فصل: مسألة: فيما لو شهدا بالعبد أو الأمة لغير مالكه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإن كانت شهادتهما بمال‏,‏ غرماه ولم يرجع به على المحكوم له به سواء كان المال قائما أو تالفا ‏]‏

أما كونه لا يرجع به على المحكوم له به فلا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا‏,‏ سوى ما حكيناه عن سعيد بن المسيب والأوزاعي وقد ذكرنا الكلام معهما فيما مضى فأما الرجوع به على الشاهدين فهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي القديم‏,‏ وقال في الجديد لا يرجع عليهما بشيء إلا أن يشهدا بعتق عبد فيضمنا قيمته لأنه لم يوجد منهما إتلاف للمال ولا يد عادية عليه‏,‏ فلم يضمنا كما لو ردت شهادتهما ولنا أنهما أخرجا ماله من يده بغير حق‏,‏ وحالا بينه وبينه فلزمهما الضمان كما لو شهدا بعتقه‏,‏ ولأنهما أزالا يد السيد عن عبده بشهادتهما المرجوع عنها فأشبه ما لو شهدا بحريته ولأنهما تسببا إلى إتلاف حقه بشهادتهما بالزور عليه فلزمهما الضمان كشاهدي القصاص يحقق هذا‏,‏ أنه إذا ألزمهما القصاص الذي يدرأ بالشبهات فوجوب المال أولى وقولهم‏:‏ إنهما ما أتلفا المال يبطل بما إذا شهدا بعتقه فإن الرق في الحقيقة لا يزول بشهادة الزور‏,‏ وإنما حالا بين سيده وبينه وفي موضع إتلاف المال فهما تسببا إلى تلفه‏,‏ فيلزمهما ضمان ما تلف بسببهما كشاهدي القصاص وشهود الزنى‏,‏ وحافر البئر وناصب السكين‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإن كان المحكوم به عبدا أو أمة غرما قيمته ‏]‏

أما إذا شهدا بالعبد أو الأمة لغير مالكه‏,‏ فالحكم في ذلك كالحكم في الشهادة بالمال على ما ذكرنا من الخلاف فيه لأنها من جملة المال وإن شهدا بحريتهما ثم رجعا عن الشهادة لزمهما غرامة قيمتها لسيدهما‏,‏ بغير خلاف بينهم فيه فإن المخالف في التي قبلها هو الشافعي وقد وافق ها هنا‏,‏ وهو حجة عليه فيما خالف فيه فإن إخراج العبد عن يد سيده بالشهادة بحريته كإخراجه عنها بالشهادة به لغير مالكه‏,‏ فإذا لزمه الضمان ثم لزمه ها هنا وغرما القيمة لأن العبيد من المتقومات‏,‏ لا من ذوات الأمثال‏.‏

فصل‏:‏

وإن شهدا بطلاق امرأة تبين به فحكم الحاكم بالفرقة ثم رجعا عن الشهادة‏,‏ وكان قبل الدخول فالواجب عليهما نصف المسمى وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه‏:‏ يجب مهر المثل لأنهما أتلفا عليه البضع‏,‏ فلزمهما عوضه وهو مهر المثل وفي القول الآخر لزمهما نصف مهر المثل لأنه إنما ملك نصف البضع‏,‏ بدليل أنه إنما يجب عليه نصف المهر ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم بدليل ما لو أخرجته من ملكه بردتها أو إسلامها أو قتلها نفسها‏,‏ فإنها لا تضمن شيئا ولو فسخت نكاحها قبل الدخول برضاع من ينفسخ به نكاحها لم يغرم شيئا‏,‏ وإنما وجب عليهما نصف المسمى لأنهما ألزماه للزوج بشهادتهما وقراره عليه فرجع عليهما‏,‏ كما يرجع به على من فسخ نكاحه برضاع أو غيره وقوله‏:‏ إنه ملك نصف البضع غير صحيح فإن البضع لا يجوز تمليك نصفه ولأن العقد ورد على جميعه والصداق واجب جميعه‏,‏ ولهذا تملكه المرأة إذا قبضته ونماؤه لها وتملك طلبه إذا لم تقبضه‏,‏ وإنما يسقط نصفه بالطلاق وأما إن كان الحكم بالفرقة بعد الدخول فلا ضمان عليهما وبه قال أبو حنيفة وعن أحمد رواية أخرى‏,‏ عليهما ضمان المسمى في الصداق لأنهما فوتا عليه نكاحا وجب عليه به عوض فكان عليهما ضمان ما وجب به كما لو شهدا بذلك قبل الدخول وقال الشافعي‏:‏ يلزمهما له مهر المثل لأنهما أتلفا البضع عليه وقد سبق الكلام معه في هذا ولا يصح القياس على ما قبل الدخول لأنهما قررا عليه نصف المسمى‏,‏ وكان بعرض السقوط وها هنا قد تقرر المهر كله بالدخول فلم يقررا عليه شيئا ولم يخرجا من ملكه متقوما‏,‏ فأشبه ما لو أخرجاه من ملكه بقتلها أو أخرجته هي بردتها‏.‏

فصل‏:‏

وإن شهدا على امرأة بنكاح فحكم به الحاكم‏,‏ ثم رجعا نظرت فإن طلقها الزوج قبل دخوله بها لم يغرما شيئا لأنهما لم يفوتا عليها شيئا وإن دخل بها‏,‏ وكان الصداق المسمى بقدر مهر المثل أو أكثر منه ووصل إليها‏,‏ فلا شيء عليهما لأنها أخذت عوض ما فوتاه عليها وإن كان دونه فعليهما ما بينهما‏,‏ وإن لم يصل إليهما فعليهما ضمان مهر مثلها لأنه عوض ما فوتاه عليها‏.‏

فصل‏:‏

وإن شهدا بكتابة عبده ثم رجعا‏,‏ نظرت فإن عجز ورد في الرق فلا شيء عليهما وإن أدى‏,‏ وعتق فعليهما ضمان جميعه لأنهما فوتاه عليه بشهادتهما ويحتمل أن يلزمهما ما بين قيمته وما قبضه من كتابته والأول أولى لأن ما قبضه من كسب عبده‏,‏ فلا يحسب عليه وإن أراد تغريمهما بشهادتهما ويحتمل أن يلزمهما قبل انكشاف الحال فينبغي أن يغرمهما ما بين قيمته سليما ومكاتبا وإن شهدا باستيلاد أمته‏,‏ ثم رجعا فينبغي أن يرجع عليهما بما نقصتها الشهادة من قيمتها وإن عتقت بموته رجع الورثة بما بقي من قيمتها‏.‏

