فصل: كتاب الشروط:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كتاب الشروط:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اعْلَمْ بِأَنَّ عِلْمَ الشُّرُوطِ مِنْ آكَدِ الْعُلُومِ، وَأَعْظَمِهَا صَنْعَةً فَإِنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- أَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَامَلَهُ، وَأَمَرَ بِالْكِتَابِ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ عُمَّالَهُ مِنْ الْأَمَانَةِ وَأَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الصُّلْحِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالنَّاسُ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِعِلْمِ الشَّرْطِ فَكَانَ مِنْ آكَدِ الْعُلُومِ وَفِيهِ الْمَنْفَعَةُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: صِيَانَةُ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِصِيَانَتِهَا وَنُهِينَا عَنْ إضَاعَتِهَا.
وَالثَّانِيَةُ: قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الْكِتَابَ يَصِيرُ حَكَمًا بَيْنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ وَيَرْجِعَانِ إلَيْهِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ، وَلَا يَجْحَدُ أَحَدُهُمَا حَقَّ صَاحِبِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُخْرِجَ الْكِتَابَ وَتَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيَفْتَضِحَ فِي النَّاسِ.
وَالثَّالِثَةُ: التَّحَرُّزُ عَنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ رُبَّمَا لَا يَهْتَدِيَانِ إلَى الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ لِيَتَحَرَّزَا عَنْهَا فَيَحْمِلُهُمَا الْكَاتِبُ عَلَى ذَلِكَ إذَا رَجَعَا إلَيْهِ لِيَكْتُبَ.
وَالرَّابِعَةُ: رَفْعُ الِارْتِيَابِ فَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى الْمُتَعَامِلَيْنِ إذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ مِقْدَارَ الْبَدَلِ وَمِقْدَارَ الْأَجَلِ فَإِذَا رَجَعَا إلَى الْكِتَابِ لَا يَبْقَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيبَةٌ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِمَا تَقَعُ الرِّيبَةُ لِوَارِثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ عَادَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ عَلَى وَجْهِهَا فَعِنْدَ الرُّجُوعِ إلَى الْكِتَابِ لَا تَبْقَى الرِّيبَةُ بَيْنَهُمْ فَيَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصْرِفَ هِمَّتَهُ إلَى تَعَلُّمِ الشُّرُوطِ لِعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا وَلِأَنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- عَظَّمَهَا بِقَوْلِهِ- جَلَّ جَلَالُهُ-: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} فَقَدْ أَضَافَ اللَّهُ- تَعَالَى- تَعْلِيمَ الشُّرُوطِ إلَى نَفْسِهِ كَمَا أَضَافَ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ- عَزَّ وَجَلَّ-: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} وَأَضَافَ تَعْلِيمَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ- جَلَّ جَلَالُهُ-: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَبَقَ الْعُلَمَاءَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِبَيَانِ عِلْمِ الشُّرُوطِ، وَبِذَلِكَ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ أَقْوَى الْمَذَاهِبِ فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْمُبْتَدِئُ بِبَيَانِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ- تَعَالَى- أَنَّهُ هُوَ الْمُعَلِّمُ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِ صَوَابٍ.
ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ فَقَالَ: إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا كَتَبَ: هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَبَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَمْ يَسْتَحْسِنْ هَذَا اللَّفْظَ، وَقَالَ: هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْبَيَاضِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ فَظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ الْمُشْتَرَى ذَلِكَ الْبَيَاضُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا اشْتَرَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا اخْتَارَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ هَذَا اللَّفْظَ اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- قَالَ: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} وَلَمْ يَقُلْ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا تُوعَدُونَ وَلَمَّا «اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَدَّاءِ عَبْدًا كَتَبَ مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ الْحَنَفِيِّ» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْسَنَ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ثُمَّ فِي هَذَا إيجَازٌ وَحَذْفٌ لِمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا اشْتَرَى، وَقَوْلُهُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الِاكْتِفَاءُ بِهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ عِنْدَهُ التَّعْرِيفَ يَتِمُّ بِذِكْرِ اسْمِ الرَّجُلِ وَاسْمِ أَبِيهِ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَتِمُّ التَّعْرِيفُ إلَّا بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ أَوْ اسْمِ أَبِيهِ وَذِكْرِ قَبِيلَتِهِ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ «فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ» فَقَدْ اكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِ الْأَبِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ التَّعْرِيفَ يَتِمُّ بِمَا يَمْتَازُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَبِمُجَرَّدِ اسْمِهِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فَالْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ، فَإِذَا ضَمَّ إلَى اسْمِهِ اسْمَ أَبِيهِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يَتَّفِقُ اسْمُ رَجُلَيْنِ وَاسْمُ أَبِيهِمَا إلَّا نَادِرًا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ النَّادِرُ لِبَقَاءِ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ اسْمِ الْجَدِّ فَإِنَّهُ كَمَا يُتَوَهَّمُ اتِّفَاقُ اسْمَيْنِ يُتَوَهَّمُ اتِّفَاقُ أَسَامٍ ثَلَاثَةٍ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْعَادَةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَهُمَا يَسْتَدِلَّانِ بِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ: هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مَشْهُورًا يُكْتَفَى فِي تَعْرِيفِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَنَعْتِهِ، كَمَا ذَكَرَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فَإِتْمَامُ تَعْرِيفِهِ بِذِكْرِ اسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي حَقِّ الْعَدَّاءِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا حَدِيثَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَّا وَاحِدًا، فَكَانَ لَا يَقَعُ الِالْتِبَاسُ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَمَامِ التَّعْرِيفِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ فِي نَظَرِهِ قَدْ اكْتَفَى بِذِكْرِ الِاسْمِ أَيْضًا، وَهُوَ فِيمَا كَتَبَهُ لِأُكَيْدِرَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: «هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُكَيْدِرَ حِينَ أَجَابَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَصْنَامَ ثُمَّ أَتَمَّ الْكِتَابَ»؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِي ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِهِ، وَفِي الْمُعَامَلَةِ لَمَّا كَانَ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ ذَكَرَ اسْمَ مَنْ عَامَلَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَاسْمَ جَدِّهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِمَا قُلْنَا أَنَّ مَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ يَكُونُ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ عَشَرَةُ آبَاءٍ فِي الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ مَا يَتِمُّ بِهِ التَّعْرِيفُ فِي الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَلَا يَحْصُلُ بِالْأَبِ وَحْدَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ اسْمُ رَجُلَيْنِ وَاسْمُ أَبِيهِمَا فِي الْعَادَةِ فَلَا يَمْتَازُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ إلَّا بِذِكْرِ اسْمِ الْجَدِّ أَوْ بِذِكْرِ الْقَبِيلَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالْمَيِّتِ بِمَا يَمْتَازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ تَمَامُ الِامْتِيَازِ بِمَا قُلْنَا كَانَ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ، وَيُكَنِّيَهُ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِكُنْيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ لَقَبٌ لَا يَغِيظُهُ ذَلِكَ، وَلَا يَشِينُهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ أَيْضًا لِزِيَادَةِ التَّعْرِيفِ فَأَمَّا ذِكْرُ الصِّنَاعَةِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَحَوَّلُ مِنْ صِنَاعَةٍ إلَى صِنَاعَةٍ قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا نَحْنُ فَنَعْتَبِرُ ذَلِكَ كَمَا اعْتَبَرَ الْمَالِكُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لِلتَّعْرِيفِ أَنْ يَكْتُبَ مُكَاتَبَ فُلَانٍ وَقَدْ يَتَحَوَّلُ مِنْهُ إلَى الْعِتْقِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالَ: لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالصِّنَاعَاتِ التَّعْرِيفَ فَلَا يَذْكُرُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّعْرِيفِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْرِيفَ، وَهُوَ الِاسْمُ وَالنَّسَبُ وَأَمَّا كَتْبُهُ الْحِلْيَةَ فَهُوَ حَسَنٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْرِيفِ، وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ تُشْبِهُ الْحِلْيَةَ كَمَا أَنَّ النِّعْمَةَ تُشْبِهُ النِّعْمَةَ.
ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَى مِنْهُ جَمِيعَ الدَّارِ فِي بَنِي فُلَانٍ، وَإِنَّمَا أَعَادَ لَفْظَةَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُ إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ كَلَامٌ آخَرُ فَإِنَّهُ يُعَادُ الْخَبَرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَوْلُهُ: جَمِيعُ الدَّارِ لِلتَّأْكِيدِ أَيْضًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: الدَّارُ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ، وَلَكِنْ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْضَهَا فَذَكَرَ الْجَمِيعَ لِقَطْعِ هَذَا الْوَهْمِ ثُمَّ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُشْتَرَى، وَتَعْرِيفُ الْمُشْتَرَى إذَا كَانَ مَحْدُودًا بِذِكْرِ الْحُدُودِ وَالْبَلْدَةِ إلَّا أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَنَا يُبْدَأُ بِالْأَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ذِكْرُ الْبَلْدَةِ ثُمَّ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ الْحُدُودِ وَأَبُو زَيْدٍ الْبَغْدَادِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْكُرُ فِي شُرُوطِهِ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَخَصِّ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَرَقَّى إلَى الْأَعَمِّ بِمَنْزِلَةِ التَّعْرِيفِ بِالنَّسَبِ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِاسْمِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِهِ ثُمَّ بِاسْمِ أَبِيهِ ثُمَّ بِاسْمِ جَدِّهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْعَامُّ يُعَرَّفُ بِالْخَاصِّ وَالْخَاصُّ لَا يُعَرَّفُ بِالْعَامِّ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَعَمِّ أَحْسَنَ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّسَبِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَبْدَأُ بِاسْمِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعَمُّ، فَالْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ يَكْثُرُ فِي النَّاسِ عَادَةً ثُمَّ بِذِكْرِ اسْمِ أَبِيهِ يَصِيرُ أَخَصَّ بِهِ ثُمَّ بِذِكْرِ اسْمِ جَدِّهِ يَصِيرُ أَخَصَّ فَكَذَلِكَ يَبْدَأُ بِذِكْرِ الْبَلْدَةِ ثُمَّ بِذِكْرِ الْمَحَلَّةِ لِيَصِيرَ أَخَصَّ ثُمَّ بِذِكْرِ الْحُدُودِ.
