيفة والأوزاعي وروي عن عمر رضي الله عنه مثل ذلك في الظهر والعصر وعن ابن مسعود‏:‏ يعجل الظهر والعصر‏,‏ ويؤخر المغرب وقال الحسن‏:‏ يؤخر الظهر وظاهر كلام الخرقي أنه يستحب تعجيل الظهر في غير الحر والمغرب في كل حال وهو مذهب الشافعي قال‏:‏ متى غلب على ظنه دخول الوقت باجتهاده استحب له التعجيل ويحتمل أن أحمد -رحمه الله- إنما أراد بتأخير الظهر والمغرب ليتيقن دخول وقتهما‏,‏ ولا يصلي مع الشك وقد نقل أبو طالب كلاما يدل على هذا قال‏:‏ يوم الغيم يؤخر الظهر حتى لا يشك أنها قد حانت ويعجل العصر‏,‏ والمغرب يؤخرها حتى يعلم أنه سواد الليل ويعجل العشاء‏.‏

فصل

وأما العصر فتعجيلها مستحب بكل حال وروى ذلك عن عمر‏,‏ وابن مسعود وعائشة وأنس وابن المبارك وأهل المدينة‏,‏ والأوزاعي والشافعي وإسحاق وروي عن أبي قلابة وابن شبرمة أنهما قالا‏:‏ إنما سميت العصر لتعصر يعنيان أن تأخيرها أفضل وقال أصحاب الرأي‏:‏ الأفضل فعلها في آخر وقتها المختار لما روى رافع بن خديج‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بتأخير العصر وعن على بن شيبان قال‏:‏ ‏(‏قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فكان يؤخر العصر ما دامت بيضاء نقية‏)‏ رواه أبو داود ولأنها آخر صلاتى جمع فاستحب تأخيرها كصلاة العشاء ‏.‏

ولنا ما ذكرناه من حديث أبي برزة‏,‏ وقال رافع بن خديج ‏(‏كنا نصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر ثم ينحر الجزور فيقسم عشرة أجزاء‏,‏ ثم يطبخ فيؤكل لحما نضيجا قبل مغيب الشمس‏)‏ متفق عليه وعن أبي أمامة قال‏:‏ ‏"‏ صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر فقلنا يا أبا عمارة ما هذه الصلاة التي صليت‏؟‏ قال‏:‏ العصر وهذه صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- التي كنا نصليها معه رواه البخاري ومسلم وعن أبي المليح‏,‏ قال‏:‏ كنا مع أبي بريدة في غزوة في يوم ذى غيم فقال‏:‏ بكروا الصلاة للعصر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من فاتته صلاة العصر حبط عمله‏)‏ رواه البخاري وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏الوقت الأول من الصلاة رضوان الله والوقت الآخر عفو الله‏)‏ يرويه عبد الله بن عمر العمرى قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث غريب وأما حديث رافع الذي احتجوا به فلا يصح قاله الترمذي وقال الدارقطني‏:‏ يرويه عبد الواحد بن نافع وليس بالقوي‏,‏ ولا يصح عن رافع ولا عن غيره من الصحابة والصحيح عنهم تعجيل صلاة العصر والتبكير بها‏.‏

فصل

وأما المغرب فلا خلاف في استحباب تقديمها في غير حال العذر‏,‏ وهو قول أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم قاله الترمذي وقد ذكرنا في حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يصليها إذا وجبت وقال رافع بن خديج ‏(‏كنا نصلى المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم- فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله‏,‏‏)‏ متفق عليه وعن أنس مثله رواه أبو داود وعن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ ‏(‏كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس‏,‏ إذا غاب حاجبها‏)‏ رواه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح وهذا لفظ أبي داود وفعل جبريل لها في اليومين في وقت واحد دليل على تأكيد استحباب تقديمها‏.‏

