فصل: مسألة: شهادة أربعة متفرقون والحاكم جالس في مجلس حكمه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب الأقضية

مسألة‏:‏

قال أبو القاسم - رحمه الله -‏:‏ ‏[‏ وإذا هلك رجل‏,‏ وخلف ولدين ومائتي درهم فأقر أحدهما بمائة درهم دينا على أبيه لأجنبي دفع إلى المقر له نصف ما في يده من إرثه عن أبيه‏,‏ إلا أن يكون المقر عدلا فيشاء الغريم أن يحلف مع شهادة الابن ويأخذ مائة‏,‏ وتكون المائة الباقية بين الابنين ‏]‏

هذه المسألة في الإقرار من بعض الورثة وقد ذكرناها في باب الإقرار وأنه إنما يلزم المقر من الدين بقدر ميراثه منه‏,‏ وميراثه ها هنا النصف فيكون عليه نصف الدين وهو نصف المائة ونصفها الباقي يشهد به على أخيه‏,‏ فإن كان عدلا فشاء الغريم حلف مع شهادته واستحق الباقي لأنه لا تهمة في حق الابن المقر‏,‏ فإنه لا يجر إلى نفسه بهذه الشهادة نفعا ولا يدفع بها ضرا وإن شهد أجنبي مع الوارث المقر‏,‏ كملت الشهادة وحكم للمدعى بما شهدا به له إذا كانا عدلين‏,‏ وأديا الشهادة بلفظ الشهادة ولا يكتفى بلفظ الإقرار في الشهادة لما ذكرنا من قبل وإن كان الإقرار من اثنين من الورثة عدلين مثل أن يخلف ثلاثة بنين فيقر اثنان منهم بالدين‏,‏ ويشهدا به فإن شهادتهما تقبل ويثبت باقي الدين في حق المنكر وبهذا كله قال الحسن‏,‏ والشعبي والشافعي وابن المنذر وقال حماد‏,‏ وأصحاب الرأي‏:‏ المقر به كله في نصيب المقر وهو قول الشعبي وعلى هذا ينبغي أن لا تقبل شهادة المقر بالدين لأنه يجر بشهادته نفعا إلى نفسه وهو إسقاط بعض ما أقر به عن نفسه والإقرار بوصية تخرج من الثلث‏,‏ كالإقرار بالدين فيما ذكرناه‏.‏

فصل‏:‏

ولو ثبت لرجل على رجل دين ببينة، لم يمنع ذلك قبول شهادته عليه بدين أو وصية، في قول عامة أهل العلم، إلا ابن أبي ليلى، قال‏:‏ لا تقبل شهادته على غريمه الميت بذلك‏.‏ فيحتمل أنه منع من ذلك لئلا يواطئ من يشهد له بدين، فيحاص الغرماء بما شهد له به ثم يقاسمه‏.‏ ولنا ، أنه عدل غير متهم ، فتقبل شهادته له كغيره، وذلك لأنه لا يجر بشهادته إلى نفسه نفعا، ولا يدفع بها ضرا، بل يضر نفسه، بها لكون المشهود له يزاحمه في الاستيفاء، وينقص ما يأخذه، فهو أقرب إلى الصدق، وأحرى أن تقبل شهادته، وما ذكرناه له من الاحتمال يوجد في الأجنبي، ولم يمنع قبول شهادته‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولو هلك رجل عن ابنين‏,‏ وله حق بشاهد وعليه من الدين ما يستغرق ميراثه فأبى الوارثان أن يحلفا مع الشاهد‏,‏ لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت ويستحق فإن حلف الوارثان مع الشاهد‏,‏ حكم بالدين فدفع إلى الغريم ‏]‏

وجملته أن الرجل إذا مات مفلسا وادعى ورثته دينا له على رجل‏,‏ فأنكر فأقاموا شاهدا عدلا وحلفوا معه‏,‏ حكم بالدين للميت ثم تقضى منه ديونه ثم تنفذ وصاياه من الثلث‏,‏ إلا أن يجيز الورثة فإن أبى الورثة أن يحلفوا لم يكن للغريم أن يحلف‏,‏ مع شاهد الميت وبهذا قال إسحاق وأبو ثور والشافعي في الجديد‏,‏ وقال في القديم‏:‏ للغريم أن يحلف ويستحق وهذا قول مالك لأن حقه متعلق به بدليل أنه لو ثبت المال‏,‏ قدم حقه على الورثة وكانت له اليمين كالوارث ولنا أن الدين للورثة دون الغريم‏,‏ فلم يكن له أن يحلف عليه كما لو لم يستغرق الدين ميراثه والدليل على أنه للوارث‏,‏ أنه يكتفى بيمينه ولو كان لغيره لما اكتفى بها ولأن حق الغريم في ذمة الميت‏,‏ والدين للميت ولهذا يشهد الشاهد بأن الدين للميت والذي يحلف معه إنما يحلف على هذا‏,‏ ولا يجوز للغريم أن يحلف لي في ذمة المدعى عليه دينا بالاتفاق فلم يجز أن يحلف على دين غيره الذي لا فعل له فيه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما جعل اليمين للمالك‏,‏ ولا يلزم على هذا الوكيل لأنه يحلف على فعل نفسه ولأن الغريم لو حلف مع الشاهد ثم أبرأ الميت من الدين لرجع الدين إلى الورثة‏,‏ ولو كان قد ثبت له بيمينه لم يرجع إليهم وهكذا لو وصى الميت لإنسان ثم لم يحلف الورثة‏,‏ لم يكن للموصى له أن يحلف لما ذكرناه‏.‏

فصل‏:‏

فإن حلف أحد الابنين مع الشاهد لم يثبت من الدين إلا قدر حصته وهكذا إذا ادعى الورثة وصية لأبيهم أو دينا وأقاموا شاهدا‏,‏ لم يثبت جميعه إلا بأيمان جميعهم وإن حلف بعضهم ثبت من الدين والوصية بقدر حقه ولا يشاركه فيه باقي الورثة لأنه لا يثبت لهم حق بدون أيمانهم‏,‏ ولا يجوز أن يستحقوا بيمين غيرهم ويقضى من دين أبيه بقدر ما ثبت له فإن كان في الورثة صغير أو معتوه‏,‏ وقف حقه حتى يبلغ الصغير ويعقل المعتوه لأنه لا يمكن أن يحلف على حاله ولا يحلف وليه لكون اليمين لا تدخلها النيابة وإن كان فيهم أخرس مفهوم الإشارة‏,‏ حلف وأعطي حصته وإن لم تفهم إشارته وقف حقه أيضا فإن مات‏,‏ أو مات الصبي والمعتوه قام ورثتهم مقامهم في اليمين والاستحقاق فإن طالب أولياؤهما في حياتهما بحبس المدعى عليه حتى يبلغ الصبى ويفيق المجنون‏,‏ ويعقل الأخرس الإشارة أو بإقامة كفيل لم يجابوا إلى ذلك لأن الحبس عذاب لا يستحق على من لم يثبت عليه حق‏.‏

فصل‏:‏

وتركة الميت يثبت الملك فيها لورثته‏,‏ وسواء كان عليه دين أو لم يكن نص عليه أحمد في من أفلس ثم مات‏,‏ قال‏:‏ قد انتقل المبيع إلى الورثة وحصل ملكا لهم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كان الدين يستغرق التركة منع نقلها إلى الورثة‏,‏ وإن كان لا يستغرقها لم يمنع انتقال شيء منها وقال أبو سعيد الإصطخري‏:‏ يمنع بقدره وقد أومأ أحمد إلى مثل هذا فإنه قال في أربعة بنين ترك أبوهم دارا وعليه دين‏,‏ فقال أحد البنين‏:‏ أنا أعطى ودعوا لي الربع فقال أحمد‏:‏ هذه الدار للغرماء لا يرثون شيئا حتى يؤدوا الدين وهذا يدل على أنها لم تنتقل إليهم عنده لأنه يمنع الوارث من إمساك الربع بدفع قيمته لأن الدين لم يثبت في ذمم الورثة‏,‏ فيجب أن يتعلق بالتركة والمذهب الأول ولهذا قلنا‏:‏ إن الغريم لا يحلف على دين الميت وذلك لأن الدين محله الذمة وإنما يتعلق بالتركة‏,‏ فيتخير الورثة بين قضاء الدين منها أو من غيرها كالرهن والجاني ولهذا لا يلزم الغرماء نفقة العبيد‏,‏ ولا يكون نماء التركة لهم ولأنه لا يخلو من أن تنتقل إلى الورثة أو إلى الغرماء‏,‏ أو تبقى للميت أو لا تكون لأحد لا يجوز أن تنتقل إلى الغرماء لأنها لو انتقلت إليهم‏,‏ لزمهم نفقة الحيوان وكان نماؤها لهم غير محسوب من دينهم ولا يجوز أن تبقى للميت لأنه لم يبق أهلا للملك‏,‏ ولا يجوز أن لا تكون لأحد لأنها مال مملوك فلا بد من مالك ولأنها لو بقيت بغير مالك لأبيحت لمن يتملكها‏,‏ كسائر المباحات فثبت أنها انتقلت إلى الورثة فعلى هذا إذا نمت التركة‏,‏ مثل أن غلت الدار وأثمرت النخيل ونتجت الماشية‏,‏ فهو للوارث ينفرد به لا يتعلق به حق الغرماء لأنه نماء ملكه‏,‏ فأشبه كسب الجاني ويحتمل أن يتعلق به حق الغرماء كنماء الرهن ومن اختار الأول قال‏:‏ تعلق الحق بالرهن آكد لأنه ثبت باختيار المالك ورضاه ولهذا منع التصرف فيه‏,‏ وهذا يثبت بغير رضي المالك ولم يمنع التصرف فكان أشبه بالجاني وعلى الرواية الأخرى‏,‏ يكون نماء التركة حكمه حكم التركة وما يحتاج إليه من المؤنة منها وإن تصرف الورثة في التركة ببيع أو هبة أو قسمة‏,‏ فعلى الرواية الأولى تصرفهم صحيح فإن قضوا الدين وإلا نقضت تصرفاتهم‏,‏ كما لو تصرف السيد في العبد الجاني ولم يقض دين الجناية وعلى الرواية الأخرى تصرفاتهم فاسدة لأنهم تصرفوا فيما لم يملكوه‏.‏