وَإِذَا ذَكَرَ الْحُدُودَ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ: أَحَدُ حُدُودِهَا يَنْتَهِي إلَى كَذَا، وَبَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ يَكْتُبُ: أَحَدُ حُدُودِهَا لَزِيقُ كَذَا أَوْ يُلَاصِقُ كَذَا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَتَبَ: أَحَدُ حُدُودِهَا دَارُ فُلَانٍ ثُمَّ كَتَبَ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا دَخَلَتْ الْحُدُودُ فِي الْبَيْعِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَكْتُبَ: أَحَدُ حُدُودِهَا الدَّاخِلَةِ أَوْ الطَّرِيقُ الْعَامُّ ثُمَّ يَكْتُبَ: اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْبَقُ إلَى وَهْمِ أَحَدٍ بِهَذَا اللَّفْظِ لِشِرَاءِ الدِّجْلَةِ وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَيْعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي آخَرِ عُمْرِهِ أَنْ يَكْتُبَ: أَحَدُ حُدُودِهَا يَلِي كَذَا، وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَلِي الشَّيْءَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّصِلُ بِهِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَرْحَامِ وَالنُّهَى»، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْقُرْبُ دُونَ الِاتِّصَالِ فَإِذَا قُلْنَا: يَنْتَهِي إلَى كَذَا أَوْ يُلَاصِقُ كَذَا يُفْهَمُ الِاتِّصَالُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِذِكْرِ حَدٍّ وَاحِدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِذِكْرِ حَدَّيْنِ وَعِنْدَنَا يَحْصُلُ بِذِكْرِ ثَلَاثِ حُدُودٍ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الشَّهَادَاتِ وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ وَيُتَحَرَّزُ فِيهِ عَنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ فَلِهَذَا يُكْتَبُ فِيهِ الْحُدُودُ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَى مِنْهُ هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَ فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَقُولُ: الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ فِي هَذَا الْكِتَابِ هُوَ اخْتِيَارُ هِلَالٍ وَأَبِي يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ فِي كِتَابِنَا: فَظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ الْكِتَابَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَرُبَّمَا يَحُولُ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ الْكِتَابِ احْتِجَاجًا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا مِمَّا لَا يَسْبِقُ إلَى الْأَوْهَامِ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} ثُمَّ قَالَ بِحُدُودِهَا كُلِّهَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لَا أَرَى أَنْ يَكْتُبَ بِحُدُودِهَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ، وَالْمُشْتَرَى الْمَحْدُودُ دُونَ الْحَدِّ فَإِذَا قَالَ: اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ الْحُدُودُ الَّتِي تُسَمَّى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا كَتَبَ: أَحَدُ حُدُودِهَا يَنْتَهِي إلَى كَذَا فَقَوْلُهُ: اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمُنْتَهِي دُونَ الْمُنْتَهَى إلَيْهِ وَالْمُنْتَهِي دَاخِلٌ فِي الْعَقْدِ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَكْتُبَ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا، وَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَتْ الْحُدُودُ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ فَلَا يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ أَحَدِ ذَلِكَ فَيَكْتُبُ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا كُلِّهَا وَأَرْضِهَا وَبِنَائِهَا وَسُفْلِهَا وَعُلْوِهَا، وَمِنْ أَصْحَابِ الشُّرُوطِ مَنْ يَخْتَارُ سُفْلَهُ وَعُلْوَهُ، وَقَالَ: السُّفْلُ وَالْعُلْوُ لِلْبِنَاءِ لَا لِلدَّارِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكْتُبَ: وَمِنْهَا سُفْلُهُ وَعُلْوُهُ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مَذْكُورٌ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ سِرْدَابٌ، فَإِذَا قَالَ: سُفْلُهُ وَعُلْوُهُ لَا يَدْخُلُ السِّرْدَابُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبِنَاءٍ وَالْبِنَاءُ مَا يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا قَالَ: سُفْلُهَا وَعُلْوُهَا دَخَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَالَ: سُفْلُهَا وَعُلْوُهَا يَدْخُلُ الْهَوَاءُ فِي ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَبَيْعُ الْهَوَاءِ لَا يَجُوزُ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ قُلْنَا: هَذَا لَا يَسْبِقُ إلَيْهِ وَهْمُ أَحَدٍ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ دُونَ مَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: طَرِيقُهَا وَمَرَافِقُهَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الشُّرُوطِ يَذْكُرُونَ الطَّرِيقَ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا تَرْكُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَسِيلُ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ ذَكَرُوا الطَّرِيقَ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الطَّرِيقُ الْعَامَّ الَّذِي لَا يَحُوزُهُ، وَكَذَلِكَ الْمِيزَابُ رُبَّمَا يَصُبُّ فِي جُزْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ قَالَ وَطَرِيقُهَا، وَسَبِيلُ مَائِهَا الَّذِي مِنْ حُقُوقِهَا فَرُبَّمَا لَا يَكُونُ لِلدَّارِ طَرِيقٌ خَاصٌّ هُوَ مِنْ حُقُوقِهَا فَيَصِيرُ جَامِعًا فِي الْعَقْدِ بَيْنَ الْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ.
وَالْأَحْسَنُ: أَنْ لَا يَذْكُرَ الطَّرِيقَ وَالْمَسِيلَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِذِكْرِ الْمَرَافِقِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ لَهَا طَرِيقٌ خَاصٌّ أَوْ مَسِيلُ مَاءٍ خَاصٌّ دَخَلَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ بِذِكْرِ الْمَرَافِقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ هَذَا اللَّفْظُ إلَى مَا وَرَاءَهُمَا مِنْ الْمَرَافِقِ ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ هَذَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ الْأَمْتِعَةُ الْمَوْضُوعَةُ فِيهَا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ، وَعِنْدَ زُفَرَ بِذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ يَدْخُلُ مَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعُ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ، وَمِنْ حَشَرَاتٍ هِيَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ الَّتِي فِيهَا فَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ مَا يَكُونُ صَالِحًا لِلْعَقْدِ مَحَلًّا لَهُ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى مَا يَكُونُ مَحَلًّا لَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَى أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ الْكِتَابُ فَيَقُولَ بِمَا هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا فَبِهَذَا الْقَيْدِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ دُونَ مَا لَيْسَ مِنْ حُقُوقِهِ مِنْ الْأَمْتِعَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الدَّارِ ثُمَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقُولُ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هَكَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ، وَفِي كِتَابِ الْوَقْفِ قَالَ: بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ هُنَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفٍ أَوْ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا كِلَاهُمَا، ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَخَارِجٌ مِنْهَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا أَنْ يَكْتُبَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَكُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهَا خَارِجٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ وَخَارِجٌ مِنْهَا فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا شَيْئًا وَاحِدًا مَنْعُوتًا بِالنَّعْتَيْنِ جَمِيعًا، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ وَالْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ خَارِجٌ مِنْهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَكُلُّ كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ جُزْءٌ مِنْ الْكَثِيرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكُلِّ كَثِيرٍ، وَهُنَا الْحُقُوقُ الدَّاخِلَةُ غَيْرُ الْحُقُوقِ الْخَارِجَةِ؛ فَلِهَذَا يَذْكُرُهُمَا جَمِيعًا عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا.
ثُمَّ قَالَ كَذَا بِكَذَا دِرْهَمًا وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ تَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ إلَى ذَلِكَ النَّقْدِ، وَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مِقْدَارِهِ وَبَيَانِ وَزْنِهِ، وَأَنَّهُ وَزْنُ سَبْعَةٍ أَيْ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً، وَكُلُّهَا فِي الرَّوَاجِ سَوَاءٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ صِفَةِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ نَقَدَهُ فُلَانٌ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَافِيًا، وَبَرِئَ إلَيْهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ: لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي الْبَرَاءَةَ بِقَبْضِ الْبَائِعِ إذَا لَمْ يَنْقُدْهُ الْمُشْتَرِي فَيَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَوْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ ثُمَّ قَالَ: فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ دَرَكِ أَبِي فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ، وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ الدَّرَكَ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ فَيَقُولَ عَلَى أَنْ مَا أَدْرَكَ فُلَانٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ: فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ يَكُونُ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ، فَيَذْكُرُ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالدَّرَكِ لَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ، وَلَكِنَّهُ سَوَاءٌ شَرَطَ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ فَحَقُّ الرُّجُوعِ بِالدَّرَكِ ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ لُحُوقِ الدَّرَكِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَكْتُبَ فَمَا أَدْرَكَ مَنْ يَحِقَّ لَهُ الرُّجُوعُ مِنْ دَرَكٍ وَلَا يُسَمَّى الْمُشْتَرَى لِجَوَازِ أَنْ يَلْحَقَ الدَّرَكُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الرُّجُوعُ لِوَارِثِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: حَقُّ الرُّجُوعِ بِالدَّرَكِ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ بَاشَرَ الْعَقْدَ، وَالدَّرَكُ هُوَ الِاسْتِحْقَاقُ الَّذِي يَسْبِقُ الْعَقْدَ فَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ بِسَبَبٍ يَعْتَرِضُ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يُسَمَّى دَرَكًا وَبِالسَّبَبِ الَّذِي يَسْبِقُ الْعَقْدَ فَإِنَّمَا يَلْحَقُ الدَّرَكُ الْمُشْتَرِيَ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا فَلِهَذَا كَتَبَ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ دَرَكٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَزِيدُ مِنْ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهَا تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ ضَمَانَ الدَّرَكِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْمِقْدَارِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَوْلِهِ: يَكْتُبُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَعَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ.
مَعْنَاهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ ثَمَنَ مَا لَحِقَ الدَّرَكُ فِيهِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْخَلَاصِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
ثُمَّ قَالَ: شَهِدَ أَيْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ الْمُسَمَّوْنَ، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَيَقُولُ: هَذَا مَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ، وَالْأَحْسَنُ عِنْدَنَا: أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إنَّمَا تَكُونُ شَهَادَتُهُمْ فِي آخِرِ الْكِتَابِ فَالْأَحْسَنُ ذِكْرُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُثْبِتُ الشُّهُودُ فِيهِ أَسَامِيَهُمْ فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالدَّرَكِ كَتَبَ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَفْظَ الدَّرَكِ دُونَ لَفْظِ الْعَهْدِ كَمَا يَكْتُبُهُ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ فَمَا لَحِقَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ عُهْدَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ اسْمٌ لِلصَّكِّ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ اسْمٌ لِلْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا فَاخْتَرْنَا لَفْظَ الدَّرَكِ لِهَذَا وَالْمُرَادُ بِالْخَلَاصِ الْمَذْكُورِ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ شَرَطَ الْخَلَاصَ فَهُوَ أَحْمَقُ سَلِّمْ مَا بِعْت أَوْ رُدَّ مَا قَبَضْت، وَلَا خَلَاصَ وَكَانَ سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ يُجَوِّزُ اشْتِرَاطَ الْخَلَاصِ وَيَقُولُ: إنْ عَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ إذَا شُرِطَ الْخَلَاصُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَضَيَا بِالْخَلَاصِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِ الْمُسْتَحِقِّ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي إذَا شُرِطَ الْخَلَاصُ، وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَرَدُّ الثَّمَنِ إنْ عَجَزَ عَنْهُ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ: إنْ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّ الْمَبِيعَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ وَاشْتَرَطَ الْخَلَاصَ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ أَوْ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَلَكَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ فِي ضَمَانِ الدَّرَكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ كَفَالَةَ إنْسَانٍ بِالدَّرَكِ فَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إذَا كَانَ فُلَانٌ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ، وَكَفَلَ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ لَا يَصِحُّ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ يَكْتُبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ.