فصل‏:‏

وكل موضع وجب الضمان على الشهود بالرجوع‏,‏ وجب أن يوزع بينهم على عددهم قلوا أو كثروا قال أحمد في رواية إسحاق بن منصور‏:‏ إذا شهد بشهادة‏,‏ ثم رجع وقد أتلف مالا فإنه ضامن بقدر ما كانوا في الشهادة فإن كانوا اثنين‏,‏ فعليه النصف وإن كانوا ثلاثة فعليه الثلث وعلى هذا لو كانوا عشرة‏,‏ فعليه العشر وسواء رجع وحده أو رجعوا جميعا‏,‏ وسواء رجع الزائد عن القدر الكافي في الشهادة أو من ليس بزائد فلو شهد أربعة بالقصاص‏,‏ فرجع واحد منهم وقال‏:‏ عمدنا قتله فعليه القصاص وإن قال‏:‏ أخطأنا فعليه ربع الدية وإن رجع اثنان فعليهما القصاص أو نصف الدية وإن شهد ستة بالزنى على محصن‏,‏ فرجم بشهادتهم ثم رجع واحد فعليه القصاص‏,‏ أو سدس الدية وإن رجع اثنان فعليهما القصاص أو ثلث الدية وبهذا قال أبو عبيد وقال أبو حنيفة‏:‏ إن رجع واحد أو اثنان فلا شيء عليهما لأن بينة الزنى قائمة‏,‏ فدمه غير محقون وإن رجع ثلاثة فعليهم ربع الدية وإن رجع أربعة فعليهم نصف الدية وإن رجع خمسة‏,‏ فعليهم ثلاثة أرباعها وإن رجع الستة فعلى كل واحد منهم سدسها ومنصوص الشافعي فيما إذا رجع اثنان كمذهب أبي حنيفة واختلف أصحابه فيما إذا شهد بالقصاص ثلاثة‏,‏ فرجع أحدهم فقال أبو إسحاق‏:‏ لا قصاص عليه لأن بينة القصاص قائمة وهل يجب عليه ثلث الدية‏؟‏ على وجهين وقال ابن الحداد‏:‏ عليه القصاص وفرق بينه وبين الراجع من شهود الزنى إذا كان زائدا‏,‏ فإن دم المشهود عليه بالزنى غير محقون وهذا دمه محقون وإنما أبيح دمه لولى القصاص وحده واختلفوا فيما إذا شهد بالمال ثلاثة فرجع أحدهم‏,‏ على وجهين أحدهما يضمن الثلث والثاني لا شيء عليه ولنا‏,‏ أن الإتلاف حصل بشهادتهم فالراجع مقر بالمشاركة فيه عمدا عدوانا لمن هو مثله في ذلك فلزمه القصاص‏,‏ كما لو أقر بمشاركتهم في مباشرة قتله ولأنه أحد من قتل المشهود عليه بشهادته فأشبه الثاني من شهود القصاص‏,‏ والرابع من شهود الزنى ولأنه أحد من حصل الإتلاف بشهادته فلزمه من الضمان بقسطه‏,‏ كما لو رجع الجميع ولأن ما تضمنه كل واحد مع اتفاقهم على الرجوع يضمنه إذا انفرد بالرجوع‏,‏ كما لو كانوا أربعة وقولهم‏:‏ إن دمه غير محقون غير صحيح فإن الكلام فيما إذا قتل ولم يبق له دم يوصف بحقن ولا عدمه وقيام الشهادة لا يمنع وجوب القصاص‏,‏ كما لو شهدت لرجل باستحقاق القصاص فاستوفاه ثم أقر بأنه قتله ظلما‏,‏ وأن الشهود شهدوا بالزور والتفريق بين القصاص والرجم بكون دم القاتل غير محقون لا يصح لأنه غير محقون بالنسبة إلى من قتله‏,‏ ولأن كل واحد مؤاخذ بإقراره ولا يعتبر قول شريكه ولهذا لو أقر أحد الشريكين بعمدهما وقال الآخر‏:‏ أخطأنا وجب القصاص على المقر بالعمد‏.‏

فصل‏:‏

وإذا حكم الحاكم في المال بشهادة رجل وامرأتين‏,‏ ثم رجعوا عن الشهادة توزع الضمان عليهم على الرجل نصفه وعلى كل امرأة ربعه إن رجع أحدهم وحده‏,‏ فعليه من الضمان حصته وإن كان الشهود رجلا وعشر نسوة فرجعوا فعلى الرجل السدس‏,‏ وعلى كل امرأة نصف السدس وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأن كل امرأتين كرجل فالعشر كخمسة رجال ويحتمل أن يجب عليهن النصف وعلى الرجل النصف وبهذا قال أبو يوسف ومحمد لأن الرجل نصف البينة‏,‏ بدليل أنه لو رجع وحده بعد الحكم كان كرجوعهن كلهن فيكون الرجل حزبا والنساء حزبا فإن رجع بعض النسوة وحده‏,‏ أو الرجل فعلى الراجع مثل ما عليه إذا رجع الجميع وعند أبي حنيفة وأصحابه متى رجع من النسوة ما زاد على اثنين‏,‏ فليس على الراجعات شيء وقد مضى الكلام معهم في هذا‏.‏

فصل‏:‏

وإذا شهد أربعة بأربعمائة فحكم الحاكم بها‏,‏ ثم رجع واحد عن مائة وآخر عن مائتين والثالث عن ثلاثمائة‏,‏ والرابع عن أربعمائة فعلى كل واحد مما رجع عنه بقسطه فعلى الأول خمسة وعشرون وعلى الثاني خمسون‏,‏ وعلى الثالث‏:‏ خمسة وسبعون وعلى الرابع‏:‏ مائة لأن كل واحد منهم مقر بأنه فوت على المشهود عليه ربع ما رجع عنه ويقتضي مذهب أبي حنيفة أن لا يلزم الراجع عن الثلاثمائة والأربعمائة أكثر من خمسين خمسين لأن المائتين لا تلزم الراجع عن الثلاثمائة لأن المائتين التي رجعا عنهما قد بقي بها شاهدان‏.‏

فصل‏:‏

وإذا شهد أربعة بالزنى‏,‏ واثنان بالإحصان فرجم ثم رجعوا عن الشهادة‏,‏ فالضمان على جميعهم وقال أبو حنيفة‏:‏ لا ضمان على شهود الإحصان لأنهم شهدوا بالشرط دون السبب الموجب للقتل وإنما يثبت ذلك بشهادة الزنى ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين ولنا‏,‏ أن قتله حصل بمجموع الشهادتين فتجب الغرامة على الجميع كما لو شهدوا جميعهم بالزنى وفي كيفية الضمان وجهان أحدهما‏,‏ يوزع عليهم على عدد رءوسهم كشهود الزنى لأن القتل حصل من جميعهم والثاني على شهود الزنى النصف‏,‏ وعلى شهود الإحصان النصف لأنهم حزبان فلكل حزب نصف فإن شهد أربعة بالزنى واثنان منهم بالإحصان ثم رجعوا‏,‏ فعلى الوجه الأول على شاهدي الإحصان الثلثان وعلى الآخرين الثلث لأن على شاهدي الإحصان الثلث‏,‏ لشهادتهما به والثلث لشهادتهما بالزنى وعلى الآخرين الثلث لشهادتهما بالزنى وحده وعلى الوجه الثاني‏,‏ على شهود الإحصان ثلاثة أرباع الدية لأن عليهما النصف لشهادتهما بالإحصان ونصف الباقي لشهادتهما بالزنى ويحتمل أن لا يجب على شاهدي الإحصان إلا النصف لأن كل واحد منهما جنى جنايتين وجنى كل واحد من الآخرين جناية واحدة‏,‏ فكانت الدية بينهم على عدد رءوسهم لا على عدد جناياتهم كما لو قتل اثنان واحدا‏,‏ جرحه أحدهما جرحا والآخر جرحين‏.‏

فصل‏:‏

وإذا شهد شاهدان أنه أعتق هذا العبد على ضمان مائة درهم، وقيمة العبد مائتان، فحكم الحاكم بشهادتهما، ثم رجعا، رجع السيد على الشاهدين بمائة؛ لأنها تمام القيمة‏.‏ وكذلك لو شهدا على رجل أنه طلق زوجته قبل الدخول على مائة، ونصف المسمى مائتان، غرما للزوج مائة؛ لأنهما فوتاها بشهادتهما المرجوع عنها‏.‏