فصل‏:‏

إذا خلف ثلاثة بنين وأبوين فادعى البنون أن أباهم وقف داره عليهم في صحته‏,‏ وأقاموا بذلك شاهدا واحدا حلفوا معه وصارت وقفا عليهم‏,‏ وسقط حق الأبوين وإن لم يحلفوا معه ولم يكن على الميت دين ولا له وصية‏,‏ حلف الأبوان وكان نصيبهما طلقا لهما ونصيب البنين وقفا عليهم بإقرارهم لأنه ينفذ بإقرارهم وإن كان على الميت دين‏,‏ أو وصى بشيء قضى دينه ونفذت وصيته‏,‏ وما بقي بين الورثة فما حصل للبنين كان وقفا عليهم بإقرارهم وإن حلف واحد منهم كان ثلث الدار وقفا عليه والباقي يقضى منه الدين وما فضل يكون ميراثا‏,‏ فما حصل للابنين منه كان وقفا عليهما ولا يرث الحالف شيئا لأنه يعترف أنه لا يستحق منها شيئا سوى ما وقف عليه وإن حلفوا كلهم فثبت الوقف عليهم‏,‏ لم يخل من أن يكون الوقف مرتبا على بطن ثم على بطن بعد بطن أبدا أو مشتركا‏,‏ فإن كان مرتبا فإذا انقرض الأولاد الثلاثة انتقل الوقف إلى البطن الثاني‏,‏ بغير يمين لأنه قد ثبت كونه وقفا بالشاهدين ويمين الأولاد فلم يحتج من انتقل إليه إلى بينة كما لو ثبت بشاهدين‏,‏ وكالمال الموروث وكذلك إذا انقرض الأولاد ورجع إلى المساكين لم يحتاجوا في ثبوته لهم إلى يمين لما ذكرناه وإن انقرض أحد الأولاد‏,‏ انتقل نصيبه منه إلى إخوته أو إلى من شرط الواقف انتقاله إليه بغير يمين لما ذكرنا فإن امتنع البطن الأول من اليمين‏,‏ فقد ذكرنا أن نصيبهم يكون وقفا عليهم بإقرارهم فإذا انقرضوا كان ذلك وقفا على حسب ما أقروا به‏,‏ فإن كان إقرارهم أنه وقف عليهم ثم على أولادهم فقال أولادهم‏:‏ نحن نحلف مع شاهدنا‏,‏ لتكون جميع الدار وقفا لنا فلهم ذلك لأنهم ينقلون الوقف من الواقف فلهم إثباته كالبطن الأول فأما إن حلف أحد البنين ونكل أخواه‏,‏ ثم مات الحالف نظرت فإن مات بعد موت إخوته صرف نصيبه إلى أولاده‏,‏ وجها واحدا وإن مات في حياة إخوته ففيه ثلاثة أوجه أحدها ينصرف إلى إخوته لأنه لا يثبت للبطن الثاني شيء مع بقاء أحد من البطن الأول والثاني‏,‏ ينتقل إلى أولاده لأن أخويه أسقطا حقهما بنكولهما فصارا كالمعدومين والثالث يصرف إلى أقرب عصبة الواقف لأنه لم يمكن صرفه إلى الأخوين‏,‏ ولا إلى البطن الثاني لما ذكرنا فيصرف إلى أقرب عصبة الواقف‏,‏ إلى أن يموت الأخوان ثم يعود إلى البطن الثاني والأول أصح لأن الأخوين لم يسقطا حقوقهما وإنما امتنعا من إقامة الحجة عليه‏,‏ ولذلك لو اعترف لهما الأبوان ثبت الوقف من غير يمين وها هنا قد حصل الاعتراف من البطن الثاني‏,‏ فوجب أن ينصرف إليهما لحصول الاتفاق من الجميع على استحقاقهما له فإن قيل‏:‏ فإذا كان البطن الثاني صغارا فما حصل الاعتراف منهم قلنا‏:‏ قد حصل الاعتراف من الحالف الذي ثبتت الحجة بيمينه وبالبينة التي ثبت بها الوقف‏,‏ وبها يستحق البطن الثاني فاكتفى بذلك في انتقاله إلى الأخوين كما يكتفى به في انتقاله إلى البطن الثاني بعد انقراض الأخوين‏,‏ ويدل على صحة هذا أننا اكتفينا بالبينة في أصل الوقف وفي كيفيته‏,‏ وصفته وترتيبه فيما عدا هذا المختلف فيه فيجب أن يكتفى به فيه فأما إن كان شرط الواقف أن من مات منهم عن ولد‏,‏ انتقل نصيبه إليه انتقل إلى أولاده وجها واحدا لأنه لا منازع لهم فيه وإن مات من غير ولد‏,‏ انتقل إلى أخويه على الوجه الصحيح ويخرج فيه الوجهان الآخران الحال الثاني‏,‏ إذا كان الوقف مشتركا وهو أن يدعوا أن أباهم وقف داره على ولده وولد ولده ما تناسلوا فقد شرك بين البطون‏,‏ ففي هذه الحال إذا حلف أولاده الثلاثة مع شاهدهم ولم يكن أحد من أولادهم معهم موجودا ثبت الوقف على الثلاثة وإن كان من أولادهم أحد موجودا‏,‏ فهو شريكهم فإن كان كبيرا حلف واستحق وإن لم يحلف كان نصيبه ميراثا تقضى منه الديون‏,‏ وتنفذ الوصايا وباقيه للورثة لأنه يأخذ الوقف ابتداء من الواقف بغير واسطة فهو كأحد البنين وإن كان صغيرا‏,‏ أو حدث لأحد البنين ولد يشاركهم في الوقف أو كان أحد البنين صغيرا وقف نصيبه من الوقف عليه‏,‏ ولا يسلم إلى وليه حتى يبلغ فيحلف أو يمتنع لأنه يتلقى الوقف من غير واسطة فإن قيل‏:‏ فلم لم يستحق بغير يمين لكون البنين المستحقين معترفين له بذلك‏,‏ فيكتفى باعترافهم كما لو كان في أيديهم دار فاعترفوا لصغير منها بشرك فإنه يسلم إلى وليه‏؟‏ قلنا‏:‏ الفرق بينهما أن الدار التي في أيديهم لم يكن لهم فيها منازع‏,‏ ولا يوجب على أحد منهم فيها يمين وهذه ينازعهم فيها الأبوان وأصحاب الديون والوصايا‏,‏ وإنما يأخذونها بأيمانهم فإذا أقروا بمشارك لهم فقد اعترفوا بأنه كواحد منهم‏,‏ لا يستحق إلا بيمينه كما لا يستحق واحد منهم إلا باليمين ويفارق ما إذا كان الوقف مرتبا على بطن بعد بطن‏,‏ فإنه لا يشاركهم أحد من البطن الثاني فإذا بلغ الصغير الموقوف نصيبه فحلف كان له‏,‏ وإن امتنع نظرت فإن كان موجودا حين الدعوى أو قبل حلفهم كان نصيبه ميراثا‏,‏ كما لو كان بالغا فامتنع من اليمين فإن حدث بعد أيمانهم وثبوت الوقف نماء‏,‏ كان له نصيبه أيضا لأن الوقف ثبت في جميع الدار بأيمان البنين فلا يبطل بامتناع من حدث إلا أنه إن أقر أنها ليست وقفا‏,‏ وكذب البنين في ذلك كان نصيبه من الغلة ميراثا حكمه حكم نماء الميراث‏,‏ وإن لم يكذبهم فنصيبه وقف له وقال القاضي‏:‏ إن امتنع من اليمين رد نصيبه إلى الأولاد الثلاثة‏,‏ ولم يفرق بين من كان موجودا حال الدعوى والحادث بعدها لأنه لا يجوز أن يستحق شيئا بغير يمينه ولا يجوز أن يبطل الوقف الثابت بأيمانهم فتعين رد نصيبه إليهم ولنا‏,‏ أنه إن كان موجودا حال الدعوى وحلفهم فهو شريكهم حين يثبت الوقف فلم يجز أن يثبت الوقف في نصيبه بغير يمينه‏,‏ كالبالغ وإن كان حادثا بعد ثبوت الوقف بأيمانهم فهم مقرون له بنصيبه وهو يصدقهم في إقرارهم فلم يجز لهم أخذ نصيبه كما لو أقروا له بمال‏,‏ ولأنهم يقرون بأنهم لا يستحقون أكثر من ثلاثة أرباع الوقف فلا يجوز لهم أخذ أكثر من ذلك وإن مات الصغير قبل بلوغه قام وارثه مقامه‏,‏ فيما ذكرنا وإن مات أحد البنين البالغين قبل بلوغ الصغير وقف أيضا نصيبه مما كان لعمه الميت وكان الحكم فيه‏,‏ كالحكم في نصيبه الأصلى وقال القاضي‏:‏ إن بلغ فامتنع من اليمين فالربع موقوف إلى حين موت الثالث ويقسم بين البالغين وورثة الميت لأنه كان بين الثلاثة‏,‏ ونصيبه من الميت للبالغين الحيين خاصة لأنهما مستحقا الوقف‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن ادعى دعوى وذكر أن بينته بالبعد منه فحلف المدعى عليه‏,‏ ثم أحضر المدعى بينته حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق ‏]‏

وجملته أن المدعى إذا ذكر أن بينته بعيدة منه أو لا يمكنه إحضارها‏,‏ أو لا يريد إقامتها فطلب اليمين من المدعى عليه أحلف له‏,‏ فإذا حلف ثم أحضر المدعى ببينة حكم له وبهذا قال شريح‏,‏ والشعبي ومالك والثوري‏,‏ والليث والشافعي وأبو حنيفة‏,‏ وأبو يوسف وإسحاق وحكي عن ابن أبي ليلى وداود‏,‏ أن بينته لا تسمع لأن اليمين حجة المدعى عليه فلا تسمع بعدها حجة المدعى كما لا تسمع يمين المدعى عليه بعد بينة المدعى ولنا‏,‏ قول عمر رضي الله عنه‏:‏ البينة الصادقة أحب إلى من اليمين الفاجرة وظاهر هذه البينة الصدق ويلزم من صدقها فجور اليمين المتقدمة‏,‏ فتكون أولى ولأن كل حالة يجب عليه الحق فيها بإقراره يجب عليه بالبينة‏,‏ كما قبل اليمين وما ذكروه لا يصح لأن البينة الأصل واليمين بدل عنها ولهذا لا تشرع إلا عند تعذرها‏,‏ والبدل يبطل بالقدرة على المبدل كبطلان التيمم بالقدرة على الماء ولا يبطل الأصل بالقدرة على البدل‏,‏ ويدل على الفرق بينما أنهما حال اجتماعهما وإمكان سماعهما‏,‏ تسمع البينة ويحكم بها ولا تسمع اليمين‏,‏ ولا يسأل عنها‏.‏