وَيُكْتَبُ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِجَمِيعِ مَا أَدْرَكَ فُلَانٌ فِيهَا، وَأَيُّهُمَا شَاءَ فُلَانٌ يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: إنَّ مُطْلَقَ الْكَفَالَةِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ، وَيَكْتُبُ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا جَمِيعًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَحَدَهُمَا تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ مَا اخْتَارَ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ فَيَكْتُبَ مَنْ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ تَحَرُّزًا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ بَعْدَ مَا اخْتَارَ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ عَلَى الَّذِي طَالَبَهُ بِهِ ثُمَّ يَكْتُبَ حَتَّى يُسَلِّمَا لَهُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ يَرُدَّا عَلَيْهِ ثَمَنَهَا، وَهُوَ كَذَا دِرْهَمًا فَيَكُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْخَلَاصِ، وَلِيَحْصُلَ بِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ الْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ ثُمَّ تَفْسِيرُ الدَّرَكِ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ فَأَمَّا إذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَهَذَا لَا يَكُونُ دَرَكًا حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى ضَامِنِ الدَّرَكِ بِشَيْءٍ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا بَاعَ جَارِيَةً مِنْ إنْسَانٍ، وَضَمِنَ لَهُ آخَرُ تَسْلِيمَهَا فَهَلَكَتْ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الضَّامِنِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْتَزَمَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ بِالْمَالِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ يَرُدُّ الثَّمَنَ فَالضَّامِنُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَكُونُ مُلْتَزِمًا ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ ضَمِنَ الدَّرَكَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ رَجُلَيْنِ، فَأَرَادَ أَنْ يَضْمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ كَتَبَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ كَفِيلَانِ ضَامِنَانِ لِمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ لِمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكِ فُلَانٍ فِيهَا وَأَهْلُ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ: يُرِيدُ فِي هَذَا الْكِتَابِ اشْتَرَى مِنْهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَخْتَلِفُ بِالشِّرَاءِ مِنْ رَجُلَيْنِ فِي اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَاخْتِلَافِ الصَّفْقَةِ، وَيَكْتُبُ أَيْضًا، وَكَانَ الْعَقْدُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ يَنْصَرِفُ إيجَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكْتُبْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْفُذُ عَقْدُهُ عِنْدَهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَيَكْتُبُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لَهُ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، أَوْ مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ مِنْ دَرَكٍ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ بِالْعُهْدَةِ يَكُونُ عَلَى الْوَكِيلِ أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِاعْتِبَارِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ يَكْتُبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: كَفِيلُ ضَامِنٍ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكٍ فِيهَا إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا بِذَلِكَ جَمِيعًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَحَدَهُمَا حَتَّى يُسَلِّمَا لَهُ الدَّارَ أَوْ يَرُدَّا عَلَيْهِ الثَّمَنَ، وَهُوَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ وَبَعْدَ مَا صَرَّحَ بِمَعْنَى الْعَقْدِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْعَقْدِ.
وَإِنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فِي دَارِ كَتَبَ حُدُودَ الدَّارِ ثُمَّ ذَكَرَ حُدُودَ الْمَنْزِلِ، وَمَوْضِعَهُ مِنْ الدَّارِ أَنَّهُ عَلَى يَمِينِ الدَّاخِلِ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ أَوْ مُقَابِلِهِ، وَوَصَفَ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ حُقُوقِ طَرِيقِهِ فِي سَاحَةِ الدَّارِ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ مُسْلِمًا، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُبَيِّنَ عَرْضَ الطَّرِيقِ وَطُولَهُ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ: إذَا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَسَدَ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الطَّرِيقِ، وَعِنْدَنَا: لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ، وَلَكِنَّ الْأَحْوَطَ ذِكْرُهُ لِلتَّحَرُّزِ، وَلَوْ كَتَبَ الْمَقْصُورَةَ، وَهُوَ مَنْزِلٌ عَلَيْهِ حُجْرَةٌ عَلَى حِدَةٍ فَهَذَا مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ الْمَسْكَنَ أَوْ كَتَبَ الْحُجْرَةَ وَالْأَبْيَاتَ الَّتِي فِيهَا، وَهِيَ كَذَا كَذَا بَيْتًا، فَذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَقِيمٌ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْمَنْزِلِ ثُمَّ يُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا مَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَمَا لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَفِي الْحَاصِلِ هَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: الدَّارُ وَالْمَنْزِلُ وَالْبَيْتُ، فَإِنْ اشْتَرَى دَارًا، وَلَمْ يَقُلْ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا كَانَ لَهُ بِنَاؤُهَا وَالْجُذُوعُ وَالْأَبْوَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ فَيَدْخُلُ فِيهِ السُّفْلُ وَالْعُلْوُ فَأَمَّا الظُّلَّةُ الَّتِي عَلَى الْهَوَاءِ أَحَدُ جَانِبَيْهَا عَلَى حَائِطِ الدَّارِ، وَالْجَانِبُ الْآخَرُ عَلَى حَائِطِ دَارِ الْجَارِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا كَانَتْ مُفَتَّحَةً فِي الدَّارِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ لِهَذِهِ الدَّارِ فِي دَارِ قَوْمٍ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ أَيْضًا كَالظُّلَّةِ، وَفِي الْأَمَالِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الظُّلَّةُ تَدْخُلُ فَأَمَّا الطَّرِيقُ الْخَاصُّ أَوْ مَسِيلٌ خَاصٌّ فِي دَارِ قَوْمٍ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَالطَّرِيقُ الَّتِي فِي السِّكَّةِ الْعُظْمَى لِهَذِهِ الدَّارِ دَاخِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ.
وَإِنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا، فَإِنْ قَالَ بِحُقُوقِهِ دَخَلَ فِيهِ الْعُلْوُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ الْعُلْوُ، وَإِنْ اشْتَرَى بَيْتًا لَمْ يَدْخُلْ الْعُلْوُ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْحُقُوقَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمُسْقَفٍ وَاحِدٍ يُبَاتُ فِيهِ وَالْعُلْوُ فِي هَذَا كَالسُّفْلِ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْآخِرِ وَمَرَافِقِهِ وَأَمَّا الْمَنْزِلُ فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَسْكُنُهُ الْمَرْءُ بِأَهْلِهِ وَثِقَلِهِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ السُّفْلُ وَلَكِنَّ تَمَامَ مَرَافِقِهِ بِالْعُلْوِ، فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ دَخَلَ فِيهِ الْعُلْوُ وَإِلَّا فَلَا.
ثُمَّ الْمَنْزِلُ دُونَ الدَّارِ وَفَوْقَ الْبَيْتِ فَلِكَوْنِهِ دُونَ الدَّارِ قُلْنَا: لَا يَدْخُلُ الْعُلْوُ إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الْمَنْزِلِ وَلِكَوْنِهِ فَوْقَ الْبَيْتِ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَدْخُلُ إذَا ذَكَرَ الْحُقُوقَ أَوْ الْمَرَافِقَ.
وَإِنْ اشْتَرَى نَصِيبًا مِنْ الدَّارِ غَيْرَ مُسَمًّى فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.
وَإِنْ اشْتَرَى أَذْرُعًا مُسَمَّاةً مِنْ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَجُوزُ وَتُذْرَعُ الدَّارُ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا بِتِلْكَ الْأَذْرُعِ الْمُسَمَّاةِ إنْ كَانَتْ ذِرَاعَانِ وَالدَّارُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ كُلَّ ذِرَاعٍ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ.
وَالْمَأْذُونُ وَإِنْ اشْتَرَى نَصِيبَ الْبَائِعِ مِنْ الدَّارِ، فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ أَوْ يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ نَصِيبَ الْبَائِعِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ذُكِرَ هُنَا مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي آخِرِ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ كَانَ سَمَّى رُبْعًا أَوْ ثُلْثًا أَوْ سَهْمًا مِنْ كَذَا كَذَا سَهْمًا فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى كَذَا أَجْزَأَ مِنْ كَذَا جُزْءًا بَعْدَ الثُّلْثِ أَوْ كَذَا سَهْمًا مِنْ كَذَا سَهْمًا بَعْدَ الرُّبْعِ فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ سَمَّى كَذَا ذِرَاعًا مِنْ كَذَا ذِرَاعًا مِنْ دَارٍ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَهُمَا، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى كَذَا جَرِيبًا مِنْ كَذَا جَرِيبًا؛ لِأَنَّ الْجَرِيبَ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ بِالذِّرَاعِ فَكَانَ تَسْمِيَتُهُ كَتَسْمِيَةِ الذِّرَاعِ وَعِنْدَهُمَا تَسْمِيَةُ الذِّرَاعِ كَتَسْمِيَةِ السَّهْمِ؛ لِأَنَّ ذِرَاعًا مِنْ ذِرَاعَيْنِ نِصْفُ الدَّارِ وَذِرَاعًا مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ عُشْرُ الدَّارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الذِّرَاعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مَعْلُومٍ يَقَعُ عَلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ جَانِبِ الدَّارِ فَبَعْضُ الْجَوَانِبِ يَكُونُ عَامِرًا وَبَعْضُهَا غَامِرًا وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَبَطَلُ الْعَقْدُ بِهَا.
وَقَالَ يَكْتُبُ فِي شِرَاءِ نَصِيبِ دَارٍ مِنْ امْرَأَةٍ اشْتَرَى جَمِيعَ نَصِيبِهَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَهُوَ كَذَا سَهْمًا مِنْ كَذَا سَهْمًا مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الدَّارِ بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَأَرْضِهِ وَبِنَائِهِ وَطَرِيقِهِ وَمَرَافِقِهِ، وَكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهِ أَوْ مِنْهُ قُلْت لِمَ كَتَبَهُ بِحُدُودِهِ وَأَرْضِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِحُدُودِهَا وَأَرْضِهَا كَمَا فِي الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ: لِأَنَّ النَّصِيبَ مُذَكَّرٌ فَلَمَّا أَضَفْته إلَيْهِ ذَكَّرْته، وَإِنْ كَتَبَ بِحُدُودِهَا أَرْضَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ الْإِضَافَةَ إلَى الدَّارِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَالْأَوَّلُ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ وَأَوْضَحُهُمَا فَإِنَّ الْمُشْتَرَى النَّصِيبُ دُونَ الدَّارِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِبَيَانِ الْمُشْتَرِي وَحُقُوقِهِ.