فصل‏:‏

وإذا شهد رجلان على رجل بنكاح امرأة بصداق ذكراه‏,‏ وشهد آخران بدخوله بها ثم رجعوا بعد الحكم عليه بصداقها فعلى شهود النكاح الضمان لأنهم ألزموه المسمى ويحتمل أن يكون عليهم النصف‏,‏ وعلى الآخرين النصف لأنهما قرراه وشاهدا النكاح أوجباه فقسم بين الأربعة أرباعا وإن شهد مع هذا شاهدان بالطلاق‏,‏ لم يلزمهما شيء لأنهما لم يفوتا عليه شيئا يدعيه ولا أوجبا عليه ما لم يكن عليه واجبا‏.‏

فصل‏:‏

وإن شهد شاهدا فرع على شاهدي أصل فحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجع شاهدا الفرع‏,‏ فعليهما الضمان لا أعلم بينهم في ذلك خلافا وإن رجع شاهدا الأصل وحدهما لزمهما الضمان أيضا وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن وحكى أبو الخطاب عن القاضي‏,‏ أنه لا ضمان عليهما وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأن الحكم تعلق بشهادة شاهدي الفرع بدليل أنهما جعلا شهادة شاهدي الأصل شهادة لم يلزم شاهدي الأصل ضمان‏,‏ لعدم تعلق الحكم بشهادتهما ولنا أن الحق ثبت بشهادة شاهدي الأصل بدليل اعتبار عدالتهما فإذا رجعا‏,‏ ضمنا كشاهدي الفرع‏.‏

فصل‏:‏

وإذا حكم الحاكم بشاهد ويمين فرجع الشاهد‏,‏ غرم جميع المال نص عليه أحمد في رواية جماعة وقال مالك والشافعي‏:‏ يلزمه النصف لأنه أحد حجتي الدعوى فكان عليه النصف كما لو كانا شاهدين ولنا‏,‏ أن الشاهد حجة الدعوى فكان الضمان عليه كالشاهدين يحققه أن اليمين قول الخصم وقول الخصم ليس بحجة على خصمه‏,‏ وإنما هو شرط الحكم فجرى مجرى مطالبته الحاكم بالحكم وبهذا ينفصل عما ذكروه ولو سلمنا أنها حجة‏,‏ لكن إنما جعلها حجة شهادة الشاهد ولهذا لم يجز تقديمها على شهادته بخلاف شهادة الشاهد الآخر قال أبو الخطاب‏:‏ ويتخرج أن لا يلزمه إلا النصف المحكوم به‏,‏ إذا قلنا‏:‏ ترد اليمين على المدعى‏.‏

فصل‏:‏

وإذا رجعوا عن الشهادة بعد الحكم وقالوا‏:‏ عمدنا ووجب عليهم القصاص لم يعزروا لأن القصاص يغني عن تعزيرهم وإن كان في مال‏,‏ عزروا وغرموا لأنهم جنوا جناية كبيرة وارتكبوا جريمة عظيمة‏,‏ وهي شهادة الزور ويحتمل أن لا يعزروا لأن رجوعهم توبة منهم فيسقط عنهم التعزير ولأن شرعية تعزيرهم تمنعهم الرجوع خوفا منه‏,‏ فلا يشرع وإن قالوا‏:‏ أخطأنا لم يعزروا لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم‏}‏ هذا إن كان قولهم يحتمل الصدق في الخطإ وإن لم يحتمله عزروا‏,‏ ولم يقبل قولهم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا قطع الحاكم يد السارق بشهادة اثنين ثم بان أنهما كافران‏,‏ أو فاسقان كانت دية اليد في بيت المال ‏]‏

وجملته أن الحاكم إذا حكم بشهادة اثنين في قطع أو قتل‏,‏ وأنفذ ذلك ثم بان أنهما كافران أو فاسقان‏,‏ أو عبدان أو أحدهما فلا ضمان على الشاهدين لأنهما مقيمان على أنهما صادقان فيما شهدا به‏,‏ وإنما الشرع منع قبول شهادتهما بخلاف الراجعين عن الشهادة فإنهما اعترفا بكذبهما‏,‏ ويجب الضمان على الحاكم أو الإمام الذي تولى ذلك لأنه حكم بشهادة من لا يجوز له الحكم بشهادته ولا قصاص عليه لأنه مخطئ‏,‏ وتجب الدية وفي محلها روايتان إحداهما في بيت المال لأنه نائب للمسلمين ووكيلهم‏,‏ وخطأ الوكيل في حق موكله عليه ولأن خطأ الحاكم يكثر لكثرة تصرفاته وحكوماته فإيجاب ضمان ما يخطئ فيه على عاقلته إجحاف به‏,‏ فاقتضى ذلك التخفيف عنه بجعله في بيت المال ولهذا المعنى حملت العاقلة دية الخطأ عن القاتل والرواية الثانية‏,‏ هي على عاقلته مخففة مؤجلة لما روي أن امرأة ذكرت عند عمر بسوء فأرسل إليها فأجهضت ذا بطنها‏,‏ فبلغ ذلك عمر فشاور الصحابة فقال بعضهم‏:‏ لا شيء عليك‏,‏ إنما أنت مؤدب وقال علي‏:‏ عليك الدية فقال عمر‏:‏ عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك يعني قريشا لأنهم عاقلة عمر ولو كانت في بيت المال لم يقسمها على قومه‏,‏ ولأنه من خطئه فتحمله عاقلته كخطئه في غير الحكومة وللشافعي قولان كالروايتين فإذا قلنا‏:‏ إن الدية على عاقلته لم تحمل إلا الثلث فصاعدا‏,‏ ولا تحمل الكفارة لأن العاقلة لا تحمل الكفارة في محل الوفاق كذا ها هنا وتكون الكفارة في ماله وإذا قلنا‏:‏ إنه في بيت المال فينبغي أن يكون فيه القليل والكثير لأن جعله في بيت المال لعلة أنه نائب عنهم‏,‏ وخطأ النائب على مستنيبه وهذا يدخل فيما يكثر خطؤه فجعل الضمان في ماله يجحف به وإن قل‏,‏ لكثرة تكرره وسواء تولى الحاكم الاستيفاء بنفسه أو أمر من تولاه قال أصحابنا‏:‏ وإن كان الولي استوفاه‏,‏ فهو كما لو استوفاه الحاكم لأن الحاكم سلطه على ذلك ومكنه منه والولي يدعي أنه حقه فإن قيل‏:‏ فإذا كان الولي استوفى حقه‏,‏ فينبغي أن يكون الضمان عليه كما لو حكم له بمال فقبضه ثم بان فسق شهوده‏,‏ كان الضمان على المستوفى دون الحاكم كذا ها هنا قلنا‏:‏ ثم حصل في يد المستوفى مال المحكوم عليه بغير حق فوجب عليه رده أو ضمانه إن أتلف‏,‏ وها هنا لم يحصل في يده شيء وإنما أتلف شيئا بخطإ الإمام وتسليطه عليه فافترقا‏.‏