فصل‏:‏

فإن طلب المدعى حبس المدعى عليه أو إقامة كفيل به إلى أن تحضر بينته البعيدة لم يقبل منه‏,‏ ولم يكن له ملازمة خصمه نص عليه أحمد لأنه لم يثبت له قبله حق يحبس به ولا يقيم به كفيلا ولأن الحبس عذاب‏,‏ فلا يلزم معصوما لم يتوجه عليه حق ولأنه لو جاز ذلك لتمكن كل ظالم من حبس من شاء من الناس بغير حق وإن كانت بينته قريبة‏,‏ فله ملازمته حتى يحضرها لأن ذلك من ضرورة إقامتها فإنه لو لم يتمكن من ملازمته لذهب من مجلس الحاكم‏,‏ ولا تمكن إقامتها إلا بحضرته ولأنه لما تمكن من إحضاره مجلس الحاكم ليقيم البينة عليه تمكن من ملازمته فيه حتى تحضر البينة وتفارق البينة البعيدة‏,‏ أو من لا يمكن حضورها فإن إلزامه الإقامة إلى حين حضورها يحتاج إلى حبس أو ما يقوم مقامه‏,‏ ولا سبيل إليه‏.‏

فصل‏:‏

ولو أقام المدعى شاهدا واحدا ولم يحلف معه وطلب يمين المدعى عليه‏,‏ أحلف له ثم إن أحضر شاهدا آخر بعد ذلك كملت بينته‏,‏ وقضى بها لما ذكرنا في التي قبلها وإن قال المدعى‏:‏ لي بينة حاضرة وأريد إحلاف المدعى عليه ثم أقيم البينة عليه‏,‏ ففيه وجهان أحدهما له ذلك ويستحلف خصمه لأنه يملك استحلافه إذا كانت بينته بعيدة‏,‏ فكذلك إذا كانت قريبة ولأنه لو قال‏:‏ لا أريد إقامة بينتى القريبة ملك استحلافه فكذلك إذا أراد إقامتها الثاني لا يملك استحلافه لأن في البينة غنية عن اليمين‏,‏ فلم تشرع معها ولأن البينة أصل واليمين بدل فلا يجمع بين البدل والأصل‏,‏ كالتيمم مع الماء وفارق البعيدة فإنها في الحال كالمعدومة للعجز عنها وكذلك التي لا يريد إقامتها لأنه قد تكون عليه مشقة في إحضارها‏,‏ أو عليه في الحضور مشقة فيسقط ذلك للمشقة بخلاف التي يريد إقامتها‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ واليمين التي يبرأ بها المطلوب‏,‏ هي اليمين بالله وإن كان الحالف كافرا ‏]‏

وجملته أن اليمين المشروعة في الحقوق التي يبرأ بها المطلوب‏,‏ هي اليمين بالله تعالى في قول عامة أهل العلم إلا أن مالكا أحب أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو وإن استحلف حاكم بالله‏,‏ أجزأ قال ابن المنذر‏:‏ هذا أحب إلى لأن ابن عباس روى ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استحلف رجلا فقال له‏:‏ قل‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو ماله عندك شيء‏)‏ رواه أبو داود وفي حديث عمر‏,‏ حين حلف لأبي قال‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو إن النخل لنخلي‏,‏ وما لأبي فيها شيء وقال الشافعي‏:‏ إن كان المدعى قصاصا أو عتاقا أو حدا أو مالا يبلغ نصابا غلظت اليمين‏,‏ فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية وقال في القسامة‏:‏ عالم خائنة الأعين وما تخفى الصدور وهذا اختيار أبي الخطاب وذكر القاضي أن هذا في أيمان القسامة خاصة‏,‏ وليس بشرط ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما‏}‏ وقال تعالى في اللعان‏:‏ ‏{‏فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏ قال بعض أهل التفسير‏:‏ من أقسم بالله فقد أقسم جهد اليمين ‏(‏واستحلف النبي -صلى الله عليه وسلم- ركانة بن عبد يزيد في الطلاق‏,‏ فقال‏:‏ آلله ما أردت إلا واحدة‏)‏ حديث الحضرمي والكندي ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ألك بينة‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن أحلفه والله ما يعلم أنها أرضي غصبنيها‏)‏ رواه أبو داود وقال عثمان لابن عمر‏:‏ تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه ولأن في الله كفاية‏,‏ فوجب أن يكتفى باسمه في اليمين كالموضع الذي سلموه فأما حديث ابن عباس وعمر فإنه يدل على جواز الاستحلاف كذلك‏,‏ وما ذكرناه يدل على الاكتفاء باسم الله وحده وما ذكره الباقون فتحكم لا نص فيه ولا قياس يقتضيه إذا ثبت هذا‏,‏ فإن اليمين في حق المسلم والكافر جميعا بالله تعالى لا يحلف أحد بغيره لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ فيقسمان بالله‏}‏ ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

وتشرع اليمين في حق كل مدعى عليه‏,‏ سواء كان مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا امرأة أو رجلا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏اليمين على المدعى عليه‏)‏ وروى شقيق‏,‏ عن الأشعث بن قيس قال‏:‏ ‏(‏كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني‏,‏ فقدمته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ هل لك بينة‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال لليهودي‏:‏ احلف قلت‏:‏ إذا يحلف فيذهب بمالي فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا‏}‏ إلى آخر الآية رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه وفي حديث الحضرمي قلت‏:‏ إنه رجل فاجر‏,‏ لا يبالي على ما حلف عليه قال‏:‏ ‏(‏ليس لك منه إلا ذلك‏)‏‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ إلا أنه إن كان يهوديا قيل له‏:‏ قل‏:‏ والله الذي أنزل التوراة على موسى وإن كان نصرانيا قيل له‏:‏ قل‏:‏ والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان لهم مواضع يعظمونها‏,‏ ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها ‏]‏

ظاهر كلام الخرقي -رحمه الله- ‏,‏ أن اليمين لا تغلظ إلا في حق أهل الذمة ولا تغلظ في حق المسلمين ونحو هذا قال أبو بكر ووجه تغليظها في حقهم ما روى أبو هريرة‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- - يعني لليهود -‏:‏ ‏(‏نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى‏؟‏‏)‏ رواه أبو داود وكذلك قال الخرقي‏:‏ تغلظ بالمكان فيحلف في المواضع التي يعظمها‏,‏ ويتوقى الكذب فيها ولم يذكر التغليظ بالزمان وقال أبو الخطاب إن رأى التغليظ في اليمين في اللفظ بالزمان والمكان فله ذلك قال‏:‏ وقد أومأ إليه أحمد في رواية الميموني وذكر التغليظ في حق المجوسي قال‏:‏ فيقال له‏:‏ قل‏:‏ والله الذي خلقني ورزقني وإن كان وثنيا حلفه بالله وحده وكذلك إن كان لا يعبد الله لأنه لا يجوز أن يحلف بغير الله لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من كان حالفا‏,‏ فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏ ولأن هذا إن لم يكن يعتد هذه يمينا فإنه يزداد بها إثما وعقوبة‏,‏ وربما عجلت عقوبته فيتعظ بذلك ويعتبر به غيره وهذا كله ليس بشرط في اليمين‏,‏ وإنما للحاكم فعله إذا رأى وممن قال‏:‏ يستحلف أهل الكتاب بالله وحده مسروق وأبو عبيدة بن عبد الله وعطاء‏,‏ وشريح والحسن وإبراهيم بن كعب بن سور‏,‏ ومالك والثوري وأبو عبيد وممن قال‏:‏ لا يشرع التغليظ بالزمان والمكان في حق مسلم أبو حنيفة وصاحباه وقال مالك‏,‏ والشافعي‏:‏ تغلظ ثم اختلفا فقال مالك‏:‏ يحلف في المدينة على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويحلف قائما ولا يحلف قائما إلا على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويستحلفون في غير المدينة في مساجد الجماعات ولا يحلف عند المنبر إلا على ما يقطع فيه السارق فصاعدا‏,‏ وهو ثلاثة دراهم وقال الشافعي‏:‏ يستحلف المسلم بين الركن والمقام بمكة وفي المدينة عند منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر وعند الصخرة في بيت المقدس‏,‏ وتغلظ في الزمان في الاستحلاف بعد العصر ولا تغلظ في المال إلا في نصاب فصاعدا وتغلظ في الطلاق والعتاق والحد والقصاص وهذا اختيار أبي الخطاب وقال ابن جرير‏:‏ تغلظ في القليل والكثير واحتجوا بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله‏}‏ قيل‏:‏ أراد بعد العصر وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏من حلف على منبري هذا بيمين آثمة‏,‏ فليتبوأ مقعده من النار‏)‏ فثبت أنه يتعلق بذلك تأكيد اليمين وروى مالك قال‏:‏ اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع في دار كانت بينهما‏,‏ إلى مروان بن الحكم فقال زيد‏:‏ أحلف له مكاني فقال مروان‏:‏ لا والله إلا عند مقاطع الحقوق قال‏:‏ فجعل زيد يحلف أن حقه لحق ويأبى أن يحلف عند المنبر‏,‏ فجعل مروان يعجب ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما‏}‏ ولم يذكر مكانا ولا زمنا ولا زيادة في اللفظ واستحلف النبي -صلى الله عليه وسلم- ركانة في الطلاق‏,‏ فقال‏:‏ ‏(‏آلله ما أردت إلا واحدة‏؟‏ قال‏:‏ آلله ما أردت إلا واحدة‏)‏ ولم يغلظ يمينه بزمن ولا مكان ولا زيادة لفظ‏,‏ وسائر ما ذكرنا في التي قبلها وحلف عمر لأبي حين تحاكما إلى زيد في مكانه وكانا في بيت زيد وقال عثمان لابن عمر‏:‏ تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه‏؟‏ وفيما ذكروه تقييد لمطلق هذه النصوص ومخالفة الإجماع فإن ما ذكرنا عن الخليفتين عمر وعثمان‏,‏ مع من حضرهما لم ينكر وهو في محل الشهرة‏,‏ فكان إجماعا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصلاة‏}‏ إنما كان في حق أهل الكتاب في الوصية في السفر وهي قضية خولف فيها القياس في مواضع منها قبول شهادة أهل الكتاب على المسلمين ومنها استحلاف الشاهدين‏,‏ ومنها استحلاف خصومهما عند العثور على استحقاقهما الإثم وهم لا يعلمون بها أصلا فكيف يحتجون بها‏؟‏ ولما ذكر أيمان المسلمين أطلق اليمين‏,‏ ولم يقيدها والاحتجاج بهذا أولى من المصير إلى ما خولف فيه القياس وترك العمل به وأما حديثهم فليس فيه دليل على مشروعية اليمين عند المنبر إنما فيه تغليظ اليمين على الحالف عنده‏,‏ ولا يلزم من هذا الاستحلاف عنده وأما قصة مروان فمن العجب احتجاجهم بها وذهابهم إلى قول مروان في قضية خالفه زيد فيها‏,‏ وقول زيد فقيه الصحابة وقاضيهم وأفرضهم أحق أن يحتج به من قول مروان فإن قول مروان لو انفرد‏,‏ ما جاز الاحتجاج به فكيف يجوز الاحتجاج به على مخالفة إجماع الصحابة وقول أئمتهم وفقهائهم‏,‏ ومخالفته فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وإطلاق كتاب الله تعالى‏؟‏ وهذا ما لا يجوز وإنما ذكر الخرقي التغليظ بالمكان واللفظ في حق الذمي لاستحلاف النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهود بقوله‏:‏ ‏(‏نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى‏)‏ ولقول الله تعالى في حق الكتابيين ‏{‏تحبسونهما من بعد الصلاة‏}‏ ولأنه روي عن كعب بن سور‏,‏ في نصراني قال‏:‏ اذهبوا به إلى المذبح واجعلوا الإنجيل في حجره والتوراة على رأسه وقال الشعبي في نصراني‏:‏ اذهب به إلى البيعة‏,‏ فاستحلفه بما يستحلف به مثله وقال ابن المنذر‏:‏ لا أعلم حجة توجب أن يستحلف في مكان بعينه ولا بيمين غير الذي يستحلف بها المسلمون وعلى كل حال فلا خلاف بين أهل العلم‏,‏ في أن التغليظ بالزمان والمكان والألفاظ غير واجب إلا أن ابن الصباغ ذكر أن في وجوب التغليظ بالمكان قولين للشافعي وخالفه ابن القاص فقال‏:‏ لا خلاف بين أهل العلم‏,‏ في أن القاضي حيث استحلف المدعى عليه في عمله وبلد قضائه جاز وإنما التغليظ بالمكان فيه اختيار فيكون التغليظ عند من رآه اختيارا واستحسانا‏.‏