وَإِذَا اشْتَرَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَفَوْقَهُ مَنْزِلٌ وَاشْتُرِطَ كُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهُ، وَكَانَ الْعُلْوُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ السُّفْلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ كُلِّ حَقٍّ فِي الْمَنْزِلِ اشْتِرَاطُ الْعُلْوِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْعُلْوَ أَيْضًا، فَإِذَا ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ الْعُلْوِ فَقَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهُ، وَإِذَا اشْتَرَى الْبَيْتَ سَوَاءٌ ذَكَرَ كُلَّ حَقٍّ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ لَا يَدْخُلُ الْعُلْوُ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْعُلْوَ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي السُّفْلِ، وَفِي الدَّارِ سَوَاءٌ ذَكَرَ كُلَّ حَقٍّ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ إذَا اسْتَحَقَّ الْعُلْوَ أَوْ بَعْضَهُ يُخَيَّرُ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْعَقْدِ بِمُطْلَقِ اسْمِ الدَّارِ.
وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ طَرِيقٌ خَاصٌّ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَمَنَعَ صَاحِبُ تِلْكَ الدَّارِ الطَّرِيقَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ، فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ عَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ إقَامَةِ حَقِّ الْبَيِّنَةِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ، وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ دَارٍ أُخْرَى لِلْبَائِعِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْمُشْتَرِي مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّرِيقُ، وَغَيْرُ الطَّرِيقِ إلَّا أَنْ يُسْتَثْنَى الطَّرِيقُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ لِغَيْرِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا أَوْجَبَ لِلْمُشْتَرِي مَا هُوَ حَقُّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ لَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ لِغَيْرِهِ، فَحِينَئِذٍ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ هَذَا يُعَدُّ فِي النَّاسِ عَيْبًا وَيَنْتَقِصُ- بِاعْتِبَارِهِ- الثَّمَنُ.
فَإِنْ اشْتَرَى بَيْتَ سُفْلٍ فِي دَارٍ لَيْسَ لَهُ عُلْوٌ كَتَبَ اشْتَرَى مِنْهُ جَمِيعَ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ فِي الدَّارِ- الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ- أَحَدُ حُدُودِ هَذَا الْبَيْتِ فَيَذْكُرُ حُدُودَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ فِي الدَّارِ كَمَا أَنَّ الدَّارَ فِي الْمَحَلَّةِ فَكَمَا أَنَّ فِي شِرَاءِ الدَّارِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ الْمَحَلَّةَ فَفِي شِرَاءِ الْبَيْتِ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتُ، وَإِعْلَامُهَا بِذِكْرِ حُدُودِهَا ثُمَّ الْعَقْدُ يَتَنَاوَلُ بُقْعَةً مَعْلُومَةً مِنْ الدَّارِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا الْمُنَازَعَةُ وَإِعْلَامُهُ بِذِكْرِ حُدُودِهِ ثُمَّ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي حَدَّدْنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَأَرْضِهِ وَبِنَائِهِ وَطَرِيقِهِ فِي سَاحَةِ الدَّارِ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْتٌ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ فَيَقُولُ بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَيَذْكُرُ طَرِيقَهُ فِي سَاحَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ بِالذِّكْرِ وَالِانْتِفَاعُ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى وَالْبَيْتُوتَةُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَى أَنْ يَكْتُبَ الْحُدُودَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ، وَمِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ دَارُ فُلَانٍ، وَالْحَدُّ الثَّانِي فِي شَرْقِيِّ الدَّارِ دَارُ فُلَانٍ وَالْحَدُّ الثَّالِثُ: دُبُرُ الْقِبْلَةِ دَارُ فُلَانٍ وَالْحَدُّ الرَّابِعُ: الْغَرْبِيُّ دَارُ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ أَشْرَفُ الْجِهَاتِ فَالْبِدَايَةُ أَوْلَى مِنْهَا، وَإِنْ شَاءَ بَدَأَ بِالْغَرْبِيِّ وَدَارَ عَلَيْهَا، وَإِنْ شَاءَ بَدَأَ بِاَلَّذِي هُوَ دُبُرَ الْقِبْلَةِ ثُمَّ سَمَّى الَّذِي يَلِيهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِعْلَامُ وَبِذِكْرِ الْحُدُودِ صَارَ مَعْلُومًا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ أَوْ دُبُرِ الْقِبْلَةِ، وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ أَحَدُ حُدُودِهَا دَارُ فُلَانٍ وَانْتَهَى إلَى دَارِ فُلَانٍ أَوْ لَزِيقَ دَارِ فُلَانٍ كَمَا بَيَّنَّا.
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْتًا عُلْوًا فِي الدَّارِ لَيْسَ لَهُ سُفْلٌ كَتَبَ اشْتَرَى مِنْهُ الْبَيْتَ الَّذِي فِي عُلْوِ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَيَذْكُرُ حُدُودَ الدَّارِ ثُمَّ يَقُولُ: وَهَذَا الْبَيْتُ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْهَدِمُ ذَلِكَ الْبَيْتُ فَيَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى إعَادَتِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ مِنْ الدَّارِ مَعْلُومًا، وَإِعْلَامُ مَوْضِعِهِ بِإِعْلَامِ مَوْضِعِ الْبَيْتِ الَّذِي هَذَا عُلْوُهُ فَيَكْتُبُ، وَهُوَ عُلْوٌ سُفْلُهُ لِفُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِ الْبَيْتِ الَّذِي هَذَا الْبَيْتُ عَلَيْهِ، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُلْوِ حُدُودٌ، وَإِنَّمَا الْحُدُودُ لِلسُّفْلِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ حَوْلَ هَذَا الْعُلْوِ حُجْرَةٌ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ حُدُودَ الْعُلْوِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْعُلْوُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ إعْلَامُ الْمَبِيعِ بِذِكْرِ حُدُودِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حُدُودِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ يَكْتُبُ أَشْتَرِي مِنْهُ هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي حَدَّدْنَا سُفْلَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَأَرْضِهِ وَبِنَائِهِ وَطَرِيقِهِ فِي الدَّرَجِ، وَفِي سَاحَةِ الدَّارِ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ، وَإِلَى عُلْوِ الْبَيْتِ مُسَلَّمًا، قَالُوا وَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعَ الدَّرَجِ مِنْ الدَّارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَرُبَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ الْعُلْوِ فِي جَانِبٍ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ فِي جَانِبٍ آخَرَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ نَرَى أَنْ يَكْتُبَ، وَقَدْ نَقَدَ فُلَانُ بْنِ فُلَانٍ الثَّمَنَ كُلَّهُ، وَقَبَضَهُ فُلَانٌ مِنْهُ، وَهُوَ كَذَا دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ إذَا نَقَدَهُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِالْبَرَاءَةِ مَا لَمْ يَقْبِضُهُ الْبَائِعُ مِنْهُ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ تُذْكَرُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ.
وَإِنْ كَانَ بَيْتٌ فَوْقَهُ بَيْتٌ فَاشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا كَتَبَ: أَشْتَرِي مِنْهُ بَيْتَيْنِ مِنْ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْبَيْتَيْنِ يَتَنَاوَلُ بَيْتَيْنِ مُتَلَاصِقَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُفْلٌ فَيَذْكُرُ: أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ، وَيَكْتُبُ: هَذَا الْبُنْيَانُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا، أَحَدُ حُدُودِ الْبَيْتِ الْأَسْفَلِ كَذَا؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لِلْبَيْتِ السُّفْلِ وَبِذِكْرِهَا يَصِيرُ الْعُلْوُ مَعْلُومًا ثُمَّ يَكْتُبُ: اشْتَرَى مِنْهُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ اللَّذَيْنِ حَدَّدْنَا أَسْفَلَهُمَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهَا كِلَاهُمَا وَأَرْضِهِمَا وَبِنَائِهِمَا وَطَرِيقِهِمَا فِي الدَّرَجِ، وَفِي سَاحَةِ الدَّارِ، وَيَحُدُّ بِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْتَيْنِ أَصْلٌ هُنَا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالذِّكْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسَمِّيَهُمَا عِنْدَ ذِكْرِ الْحُدُودِ وَالْمَرَافِقِ.
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا مِنْ رَجُلَيْنِ، وَهِيَ صَحْرَاءُ كَتَبَ: اشْتَرَى مِنْهُمَا الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِهَا، وَالرَّابِعُ: اشْتَرَى مِنْهُمَا هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَهِيَ صَحْرَاءُ لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الصَّحْرَاءَ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمَبْنَى بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ صَحْرَاءَ كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَلَكِنْ فِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُفْهَمُ الْمَبْنَى عِنْدَ إطْلَاقِ الِاسْمِ، وَرُبَّمَا يَبْنِيهِمَا الْمُشْتَرِي فَيَسْتَحِقُّ بِنَاءَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ أَوْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ فِي صَكِّ الشِّرَاءِ أَنَّهَا كَانَتْ يَوْمئِذٍ صَحْرَاءَ رُبَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الظَّاهِرِ فَلِهَذَا يَكْتُبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
قَالَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ نَرَى أَنْ يَكْتُبَ فِي الضَّمَانِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ يَعْنِي إذَا اشْتَرَى هَذِهِ وَضَمِنَ لَهُ إنْسَانٌ الدَّرَكَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ بِجَمِيعِ مَا أَدْرَكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَقِيمَةُ مَا بُنِيَ فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ مِنْ بَيْنِ كَذَا إلَى كَذَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا اُسْتُحْسِنَ التَّنْصِيصُ عَلَى قِيمَةِ الْبِنَاءِ فِي الضَّمَانِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ الَّذِي بَنَاهُ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ أَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ إلَّا إذَا ضَمِنَ الْبَائِعُ لَهُ ذَلِكَ نَصًّا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لَيْسَ بِمُتَوَلِّدٍ مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْغُرُورِ فِي الْمَبِيعِ، وَفِيمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنْهُ كَالْأَوَّلِ وَعِنْدَنَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ، وَمِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي صِفَةَ السَّلَامَةِ وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْبَائِعُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُشْتَرِي قَرَارَ الْبِنَاءِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ يَكْتُبُ ضَمَانَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَيَنُصُّ أَيْضًا عَلَى مِقْدَارِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَا بَيْنَ كَذَا إلَى كَذَا دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْكَفَالَةَ بِالْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ فَكَانَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ فِي الْوَثِيقَةِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ إلَى كَذَا دِرْهَمًا بِقِيمَةِ عَدْلٍ يَوْمَ يَسْتَحِقُّ الدَّارَ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَنْقُضُ بِنَاءَهُ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ عَدْلٍ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْوَكْسِ وَدُونَ الشَّطَطِ.
، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ اسْتَحْسَنَ أَيْضًا أَنْ يَكْتُبَ وَذَلِكَ الْبِنَاءُ قَائِمٌ يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَبْنِي ثُمَّ يَنْهَدِمُ الْبِنَاءُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَا انْهَدَمَ مِنْ الْبِنَاءِ الَّذِي أَحْدَثَهُ فَيَكْتُبُ، وَذَلِكَ الْبِنَاءُ قَائِمٌ فِيمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَقُولُ: فِي هَذِهِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الدَّارِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ رُجُوعُهُ بِقِيمَةِ نِصْفِ الْبِنَاءِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ: الْعَقْدُ يَبْطُلُ كُلُّهُ بِاسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ جَمِيعِ الْبِنَاءِ وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِمِقْدَارِ مَا يُوجَدُ فِيهِ الِاسْتِحْقَاقُ؛ فَلِهَذَا يَكْتُبُ بِقِيمَةِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ، وَبَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ يَكْتُبُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْعَرْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَحَقٌّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا اللَّفْظَ مَا لَا رُجُوعَ لَهُ مِنْ مَرَمَّةٍ لَيْسَتْ بِعَيْنِ مَالٍ أَوْ حَفْرٍ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَاشْتِرَاطُهُ فِي الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ حَتَّى لَوْ قَالُوا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الدَّارِ وَطَوَاهَا فَالْحَفْرُ لَيْسَ مِنْ الْبِنَاءِ فِي شَيْءٍ، وَالْعُلْوُ مِنْ الْبِنَاءِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ مَا هُوَ بِنَاءٌ مَطْوِيٌّ وَيَكْتُبُ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ فِي الْبِنَاءِ، وَهَذَا مُسْتَحْسَنٌ عِنْدَنَا فَإِنَّ رُجُوعَ الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَمْلِكُ النَّقْضَ مِنْ الْبَائِعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُخْتَارُ اللَّفْظَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِجَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتُبْ هَذَا رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعَيْنِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا بَاعَهُ النِّصْفَ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ بِاعْتِبَارِ عَقْدِهِ فَلِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُشْتَرِي يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ فِي النِّصْفِ هُوَ بَائِعٌ، وَفِي النِّصْفِ الْآخِرِ هُوَ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ ضَمَانُهُ كَضَمَانِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
وَإِنْ اشْتَرَى بَيْتَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ فِي دَارِ وَاحِدَةٍ أَحَدُهُمَا عُلْوٌ، وَالْآخَرُ سُفْلٌ كَتَبَ أَشْتَرِي مِنْهُ بَيْتَيْنِ فِي الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ؛ أَحَدُ حُدُودِ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا هَذَانِ الْبَيْتَانِ وَالرَّابِعُ: وَأَحَدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ سُفْلٍ عُلْوُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ حُدُودِ الْبَيْتِ السُّفْلُ فَيَذْكُرُ حُدُودَهُ ثُمَّ يَذْكُرُ حُدُودَ الْبَيْتِ الْآخَرِ عُلْوَ سُفْلِهِ لِفُلَانٍ وَيُحِدُّ الْبَيْتَ فَيَذْكُرُ حُدُودَهُ ثُمَّ يُجْرِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي السُّفْلِ الْمُشْتَرَى وَحْدَهُ، وَالْعُلْوِ الْمُشْتَرَى وَحْدَهُ بِدُونِ السُّفْلِ، فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى سُفْلَ بَيْتٍ وَعُلْوَ بَيْتٍ آخَرَ وَهُمَا فِي دَارِ وَاحِدَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذِكْرِ الْمَوْضِعِ وَالتَّحْدِيدِ وَإِعْلَامِ الْعُلْوِ وَبِتَحْدِيدِ السُّفْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَوْلَ الْعُلْوِ بِنَاءٌ، وَإِنْ كَانَ فَتَحْدِيدُهُ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَإِنْ اشْتَرَى مِنْهُ طَرِيقًا فِي دَارِ كَتَبَ أَشْتَرِي مِنْهُ طَرِيقًا مِنْ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَيُحَدِّدُهَا، وَهَذَا الطَّرِيقُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَا بَيْنَ مَوْضِعِ كَذَا مِنْ دَارِ فُلَانٍ الَّتِي إلَى جَانِبِ هَذِهِ الدَّارِ إلَى بَابِ هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا، عَرْضُ هَذَا الطَّرِيقِ عَرْضُ بَابِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِعْلَامُ الطَّرِيقِ بِذِكْرِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ ثُمَّ يَكْتُبُ: أَشْتَرِي مِنْهُ هَذَا الطَّرِيقَ الَّذِي ضَمَّنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهِ كُلِّهَا وَأَرْضِهِ مُسْلِمًا إلَى بَابِ الدَّارِ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ بِالذِّرَاعِ طُولًا وَعَرْضًا؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ عَرْضُهُ عَرْضُ بَابِ الدَّارِ بَعْضَ الْإِبْهَامِ فَقَدْ يُبَدَّلُ بِالْبَابِ بَابٌ آخَرُ وَلَكِنْ يُجَوِّزُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْإِبْهَامِ؛ لِأَنَّ عَرْضَ بَابِ الدَّارِ طَرِيقٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ يُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الطَّرِيقِ التَّطَرُّقُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ بِقَدْرِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ، فَإِنَّ مَا لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَهُ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يُسَمِّ عَرْضَ الطَّرِيقِ كَانَ يَجُوزُ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِلرُّجُوعِ إلَيْهِ وَقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِمَعْرِفَةِ بَابِ الدَّارِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ عُلْوٌ لِغَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ: عُلْوُهُ لِفُلَانِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ الْأَرْضِ، فَرُبَّمَا يَنْقُضُ الْعُلْوَ الَّذِي لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ أَوْ يَمْنَعُ صَاحِبَ الْعُلْوِ مِنْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ عُلْوًا بَعْدَ الِانْهِدَامِ.
وَإِنْ اشْتَرَى حَائِطًا كَتَبَ: أَشْتَرِي مِنْهُ الْحَائِطَ الَّتِي فِي الدَّارِ الَّذِي فِي بَنِي فُلَانٍ، وَهَذَا الْحَائِطُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا مَا بَيْنَ كَذَا إلَى كَذَا عَرْضُهُ كَذَا؛ لِأَنَّ بِتَنَاوُلِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ يَصِيرُ الْمُشْتَرَى- وَهُوَ الْبِنَاءُ وَمَوْضِعُهُ مِنْ الْأَرْضِ- مَعْلُومًا، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْتَرِي مِنْهُ هَذَا الْحَائِطَ الَّذِي سَمَّيْنَا بِحُدُودِهِ كُلِّهِ أَرْضَهُ وَبِنَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ فِيهِ اخْتِلَافُ شُبْهَةِ الْعُلَمَاءِ دُخُولَ الْأَصْلِ فِي الْبَيْعِ.
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا غَيْرَ بَيْتٍ فِيهَا كَتَبَ: أَشْتَرِي مِنْهُ الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ غَيْرَ بَيْتٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، وَطَرِيقِهِ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا، وَعَيَّنَ حُدُودَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُسْتَثْنَى بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالطَّرِيقِ إلَيْهِ فِي حَاجَةِ الدَّارِ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ الطَّرِيقَ فِيمَا يُسْتَثْنَى تَضَرَّرَ الْبَائِعُ فِي تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ؛ فَلِهَذَا يَقُولُ: غَيْرُ هَذَا الْبَيْتِ، وَطَرِيقُهُ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ ثُمَّ يَكْتُبُ فِي آخِرِهِ، وَقَدْ رَأَى فُلَانٌ هَذَا الْبَيْتَ، وَعَرَّفَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرَ الْمُسْتَثْنَى تَتَمَكَّنُ بِهِ جَهَالَةٌ فِي صِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ بُيُوتَ الدَّارِ تَخْتَلِفُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِيَّةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى بَيْتًا مِنْ الدَّارِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ.
وَإِذَا اشْتَرَى بَيْتًا لَمْ يَرَهُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَأَى مَا سِوَاهُ مِنْ الْبُيُوتِ فَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْمُسْتَثْنَى بَيْتًا لَمْ يَرَهُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي.
وَإِنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَنِصْفَ سَاحَةِ تِلْكَ الدَّارِ وَنِصْفَ مَخْرَجِهَا وَالطَّرِيقَ كَتَبَ: أَشْتَرِي مِنْهُ مَنْزِلًا فِي الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَأَشْتَرِي مِنْهُ أَيْضًا نِصْفَ سَاحَةِ هَذِهِ الدَّارِ وَنِصْفَ مَخْرَجٍ فِيهَا سِوَى هَذَا الْمَنْزِلِ ثُمَّ يُحَدِّدُ هَذَا الدَّارَ ثُمَّ يَكْتُبُ، وَهَذَا الْمَنْزِلُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَيَذْكُرُ حُدُودَ الْمَنْزِلِ ثُمَّ يَكْتُبُ، وَهَذَا الْمَخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَيَذْكُرُ حُدُودَهُ ثُمَّ يَذْكُرُ حُدُودَ سَاحَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ إمَّا كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحَدِّدَ جَمِيعَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْمَنْزِلَ الَّذِي حَدَّدْنَا وَنِصْفَ هَذَا الْمَخْرَجِ وَنِصْفَ سَاحَةِ هَذِهِ الدَّارِ بِحُدُودِهَا كُلِّهَا وَأَرْضِهَا وَبِنَائِهَا وَطَرِيقِهَا إلَى بَابِ الدَّارِ، وَإِلَى الْمَخْرَجِ مُسَلِّمًا ثُمَّ يُجْرِيه عَلَى مَا وَصَفْنَا.
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا بِنَاؤُهَا لِلْمُشْتَرِي يَكْتُبُ عَلَى رَسْمِ مَا لَوْ اشْتَرَاهَا كُلَّهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ وَبِنَاءَهَا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مَمْلُوكًا لَهُ وَشِرَاؤُهُ إنَّمَا يَتَنَاوَل مِلْكَ الْبَائِعِ لَا مِلْكَ نَفْسِهِ، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَقُولُ: الْأَحْسَنُ أَنْ يَكْتُبَ اشْتَرَى أَرْضَ دَارٍ بِنَاؤُهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ مُطْلَقًا فِي الْعُرْفِ يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّى وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَعْمَلَ أَخَصُّ الْأَلْفَاظِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إعْلَامِ الْمُشْتَرِي.
وَإِنْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارٍ وَنِصْفُهَا الْآخَرُ لِلْمُشْتَرِي وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَهُ كَتَبَ أَشْتَرِي مِنْهُ نِصْفَ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَهَذِهِ الدَّارُ الَّتِي نِصْفُهَا لِفُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِهَا وَالرَّابِعُ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ حُدُودَ جَمِيعِ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى نِصْفُهَا؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ نِصْفِ الدَّارِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا لِغَيْرِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَهُ فِي الشِّرَاءِ كَتَبَ اشْتَرَى فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَكْتُبُونَ اشْتَرَى لِفُلَانٍ بِأَمْرِهِ وَمَالِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِالشِّرَاءِ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا بِمَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ بِعَقْدٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَالًا لِلْغَيْرِ ثُمَّ فِي هَذَا ضَرَرٌ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا حَضَرَ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَالَ مِنْ الْبَائِعِ لِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّ الْمَالَ لَهُ ثُمَّ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرَى بِالثَّمَنِ وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِيهِ إفْسَادٌ آخَرُ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ النُّفُوذُ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ الْأَمْرَ وَرَجَعَ بِدَرَاهِمِهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اشْتَرَى فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ وَيَجْرِي الْكِتَابُ عَلَى رَسْمِهِ إلَى أَنْ يَكْتُبَ فِي آخِرِهِ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ دَرَكٍ فِيمَا اشْتَرَى لَهُ فُلَانٌ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ فَقَدْ ذَكَرَ ضَمَانَ الدَّرَكِ لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْعَقْدِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّسْلِيمِ يُخْرِجُ مِنْ الْوَسَطِ فَالِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ وَالدَّرَكُ إنَّمَا يَلْحَقُ الْمُوَكِّلَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَحِقِّ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَكِيلِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ كَانَ بِالرَّقَّةِ كَتَبَ لِلرَّشِيدِ كِتَابًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكَتَبَ فَمَا أَدْرَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دَرَكٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ أَوْ يَرُدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ فُلَانٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ مِنْ أَصْحَابِهِ لِمَاذَا كَتَبْت الدَّرَكَ لِلْمُشْتَرَى لَهُ فَقَالَ هَكَذَا كَتَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ إذَا كَتَبَ الدَّرَكَ لَهُ فَلِمَاذَا لَمْ تَكْتُبْ رَدَّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ قَالَ لِأَنَّ رَدَّ الثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بِالْعَقْدِ وَالثَّمَنُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ الرَّدُّ يَكُونُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ قِيلَ فَإِنْ كَتَبَ كَاتِبٌ أَوْ يَرُدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرَى لَهُ قَالَ أَكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا أُفْسِدُ بِهِ الْعَقْدَ وَكَأَنَّهُ سَلَكَ فِي هَذَا طَرِيقَةَ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى قِيَاسِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا قَبَضَ الْمُوَكِّلُ الثَّمَنَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَتَبَ كَاتِبٌ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ الْمُشْتَرِي قَالَ أَكْرَهُ ذَلِكَ أَيْضًا وَلَا أُفْسِدُ بِهِ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الدَّرَكَ قَدْ يَلْحَقُ الْوَكِيلَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَلَكِنْ لَوْ كَتَبَ فِي ضَمَانِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ مَا يَبْنِي الْمُشْتَرِي كَانَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْبِنَاءِ فِي هَذِهِ الدَّارِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ بِدُونِ رِضَا الْمُوَكِّلِ فَاشْتِرَاطُ ضَمَانِ بِنَائِهِ فِي الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ ضَمَانِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ.
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا فِيهَا حَمَّامٌ كَتَبَ عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفْنَا فِي شِرَاءِ الدَّارِ وَالدَّارَيْنِ قَالَ وَيُسَمِّي فِيهَا قِدْرَ الْحَمَّامِ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ قِدْرَ الْحَمَّامِ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِخِلَافِ الْأَبْوَابِ وَالسُّرَرُ الْمُرَكَّبَةُ فِي شِرَاءِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْقِدْرَ لَا يُرَكَّبُ فِي مَوْضِعِهِ لِيَكُونَ عَلَى الْبِنَاءِ وَلَكِنَّهُ يُوضَعُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَيُطَيَّنُ مَا حَوْلَهُ لِكَيْ لَا يُخْرِجَ النَّارَ وَالدُّخَانَ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَكْتُبُونَ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَمَّامِ بِحُدُودِهَا وَقِدْرِهَا وَآنِيَتِهَا وَمَلْقَى رَمَادِهَا وَشُرُفَاتِهَا وَبِئْرِهَا وَالْبَكَرَةِ وَالدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ الَّتِي فِيهَا وَمُسْتَنْقَعِ مَا فِيهَا مِنْ حُقُوقِهَا وَبَعْضُ هَذَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَلَكِنَّهُمْ يَذْكُرُونَهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذِكْرِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْحَمَّامُ مِنْ سَائِرِ الْمَحْدُودَاتِ.
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِلْآخَرَيْنِ النِّصْفُ كَتَبَ بَعْدَ ذِكْرِ الْحُدُودِ أَشْتَرِي مِنْهُمْ هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَمِنْ فُلَانٍ كَذَا، وَمِنْ فُلَانٍ كَذَا؛ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ قَدْ تَفَاوَتَتْ، وَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ يَعْنِي فِيمَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثَّمَنَ فِيمَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي فِيمَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الثَّمَنِ، وَفِيمَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ لُحُوقِ الدَّرَكِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَكْتُبُ وَقَدْ نَقَدَهُمْ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَبَرِئَ إلَيْهِمْ مِنْهُ فَقَبَضَ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا نَقَدَهُ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِكَذَا رُبَّمَا يَدَّعِي صَاحِبُ النِّصْفِ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ إلَّا ثُلُثُ الثَّمَنِ وَيَحْتَجُّ بِمُطْلَقِ إقْرَارِهِ فَإِنَّهُ نَقَدَهُمْ الثَّمَنَ ثُمَّ قَالَ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ الَّتِي اشْتَرَى مِنْهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوهُ لَهُ عَلَى قَدْرِ مَا اشْتَرَى مِنْهُمْ.
وَإِنْ اشْتَرَى ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ وَاحِدٍ كَتَبَ اشْتَرَوْا مِنْهُ هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا اشْتَرَى مِنْهُ فُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا، وَهَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ مِنْ إعَادَةِ الْخَبَرِ إذَا تَخَلَّلَ بَيْنُهُ وَبَيْنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَلَامٌ آخَرُ فَيَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ فُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا وَيَكْتُبُ وَقَدْ نَقَدَهُ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَافِيًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ الَّتِي اشْتَرَوْا مِنْهُ نَقَدَ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا وَبَرِئُوا إلَيْهِ مِنْهُ فَصَارَ لِفُلَانٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا فَمَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ إلَى آخِرِهِ.
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا لِابْنِهِ الصَّغِيرِ كَتَبَ اشْتَرَى فُلَانٌ لِابْنِهِ فُلَانٍ وَأَهْلُ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَكْتُبُونَ اشْتَرَى لِابْنِهِ الصَّغِيرِ بِمَالِهِ وَبِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ مُمَيِّزًا لِمَالِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ لَا يَذْكُرَ الْمَالَ فَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ لِابْنِهِ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الشُّرُوطِ هُنَا عَلَى أَنَّهُ يَكْتُبُ اسْمَ الْأَبِ قَبْلَ اسْمِ الِابْنِ، وَفِي الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ مِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ اسْمَ الْمُوَكِّلِ فَيَكْتُبُ اشْتَرَى لِفُلَانٍ فُلَانٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ اسْمَ الْمُشْتَرِي فَيَكْتُبُ اشْتَرَى فُلَانٌ لِفُلَانٍ الْوَكِيلِ وَلَكِنْ يَكْتُبُ اشْتَرَى لِفُلَانٍ الْآمِرِ بِأَمْرِهِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَأَهْلُ الشُّرُوطِ يَزِيدُونَ فِي هَذَا الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَهُوَ ثَمَنُ مِثْلِ هَذِهِ الدَّارِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشُّرُوطِ بَنَوْا عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى بِمَالِ الصَّغِيرِ فَذَكَرُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِمَالِهِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ، وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَالَهُ أَصْلًا فَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ، وَقَدْ نَقَدَ فُلَانٌ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَافِيًا، وَمِنْ مَالِ ابْنِهِ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِيَكُونَ فِيهِ نَظَرٌ لِلْوَلَدِ فَرُبَّمَا يَدَّعِي الْأَبُ أَنَّهُ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَدَّعِي ذَلِكَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ فَلِهَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَيَكْتُبُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ فِي عِيَالِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ: إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ فِي عِيَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ يَكْتُبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ثُمَّ يَكْتُبُ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانًا مِنْ دَرَكٍ فِيمَا اشْتَرَى لَهُ فُلَانٌ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ بُلُوغِ الْوَلَدِ إنَّمَا يَلْحَقُ الِابْنَ دُونَ الْأَبِ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكْتُبَ هُنَا، وَفِي الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ أَيْضًا، وَقَدْ وَكَّلَ فُلَانٌ يَعْنِي الْمُشْتَرِيَ فُلَانًا بِالْخُصُومَةِ فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ إمَّا وَكَالَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي الدَّارِ فِي الْحَالِ أَوْ مُضَافَةٌ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَيَزِيدُونَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَلِمَةُ عِزٍّ لَهُ فَهُوَ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ تَوْكِيلًا جَدِيدًا، وَفِي هَذَا النَّوْعِ احْتِيَاطٌ لِلْمُوَكِّلِ وَلِلِابْنِ فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْخُصُومَةِ بِالْعَيْبِ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُوَكِّلُ وَلَا الِابْنُ مِنْ خُصُومَةِ الْبَائِعِ وَرُبَّمَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا وَيَمْتَنِعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ قَدْ ذَكَرَ هَذَا التَّوْكِيلَ لِكَيْ لَا يَتَعَذَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَهُ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ.
وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ دَارِهِ مِنْ ابْنِهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ فِي عِيَالِهِ كَتَبَ هَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ابْنِهِ إنِّي بِعْتُك الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَيُحَدِّدُهَا وَيَجْرِي الْكِتَابُ عَلَى الرَّسْمِ بِكَذَا دِرْهَمًا وَقَبَضْت الثَّمَنَ كُلَّهُ مِنْك وَبَرِئْتَ إلَيَّ مِنْهُ وَأَنْتَ يَوْمئِذٍ صَغِيرٌ فِي عِيَالِي فَمَا أَدْرَكَك مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَيَّ خَلَاصُهُ، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى لَفْظَيْنِ فِي الْبَيْعِ مِنْ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ.