فصل‏:‏

وإن شهد بالزنى أربعة‏,‏ فزكاهم اثنان فرجم المشهود عليه ثم بان أن الشهود فسقة‏,‏ أو عبيد أو بعضهم فلا ضمان على الشهود لأنهم يزعمون أنهم محقون ولم يعلم كذبهم يقينا‏,‏ والضمان على المزكيين وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال القاضي‏:‏ الضمان على الحاكم لأنه حكم بقتله من غير تحقق شرطه ولا ضمان على المزكيين لأن شهادتهما شرط وليست الموجبة وقال أبو الخطاب‏,‏ في ‏"‏ رءوس المسائل ‏"‏‏:‏ الضمان على الشهود الذين شهدوا بالزنى ولنا أن المزكيين شهدوا بالزور شهادة أفضت إلى قتله فلزمهما الضمان‏,‏ كشهود الزنى إذا رجعوا ولا ضمان على الحاكم لأنه أمكن إحالة الضمان على الشهود فأشبه ما إذا رجعوا عن الشهادة وقوله‏:‏ إن شهادتهم شرط لا يصح لأن من أصلنا أن شهود الإحصان يلزمهم الضمان‏,‏ وإن لم يشهدوا بالسبب وقد نص عليه أحمد وقول أبي الخطاب لا يصح لأن شهود الزنى لم يرجعوا ولا علم كذبهم بخلاف المزكيين فإنه تبين كذبهم‏,‏ وأنهم شهدوا بالزور وأما إن تبين فسق المزكيين فالضمان على الحاكم لأن التفريط منه حيث قبل شهادة فاسق من غير تزكية ولا بحث‏,‏ فيلزمه الضمان كما لو قبل شهادة شهود الزنى من غير تزكية ثم تبين فسقهم‏.‏

فصل‏:‏

ولو جلد الإمام إنسانا بشهادة شهود‏,‏ ثم بان أنهم فسقة أو كفرة أو عبيد‏,‏ فعلى الإمام ضمان ما حصل من أثر الضرب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا ضمان عليه ولنا أنها جناية صدرت عن خطأ الإمام فكانت مضمونة عليه كما لو قطعه أو قتله‏.‏

فصل‏:‏

ولو حكم الحاكم بمال بشهادة شاهدين‏,‏ ثم بان أنهما فاسقان أو كافران فإن الإمام ينقض حكمه‏,‏ ويرد المال إن كان قائما وعوضه إن كان تالفا فإن تعذر ذلك لإعساره أو غيره فعلى الحاكم ضمانه‏,‏ ثم يرجع على المشهود له وعن أحمد رواية أخرى لا ينقض حكمه إذا كانا فاسقين‏,‏ ويغرم الشهود المال وكذلك الحكم إذا شهد عنده عدلان أن الحاكم قبله بشهادة فاسقين ففيه روايتان‏,‏ ‏"‏ ولا يغرم الشهود المال وكذلك الحاكم إذا شهد ‏"‏ واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضا ولا خلاف بين الجميع في أنه ينقض حكمه إذا كانا كافرين وينقض حكم غيره إذا ثبت عنده أنه حكم بشهادة كافرين‏,‏ فنقيس على ذلك ما إذا حكم بشهادة فاسقين فإن شهادة الفاسقين مجمع على ردها وقد نص الله تعالى على التبين فيها‏,‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا‏}‏ وأمر بإشهاد العدول وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ واعتبر الرضى بالشهداء فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏ فيجب نقض الحكم لفوات العدالة كما يجب نقضه لفوات الإسلام ولأن الفسق معنى لو ثبت عند الحاكم قبل الحكم منعه‏,‏ فإذا شهد شاهدان أنه كان موجودا حالة الحكم وجب نقض الحكم كالكفر والرق في العقوبات إذا ثبت هذا‏,‏ فإن أبا حنيفة قال‏:‏ لا يسمع الحاكم الشهادة بفسق الشاهدين لا قبل الحكم ولا بعده ومتى جرح المشهود عليه البينة لم تسمع بينته بالفسق‏,‏ ولكن يسأل عن الشاهدين ولا تسمع على الفسق شهادة لأن الفسق لا يتعلق به حق أحد فلا تسمع فيه الدعوى والبينة ولنا‏,‏ أنه معنى يتعلق الحكم به فسمعت فيه الدعوى والبينة كالتزكية وقوله‏:‏ لا يتعلق به حق أحد ممنوع فإن المشهود عليه يتعلق حقه بفسقه في منع الحكم عليه قبل الحكم ونقضه بعده‏,‏ وتبرئته من أخذ ماله أو عقوبته بغير حق فوجب أن تسمع فيه الدعوى والبينة كما لو ادعى رق الشاهدين ولم يدعه لنفسه ولأنه إذا لم تسمع البينة على الفسق‏,‏ أدى إلى ظلم المشهود عليه لأنه يمكن أن لا يعرف فسق الشاهدين إلا شهود المشهود عليه فإذا لم تسمع شهادتهم وحكم عليه بشهادة الفاسقين‏,‏ كان ظالما له فأما إن قامت البينة أنه حكم بشهادة والدين أو ولدين أو عدوين‏,‏ نظر في الحاكم الذي حكم بشهادتهما فإن كان ممن يرى الحكم به لم ينقض حكمه لأنه حكم باجتهاده فيما يسوغ فيه الاجتهاد‏,‏ ولم يخالف نصا ولا إجماعا وإن كان ممن لا يرى الحكم بشهادتهم نقضه لأن الحاكم به يعتقد بطلانه والفرق بين المال والإتلاف أن المال إن كان باقيا‏,‏ وجب رده إلى صاحبه لأن كل واحد أحق بماله وإن كان تالفا وجب ضمانه على آخذه لأنه أخذه بغير إذن صاحبه ولا استحقاق لأخذه أما الإتلاف‏,‏ فإنه لم يحصل به في يد المتلف شيء يرده ولم يمكن تضمينه لأنه إنما أتلفه بحكم الحاكم وتسليطه عليه‏,‏ وهو لا يقر بعدوانه بل يقول‏:‏ استوفيت حقي ولم يثبت خلاف دعواه ولم يمكن تضمين الشهود لأنهم يقولون‏:‏ شهدنا بما علمنا‏,‏ وأخبرنا بما رأينا وسمعنا ولم نكتم شهادة الله تعالى التي لزمنا أداؤها ولم يثبت كذبهم فوجبت إحالة الضمان على الحاكم لأنه حكم من غير وجود شرط الحكم‏,‏ ومكن من إتلاف المعصوم من غير بحث عن عدالة الشهود فكان التفريط منه فوجب إحالة الضمان عليه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا ادعى العبد أن سيده أعتقه‏,‏ حلف مع شاهده وصار حرا ‏]‏

روي عن أحمد -رحمه الله- في هذا روايتان إحداهما‏,‏ أن العتق ثبت بشاهد ويمين وهو اختيار أبي بكر لأنه إزالة ملك فيثبت بشاهد ويمين كالبيع والهبة ولأنه إتلاف للمال فيقبل فيه شاهد ويمين كالبيع والهبة‏,‏ ولأنه إتلاف للمال فيقبل فيه شاهد ويمين كالإتلاف بالفعل‏,‏ وإفضاؤه إلى تكميل الأحكام لا يمنع ثبوته بشاهد ويمين بدليل أن الولادة تثبت بشهادة النساء وينبني عليها النسب الذي لا يثبت بشهادتهن والرواية الثانية‏,‏ لا تثبت الحرية إلا بشاهدين عدلين ذكرين لأنها ليست بمال ولا المقصود منها المال ويطلع عليها الرجال في غالب الأحوال‏,‏ فأشبهت الحدود والقصاص والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن شهد بشهادة زور أدب وأقيم للناس في المواضع التي يشتهر أنه شاهد زور‏,‏ إذا تحقق تعمده لذلك ‏]‏