فصل

وأما صلاة العشاء فيستحب تأخيرها إلى آخر وقتها إن لم يشق‏,‏ وهو اختيار أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- والتابعين قاله الترمذي وحكي عن الشافعي أن الأفضل تقديمها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏الوقت الأول رضوان الله‏,‏ والوقت الآخر عفو الله‏)‏ وروى القاسم بن غنام عن بعض أمهاته عن أم فروة‏,‏ قالت‏:‏ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة لأول وقتها‏)‏ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يكن يؤخرها وإنما أخرها ليلة واحدة ولا يفعل إلا الأفضل ولنا قول أبي برزة‏:‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يستحب أن يؤخر من العشاء التي يدعونها العتمة وقول النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه‏)‏ وهو حديث حسن صحيح‏,‏ وأحاديثهم ضعيفة أما خبر ‏"‏ الوقت الأول رضوان الله ‏"‏ فيرويه عبد الله بن عمر العمرى وهو ضعيف وحديث أم فروة رواته مجاهيل قال أحمد -رحمه الله-‏:‏ لا أعلم شيئا ثبت في أوقات الصلاة‏:‏ أولها كذا وأوسطها كذا‏,‏ وآخرها كذا يعنى مغفرة ورضوانا وقال‏:‏ ليس ذا ثابتا ولو ثبت فالأخذ بأحاديثنا الخاصة أولى من الأخذ بالعموم مع صحة أخبارنا‏,‏ وضعف أخبارهم‏.‏

فصل

وإنما يستحب تأخيرها للمنفرد والجماعة راضين بالتأخير فأما مع المشقة على المأمومين أو بعضهم فلا يستحب بل يكره نص عليه أحمد -رحمه الله- قال الأثرم‏:‏ قلت لأبي عبد الله‏:‏ كم قدر تأخير العشاء‏؟‏ فقال ما قد بعد أن لا يشق على المأمومين وقد ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تأخير العشاء‏,‏ والأمر بتأخيرها كراهية المشقة على أمته وقال النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏من شق على أمتى شق الله عليه‏)‏ وإنما نقل التأخير عنه مرة أو مرتين‏,‏ ولعله كان لشغل أو إتيان آخر الوقت وأما في سائر أوقاته فإنه كان يصليها‏,‏ على ما رواه جابر أحيانا وأحيانا إذا رآهم قد اجتمعوا عجل وإذا رآهم قد أبطئوا أخر وعلى ما رواه النعمان بن بشير‏,‏ أنه كان يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة فيستحب للإمام الاقتداء بالنبى - صلى الله عليه وسلم- في إحدى هاتين الحالتين ولا يؤخرها تأخيرا يشق على المأمومين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالتخفيف رفقا بالمأمومين‏,‏ وقال‏:‏ ‏(‏إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي‏,‏ فأخففها كراهية أن أشق على أمه‏)‏ متفق عليه‏.‏

فصل

وأما صلاة الصبح فالتغليس بها أفضل وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق وروي عن أبي بكر‏,‏ وعمر وابن مسعود وأبي موسى وابن الزبير‏,‏ وعمر بن عبد العزيز ما يدل على ذلك قال ابن عبد البر‏:‏ صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وعن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون‏,‏ ومحال أن يتركوا الأفضل ويأتوا الدون وهم النهاية في إتيان الفضائل وروي عن أحمد‏,‏ -رحمه الله- أن الاعتبار بحال المأمومين فإن أسفروا فالأفضل الإسفار لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك في العشاء‏,‏ كما ذكر جابر فكذلك في الفجر وقال الثوري وأصحاب الرأي‏:‏ الأفضل الإسفار لما روى رافع بن خديج‏,‏ قال‏:‏ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح ‏.‏

ولنا ما تقدم من حديث جابر وأبي برزة وقول عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يصلي الصبح‏,‏ فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس‏)‏ متفق عليه وعن أبي مسعود الأنصاري ‏(‏أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- غلس بالصبح ثم أسفر مرة‏,‏ ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله‏)‏ رواه أبو داود قال الخطابي‏:‏ وهو صحيح الإسناد وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم- صلاة لوقتها الآخر مرتين حتى قبضه الله‏)‏ وهذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل فأما الإسفار المذكور في حديثهم‏,‏ فالمراد به تأخيرها حتى يتبين طلوع الفجر وينكشف يقينا من قولهم‏:‏ أسفرت المرأة إذا كشفت وجهها‏.‏

فصل

ولا يأثم بتعجيل الصلاة التي يستحب تأخيرها‏,‏ ولا بتأخير ما يستحب تعجيله إذا أخره عازما على فعله ما لم يخرج الوقت‏,‏ أو يضيق عن فعل العبادة جميعها لأن جبريل صلاها بالنبى - صلى الله عليه وسلم- في أول الوقت وآخره وصلاها النبي - صلى الله عليه وسلم- في أول الوقت وآخره ‏(‏وقالا‏:‏ الوقت ما بين هذين‏)‏ ولأن الوجوب موسع فهو كالتكفير يجب موسعا بين الأعيان‏,‏ فإن أخر غير عازم على الفعل أثم بذلك التأخير المقترن بالعزم وإن أخرها بحيث لم يبق من الوقت ما يتسع لجميع الصلاة أثم أيضا لأن الركعة الأخيرة من جملة الصلاة فلا يجوز تأخيرها عن الوقت‏,‏ كالأولى‏.‏