وَيُحْكَى عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الشَّاشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ فِيمَا يُعَامِلُ نَفْسَهُ فَيَكُونُ نَائِبًا وَلَا يَكُونُ كَالْمُبَاشِرِ لِلْعَقْدِ حَتَّى إنَّ الْعُهْدَةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِيهِ تَكُونُ عَلَى الْوَلَدِ بِخِلَافِ مَا يُعَامِلُ غَيْرَهُ فَإِنَّ الْأَبَ فِيهِ مُبَاشِرٌ لِلْعَقْدِ وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِ الْوَلَدِ، وَهُوَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ وَسَفِيرًا فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ هُوَ يَكُونُ مُبَاشِرًا فِيهِ مِنْ جَانِبِ نَفْسِهِ، وَمِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَكُونُ هُوَ سَفِيرًا فِيهِ عَنْ الِابْنِ بِخِلَافِ الْمَوْلَى يُزَوِّجُ وَلِيَّتَهُ مِمَّنْ هُوَ وَلِيُّهُ فَالْعَاقِدُ فِي النِّكَاحِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ السَّفِيرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ سَفِيرًا عَنْ جَمَاعَةٍ وَلَكِنَّ الْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ أَيْضًا أَنَّهُ فِي الْبَيْعِ يَتِمُّ بِقَوْلِهِ بِعْت مِنْهُ بِكَذَا، وَفِي الشِّرَاءِ يَتِمُّ بِقَوْلِهِ اشْتَرَيْت مِنْهُ بِكَذَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي بِهِ يَلْتَزِمُ الْعُهْدَةَ، وَيَكُونُ مُبَاشِرًا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ اللَّفْظِ الَّذِي يَكُونُ سَفِيرًا وَالْقَوِيُّ يَنْتَظِمُ الضَّعِيفَ وَلَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَفِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ مُبَاشِرًا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُعَبِّرًا عَنْ غَيْرِهِ فِي الْعَقْدِ حَتَّى قَالُوا لَوْ ذُكِرَ اللَّفْظُ الَّذِي هُوَ سَفِيرٌ فِيهِ فَقَالَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الدَّارَ بِكَذَا، وَفِي الشِّرَاءِ قَالَ بِعْت هَذِهِ الدَّارَ لِابْنِي مِنْ نَفْسِي لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يَنْتَظِمُ الْقَوِيَّ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الَّذِي بِهِ يَلْتَزِمُ الْعُهْدَةَ وَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ بِالْإِيجَابِ، وَفِي الشِّرَاءِ بِالْقَبُولِ قَالَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ فِي الرَّسْمِ لِفُلَانٍ فَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْته إلَيْهِ فَاجْعَلْهُ بِالْكَافِ وَلَا تَجْعَلْهُ بِالْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ مِنْ رَجُلٍ فَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْته إلَيْهِ فَاجْعَلْهُ بِالْيَاءِ وَلَا تَجْعَلْهُ بِالْكَافِ وَالصَّوَابُ فَاجْعَلْهُ بِالْهَاءِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إذَا كَتَبَ: هَذَا الْكِتَابُ مِنْ فُلَانِ بْنُ فُلَانٍ، يَكْتُبُ: إنِّي قَدْ بِعْتُك، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ كُلُّهُ بِالْكَافِ، وَإِذَا كَتَبَ: هَذَا الْكِتَابُ مِنْ رَجُلٍ لِابْنِهِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ فَيَذْكُرُ هَذَا، وَمَا بَعْدَهُ بِالْهَاءِ.
وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ كَتَبَ هَذَا كِتَابٌ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَنَّهُ كَانَ لَك عَلَى هَذَا كَذَا دِرْهَمًا، وَهُوَ جَمِيعُ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ وَإِنِّي بِعْتُك بِذَلِكَ كُلِّهِ الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانِ وَيُجْرِيهِ عَلَى الرَّسْمِ حَتَّى يَقُولَ: بِجَمِيعِ الدَّيْنِ الَّذِي لَك عَلَيَّ، وَهُوَ كَذَا دِرْهَمًا وَلَا يَكْتُبُ، وَقَدْ قَبَضْته مِنْك وَلَكِنْ يَكْتُبُ، وَقَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الثَّمَنِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ هَذَا اللَّفْظَ أَيْضًا وَقَالُوا هَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ، وَفِي الشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ يَسْقُطُ الدَّيْنُ إذَا تَمَّ الشِّرَاءُ إلَّا أَنْ يَصِيرَ الْمَدْيُونُ قَابِضًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا دَيْنَ الْغَيْرِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا دَيْنَ الْغَيْرِ مِنْ نَفْسِهِ لِلْغَيْرِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ فَيَجْعَلَهُ قَابِضًا الثَّمَنَ لِنَفْسِهِ وَلَكِنْ قَبْضٌ حُكْمِيٌّ لَا حِسِّيٌّ فَيَكْتُبُ: وَقَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الثَّمَنِ كُلِّهِ وَلَا يَكْتُبُ، وَقَدْ قَبَضْته مِنْك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضِ الْحِسِّيِّ ثُمَّ يَكْتُبُ، وَقَدْ قَبَضْت هَذِهِ الدَّارَ مِنِّي، وَقَدْ بَرِئْت إلَيْك مِنْهَا وَبَرِئْت أَنَا مِمَّا كَانَ لَك عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ وَهَذِهِ زِيَادَةٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَلَكِنْ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا جَرَى الرَّسْمُ بِذَكَرِهِ لِلتَّأْكِيدِ فَيَذْكُرُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْضَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَمَا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ الشُّرُوطِ، فَإِنْ أَرَادَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ يَكْتُبَ بَرَاءَةً مِنْ الدَّيْنِ كَتَبَ هَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ أَنَّهُ كَانَ لِي عَلَيْك كَذَا، وَهُوَ جَمِيعُ مَا كَانَ لِي عَلَيْك وَأَنَّك بِعْتنِي بِهِ دَارَ كَذَا وَقَبَضْتهَا مِنْك وَبَرِئْت إلَيَّ مِنْهُ فَمَا ادَّعَيْت قَبْلَك مِنْ دَعْوَى فِي هَذَا الدَّيْنِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْبَرَاءَةِ فَإِنِّي فِيمَا ادَّعَيْت مِنْ ذَلِكَ مُبْطِلٌ وَأَنْتَ مِمَّا ادَّعَيْت مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بَرِيءٌ وَهَذِهِ زِيَادَةُ زِيَادَاتٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ قَوْلَهُ أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ غَيْرَ هَذَا الدَّيْنِ مِمَّا كَانَ وَاجِبًا لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ بِهَذَا الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَهُ مِمَّا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الشِّرَاءِ فَهُوَ لَا يَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ بِهَذَا الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ غَيْرَهُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَهُوَ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَى ذَلِكَ كَتَبَ هَذَا أَوْ لَمْ يَكْتُبْ فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَكِنْ جَرَى الرَّسْمُ بِكَتْبِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ.
وَإِذَا كَانَ الشِّرَاءُ مِنْ وَكِيلٍ كَتَبَ كِتَابَ الْوَكَالَةِ وَشَهَادَةَ الشُّهُودِ عَلَيْهَا عَلَى حِدَةٍ وَكَتَبَ كِتَابَ الشِّرَاءِ مِنْ الْوَكِيلِ بِاسْمِهِ مُجَرَّدًا وَجَعَلَ تَارِيخَهُ بَعْدَ تَارِيخِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّ كِتَابَ الْوَكَالَةِ حُجَّةُ الْوَكِيلِ مِنْ وَجْهٍ وَكِتَابُ الشِّرَاءِ وَثِيقَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَإِنْ كَتَبَ الْكُلَّ فِي بَيَاضٍ وَاحِدٍ وَبَدَأَ بِكِتَابِ الْوَكَالَةِ ثُمَّ بِكِتَابِ الشِّرَاءِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا بِذَلِكَ يَحْصُلُ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ تَارِيخَ كِتَابِ الشِّرَاءِ بَعْدَ تَارِيخِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ تَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ كِتَابَ الشِّرَاءِ مِنْ الْوَكِيلِ بِاسْمِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ لِنَفْسِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ لُحُوقِ الْعُهْدَةِ إنَّمَا يُخَاصِمُ الْمُشْتَرِي الْوَكِيلَ خَاصَّةً وَلَا حَاجَةَ إلَى حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي فِي بَيْعِ مَالِ الْمَيِّتِ أَوْ كَانَ وَصِيًّا لِمَيِّتٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ وَكِيلَ الْقَاضِي تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَالْوَصِيُّ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ الْمَيِّتِ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِ الْمَيِّتِ إيَّاهُ فِي حَيَاتِهِ، وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَلَا يَنْسُبُ الدَّارَ إلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهَا إلَى الْعَاقِدِ تَكُونُ كَذِبًا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُ غَيْرِهِ فِي كِتَابِ الشِّرَاءِ.
وَإِذَا هَلَكَ صَكُّ الشِّرَاءِ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا آخَرَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ الشِّرَاءِ كَمَا وَصَفْنَا وَيَكْتُبَ فِي آخِرِهِ وَقَدْ كُنْت كَتَبْت لَك هَذِهِ الدَّارَ شِرَاءً مِنِّي فِي صَكٍّ فَهَلَكَ ذَلِكَ وَسَأَلْتَنِي أَنْ أَشْهَدَ لَك عَلَى شِرَائِك هَذِهِ الدَّارِ مِنِّي فَكَتَبْتُ لَك هَذَا الْكِتَابَ وَأَشْهَدْتُ لَك عَلَيْهِ الشُّهُودَ الْمُسَمَّيْنَ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
وَإِذَا ضَمِنَ رَجُلٌ لِلْمُشْتَرِي مَا أَدْرَكَهُ فِي الدَّارِ مِنْ دَرَكٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَعَلَى الضَّامِنِ رَدُّ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ الْبَائِعُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى لَهُ فِي الضَّمَانِ الدَّرَكَ وَقِيمَةُ الْبِنَاءِ لَيْسَ بِضَمَانٍ فِي شَيْءٍ، فَإِنْ صَرَّحَ بِهِ فِي الضَّمَانِ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ الدَّرَكَ خَاصَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِضَمَانِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَضَمَانُ الْغُرُورِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْعَيْبِ وَالْكَفِيلُ بِالدَّرَكِ لَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُمَلِّكُهُ النَّقْضَ إذَا رَجَعَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ النَّقْضِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ مِنْ الدَّارِ سُدُسَهَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا بِسُدُسِ الثَّمَنِ، وَهُوَ حِصَّةُ مَا اسْتَحَقَّ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ الدَّرَكِ كَانَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَإِنَّمَا رَدَّ الْبَاقِي بِسَبَبِ الْعَيْبِ وَلَوْ رَدَّ الْكَفِيلُ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْكُلَّ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْبَعْضَ وَرَدَّ الْبَعْضَ يَجِبُ اعْتِبَارُ كُلِّ جُزْءٍ بِجُمْلَتِهِ.