وجملة ذلك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر قد نهى الله عنها في كتابه مع نهيه عن الأوثان‏,‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور‏}‏ وروي عن خريم بن فاتك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثلاث مرات ثم تلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور‏}‏ رواه أبو داود وروي هذا عن ابن مسعود من قوله وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏ألا أنبئكم بأكبر الكبائر‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى يا رسول الله قال‏:‏ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس‏,‏ فقال‏:‏ ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا‏:‏ ليته سكت‏)‏ متفق عليه وروى أبو حنيفة عن محارب بن دثار‏,‏ عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار‏)‏ فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنه شهد بزور عمدا‏,‏ عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه يقول شريح والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله والأوزاعي وابن أبي ليلى‏,‏ ومالك والشافعي وعبد الملك بن يعلى قاضي البصرة وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يعزر ولا يشهر لأنه قول منكر وزور‏,‏ فلا يعزر به كالظهار وروي عنه الطحاوي أنه يشهر وأنكره المتأخرون ولنا أنه قول محرم يضر به الناس‏,‏ فأوجب العقوبة على قائله كالسب والقذف ويخالف الظهار من وجهين أحدهما‏,‏ أنه يختص بضرره والثاني أنه أوجب كفارة شاقة هي أشد من التعزير ولأنه قول عمر رضي الله عنه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا وإذا ثبت هذا‏,‏ فإن تأديبه غير مقدور وإنما هو مفوض إلى رأى الحاكم إن رأى ذلك بالجلد جلده وإن رآه بحبس أو كشف رأسه وإهانته وتوبيخه‏,‏ فعل ذلك ولا يزيد في جلده على عشر جلدات وقال الشافعي‏:‏ لا يزيد على تسع وثلاثين لئلا يبلغ به أدنى الحدود وقال ابن أبي ليلى‏:‏ يجلد خمسة وسبعين سوطا وهو أحد قولي أبي يوسف وقال الأوزاعي‏,‏ في شاهدي الطلاق‏:‏ يجلدان مائة مائة ويغرمان الصداق ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا يجلد أحد فوق عشر جلدات‏,‏ إلا في حد من حدود الله تعالى‏)‏ متفق عليه وقال القاسم وسالم‏:‏ يخفق سبع خفقات وقال شريح‏:‏ يجلد أسواطا فأما شهرته بين الناس فإنه يوقف في سوقه إن كان من أهل السوق أو قبيلته إن كان من أهل القبائل‏,‏ أو في مسجده إن كان من أهل المساجد ويقول الموكل به‏:‏ إن الحاكم يقرأ عليكم السلام ويقول‏:‏ هذا شاهد زور‏,‏ فاعرفوه وهذا مذهب الشافعي وأتى الوليد بن عبد الملك بشاهد الزور فأمر بقطع لسانه وعنده القاسم وسالم‏,‏ فقالا‏:‏ سبحان الله بحسبه أن يخفق سبع خفقات ويقام بعد العصر‏,‏ فيقال‏:‏ هذا أبو قبيس وجدناه شاهد زور ففعل ذلك به ولا يسخم وجهه ولا يركب‏,‏ ولا يكلف أن ينادى على نفسه وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه يجلد أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطال حبسه رواه الإمام أحمد وقال سوار‏:‏ يلبب‏,‏ ويدار به على حلق المسجد فيقول‏:‏ من رآني فلا يشهد بزور وروي عن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة‏,‏ أنه أمر بحلق نصف رءوسهم وتسخيم وجوههم ويطاف بهم في الأسواق‏,‏ والذي شهدوا له معهم ولنا أن هذا مثلة وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المثلة وما روي عن عمر‏,‏ فقد روي عنه خلافه وأنه حبسه يوما وخلى سبيله وفي الجملة ليس في هذا تقديرا شرعيا فما فعل الحاكم مما يراه‏,‏ ما لم يخرج إلى مخالفة نص أو معنى نص فله ذلك ولا يفعل به شيء من ذلك حتى يتحقق أنه شاهد زور وتعمد ذلك‏,‏ إما بإقراره أو يشهد على رجل بفعل في الشام في وقت ويعلم أن المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق‏,‏ أو يشهد بقتل رجل وهو حي أو أن هذه البهيمة في يد هذا منذ ثلاثة أعوام وسنها أقل من ذلك‏,‏ أو يشهد على رجل أنه فعل شيئا في وقت وقد مات قبل ذلك الوقت أو لم يولد إلا بعده‏,‏ وأشباه هذا مما يتيقن به كذبه ويعلم تعمده لذلك فأما تعارض البينتين أو ظهور فسقه‏,‏ أو غلطه في شهادته فلا يؤدب به لأن الفسق لا يمنع الصدق والتعارض لا يعلم به كذب إحدى البينتين بعينها‏,‏ والغلط قد يعرض للصادق العدل ولا يتعمده فيعفى عنه وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم‏}‏ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏عفي لأمتي عن الخطأ‏,‏ والنسيان وما استكرهوا عليه‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

ومتى علم أن الشاهدين شهدا بالزور تبين أن الحكم كان باطلا‏,‏ ولزم نقضه لأننا تبينا كذبهما فيما شهدا به وبطلان ما حكم به فإن كان المحكوم به مالا‏,‏ رد إلى صاحبه وإن كان إتلافا فعلى الشاهدين ضمانه لأنهما سبب إتلافه‏,‏ إلا أن يثبت ذلك بإقرارهما على أنفسهما من غير موافقة المحكوم له فيكون ذلك رجوعا منهما عن شهادتهما وقد بينا حكم ذلك‏.‏

فصل‏:‏

فإذا تاب شاهد الزور‏,‏ وأتت على ذلك مدة تظهر فيها توبته وتبين صدقه فيها وعدالته‏,‏ قبلت شهادته وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وقال مالك‏:‏ لا تقبل شهادته أبدا لأن ذلك لا يؤمن منه ولنا أنه تائب من ذنبه فقبلت توبته‏,‏ كسائر التائبين وقوله‏:‏ لا يؤمن منه ذلك قلنا‏:‏ مجرد الاحتمال لا يمنع قبول الشهادة بدليل سائر التائبين فإنه لا يؤمن منهم معاودة ذنوبهم ولا غيرها وشهادتهم مقبولة والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا غير العدل شهادته بحضرة الحاكم‏,‏ فزاد فيها أو نقص قبلت منه ما لم يحكم بشهادته ‏]‏

وهذا مثل أن يشهد بمائة‏,‏ ثم يقول‏:‏ هي مائة وخمسون أو يقول‏:‏ بل هي تسعون فإنه يقبل منه رجوعه ويحكم بما شهد به أخيرا وبهذا قال أبو حنيفة والثوري وسليمان بن حبيب المحاربي وإسحاق وقال الزهري‏:‏ لا تقبل شهادته الأولى ولا الآخرة لأن كل واحدة منهما ترد الأخرى وتعارضها‏,‏ ولأن الأولى مرجوع عنها والثانية غير موثوق بها لأنها من مقر بغلطه وخطئه في شهادته فلا يؤمن أن يكون في الغلط كالأولى وقال مالك‏:‏ يؤخذ بأقل قوليه لأنه أدى الشهادة وهو غير متهم‏,‏ فلم يقبل رجوعه عنها كما لو اتصل بها الحكم ولنا أن شهادته الآخرة شهادة من عدل غير متهم‏,‏ لم يرجع عنها فوجب الحكم بها كما لو لم يتقدمها ما يخالفها‏,‏ ولا تعارضها الأولى لأنها قد بطلت برجوعه عنها ولا يجوز الحكم بها لأنها شرط الحكم فيعتبر استمرارها إلى انقضائه ويفارق رجوعه بعد الحكم لأن الحكم قد تم باستمرار شرطه‏,‏ فلا ينقض بعد تمامه‏.‏