فصل

وإن أخر الصلاة عن أول وقتها بنية فعلها فمات قبل فعلها لم يكن عاصيا‏,‏ لأنه فعل ما يجوز له فعله والموت ليس من فعله فلا يأثم به‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وإذا طهرت الحائض‏,‏ وأسلم الكافر وبلغ الصبى قبل أن تغيب الشمس صلوا الظهر فالعصر‏,‏ وإن بلغ الصبى وأسلم الكافر وطهرت الحائض قبل أن يطلع الفجر‏,‏ صلوا المغرب وعشاء الآخرة‏]‏ وروى هذا القول في الحائض تطهر عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وطاوس‏,‏ ومجاهد والنخعي والزهري‏,‏ وربيعة ومالك والليث‏,‏ والشافعي وإسحاق وأبي ثور قال الإمام أحمد‏:‏ عامة التابعين يقولون بهذا القول‏,‏ إلا الحسن وحده قال‏:‏ لا تجب إلا الصلاة التي طهرت في وقتها وحدها وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأن وقت الأولى خرج في حال عذرها فلم تجب كما لو لم يدرك من وقت الثانية شيئا وحكي عن مالك أنه إذا أدرك قدر خمس ركعات من وقت الثانية‏,‏ وجبت الأولى لأن قدر الركعة الأولى من الخمس وقت للصلاة الأولى في حال العذر فوجبت بإدراكه كما لو أدرك ذلك من وقتها المختار‏,‏ بخلاف ما لو أدرك دون ذلك ‏.‏

ولنا ما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما‏,‏ بإسنادهم عن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة‏:‏ تصلي المغرب والعشاء‏,‏ فإذا طهرت قبل أن تغرب الشمس صلت الظهر والعصر جميعا ولأن وقت الثانية وقت للأولى حال العذر فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها‏,‏ كما يلزمه فرض الثانية‏.‏

فصل

والقدر الذي يتعلق به الوجوب قدر تكبيرة الإحرام وقال الشافعي‏:‏ قدر ركعة لأن ذلك هو الذي روى عن عبد الرحمن وابن عباس ولأنه إدراك تعلق به إدراك الصلاة فلم يكن بأقل من ركعة كإدراك الجمعة وقال مالك‏:‏ خمس ركعات ولنا أن ما دون الركعة تجب به الثانية‏,‏ فوجبت به الأولى كالركعة والخمس عند مالك ولأنه إدراك فاستوى فيه القليل والكثير‏,‏ كإدراك المسافر صلاة المقيم فأما الجمعة فإنما اعتبرت الركعة بكمالها لكون الجماعة شرطا فيها فاعتبر إدراك ركعة كي لا يفوته شرطها في معظمها بخلاف مسألتنا‏.‏

فصل

وإن أدرك المكلف من وقت الأولى من صلاتى الجمع قدرا تجب به‏,‏ ثم جن أو كانت امرأة فحاضت أو نفست ثم زال العذر بعد وقتها‏,‏ لم تجب الثانية في إحدى الروايتين ولا يجب قضاؤها وهذا اختيار ابن حامد والأخرى‏:‏ يجب ويلزم قضاؤها لأنها إحدى صلاتى الجمع فوجبت بإدراك جزء من وقت الأخرى‏,‏ كالأولى ووجه الأولى أنه لم يدرك جزءا من وقتها ولا وقت تبعها فلم تجب‏,‏ كما لو لم يدرك من وقت الأولى شيئا وفارق مدرك وقت الثانية فإنه أدرك وقت تبع الأولى‏,‏ فإن الأولى تفعل في وقت الثانية متبوعة مقصودة يجب تقديمها والبداية بها بخلاف الثانية مع الأولى‏,‏ ولأن من لا يجوز الجمع إلا في وقت الثانية ليس وقت الأولى عنده وقتا للثانية بحال فلا يكون مدركا لشيء من وقتها ووقت الثانية وقت لهما جميعا‏,‏ لجواز فعل الأولى في وقت الثانية ومن جوز الجمع في وقت الأولى فإنه يجوز تقديم الثانية رخصة تحتاج إلى نية التقديم‏,‏ وترك التفريق ومتى أخر الأولى إلى الثانية كانت مفعولة لا واجبة لا يجوز تركها‏,‏ ولا يجب نية جمعها ولا يشترط ترك التفريق بينهما فلا يصح قياس الثانية على الأولى‏,‏ والأصل أن لا تجب صلاة إلا بإدراك وقتها‏.‏