فصل‏:‏

قال ابن المنذر‏:‏ لم نجد أحدا يوجب اليمين بالمصحف وقال الشافعي‏:‏ رأيتهم يؤكدون بالمصحف‏,‏ ورأيت ابن مازن وهو قاض بصنعاء يغلظ اليمين بالمصحف قال أصحابه‏:‏ فيغلظ عليه بإحضار المصحف لأنه يشتمل على كلام الله تعالى وأسمائه وهذا زيادة على ما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اليمين‏,‏ وفعله الخلفاء الراشدون وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها ولا يترك فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لفعل ابن مازن ولا غيره‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ويحلف الرجل فيما عليه على البت ويحلف الوارث على دين الميت على العلم ‏]‏ معنى البت‏:‏ القطع أي يحلف بالله ماله على شيء وجملة الأمر أن الأيمان كلها على البت والقطع‏,‏ إلا على نفى فعل الغير فإنها على نفى العلم وبهذا قال أبو حنيفة ومالك‏,‏ والشافعي وقال الشعبي والنخعي‏:‏ كلها على العلم وذكره ابن أبي موسى رواية عن أحمد وذكر أحمد حديث الشيباني عن القاسم بن عبد الرحمن‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون‏)‏ ولأنه لا يكلف ما لا علم له به وقال ابن أبي ليلى‏:‏ كلها على البت كما يحلف على فعل نفسه ولنا حديث ابن عباس ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استحلف رجلا فقال له‏:‏ قل‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو‏,‏ ما له عليك حق‏)‏ وروى الأشعث بن قيس ‏(‏أن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في أرض من اليمن‏,‏ فقال الحضرمي‏:‏ يا رسول الله إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا وهي في يده فقال‏:‏ هل لك بينة‏؟‏ قال‏:‏ لا‏,‏ ولكن أحلفه والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه فتهيأ الكندي لليمين‏)‏ رواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- وما ذكروه لا يصح لأنه يمكنه الإحاطة بفعل نفسه ولا يمكنه ذلك في فعل غيره‏,‏ فافترقا في اليمين كما افترقت الشهادة فإنها تكون بالقطع فيما يمكن القطع فيه من العقود‏,‏ وعلى الظن فيما لا يمكن فيه القطع من الأملاك والأنساب وعلى نفى العلم فيما لا تمكن الإحاطة بانتفائه كالشهادة على أنه لا وارث له غير فلان وفلان وحديث القاسم بن عبد الرحمن‏,‏ محمول على اليمين على نفى فعل الغير إذا ثبت هذا فإنه يحلف فيما عليه على البت نفيا كان أو إثباتا وأما ما يتعلق بفعل غيره‏,‏ فإن كان إثباتا مثل أن يدعى أنه أقر أو باع ويقيم شاهدا بذلك‏,‏ فإنه يحلف مع شاهده على البت والقطع وإن كان على نفي العلم مثل أن يدعى عليه دين أو غصب أو جناية فإنه يحلف على نفي العلم‏,‏ لا غير وإن حلف عليه على البت كفاه وكان التقدير فيه العلم كما في الشاهد إذا شهد بعدد الورثة‏,‏ وقال‏:‏ ليس له وارث غيرهم سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه ولو ادعى عليه أن عبده جنى أو استدان فأنكر ذلك‏,‏ فيمينه على نفي العلم لأنها يمين على نفي فعل الغير فأشبهت يمين الوارث على نفي الموروث‏.‏

فصل‏:‏

قال ابن أبي موسى‏:‏ اختلف قول أحمد في من باع سلعة‏,‏ فظهر المشتري على عيب بها وأنكره البائع هل اليمين على البتات أو على علمه‏؟‏ على روايتين ولو أبق عبد المشتري‏,‏ فادعى على البائع أنه أبق عنده فأنكر هل يلزمه أن يحلف أنه لم يأبق قط‏,‏ أو على نفي علمه‏؟‏ على روايتين إلا أن يكون ولده فيحلف أنه لم يأبق قط ووجه كون اليمين على علمه‏,‏ أنها على نفي فعل الغير فأشبه ما لو ادعى عليه أن عبده جنى ووجه الأخرى أنه إذا ادعى عليه أنه باعه معيبا‏,‏ يستحق به رده عليه فلزمته اليمين على البت كما لو كان إثباتا‏.‏

فصل‏:‏

ومن توجهت عليه يمين هو فيها صادق‏,‏ أو توجهت له أبيح له الحلف ولا شيء عليه من إثم ولا غيره لأن الله تعالى شرع اليمين‏,‏ ولا يشرع محرما وقد أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقسم على الحق في ثلاثة مواضع من كتابه وحلف عمر لأبي على نخيل‏,‏ ثم وهبه له وقال‏:‏ خفت إن لم أحلف أن يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم فتصير سنة قال حنبل‏:‏ بلى أبو عبد الله بنحو هذا‏,‏ جاء إليه ابن عمه فقال‏:‏ لي قبلك حق من ميراث أبي وأطالبك بالقاضي‏,‏ وأحلفك فقيل لأبي عبد الله‏:‏ ما ترى‏؟‏ قال‏:‏ أحلف له إذا لم يكن له قبلي حق وأنا غير شاك في ذلك حلفت له‏,‏ وكيف لا أحلف وعمر قد حلف وأنا من أنا‏؟‏ وعزم أبو عبد الله على اليمين‏,‏ فكفاه الله ذلك ورجع الغلام عن تلك المطالبة واختلف في الأولى فقال قوم‏:‏ الحلف أولى من افتداء يمينه لأن عمر حلف ولأن في الحلف فائدتين إحداهما‏,‏ حفظ ماله عن الضياع وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعته والثانية تخليص أخيه الظالم من ظلمه‏,‏ وأكل المال بغير حقه وهذا من نصيحته ونصرته بكفه عن ظلمه وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- على رجل أن يحلف ويأخذ حقه وقال أصحابنا‏:‏ الأفضل افتداء يمينه فإن عثمان افتدى يمينه‏,‏ وقال‏:‏ خفت أن تصادف قدرا فيقال حلف فعوقب أو هذا شؤم يمينه وروى الخلال‏,‏ بإسناده أن حذيفة عرف جملا سرق له فخاصم فيه إلى قاضي المسلمين‏,‏ فصارت اليمين على حذيفة فقال‏:‏ لك عشرة دراهم فأبى فقال لك عشرون فأبى‏,‏ فقال‏:‏ لك ثلاثون فأبى فقال‏:‏ لك أربعون فأبي‏,‏ فقال حذيفة‏:‏ أتراني أترك جملي‏؟‏ فحلف بالله أنه له ما باع ولا وهب ولأن في اليمين عند الحاكم تبذلا ولا يأمن أن يصادف قدرا فينسب إلى الكذب‏,‏ وأنه عوقب بحلفه كاذبا وفي ذهاب ماله له أجر وليس هذا تضييعا للمال‏,‏ فإن أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة وأما عمر فإنه خاف الاستنان به وترك الناس الحلف على حقوقهم‏,‏ فيدل على أنه لولا ذلك لما حلف وهذا أولى‏,‏ والله تعالى أعلم‏.‏