فصل‏:‏

وإن شهد بألف ثم قال قبل الحكم‏:‏ قضاه منه خمسمائة فسدت شهادته ذكره أبو الخطاب فقال‏:‏ إذا شهد أن عليه ألفا ثم قال أحدهما‏:‏ قضاه منه خمسمائة بطلت شهادته وذلك أنه شهد بأن الألف جميعه عليه‏,‏ وإذا قضاه خمسمائة لم تكن الألف كله عليه فيكون كلامه متناقضا‏,‏ فتفسد شهادته وفارق هذا ما لو شهد بألف ثم قال‏:‏ بل بخمسمائة لأن ذلك رجوع عن الشهادة بخمسمائة وإقرار بغلط نفسه‏,‏ وهذا لا يقول هذا على سبيل الرجوع والمنصوص عن أحمد أن شهادته تقبل بخمسمائة فإنه قال‏:‏ إذا شهد بألف ثم قال أحدهما قبل الحكم‏:‏ قضاه منه خمسمائة أفسد شهادته‏,‏ والمشهود له ما اجتمعا عليه وهو خمسمائة فصحح شهادته في نصف الألف الباقي وأبطلها في النصف الذي ذكر أنه قضاه لأن ذلك بمنزلة الرجوع عن الشهادة به‏,‏ فأشبه ما لو قال‏:‏ أشهد بألف بل بخمسمائة قال أحمد‏:‏ ولو جاء بعد هذا المجلس فقال‏:‏ أشهد أنه قضاه منه خمسمائة لم يقبل منه لأنه قد أمضى الشهادة فهذا يحتمل أنه أراد به أنه إذا جاء بعد الحكم‏,‏ فشهد بالقضاء لم يقبل منه لأن الألف قد وجب بشهادتهما وحكم الحاكم‏,‏ ولا تقبل شهادته بالقضاء لأنه لا يثبت بشاهد واحد فأما إن شهد أنه أقرضه ألفا ثم قال‏:‏ قضاه منه خمسمائة قبلت شهادته في باقي الألف وجها واحدا لأنه لا تناقض في كلامه‏,‏ ولا اختلاف‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا شهد شاهد بألف وآخر بخمسمائة حكم لمدعي الألف بخمسمائة‏,‏ وحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب ‏]‏

وجملة ذلك أنه إذا شهد أحد الشاهدين بشيء وشهد الآخر ببعضه‏,‏ صحت الشهادة وثبت ما اتفقا عليه وحكم به وهذا قول شريح ومالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وإسحاق وأبي عبيد وحكي عن الشعبي‏,‏ أنه شهد عنده رجلان شهد أحدهما أنه طلقها تطليقة وشهد الآخر أنه طلقها تطليقتين فقال‏:‏ قد اختلفتما‏,‏ قوما وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا شهد شاهد أنه أقر بألف‏,‏ وشهد آخر أنه أقر بألفين لم تصح الشهادة لأن الإقرار بالألف غير الإقرار بالألفين ولم يشهد بكل إقرار إلا واحد ولنا‏,‏ أن الشهادة قد كملت فيما اتفقا عليه فحكم به كما لو لم يزد أحدهما على صاحبه وما ذكره من أن كل إقرار إنما يشهد به واحد‏,‏ يبطل بما إذا شهد أحدهما أنه أقر بألف غدوة وشهد الآخر أنه أقر بألف عشيا فإن الشهادة تكمل‏,‏ مع أن كل إقرار إنما يشهد به واحد فأما ما انفرد به أحدهما فإن للمدعي أن يحلف معه ويستحق وهذا قول من يرى الحكم بشاهد ويمين وهذا فيما إذا أطلقا الشهادة‏,‏ أو لم تختلف الأسباب والصفات فأما إن اختلفت مثل أن يشهد شاهد بألف من قرض وشاهد بخمسمائة من ثمن مبيع‏,‏ ويشهد شاهد بألف بيض وآخر بخمسمائة سود أو يشهد شاهد بألف دينار والآخر بخمسمائة درهم‏,‏ لم تكمل البينة وكان له أن يحلف مع كل واحد منهما ويستحقها مع أحدهما ويستحق ما شهد به‏.‏

فصل‏:‏

فإن شهد له شاهدان بألف وشاهدان بخمسمائة ولم تختلف الأسباب والصفات‏,‏ دخلت الخمسمائة في الألف ووجب له بالشهادتين مائة وإن اختلفت الأسباب والصفات‏,‏ وجب له الألف والخمسمائة ولم يدخل أحدهما في الآخر لأنهما مختلفان‏.‏

فصل‏:‏

وإن شهد له شاهد أنه باعه هذا العبد بألف‏,‏ وشهد آخر أنه باعه إياه بخمسمائة‏,‏ لم تكمل البينة لاختلافهما في صفة البيع وله أن يحلف مع أحدهما ويثبت له ما حلف عليه وإن شهد له بكل عقد شاهدان‏,‏ ثبت البيعان وإن أضافا البيع إلى وقت واحد مثل أن يشهد أنه باعه هذا العبد مع الزوال بألف‏,‏ وشهد الآخر أنه باعه إياه مع الزوال بخمسمائة تعارضت البينتان وسقطتا لأنه لا يمكن اجتماعهما‏,‏ وكل بينة تكذب الأخرى وإن شهد بكل واحد من هذين شاهد واحد كان له أن يحلف مع أحدهما ولا يتعارضان لأن التعارض إنما يكون بين البينتين الكاملتين‏.‏

فصل‏:‏

وإن شهد أحدهما أنه غصبه ثوبا قيمته درهمان‏,‏ وشهد آخر أن قيمته ثلاثة ثبت له ما اتفقا عليه وهو درهمان‏,‏ وله أن يحلف مع الآخر على درهم لأنهما اتفقا على درهمين وانفرد أحدهما بدرهم فأشبه ما لو شهد أحدهما بألف وآخر بخمسمائة وإن شهد شاهدان أن قيمته درهمان‏,‏ وشاهدان أن قيمته ثلاثة ثبت له درهمان وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ له ثلاثة لأنه قد شهد بها شاهدان وهما حجة‏,‏ فيجب الأخذ بهما كما يؤخذ بالزيادة في الأخبار وكما لو شهد له شاهدان بألف وشاهدان بألفين‏,‏ فإنه يجب له ألفان قال القاضي‏:‏ ويتوجه لنا مثل هذا بناء على مسألة الألف وخمسمائة ولنا أن من شهد أن قيمته درهمان‏,‏ ينفي أن تكون قيمته ثلاثة فقد تعارضت البينتان في الدرهم ويخالف الزيادة في الأخبار‏,‏ فإن من يروي الناقص لا ينفي الزيادة وكذلك من شهد بألف لا ينفي أن عليه ألفا آخر فإن قيل‏:‏ فلم قلتم‏:‏ إنه إذا شهد بكل واحد من القيمتين شاهدان تعارضتا‏,‏ وإن شهد واحد لم تتعارضا وكان له أن يحلف مع الشاهد بالزيادة عليها قلنا‏:‏ لأن الشاهدين حجة وبينة‏,‏ فإذا كملت من الجانبين تعارضت الحجتان لتعذر الجمع بينهما وأما الشاهد الواحد‏,‏ فليس بحجة وحده وإنما يصير حجة مع اليمين فإذا حلف مع أحدهما كملت الحجة بيمينه‏,‏ ولم يعارضهما ما ليس بحجة كما لو شهد بأحدهما شاهدان وبالآخر شاهد واحد‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن ادعى شهادة عدل‏,‏ فأنكر أن تكون عنده ثم شهد بها بعد ذلك وقال‏:‏ كنت أنسيتها قبلت منه ‏]‏