فصل

وهذه المسألة تدل على أن الصلاة لا تجب على صبي ولا كافر ولا حائض إذ لو كانت الصلاة واجبة عليهم لم يكن لتخصيص القضاء بهذه الحال معنى‏,‏ وهذا الصحيح في المذهب فأما الحائض فقد ذكرنا حكمها في بابها وأما الكافر فإن كان أصليا لم يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في حال كفره‏,‏ بغير خلاف نعلمه وقد قال الله تعالى ‏{‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏}‏ وأسلم في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم- خلق كثير وبعده‏,‏ فلم يؤمر أحد منهم بقضاء ولأن في إيجاب القضاء عليه تنفيرا عن الإسلام فعفي عنه وقد اختلف أهل العلم في خطابه بفروع الإسلام في حال كفره‏,‏ مع إجماعهم على أنه لا يلزمه قضاؤها بعد إسلامه وحكي عن أحمد في هذا روايتان وأما المرتد فذكر أبو إسحاق بن شاقلا عن أحمد‏,‏ في وجوب القضاء عليه روايتين‏:‏ إحداهما‏:‏ لا يلزمه وهو ظاهر كلام الخرقي في هذه المسألة فعلى هذا لا يلزمه قضاء ما ترك في حال كفره‏,‏ ولا في حال إسلامه قبل ردته ولو كان قد حج لزمه استئنافه لأن عمله قد حبط بكفره بدليل قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ فصار كالكافر الأصلى في جميع أحكامه والثانية‏:‏ يلزمه قضاء ما ترك من العبادات في حال ردته وإسلامه قبل ردته‏,‏ ولا يجب عليه إعادة الحج لأن العمل إنما يحبط بالإشراك مع الموت لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة‏}‏ فشرط الأمرين لحبوط العمل وهذا مذهب الشافعي لأن المرتد أقر بوجوب العبادات عليه‏,‏ واعتقد ذلك وقدر على التسبب إلى أدائها فلزمه ذلك كالمحدث ولو حاضت المرأة المرتدة لم يلزمها قضاء الصلاة في زمن حيضها لأن الصلاة غير واجبة عليها في تلك الحال وذكر القاضي رواية ثالثة‏,‏ أنه لا قضاء عليه لما ترك في حال ردته لأنه تركه في حال لم يكن مخاطبا بها لكفره وعليه قضاء ما ترك في إسلامه قبل الردة ولأنه كان واجبا عليه ومخاطبا به قبل الردة‏,‏ فبقي الوجوب عليه بحاله قال‏:‏ وهذا المذهب وهو قول أبي عبد الله بن حامد وعلى هذا لا يلزمه استئناف الحج إن كان قد حج لأن ذمته برئت منه بفعله قبل الردة فلا يشتغل به بعد ذلك‏,‏ كالصلاة التي صلاها في إسلامه ولأن الردة لو أسقطت حجه وأبطلته لأبطلت سائر عباداته المفعولة قبل ردته‏.‏

فصل

فأما الصبى العاقل فلا تجب عليه في أصح الروايتين وعنه أنها تجب على من بلغ عشرا وسنذكر ذلك -إن شاء الله تعالى- فعلى قولنا إنها لا تجب عليه متى صلى في الوقت‏,‏ ثم بلغ فيه بعد فراغه منها وفي أثنائها فعليه إعادتها وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي‏:‏ يجزئه‏,‏ ولا يلزمه إعادتها في الموضعين لأنه أدى وظيفة الوقت فلم يلزمه إعادتها كالبالغ ولنا‏,‏ أنه صلى قبل وجوبها عليه وقبل سبب وجوبها فلم تجزه عما وجد سبب وجوبها عليه‏,‏ كما لو صلى قبل الوقت ولأنه صلى نافلة فلم تجزه عن الواجب‏,‏ كما لو نوى نفلا ولأنه بلغ في وقت العبادة وبعد فعلها فلزمته إعادتها كالحج‏,‏ ووظيفة الوقت في حق البالغ ظهرا واجبة ولم يأت بها‏.‏