فصل‏:‏

فأما الحلف الكاذب ليقتطع به مال أخيه ففيه إثم كبير وقد قيل‏:‏ إنه من الكبائر لأن الله تعالى وعد عليه العذاب الأليم فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم‏}‏ قال الأشعث بن قيس‏:‏ نزلت هذه الآية‏,‏ كان لي بئر في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ ‏(‏بينتك أو يمينه‏)‏ قلت‏:‏ إذا يحلف عليها فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين‏,‏ هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان‏)‏ أخرجه البخاري وروى ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين صبر‏,‏ يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان‏)‏ متفق عليه وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الكندي ‏(‏لئن حلف على ماله ليأكله ظلما‏,‏ ليلقين الله وهو عنه معرض‏)‏ وهو حديث حسن صحيح وقد روى في حديث‏:‏ أن يمين الغموس تذر الديار بلاقع ويستحب للحاكم أن يخوف المدعى عليه من اليمين الفاجرة ويقرأ عليه الآية والأخبار‏.‏

فصل‏:‏

ومن ادعى عليه دين وهو معسر به لم يحل له أن يحلف أنه لا حق له على وبهذا قال المزني وقال أبو ثور‏:‏ له ذلك لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‏}‏ ولأنه لا يستحق مطالبته به في الحال‏,‏ ولا يجب عليه أداؤه إليه ولنا أن الدين في ذمته وهو حق له عليه‏,‏ ولو لم يكن عليه حق لم يجب إنظاره به‏.‏

فصل‏:‏

ويمين الحالف على حسب جوابه فإذا ادعى عليه أنه غصبه‏,‏ أو استودعه وديعة أو اقترض منه نظرنا في جواب المدعى عليه فإن قال‏:‏ ما غصبتك‏,‏ ولا استودعتني ولا أقرضتني كلف أن يحلف على ذلك فإن قال‏:‏ مالك على حق أو لا تستحق على شيئا‏,‏ أو لا تستحق على ما ادعيته ولا شيئا منه كان جوابا صحيحا ولا يكلف الجواب عن الغصب الوديعة والقرض لأنه يجوز أن يكون غصب منه ثم رده عليه فلو كلف فجحد ذلك كان كاذبا‏,‏ وإن أقر به ثم ادعى الرد لم يقبل منه‏,‏ فإذا طلب منه اليمين حلف على حسب ما أجاب ولو ادعى أنني ابتعت منك الدار التي في يدك فأنكره‏,‏ وطلب يمينه نظرنا في جوابه فإن أجاب بأنك لا تستحقها حلف على ذلك ولم يلزمه أن يحلف أنه ما ابتاعها لأنه قد يبتاعها منه ثم يردها عليه وإن أجاب بأنك لم تبتعها مني حلف على ذلك قال أحمد في رجل ادعى على رجل أنه أودعه‏,‏ فأنكره هل يحلف‏:‏ ما أودعتني‏؟‏ قال‏:‏ إذا حلف‏:‏ مالك عندي شيء ولا لك في يدي شيء فهو يأتي على ذلك وهذا يدل على أنه لا يلزمه الحلف على حسب الجواب‏,‏ وأنه متى حلف‏:‏ مالك قبلي حق برئ بذلك ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين‏.‏

فصل‏:‏

ولا تدخل اليمين النيابة ولا يحلف أحد عن غيره‏,‏ فلو كان المدعى عليه صغيرا أو مجنونا لم يحلف عنه ووقف الأمر حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ولم يحلف عنه وليه ولو ادعى الأب لابنه الصغير حقا‏,‏ أو ادعاه الوصي أو الأمين له فأنكر المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه‏,‏ فإن نكل قضي عليه ومن لم ير القضاء بالنكول ورأى رد اليمين على المدعي لم يحلف الولي عنهما ولكن تقف اليمين‏,‏ ويكتب الحاكم محضرا بنكول المدعى عليه وإن ادعى على العبد دعوى نظرت فإن كانت مما يقبل قول العبد فيها على نفسه كالقصاص‏,‏ والطلاق والقذف فالخصومة معه دون سيده فإن قلنا‏:‏ إن اليمين تشرع في هذا أحلف العبد دون سيده‏,‏ وإن نكل لم يحلف غيره وإن كان مما لا يقبل قول العبد فيه كإتلاف مال‏,‏ أو جناية توجب المال فالخصم السيد واليمين عليه‏,‏ ولا يحلف العبد فيها بحال‏.‏

فصل‏:‏

وإذا نكل من توجهت عليه اليمين عنها وقال‏:‏ لي بينة أقيمها أو حساب أستثبته‏,‏ لأحلف على ما أتيقن فذكر أبو الخطاب أنه لا يمهل وإن لم يحلف جعل ناكلا وقيل‏:‏ لا يكون ذلك نكولا‏,‏ ويمهل مدة قريبة وإن قال‏:‏ ما أريد أن أحلف أو سكت فلم يذكر شيئا نظرنا في المدعى فإن كان مالا أو المقصود منه المال قضي عليه بنكوله‏,‏ ولم ترد اليمين على المدعى نص عليه أحمد فقال‏:‏ أنا لا أرى رد اليمين إن حلف المدعى عليه وإلا دفع إليه حقه وبهذا قال أبو حنيفة واختار أبو الخطاب‏,‏ أن له رد اليمين على المدعى إن ردها حلف المدعى وحكم له بما ادعاه قال وقد صوبه أحمد‏,‏ فقال‏:‏ ما هو ببعيد يحلف ويستحق‏:‏ هو قول أهل المدينة روى ذلك عن على رضي الله عنه وبه قال شريح‏,‏ والشعبي والنخعي وابن سيرين‏,‏ ومالك في المال خاصة وقال الشافعي في جميع الدعاوى لما روي عن نافع عن ابن عمر ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد اليمين على طالب الحق‏)‏ رواه الدارقطني ولأنه إذا نكل ظهر صدق المدعى وقوي جانبه فتشرع اليمين في حقه‏,‏ كالمدعى عليه قبل نكوله وكالمدعى إذا شهد له شاهد واحد ولأن النكول قد يكون لجهله بالحال‏,‏ وتورعه عن الحلف على ما لا يتحققه أو للخوف من عاقبة اليمين أو ترفعا عنها‏,‏ مع علمه بصدقه في إنكاره ولا يتعين بنكوله صدق المدعى فلا يجوز الحكم له من غير دليل‏,‏ فإذا حلف كانت يمينه دليلا عند عدم ما هو أقوى منها كما في موضع الوفاق وقال ابن أبي ليلى‏:‏ لا أدعه حتى يقر أو يحلف ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏‏(‏ولكن اليمين على جانب المدعى عليه‏)‏ فحصرها في جانب المدعى عليه وقوله‏:‏ ‏(‏البينة على المدعي‏,‏ واليمين على المدعى عليه‏)‏ فجعل جنس اليمين في جنب المدعى عليه كما جعل جنس البينة في جنبة المدعى وقال أحمد‏:‏ قدم ابن عمر إلى عثمان في عبد له فقال له‏:‏ احلف أنك ما بعته وبه عيب علمته فأبى ابن عمر أن يحلف‏,‏ فرد العبد عليه ولم يرد اليمين على المدعى ولأنها بينة في المال فحكم فيها بالنكول‏,‏ كما لو مات من لا وارث له فوجد الإمام في دفتره دينا له على إنسان فطالبه به‏,‏ فأنكره وطلب منه اليمين فأنكره‏,‏ فإنه لا خلاف أن اليمين لا ترد وقد ذكر أصحاب الشافعي في هذا أنه يقضى بالنكول في أحد الوجهين‏,‏ وفي الآخر يحبس المدعى عليه حتى يقر‏,‏ أو يحلف وكذلك لو ادعى رجل على ميت أنه وصى إليه بتفريق ثلثه وأنكر الورثة ونكلوا عن اليمين‏,‏ قضى عليهم والخبر لا تعرف صحته ومخالفة ابن عمر له في القصة التي ذكرناها يدل على ضعفه‏,‏ فإنه لم يرد اليمين على المدعى ولا ردها عثمان فعلى هذا إذا نكل عن اليمين‏,‏ قال له الحاكم‏:‏ إن حلفت وإلا قضيت عليك ثلاثا فإن حلف وإلا قضى عليه وعلى القول الآخر‏,‏ يقول له‏:‏ لك رد اليمين على المدعى فإن ردها حلف وقضي له‏,‏ وإن نكل عن اليمين سئل عن سبب نكوله فإن قال‏:‏ لي بينة أقيمها‏,‏ أو حساب أستثبته لأحلف على ما أتيقنه أخرت الحكومة وإن قال‏:‏ ما أريد أن أحلف سقط حقه من اليمين فلو بذلها في ذلك المجلس بعد هذا‏,‏ لم تسمع منه إلى أن يعود في مجلس آخر فإن قيل‏:‏ فالمدعى عليه لو امتنع من اليمين ثم بذلها‏,‏ سمعت منه فلم منعتم سماعها ها هنا‏؟‏ قلنا‏:‏ اليمين في حق المدعى عليه هي الأصل فمتى قدر عليها‏,‏ أو بذلها وجب قبولها والمصير إليها‏,‏ كالمبدلات مع أبدالها وأما يمين المدعى فهي بدل‏,‏ فإذا امتنع منها لم ينتقل الحق إلى غيره فإذا امتنع منها‏,‏ سقط حقه منها لضعفها وأما إذا حلف وقضي له فعاد المدعى عليه‏,‏ وبذل اليمين لم يسمع منه وهكذا لو بذلها بعد الحكم عليه بنكوله‏,‏ لم يسمع لأن الحكم قد تم فلا ينقض كما لو قامت به بينة فأما غير المال‏,‏ وما لا يقصد به المال فلا يقضى فيه بالنكول نص عليه أحمد في القصاص ونقل عنه في رجل ادعى على رجل أنه قذفه‏,‏ فقال‏:‏ استحلفوه فإن قال‏:‏ لا أحلف أقيم عليه قال أبو بكر‏:‏ هذا قول قديم والمذهب أنه لا يقضى في شيء من هذا بالنكول‏,‏ ولا فرق بين القصاص في النفس والقصاص في الطرف وبهذا قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة‏:‏ يقضى بالنكول في القصاص فيما دون النفس وعن أحمد مثله والأول هو المذهب لأن هذا أحد نوعي القصاص فأشبه النوع الآخر فعلى هذا‏,‏ ما يصنع به‏؟‏ فيه وجهان أحدهما يخلى سبيله لأنه لم يثبت عليه حجة وتكون فائدة شرعية اليمين الردع والزجر والثاني‏,‏ يحبس حتى يقر أو يحلف وأصل الوجهين المرأة إذا نكلت عن اللعان‏.‏