وجملة ذلك أن العدل إذا أنكر أن تكون عنده شهادة ثم شهد بها‏,‏ وقال‏:‏ كنت أنسيتها قبلت ولم ترد شهادته وبهذا قال الثوري والشافعي‏,‏ وإسحاق ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأنه يجوز أن يكون نسيها وإذا كان ناسيا لها فلا شهادة عنده‏,‏ فلا نكذبه مع إمكان صدقه ولا يشبه هذا إذا ما قال‏:‏ لا بينة لي ثم أتى ببينة حيث لا تسمع فإن ذلك إقرار منه على نفسه بعدم البينة والإنسان يؤاخذ بإقراره‏,‏ وقول الشاهد‏:‏ لا شهادة عندي ليس بإقرار فإن الشهادة ليست له إنما هي حق عليه فيكون منكرا لها فإذا اعترف بها‏,‏ كان إقرارا بعد الإنكار وهو مسموع بخلاف الإنكار بعد الإنكار‏,‏ ولأن الناسي للشهادة لا شهادة له عنده فهو صادق في إنكاره فإذا ذكرها‏,‏ صارت عنده فلا تنافي بين القولين وصار هذا كمن أنكر أن يكون عنده شهادة قبل أن يستشهد‏,‏ ثم استشهد بعد ذلك فصارت عنده بخلاف من أنكر أن له بينة‏,‏ فإنه لا يخرج عن أن يكون له بينة بنسيانها‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن شهد بشهادة يجر إلى نفسه بعضها بطلت شهادته في الكل ‏]‏

وجملته أن من شهد بشهادة له بعضها مثل أن يشهد الشريك لشريكه بمال من الشركة‏,‏ أو يشهد على زيد بدار له ولعمرو فإن شهادته تبطل في الكل وقال الشافعي‏:‏ فيها قولان أحدهما كقولنا والثاني‏,‏ تصح شهادته لغيره لأنه أجنبي فتصح شهادته له كما لو لم يكن له فيها شرك ويتخرج لنا مثل هذا بناء على قولنا في عبد بين ثلاثة‏,‏ اشترى نفسه منهم بثلاثمائة درهم فادعى أنهم قبضوها منه فأنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا‏,‏ فأقر له اثنان وشهدا على المنكر بالقبض فإن شهادتهما تقبل عليه ويشاركهما فيما أخذا من المال ولنا‏,‏ أنها شهادة رد بعضها للتهمة فترد جميعها كما لو شهد المضارب لرب المال بمال من المضاربة‏,‏ ولو شهد بدين لأبيه وأجنبي أو شهد بشهادة ترد في بعض ما شهد به بطلت كلها‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا مات رجل‏,‏ وخلف ابنا وألف درهم فادعى رجل على الميت ألف درهم‏,‏ وصدقه الابن وادعى آخر مثل ذلك وصدقه الابن‏,‏ فإن كان في مجلس واحد كان الألف بينهما وإن كان في مجلسين كان الألف للأول‏,‏ ولا شيء للثاني ‏]‏

وجملته أن الميت إذا خلف وارثا وتركة فأقر الوارث لرجل بدين على الميت يستغرق ميراثه‏,‏ فقد أقر بتعلق دينه بجميع التركة واستحقاقه لجميعها فإذا أقر بعد ذلك لآخر نظرت فإن كان في المجلس‏,‏ صح الإقرار واشتركا في التركة لأن حالة المجلس كلها كحالة واحدة بدليل القبض‏,‏ فيما يعتبر القبض فيه وإمكان الفسخ في البيع ولحوق الزيادة في العقد‏,‏ فكذلك في الإقرار وإن كان في مجلس آخر لم يقبل إقراره لأنه يقر بحق على غيره فإنه يقر بما يقتضي مشاركة الأول في التركة‏,‏ ومزاحمته فيها وتنقيص حقه منها ولا يقبل إقرار الإنسان على غيره وقال الشافعي يقبل إقراره ويشتركان فيها لأن الوارث يقوم مقام الموروث‏,‏ ولو أقر الموروث لهما لقبل فكذلك الوارث ولأن منعه من الإقرار يفضي إلى إسقاط حق الغرماء فإنه قد لا يتفق حضورهم في مجلس واحد‏,‏ فيبطل حقه بغيبته ولأن من قبل إقراره أولا قبل إقراره ثانيا‏,‏ إذا لم يتغير حاله كالموروث ولنا أنه أقر بما يتعلق بمحل تعلق به حق غيره‏,‏ على وجه يضر به تعلقا يمنع صحة تصرفه فيه فلم يقبل‏,‏ كإقرار الراهن بجناية عبده المرهون أو الجاني وأما الموروث فإن أقر في صحته صح لأن الدين لا يتعلق بماله‏,‏ وإنما يتعلق بذمته وإن أقر في مرضه لم يحاص المقر له غرماء الصحة لذلك وإن أقر في مرضه لغريم يستغرق دينه تركته ثم أقر لآخر في مجلس آخر‏,‏ صح وشارك الأول والفرق بينه وبين الوارث‏,‏ أن إقراره الأول لم يمنعه التصرف في ماله ولا أن يتعلق به دين آخر بأن يستدين دينا آخر‏,‏ فلم يمنع ذلك تعلق الدين بتركته بالإقرار بخلاف الوارث فإنه لا يملك أن يعلق بالتركة دينا آخر بفعله‏,‏ فلا يملكه بقوله ولا يملك التصرف في التركة ما لم يلتزم قضاء الدين‏.‏

فصل‏:‏

وإن مات‏,‏ وترك ألفا فأقر به ابنه لرجل ثم أقر به لغيره‏,‏ فهو للأول ولا شيء للثاني فيه سواء كان في مجلس أو مجلسين لأنه باعترافه للأول‏,‏ ثبت له الملك فيه فصار إقراره للثاني إقرارا له بملك غيره فلم يقبل وتلزم المقر غرامته للثاني لأنه فوته عليه بإقراره به لغيره‏,‏ فأشبه ما لو غصبه منه فدفعه إلى غيره‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن ادعى دعوى على مريض فأومأ برأسه أي نعم لم يحكم بها حتى يقول بلسانه ‏]‏ وجملته أن إشارة المريض لا تقوم مقام نطقه‏,‏ وسواء كان عاجزا عن الكلام أو قادرا عليه وبهذا قال الثوري وقال الشافعي‏:‏ يقبل إقراره بإشارته إذا كان عاجزا عن الكلام لأنه إقرار بالإشارة من عاجز عن الكلام فأشبه إقرار الأخرس ولنا‏,‏ أنه غير مأيوس من نطقه فلم تقم إشارته مقام نطقه كالصحيح وبهذا فارق الأخرس‏,‏ فإنه مأيوس من نطقه ولهذا لو أرتج عليه في الصلاة لم تصح صلاته بغير قراءة‏,‏ بخلاف الأخرس والآيسة يفرق بينها وبين من ارتفع حيضها مع إمكانه في العدة ولأن عجزه عن النطق غير متحقق فإنه يحتمل أن يترك الكلام لصعوبته عليه ومشقته لا لعجزه وإن صار إلى حال يتحقق الإياس من نطقه‏,‏ لم يوثق بإشارته لأن المرض الذي أعجزه عن النطق لم يختص بلسانه فيجوز أن يكون أثر في عقله أو في سمعه‏,‏ فلم يدر ما قيل له بخلاف الأخرس ولأن الأخرس قد تكررت إشارته حتى صارت عند من يعاشره كاليقين‏,‏ ومماثلة النطق وهذا لم تتكرر إشارته فلعله لم يرد الإقرار إنما أراد الإنكار‏,‏ أو إسكات من يسأله ومع هذه الفروق لا يصح القياس‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن ادعى دعوى‏,‏ وقال‏:‏ لا بينة لي ثم أتى بعد ذلك ببينة لم تقبل لأنه مكذب لبينته ‏]‏