فصل

والمجنون غير مكلف ولا يلزمه قضاء ما ترك في حال جنونه‏,‏ إلا أن يفيق وقت الصلاة فيصير كالصبى يبلغ ولا نعلم في ذلك خلافا وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ‏,‏ وعن الصبى حتى يشب وعن المعتوه حتى يعقل‏)‏ أخرجه أبو داود وابن ماجه‏,‏ والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن ولأن مدته تطول غالبا فوجوب القضاء عليه يشق‏,‏ فعفي عنه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏والمغمى عليه يقضى جميع الصلوات التي كانت في حال إغمائه‏]‏ وجملة ذلك أن المغمى عليه حكمه حكم النائم لا يسقط عنه قضاء شيء من الواجبات التي يجب قضاؤها على النائم كالصلاة والصيام وقال مالك والشافعي‏:‏ لا يلزمه قضاء الصلاة إلا أن يفيق في جزء من وقتها لأن عائشة ‏(‏سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يغمى عليه‏,‏ فيترك الصلاة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ليس من ذلك قضاء إلا أن يغمى عليه فيفيق في وقتها‏,‏ فيصليها‏)‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن أغمى عليه خمس صلوات قضاها وإن زادت سقط فرض القضاء في الكل لأن ذلك يدخل في التكرار فأسقط القضاء‏,‏ كالجنون ‏.‏

ولنا ما روى أن عمارا غشى عليه أياما لا يصلي ثم استفاق بعد ثلاث‏,‏ فقال‏:‏ هل صليت‏؟‏ فقيل‏:‏ ما صليت منذ ثلاث فقال‏:‏ أعطونى وضوءا فتوضأ ثم صلى تلك الليلة وروى أبو مجلز‏,‏ أن سمرة بن جندب قال‏:‏ المغمى عليه - يترك الصلاة أو فيترك الصلاة - يصلي مع كل صلاة صلاة مثلها قال‏:‏ قال عمران‏:‏ زعم‏,‏ ولكن ليصلهن جميعا وروى الأثرم هذين الحديثين في ‏"‏ سننه ‏"‏ وهذا فعل الصحابة وقولهم ولا نعرف لهم مخالفا فكان إجماعا ولأن الإغماء لا يسقط فرض الصيام‏,‏ ولا يؤثر في استحقاق الولاية على المغمى عليه فأشبه النوم فأما حديثهم فباطل يرويه الحاكم بن سعد وقد نهى أحمد -رحمه الله- ‏,‏ عن حديثه وضعفه ابن المبارك وقال البخاري‏:‏ تركوه وفي إسناده خارجة بن مصعب ولا يصح قياسه على المجنون لأن المجنون تتطاول مدته غالبا‏,‏ وقد رفع القلم عنه ولا يلزمه صيام ولا شيء من أحكام التكليف‏,‏ وتثبت الولاية عليه ولا يجوز على الأنبياء عليهم السلام والإغماء بخلافه‏,‏ وما لا يؤثر في إسقاط الخمس لا يؤثر في إسقاط الزائد عليها كالنوم‏.‏

فصل

ومن شرب دواء فزال عقله به نظرت فإن كان زوالا لا يدوم كثيرا فهو كالإغماء‏,‏ وإن كان يتطاول فهو كالجنون وأما السكر ومن شرب محرما يزيل عقله وقتا دون وقت‏,‏ فلا يؤثر في إسقاط التكليف وعليه قضاء ما فاته في حال زوال عقله لا نعلم فيه خلافا ولأنه إذا وجب عليه القضاء بالنوم المباح فبالسكر المحرم أولى‏.‏

فصل

وما فيه من السموم من الأدوية إن كان الغالب من شربه واستعماله الهلاك به أو الجنون لم يبح شربه، وإن كان الغالب منه السلامة ويرجى منه المنفعة فالأولى اباحة شربه لدفع ما هو أخطر منه كغيره من الأدوية .ويحتمل أن لا يباح لأنه يعرض نفسه للهلاك فلم يبح كما لو لم يرد به التداوي والاول أصح ، لأن كثير من الأدوية يخاف منه وقد أبيح لدفع ما هو أضر منه . فإذا قلنا يحرم شربه فهو كالمحرمات من الخمر ونحوه. وإن قلنا يباح فهو كسائر الأدوية المباحة والله أعلم.