فصل‏:‏

وإذا حلف فقال‏:‏ -إن شاء الله تعالى- أعيدت عليه اليمين لأن الاستثناء يزيل حكم اليمين وكذلك إن وصل يمينه بشرط أو كلام غير مفهوم وإن حلف قبل أن يستحلفه الحاكم أعيدت عليه‏,‏ ولم يعتد بما حلف قبل الاستحلاف وكذلك إن استحلفه الحاكم قبل أن يسأله المدعى استحلافه لم يعتد بها‏.‏

فصل‏:‏

ولو ادعى على رجل دينا أو حقا‏,‏ فقال‏:‏ قد أبرأتني منه أو استوفيته مني فالقول قول من ينكر الإبراء والاستيفاء مع يمينه ويكفيه أن يحلف بالله أن هذا الحق - ويسميه تسمية يصير بها معلوما - ما برئت ذمتك منه‏,‏ ولا من شيء منه أو ما برئت ذمتك من ذلك الحق ولا من شيء منه وإن ادعى استيفاءه‏,‏ أو البراءة بجهة معلومة حلف على تلك الجهة وحدها وكفاه‏.‏

فصل‏:‏

والحقوق على ضربين أحدهما‏,‏ ما هو حق لآدمي والثاني ما هو حق لله تعالى فحق الآدمي ينقسم قسمين أحدهما ما هو مال‏,‏ أو المقصود منه المال فهذا تشرع فيه اليمين بلا خلاف بين أهل العلم‏,‏ فإذا لم تكن للمدعي بينة حلف المدعى عليه وبرئ وقد ثبت هذا في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض‏,‏ وعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ولكن اليمين على المدعى عليه‏)‏ القسم الثاني ما ليس بمال ولا المقصود منه المال‏,‏ وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح‏,‏ والطلاق والرجعة والعتق‏,‏ والنسب والاستيلاد والولاء‏,‏ والرق ففيه روايتان إحداهما لا يستحلف المدعى عليه‏,‏ ولا تعرض عليه اليمين قال أحمد‏:‏ لم أسمع من مضى جوزوا الأيمان إلا في الأموال والعروض خاصة وهذا قول مالك ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال‏:‏ لا يستحلف في النكاح وما يتعلق به من دعوى الرجعة والفيئة في الإيلاء‏,‏ ولا في الرق وما يتعلق به من الاستيلاد والولاء والنسب لأن هذه الأشياء لا يدخلها البدل وإنما تعرض اليمين فيما يدخله البدل فإن المدعى عليه مخير بين أن يحلف أو يسلم ولأن هذه الأشياء لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين‏,‏ فلا تعرض فيها اليمين كالحدود والرواية الثانية يستحلف في الطلاق والقصاص‏,‏ والقذف وقال الخرقي‏:‏ إذا قال‏:‏ ارتجعتك فقالت‏:‏ انقضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها مع يمينها وإذا اختلف في مضي الأربعة أشهر فالقول قوله مع يمينه فيخرج من هذا أنه يستحلف في كل حق لآدمي وهذا قول الشافعي‏,‏ وأبي يوسف ومحمد لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم‏,‏ ولكن اليمين على المدعى عليه‏)‏ أخرجه مسلم وهذا عام في كل مدعى عليه وهو ظاهر في دعوى الدماء لذكرها في الدعوى مع عموم الأحاديث ولأنها دعوى صحيحة في حق لآدمي‏,‏ فجاز أن يحلف فيها المدعى عليه كدعوى المال الضرب الثاني حقوق الله تعالى‏,‏ وهي نوعان أحدهما الحدود فلا تشرع فيها يمين لا نعلم في هذا خلافا لأنه لو أقر‏,‏ ثم رجع عن إقراره قبل منه وخلى من غير يمين‏,‏ فلأن لا يستحلف مع عدم الإقرار أولى ولأنه يستحب ستره والتعريض للمقر به‏,‏ بالرجوع عن إقراره وللشهود بترك الشهادة والستر عليه قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لهزال‏,‏ في قصة ماعز‏:‏ ‏(‏يا هزال لو سترته بثوبك لكان خيرا لك‏)‏ فلا تشرع فيه يمين بحال النوع الثاني‏,‏ الحقوق المالية كدعوى الساعي الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم وكمل النصاب‏,‏ فقال أحمد‏:‏ القول قول رب المال من غير يمين ولا يستحلف الناس على صدقاتهم وقال الشافعي‏,‏ وأبو يوسف ومحمد‏:‏ يستحلف لأنها دعوى مسموعة أشبه حق الآدمي ولنا أنه حق لله تعالى‏,‏ أشبه الحد ولأن ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة ولو ادعى عليه‏,‏ أن عليه كفارة يمين أو ظهار أو نذر صدقة أو غيرها فالقول قوله في نفي ذلك من غير يمين‏,‏ ولا تسمع الدعوى في هذا ولا في حد لله تعالى لأنه لا حق للمدعى فيه ولا ولاية له عليه‏,‏ فلا تسمع منه دعواه حقا لغيره من غير إذنه ولا ولاية له عليه فإن تضمنت دعواه حقا له مثل أن يدعي سرقة ماله‏,‏ ليضمن السارق أو يأخذ منه ما سرقه أو يدعى عليه الزنى بجاريته ليأخذ مهرها منه‏,‏ سمعت دعواه ويستحلف المدعى عليه لحق الآدمي دون حق الله تعالى‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا شهد من الأربعة اثنان‏,‏ أن هذا زنى بها في هذا البيت وشهد الآخران أنه زنى بها في البيت الآخر فالأربعة قذفة‏,‏ وعليهم الحد ‏]‏

وجملته أن من شرط صحة الشهادة على الزنى اجتماع الشهود الأربعة على فعل واحد‏,‏ فإن لم يجتمعوا لم تكمل الشهادة وكان الجميع قذفة‏,‏ وعليهم الحد فإذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت واثنان أنه زنى بها في بيت آخر‏,‏ فما اجتمعوا على الشهادة بزنى واحد لأن الزنى في هذا البيت غير الزنى في الآخر فلم تكمل شهادتهم ويحدون حد القذف وبهذا قال مالك‏,‏ والشافعي في أحد قوليه وقال أبو بكر‏:‏ تكمل شهادتهم ويحد المشهود عليه واستبعده أبو الخطاب وقال‏:‏ هذا سهو من الناقل لأنه يخالف الأصول والإجماع‏,‏ والحد يدرأ بالشبهات فكيف يجب بها وقال النخعي‏,‏ وأصحاب الرأي وأبو ثور والشافعي في قول‏:‏ لا حد على الشهود لأنهم كملوا أربعة ولا على المشهود عليه لأنهم لم يشهدوا بزنى واحد يجب الحد به ولنا‏,‏ أنهم لم يشهدوا بزنى واحد فلزمهم الحد كما لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة‏,‏ واثنان أنه زنى بغيرها ولأنه لا يخلو من أن تكون شهادتهم بزنى واحد أو باثنين فإن كانت بفعل واحد‏,‏ مثل أن يعين الجميع وقتا واحدا لا يمكن زناه فيه في الموضعين فاثنان منهم كاذبان يقينا‏,‏ واثنان منهم لو خلوا عن المعارضة لشهادتهم لكانا قاذفين فمع التعارض أولى وإن كانت شهادتهم بفعلين‏,‏ كانوا قذفة كما لو عينوا في شهادتهم أنه زنى مرة أخرى وما ذكروه يبطل بالأصل الذي ذكرناه‏.‏

فصل‏:‏

وكذلك كل شهادة على فعلين مثل أن يشهد اثنان أنه زنى بامرأة‏,‏ وآخران أنه زنى بأخرى أو يشهدان أنه زنى بها في يوم وآخران أنه زنى بها في آخر‏,‏ أو يشهدان أنه زنى بها ليلا وآخران أنه زنى بها نهارا أو يشهدان أنه زنى بها غدوة‏,‏ ويشهد آخران أنه زنى بها عشيا وأشباه هذا فإنهم قذفة في هذه المواضع‏,‏ وعليهم الحد لما ذكرناه فإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية منه أخرى وكانتا متباعدتين‏,‏ فالحكم فيه كما ذكرنا وقال أبو حنيفة‏:‏ تقبل شهادتهم ويحد المشهود عليه استحسانا وهو قول أبي بكر ولنا أنهما مكانان لا يمكن وقوع الفعل الواحد فيهما‏,‏ ولا يصح نسبته إليهما فأشبها البيتين وأما إن كانتا متقاربتين تمكن نسبته إلى كل واحدة منهما‏,‏ لقربه منها كملت الشهادة لإمكان صدقهم في نسبته إلى الزاويتين جميعا‏.‏