وبهذا قال محمد بن الحسن وقال أبو يوسف وابن المنذر‏:‏ تقبل وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه يجوز أن ينسى أو يكون الشاهدان سمعا منه‏,‏ وصاحب الحق لا يعلم فلا يثبت بذلك أنه كذب بينته وقال بعض أصحاب الشافعي‏:‏ وإن كان الإشهاد أمرا تولاه بنفسه لم تسمع بينته لأنه أكذبها‏,‏ وإن كان وكيله أشهد على المدعى عليه أو شهد من غير علمه أو من غير أن يشهدهم‏,‏ سمعت بينته لأنه معذور في نفيه إياها وهذا القول حسن ولنا أنه أكذب بينته بإقراره أنه لا يشهد له أحد‏,‏ فإذا شهد له إنسان كان تكذيبا له ويفارق الشاهد إذا قال‏:‏ لا شهادة عندي ثم قال‏:‏ كنت نسيتها لأن ذلك إقرار لغيره بعد الإنكار‏,‏ وها هنا هو مقر لخصمه بعدم البينة فلم يقبل رجوعه عنه والحكم في ما إذا قال‏:‏ كل بينة لي زور كالحكم فيما إذا قال‏:‏ لا بينة لي على ما ذكرنا من الخلاف فيه‏.‏

فصل‏:‏

وإن قال‏:‏ ما أعلم لي بينة‏.‏ ثم أتى ببينة، سمعت؛ لأنه يجوز أن تكون له بينة لم يعلمها، ثم علمها‏.‏ قال أبو الخطاب‏:‏ ولو قال‏:‏ ما أعلم لي بينة‏.‏ فقال شاهدان‏:‏ نحن نشهد لك‏.‏ سمعت بينته‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا شهد الوصي على من هو موصى عليهم قبلت شهادته وإن شهد‏,‏ لهم لم يقبل إذا كانوا في حجره ‏]‏

أما شهادته عليهم فمقبولة لا نعلم فيه خلافا‏,‏ فإنه لا يتهم عليهم ولا يجر بشهادته عليهم نفعا ولا يدفع عنهم بها ضررا وأما شهادته لهم إذا كانوا في حجره‏,‏ فغير مقبولة وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الشعبي والثوري ومالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى وأجاز شريح وأبو ثور شهادته لهم إذا كان الخصم غيره لأنه أجنبي منهم فقبلت شهادته لهم‏,‏ كما بعد زوال الوصية ولنا أنه شهد بشيء هو خصم فيه فإنه الذي يطالب بحقوقهم ويخاصم فيها‏,‏ ويتصرف فيها فلم تقبل شهادته كما لو شهد بمال نفسه‏,‏ ولأنه يأخذ من مالهم عند الحاجة فيكون متهما في الشهادة به فأما قوله‏:‏ إذا كانوا في حجره فإنه يعني أنه لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم قبلت شهادته لزوال المعنى الذي منع قبولها والحكم في أمين الحاكم يشهد للأيتام الذين هم تحت ولايته كالحكم في الوصي‏,‏ سواء‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا شهد من يخنق في الأحيان قبلت شهادته في إفاقته ‏]‏

قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وممن حفظنا عنه ذلك مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور ولا أحسبه إلا مذهب أهل الكوفة وذلك لأن الاعتبار في الشهادة بحال أدائها‏,‏ وهو في وقت الأداء من أهل التحصيل والعقل الثابت فقبلت شهادته كالصبي إذا كبر‏,‏ ولأنه عدل غير متهم فقبلت شهادته كالصحيح‏,‏ وزوال عقله في غير حال الشهادة لا يمنع قبولها كالصحيح الذي ينام والمريض الذي يغمى عليه في بعض الأحيان‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وتقبل شهادة الطبيب في الموضحة‏,‏ إذا لم يقدر على طبيبين وكذلك البيطار في داء الدابة ‏]‏

وجملته أنه إذا اختلف في الشجة هل هي موضحة أو لا‏؟‏ أو فيما كان أكثر منها‏,‏ كالهاشمة والمنقلة والآمة‏,‏ والدامغة أو أصغر منها كالباضعة‏,‏ والمتلاحمة والسمحاق أو في الجائفة‏,‏ وغيرها من الجراح التي لا يعرفها إلا الأطباء أو اختلفا في داء يختص بمعرفته الأطباء‏,‏ أو في داء الدابة فظاهر كلام الخرقي أنه إذا قدر على طبيبين أو بيطارين‏,‏ لا يجزئ واحد لأنه مما يطلع عليه الرجال فلم تقبل فيه شهادة واحد كسائر الحقوق‏,‏ فإن لم يقدر على اثنين أجزأ واحد لأنه مما لا يمكن كل واحد أن يشهد به لأنه مما يختص به أهل الخبرة من أهل الصنعة فاجتزئ فيه بشهادة واحد‏,‏ بمنزلة العيوب تحت الثياب يقبل فيها قول المرأة الواحدة فقبول قول الرجل الواحد أولى‏.‏

فصل‏:‏

قال أحمد - رحمه الله - ‏,‏ إذا قال‏:‏ اشهد على مائة درهم ومائة درهم فشهد على مائة دون مائة كره إلا أن يقول‏:‏ أشهد ولي علي مائة ومائة يحكيه كله للحاكم كما كان وقال أحمد‏:‏ إذا شهد على ألف‏,‏ وكان الحاكم لا يحكم إلا على مائة ومائتين فقال له صاحب الحق‏:‏ أريد أن تشهد لي على مائة لم يشهد إلا بألف قال القاضي‏:‏ وذلك أن على الشاهد نقل الشهادة على ما شهد‏,‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها‏}‏ ولأنه لو ساغ للشاهد أن يشهد ببعض ما أشهد عليه لساغ للقاضي أن يقضي ببعض ما شهد به الشاهد وقال أبو الخطاب‏:‏ عندي يجوز أن يشهد بذلك لأن من شهد بألف فقد شهد بمائة‏,‏ فإذا شهد بمائة لم يكن كاذبا في شهادته فجاز‏,‏ كما لو كان قد أقرضه مائة مرة وتسعمائة مرة أخرى والأول أصح لما ذكره القاضي ولأن شهادته بمائة ربما أوهمت أن هذه المائة غير التي شهدت بأصله‏,‏ فيؤدي إلى إيجابها عليه مرتين‏.‏

فصل‏:‏

قال أحمد‏:‏ إذا شهد بألف درهم ومائة دينار فله من دراهم ذلك البلد ودنانيره قال القاضي‏:‏ لأنه لما جاز أن يحمل مطلق العقد على ذلك جاز أن تحمل الشهادة عليه‏,‏ والله أعلم‏.‏