فصل‏:‏

ومتى كانت الشهادة على فعل فاختلف الشاهدان في زمنه أو مكانه‏,‏ أو صفة له تدل على تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما مثل أن يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا يوم السبت‏,‏ ويشهد الآخر أنه غصبه دينارا يوم الجمعة أو يشهد أحدهما أنه غصبه بدمشق ويشهد الآخر أنه غصبه بمصر‏,‏ أو يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا ويشهد الآخر أنه غصبه ثوبا فلا تكمل الشهادة لأن كل فعل لم يشهد به شاهدان وهكذا إن اختلفا في زمن القتل‏,‏ أو مكانه أو صفته أو في شرب الخمر‏,‏ أو القذف لم تكمل الشهادة لأن ما شهد به أحد الشاهدين غير الذي شهد به الآخر فلم يشهد بكل واحد من الفعلين إلا شاهد واحد‏,‏ فلم يقبل إلا على قول أبي بكر فإن هذه الشهادة لم تكمل ويثبت المشهود به إذا اختلفا في الزمان والمكان فأما إن اختلفا في صفة الفعل فشهد أحدهما أنه سرق مع الزوال كيسا أبيض‏,‏ وشهد آخر أنه سرق مع الزوال كيسا أسود أو شهد أحدهما أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد الآخر أنه سرقه عشيا‏,‏ لم تكمل الشهادة ذكره ابن حامد وقال أبو بكر‏:‏ تكمل والأول أصح لأن كل فعل لم يشهد به إلا واحد على ما قدمناه وإن اختلفا في صفة المشهود به اختلافا يوجب تغايرهما مثل أن يشهد أحدهما بثوب والآخر بدينار فلا خلاف في أن الشهادة لا تكمل لأنه لا يمكن إيجابهما جميعا لأنه يكون إيجابا بالحق عليه بشهادة واحد‏,‏ ولا إيجاب أحدهما بعينه لأن الآخر لم يشهد به وليس أحدهما أولى من الآخر فأما إن شهد بكل فعل شاهدان واختلفا في الزمان‏,‏ أو المكان أو الصفة ثبتا جميعا لأن كل واحد منهما قد شهدت به بينة عادلة‏,‏ لو انفردت أثبتت الحق وشهادة الأخرى لا تعارضها لإمكان الجمع بينهما إلا أن يكون الفعل مما لا يمكن تكرره‏,‏ كقتل رجل بعينه فتتعارض البينتان لعلمنا أن إحداهما كاذبة‏,‏ ولا نعلم أيتهما هي بخلاف ما يتكرر ويمكن صدق البينتين فيه فإنهما جميعا يثبتان إن ادعاهما‏,‏ وإن لم يدع إلا إحداهما ثبت له ما ادعاه دون ما لم يدعه وإن شهد اثنان أنه سرق مع الزوال كيسا أسود وشهد آخران أنه سرق مع الزوال كيسا أبيض‏,‏ أو شهد اثنان أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد آخران أنه سرقه عشيا فقال القاضي‏:‏ يتعارضان وهو مذهب الشافعي كما لو كان المشهود به قتلا والصحيح أن هذا لا تعارض فيه‏,‏ لأنه يمكن صدق البينتين بأن يسرق عند الزوال كيسين أبيض وأسود فتشهد كل بينة بأحدهما‏,‏ ويمكن أن يسرق كيسا غدوة ثم يعود إلى صاحبه أو غيره فيسرقه عشيا ومع إمكان الجمع لا تعارض فعلى هذا‏,‏ إن ادعاهما المشهود له ثبتا له في الصورة الأولى وأما في الصورة الثانية‏,‏ فيثبت له الكيس المشهود به حسب فإن المشهود به وإن كان فعلين لكنهما في محل واحد فلا يجب أكثر من ضمانه وإن لم يدع المشهود له إلا أحد الكيسين‏,‏ ثبت له ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه وإن شهد له شاهد بسرقة كيس في يوم وشهد آخر بسرقة كيس في يوم آخر‏,‏ أو شهد أحدهما في مكان وشهد آخر بسرقة في مكان آخر أو شهد أحدهما بغصب كيس أبيض‏,‏ وشهد آخر بغصب كيس أسود فادعاهما المشهود له فله أن يحلف مع كل واحد منهما‏,‏ ويحكم له به لأنه مال قد شهد له به شاهد وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما ادعاه‏,‏ ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه‏.‏

فصل‏:‏

فأما الشهادة على الإقرار مثل أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي يوم الخميس بدمشق أنه قتله أو قذفه‏,‏ أو غصبه كذا أو أن له في ذمته كذا ويشهد آخر أنه أقر عندي بهذا يوم السبت بحمص‏,‏ كملت شهادتهما وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال زفر‏:‏ لا تكمل شهادتهما لأن كل إقرار لم يشهد به إلا واحد فلم تكمل الشهادة‏,‏ فأشبه الشهادة على الفعل ولنا أن المقر به واحد وقد شهد اثنان بالإقرار به‏,‏ فكملت شهادتهما كما لو كان الإقرار بهما واحدا وفارق الشهادة على الفعل فإن الشهادة فيها على فعلين مختلفين‏,‏ فنظيره من الإقرار أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي أنه قتله في يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قتله يوم الجمعة فإن شهادتهما لا تقبل ها هنا ويحقق ما ذكرناه‏,‏ أنه لا يمكن جمع الشهود لسماع الشهادة في حق كل واحد والعادة جارية بطلب الشهود في أماكنهم لا في جمعهم إلى المشهود له فيمضي إليهم في أوقات متفرقة وأماكن مختلفة‏,‏ فيشهدهم على إقراره وإن كان الإقرار على فعلين مختلفين مثل أن يقول أحدهما‏:‏ أشهد أنه أقر عندي أنه قتله يوم الخميس وقال الآخر أشهد أنه أقر عندي أنه قتله يوم الجمعة أو قال أحدهما‏:‏ أشهد أنه أقر عندي أنه قذفه بالعربية وقال الآخر‏:‏ أشهد أنه أقر عندي أنه قذفه بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن الذي شهد به أحدهما غير الذي شهد به صاحبه فلم تكمل الشهادة‏,‏ كما لو شهد أحدهما أنه أقر أنه غصبه دنانير وشهد الآخر أنه أقر أنه غصبه دراهم لم تكمل الشهادة وعلى قول أبي بكر‏,‏ تكمل الشهادة في القتل والقذف لأن القذف بالعربية أو العجمية والقتل بالبصرة أو الكوفة‏,‏ ليس من المقتضى فلا يعتبر في الشهادة ولم يؤثر والأول أصح‏.‏

فصل‏:‏

فإن شهد أحدهما أنه باع أمس‏,‏ وشهد الآخر أنه باع اليوم أو شهد أحدهما أنه طلقها أمس وشهد الآخر أنه طلقها اليوم‏,‏ فقال أصحابنا‏:‏ تكمل الشهادة وقال الشافعي لا تكمل لأن كل واحد من البيع والطلاق لم يشهد به إلا واحد أشبه ما لو شهد بالغصب في وقتين ووجه قول أصحابنا أن المشهود به شيء واحد يجوز أن يعاد مرة بعد أخرى ويكون واحدا‏,‏ فاختلافهما في الوقت ليس باختلاف فيه فلم يؤثر كما لو شهد أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية‏.‏

فصل‏:‏

وكذلك الحكم في كل شهادة على قول فالحكم فيه كالحكم في البيع إلا النكاح فإنه كالفعل الواحد فإذا شهد أحدهما أنه تزوجها أمس‏,‏ وشهد الآخر أنه تزوجها اليوم لم تكمل الشهادة في قولهم جميعا لأن النكاح أمس غير النكاح اليوم‏,‏ فلم يشهد بكل واحد من العقدين إلا شاهد واحد فلم يثبت كما لو كانت الشهادة على فعل‏,‏ وكذلك القذف فإنه لا تكمل الشهادة إلا أن يشهدا على قذف واحد‏.‏

فصل‏:‏

فإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد وشهد الآخر أنه أقر بغصبه منه كملت الشهادة‏,‏ وحكم بها لأنه يجوز أن يكون الغصب الذي أقر به هو الذي شهد الشاهد به فلم يختلف الفعل وكملت الشهادة‏,‏ كما لو شهدا في وقتين على إقراره بالغصب وقال القاضي‏:‏ لا تكمل الشهادة يحكم بها وهو قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون ما أقر به غير ما شهد به الشاهد وهذا يبطل بالشهادة على إقرارين فإنه يجوز أن يكون ما أقر به عند أحد الشاهدين غير ما أقر به عند الآخر إذا كانا في وقتين مختلفين‏,‏ ولأنه إذا أمكن جعل الشهادة على واحد لم تحمل على اثنين كالإقرارين‏,‏ وكما لو شهد بالغصب اثنان وشهد على الإقرار به اثنان وإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد من زيد أو أنه أقر بغصبه منه‏,‏ وشهد الآخر أنه ملك زيد لم تكمل شهادتهما لأنهما لم يشهدا على شيء واحد وإن شهد أنه أخذه من يديه ألزمه الحاكم رده إلى يديه لأن اليد دليل الملك‏,‏ فترد إلى يده لتكون دلالتها ثابتة له قال مهنا‏:‏ سألت أبا عبد الله عن رجل ادعى دارا في يد رجل‏,‏ وأقام شاهدين شهد أحدهما أن هذه الدار لفلان وقال الآخر‏:‏ أشهد أن هذه الدار دار فلان قال‏:‏ شهادتهما جائزة‏.‏

فصل‏:‏

ومن شهد بالنكاح‏,‏ فلا بد من ذكر شروطه لأن الناس يختلفون في شروطه فيجب ذكرها لئلا يكون الشاهد يعتقد أن النكاح صحيح‏,‏ وهو فاسد وإن شهد بعقد سواه كالبيع والإجارة فهل يشترط ذكر شروطه‏؟‏ على روايتين إحداهما‏,‏ يشترط ذكرها لأن الناس يختلفون في شروطه فاشتراط ذكرها كالنكاح والثانية لا يشترط ذكر شروطه لأنه لا يشترط ذكرها في الدعوى‏,‏ فكذلك في الشهادة به بخلاف النكاح وإن شهد بالرضاع فلا بد من ذكر أنه شرب من ثديها أو من لبن حلب منه‏,‏ وعدد الرضعات لأن الناس يختلفون في عدد الرضعات وفي الرضاع المحرم وإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم يكف لاختلاف الناس فيما يصير به ابنها‏,‏ ولا بد من ذكر أن ذلك كان في الحولين وإن شهد بالقتل فلا بد من وصف القتل فيقول‏:‏ جرحه فقتله‏,‏ أو ضربه بكذا فقتله ولو قال‏:‏ ضربه فمات لم يحكم بذلك لجواز أن يكون مات بغير هذا وقد روي عن شريح أنه شهد عنده رجل فقال‏:‏ أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه‏,‏ فمات فقال له شريح‏:‏ فمات منه أو فقتله‏؟‏ فأعاد القول الأول‏,‏ وأعاد عليه شريح سؤاله فلم يقل‏:‏ فقتله ولا‏:‏ فمات منه فقال له شريح‏:‏ قم فلا شهادة لك رواه سعيد ومن شهد بالزنى‏,‏ فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها ومكان الزنى‏,‏ وصفته لأن اسم الزنى يطلق على ما لا يوجب الحد وقد يعتقد الشاهد ما ليس بزنى زنى فاعتبر ذكر صفته ليزول الاحتمال‏,‏ واعتبر ذكر المرأة لئلا تكون ممن تحل له أو له في وطئها شبهة وذكر المكان لئلا تكون الشهادة منهم على فعلين ومن أصحابنا من قال‏:‏ لا يحتاج إلى ذكر المزني بها‏,‏ ولا ذكر المكان لأنه محل للفعل فلم يعتبر ذكره كالزمان وإن شهد بالسرقة‏,‏ فلا بد من ذكر سرقة نصاب من الحرز وذكر المسروق منه وصفة السرقة وإن شهد بالقذف‏,‏ فلا بد من ذكر المقذوف وصفة القذف وإن شهد بمال احتاج إلى تحريره بمثل ما ذكرنا في الدعوى وإن ترك الشاهد ذكر شيء يحتاج إلى ذكره‏,‏ سأله الحاكم عنه كما سأل شريح الشاهد الذي شهد عنده أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات وإن حرر المدعى دعواه أو حرر أحد الشاهدين شهادته‏,‏ وشهد بها وقال الآخر‏:‏ أشهد بمثل ذلك أو قال حين حرر المدعى دعواه‏:‏ أشهد بذلك أو بهذا أجزأه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولو جاء أربعة متفرقون‏,‏ والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبل شهادتهم وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة‏,‏ وعليهم الحد ‏]‏

هذه المسألة قد ذكرناها في كتاب الحدود بما أغنى عن إعادتها ها هنا‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن حكم بشهادتهما بجرح أو قتل ثم رجعا‏,‏ فقالا‏:‏ عمدنا اقتص منهما وإن قالا‏:‏ أخطأنا غرما الدية أو أرش الجرح ‏]‏

وجملة الأمر أن الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بعد أدائها‏,‏ لم يخل من ثلاثة أحوال أحدها أن يرجعوا قبل الحكم بها فلا يجوز الحكم بها في قول عامة أهل العلم وحكي عن أبي ثور‏,‏ أنه شذ عن أهل العلم وقال‏:‏ يحكم بها لأن الشهادة قد أديت فلا تبطل برجوع من شهد بها‏,‏ كما لو رجعا بعد الحكم وهذا فاسد لأن الشهادة شرط الحكم فإذا زالت قبله لم يجز‏,‏ كما لو فسقا ولأن رجوعهما يظهر به كذبهما فلم يجز الحكم بها كما لو شهدا بقتل رجل‏,‏ ثم علم حياته ولأنه زال ظنه في أن ما شهد به حق فلم يجز له الحكم به‏,‏ كما لو تغير اجتهاده وفارق ما بعد الحكم فإنه تم بشرطه ولأن الشك لا يزيل ما حكم به‏,‏ كما لو تغير اجتهاده الحال الثاني أن يرجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء فينظر فإن كان المحكوم به عقوبة‏,‏ كالحد والقصاص لم يجز استيفاؤه لأن الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعهما من أعظم الشبهات‏,‏ ولأن المحكوم به عقوبة ولم يتعين استحقاقها ولا سبيل إلى جبرها‏,‏ فلم يجز استيفاؤها كما لو رجعا قبل الحكم وفارق المال فإنه يمكن جبره بإلزام الشاهدين عوضه‏,‏ والحد والقصاص لا ينجبر بإيجاب مثله على الشاهدين لأن ذلك ليس بجبر ولا يحصل لمن وجب له منه عوض وإنما شرع للزجر والتشفي والانتقام‏,‏ لا للجبر فإن قيل‏:‏ فقد قلتم‏:‏ إنه إذا حكم بالقصاص ثم فسق الشاهدان استوفى في أحد الوجهين قلنا‏:‏ الرجوع أعظم في الشبهة من طريان الفسق لأنهما يقران أن شهادتهما زور‏,‏ وأنهما كانا فاسقين حين شهدا وحين حكم الحاكم بشهادتهما وهذا الذي طرأ فسقه لا يتحقق كون شهادته كذبا‏,‏ ولا أنه كان فاسقا حين أدى الشهادة ولا حين الحكم بها ولهذا لو فسق بعد الاستيفاء‏,‏ لم يلزمه شيء والراجعان تلزمهما غرامة ما شهدا به فافترقا وإن كان المشهود به مالا استوفي‏,‏ ولم ينقض حكمه في قول أهل الفتيا من علماء الأمصار وحكي عن سعيد بن المسيب والأوزاعي أنهما قالا‏:‏ ينقض الحكم وإن استوفى الحق ثبت بشهادتهما‏,‏ فإذا رجعا زال ما ثبت به الحكم فنقض الحكم‏,‏ كما لو تبين أنهما كانا كافرين ولنا أن حق المشهود له وجب له فلا يسقط بقولهما‏,‏ كما لو ادعياه لأنفسهما يحقق هذا أن حق الإنسان لا يزول إلا ببينة أو إقرار ورجوعهما ليس بشهادة‏,‏ ولهذا لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ولا هو إقرار من صاحب الحق وفارق ما إذا تبين أنهما كانا كافرين لأننا تبينا أنه لم يوجد شرط الحكم وهو شهادة العدول‏,‏ وفي مسألتنا لم يتبين ذلك بجواز أن يكونا عدلين صادقين في شهادتهما وإنما كذبا في رجوعهما ويفارق العقوبات‏,‏ حيث لا تستوفى فإنها تدرأ بالشبهات الحال الثالث أن يرجعا بعد الاستيفاء فإنه لا يبطل الحكم ولا يلزم المشهود له شيء‏,‏ سواء كان المشهود به مالا أو عقوبة لأن الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به ووصول الحق إلى مستحقه ويرجع به على الشاهدين‏,‏ ثم ينظر فإن كان المشهود به إتلافا في مثله القصاص كالقتل والجرح نظرنا في رجوعهما‏,‏ فإن قالا‏:‏ عمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل أو يقطع فعليهما القصاص وبهذا قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وقال أصحاب الرأي‏:‏ لا قود عليهما لأنهما لم يباشرا الإتلاف فأشبها حافر البئر وناصب السكين‏,‏ إذا تلف بهما شيء ولنا أن عليا رضي الله عنه شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه‏,‏ ثم عادا فقالا‏:‏ أخطأنا ليس هذا هو السارق فقال علي‏:‏ لو علمت أنكما تعمدتما‏,‏ لقطعتكما ولا مخالف له في الصحابة فيكون إجماعا ولأنهما تسببا إلى قتله أو قطعه‏,‏ بما يفضي إليه غالبا فلزمهما القصاص كالمكره‏,‏ وفارق الحفر ونصب السكين فإنه لا يفضي إلى القتل غالبا وقد ذكرنا هذه المسألة في القصاص فأما إن قالا‏:‏ عمدنا الشهادة عليه ولا نعلم أنه يقتل بهذا وكانا ممن يجوز أن يجهلا ذلك‏,‏ وجبت الدية في أموالهما مغلظة لأنه شبه عمد ولم تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافهما والعاقلة لا تحمل اعترافا وإن قال أحدهما عمدت قتله وقال الآخر‏:‏ أخطأت فعلى العامد نصف دية مغلظة‏,‏ وعلى الآخر نصف دية مخففة ولا قصاص في الصحيح من المذهب لأنه قتل عمد وخطأ وإن قال كل واحد منهما‏:‏ عمدت‏,‏ وأخطأ صاحبي احتمل أن يجب القصاص عليهما لاعتراف كل واحد منهما بعمد نفسه واحتمل وجوب الدية لأن كل واحد منهما إنما اعترف بعمد شارك فيه مخطئا وهذا لا يوجب القصاص والإنسان إنما يؤاخذ بإقراره‏,‏ لا بإقرار غيره فعلى هذا يجب عليهما دية مغلظة وإن قال أحدهما‏:‏ عمدنا جميعا وقال الآخر‏:‏ عمدت وأخطأ صاحبي فعلى الأول القصاص‏,‏ وفي الثاني وجهان كالتي قبلها وإن قالا جميعا‏:‏ أخطأنا فعليهما الدية مخففة في أموالهما لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وإن قال أحدهما‏:‏ عمدنا معا وقال الآخر‏:‏ أخطأنا معا فعلى الأول القصاص وعلى الثاني نصف دية مخففة لأن كلا منهما يؤاخذ بحكم إقراره وإن قال كل واحد منهما‏:‏ عمدت‏,‏ ولا أدري ما فعل صاحبي فعليهما القصاص لإقرار كل واحد منهما بالعمد ويحتمل أن لا يجب عليهما القصاص لأن إقرار كل واحد منهما لو انفرد لم يجب عليه قصاص وإنما يؤاخذ الإنسان بإقراره‏,‏ لا بإقرار صاحبه وإن قال أحدهما‏:‏ عمدت ولا أدري ما قصد صاحبي سئل صاحبه فإذا قال‏:‏ عمدت‏,‏ ولا أدري ما قصد صاحبي فهي كالتي قبلها وإن قال‏:‏ عمدنا فعليه القصاص وفي الأول وجهان وإن قال‏:‏ أخطأت أو أخطأنا فلا قصاص على واحد منهما وإن جهل حال الآخر‏,‏ بأن يجن أو يموت أو لا يقدر عليه‏,‏ فلا قصاص على المقر وعليه نصيبه من الدية المغلظة‏.‏

فصل‏:‏

وإن رجع أحد الشاهدين وحده فالحكم فيه كالحكم في رجوعهما‏,‏ في أن الحاكم لا يحكم بشهادتهما إذا كان رجوعه قبل الحكم وفي أنه لا يستوفى العقوبة إذا رجع قبل استيفائها لأن الشرط يختل برجوعه‏,‏ كاختلاله برجوعهما وإن كان رجوعه بعد الاستيفاء لزمه حكم إقراره وحده فإن أقر بما يوجب القصاص‏,‏ وجب عليه وإن أقر بما يوجب دية مغلظة وجب عليه قسطه منها‏,‏ وإن أقر بالخطأ وجب عليه نصيبه من الدية المخففة وإن كان الشهود أكثر من اثنين في الحقوق المالية أو القصاص‏,‏ ونحوه فما ثبت بشاهدين أو أكثر من أربعة‏,‏ فرجع الزائد منهم قبل الحكم والاستيفاء لم يمنع ذلك الحكم ولا الاستيفاء لأن ما بقي من البينة كاف في إثبات الحكم واستيفائه وإن رجع بعد الاستيفاء فعليه القصاص إن أقر بما يوجبه‏,‏ أو قسطه من الدية أو من المفوت بشهادتهم إن كان غير ذلك وفي ذلك اختلاف سنذكره -إن شاء الله تعالى-‏.‏