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارِ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بِبَيَانِ جُمْلَةِ الذُّرْعَانِ يَصِيرُ جُمْلَةُ الثَّمَنِ مَعْلُومًا وَلِأَنَّهُ سَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا يُذْرَعُ بِذِرَاعٍ وَسَطٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الذِّرَاعَ الْمُكَسَّرَةَ؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ الْأَطْوَلَ ذِرَاعُ الْمِلْكِ وَلَكِنَّ النَّاسَ مَا اعْتَادُوا الذَّرْعَ بِهِ غَالِبًا وَمُطْلَقُ التَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ تَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ الذِّرَاعُ الْوَسَطُ، فَإِنْ ذَرَعَهَا وَوَجَدَهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ فَهِيَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ كَمَا شَرَطَ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ أَخَذَهَا كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ فَقَدْ وَجَدَهَا أَضْيَقَ مِمَّا شَرَطَ لَهُ فِي الدَّارِ، وَالسَّعَةُ فِي الدَّارِ مَقْصُودَةٌ فَبِتَغَيُّرِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مِنْ الْمَالِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الدَّارِ بِهَا وَلَا يَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَكَانَتْ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُهُ فِي الثَّمَنِ زِيَادَةٌ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الذَّرْعِ فَإِنَّهُ سَمَّى الثَّمَنَ جُمْلَةً بِمُقَابَلَةِ الدَّارِ وَالذَّرْعُ فِيهَا صِفَةٌ وَلَيْسَ بِمِقْدَارٍ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الثَّمَنُ الْعَيْنَ دُونَ الْوَصْفِ فَلَا يَزْدَادُ الثَّمَنُ بِزِيَادَةِ الْوَصْفِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ جَعَلَ الذِّرَاعَ هُنَاكَ مَقْصُودًا حَتَّى سَمَّى بِإِزَاءِ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إذَا وَجَدَهَا أَلْفَيْ ذِرَاعٍ فَلَوْ جَعَلْنَا الثَّمَنَ أَلْفًا كَانَ بِإِزَاءِ كُلِّ ذِرَاعٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ ذِرَاعٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهِ شَرْطَهُ، وَإِذَا أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ هُنَا بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَبِنُقْصَانِ الذِّرَاعِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الْوَصْفِ وَلَا يَسْقُطُ بِاعْتِبَارِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا مَعْلُومَةً عَلَى أَنَّهَا عِشْرُونَ جَرِيبًا وَعِشْرُونَ نَخْلَةً بِكَذَا دِرْهَمًا فَزَادَتْ الْأَرْضُ وَالنَّخْلُ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي بِمَا سَمَّى؛ لِأَنَّ النَّخْلَ صِفَةٌ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ حَتَّى أَنَّهَا تَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ الذِّكْرِ وَزِيَادَةُ الصِّفَةِ لَا تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ وَلَا تُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي.
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا ثَلَاثُ فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنْ يَشْتَرِيَ بَرَاحَ أَرْضٍ فِيهَا نَخْلٌ مُطْلَقًا أَوْ يَشْتَرِيَهَا بِدُونِ النَّخْلِ أَوْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ الَّذِي فِيهَا دُونَهَا فَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مَا فِيهَا مِنْ النَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ وَغَيْرِ الْمُثْمِرَةِ وَالطَّرْفَاءِ وَالْحَطَبِ وَالْقَصَبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَصَبَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَلَا خِلَافَ فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَالدَّرِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ رِيعِ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَأَبُو يُوسُفَ أَلْحَقَ الْقَصَبَ الْفَارِسِيَّ بِقَصَبِ السُّكَّرِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقْطَعُ إذَا أَدْرَكَ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ لَيْسَ مِنْ رِيعِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَالثِّمَارُ الَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ لَا تَدْخُلُ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَعِنْدَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ يَدْخُلُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا أَوْ بِذِكْرِ كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ وَمِنْ حُقُوقِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ.
وَالزَّرْعُ الَّذِي فِي الْأَرْضِ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَمْلِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ شَجَرَهُ لَا يُعَدُّ مِنْ زَرْعِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ جُمْلَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْطَعَ مِنْ أَصْلِهِ كَمَا يُؤْخَذُ الثَّمَرُ مِنْ الشَّجَرِ وَالْوَرْدُ مِنْ الشَّجَرَةِ فَكَمَا أَنَّ شَجَرَ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَلَا يَدْخُلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ.
وَإِنْ اشْتَرَى الْأَرْضَ بِدُونِ النَّخْلِ فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ فَكَمَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ النَّخْلِ ثُمَّ يَكْتُبُ أَنَّهُ اشْتَرَى الْبَرَاحَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلِ الَّتِي فِيهِ فِي مَوْضِعِ كَذَا، وَهُوَ كَذَا نَخْلَةً فَإِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِهَا إلَى بَابِ الْبَرَاحِ، وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى الطَّرِيقُ لِكَيْ لَا يَتَعَطَّلَ عَلَى الْبَائِعِ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِهِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ النَّخْلُ فَإِنَّ بِذِكْرِ النَّخْلِ يَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا أُصُولَ النَّخْلِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ نَخْلًا إذَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى أُصُولِهَا فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ جُذُوعًا وَلِهَذَا لَوْ رَفَعَ الْبَائِعُ تِلْكَ النَّخْلَ كَانَ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِي مَنَابِتِهَا نَخِيلًا آخَرَ أَوْ يَضَعَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أُسْطُوَانَةً أَوْ مَا أَحَبَّ.
وَإِنْ اشْتَرَى النَّخْلَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْأَرْضِ يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مَقْصُودًا بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ، وَمَا لَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَكْتُبُ حُدُودَ الْبَرَاحِ فِي كِتَابِ الشِّرَاءِ وَحُدُودَ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ النَّخْلُ وَيَكْتُبُ أَنَّهُ اشْتَرَى النَّخْلَ بِمَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ وَطَرِيقِهِ فِي الْبَرَاحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ: بِمَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ، وَفِي النَّوَادِرِ يَذْكُرُ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي دُخُولِ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى فِي الْعَقْدِ النَّخْلَ، وَاسْمُ النَّخْلِ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَرْضَ وَالنَّخْلُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ وَالْأَصْلُ لَا يَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ التَّبَعِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى نَخْلًا إلَّا وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ فَكَانَ دُخُولُهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ ضَرُورَةِ مَا سَمَّاهُ فِي الْعَقْدِ فَلِهَذَا يَذْكُرُ مَوَاضِعَهَا مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِيمَا إذَا اشْتَرَى النَّخِيلَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ الْأَحْوَطُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَيَذْكُرَ طَرِيقَ النَّخْلِ فِي الْبَرَاحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ الطَّرِيقَ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَيَذْكُرُ عَدَدَ النَّخَلَاتِ هُنَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ مَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسْلِيمُ لَا يَكُونُ إلَّا بِذِكْرِ عَدَدِ النَّخَلَاتِ وَرُبَّمَا يَقْلَعُ الْبَائِعُ بَعْضَهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ يَسْتَحِقُّ بَعْضَهَا فَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ.
وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا عُيُونُ النَّفْطِ وَالْغَازِ فَالْعَيْنُ تَدْخُلُ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَنَا، وَمَا هُوَ حَاصِلٌ مِنْ النَّفْطِ وَالْغَازِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرٍ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الرِّيعِ لِلْأَرْضِ وَأَمَّا الْعَيْنُ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ الْأَرْضِ فَتَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْبِئْرِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي شِرَاءِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْبَيْعُ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ بِخِلَافِ النَّفْطِ وَالْغَازِ فَإِنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الْمَمْلَحَةِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ الْعَيْنُ لَا تَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ بِدُونِ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِالزِّرَاعَةِ أَوْ السُّكْنَى وَالْعَيْنُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ الذِّكْرِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ ذَكَرَ أَنَّهُ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ الْأَرْضَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا كَذَا وَالْعُيُونَ الَّتِي فِيهَا الْغَازُ وَالنَّفْطُ، أَحَدُ حُدُودِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الْعُيُونُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذِهِ الْأَرْضَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَالْعُيُونَ الَّتِي فِيهَا النَّفْطُ وَالْغَازُ، وَمَا فِي الْعُيُونِ مِنْ النَّفْطِ وَالْغَازِ بِحُدُودِهَا كُلِّهَا.
وَإِذَا قَالَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ: أَنَا أَبِيعُكَهَا بِمَا اشْتَرَيْتهَا بِهِ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْت ذَلِكَ فَأَبَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَهُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي شِرَاءٍ مُسْتَقْبَلٍ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حَقِّهِ فِي الشُّفْعَةِ وَلَا يَتِمُّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا جَرَى مِنْ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْبَيْعِ بِلَفْظَيْنِ هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَقَوْلُ الْمُشْتَرِي: أَبِعْتهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ وَعْدٌ لَا إيجَابٌ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ.
وَإِذَا اقْتَسَمَ الْقَوْمُ دَارًا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ كِتَابًا؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَةِ الدَّارِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَلِّمُ لِأَصْحَابِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ عِوَضًا عَمَّا يَأْخُذُ مِنْهُمْ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ وَالْقِسْمَةُ تَكُونُ مُسْتَدَامَةً بَيْنَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ مِنْهُمْ الْوَثِيقَةَ، وَصِفَةُ ذَلِكَ: هَذَا مَا اقْتَسَمَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانَةُ بَنُو فُلَانٍ اقْتَسَمُوا الدَّارَ الَّتِي هِيَ فِي بَنِي فُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِهَا وَالرَّابِعُ اقْتَسَمُوهَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ- تَعَالَى- وَكَانَ ذَرْعُ جَمِيعِ هَذَا الدَّارِ كَذَا ذِرَاعًا مُكَسَّرَةً، وَكَانَ جَمِيعُ الَّذِي لِفُلَانٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ كَذَا ذِرَاعًا مُكَسَّرَةً فَأَصَابَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ نَرَى أَنْ يَكْتُبَ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ أَحَدُ حُدُودِ الَّذِي أَصَابَهُ كَذَا وَالرَّابِعُ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُخَالِفُهُمَا فِي تَحْدِيدِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي مَعْنَى الْمُشْتَرِي لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَقَبْلَ هَذِهِ الْقِسْمَةِ كَانَ حَقُّهُ شَائِعًا فِي جَمِيعِ الدَّارِ، وَقَدْ تَعَيَّنَ الْآنَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْدِيدِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَتَّى يَصِيرَ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْحُدُودِ فَيَتِمُّ الْكِتَابُ وَتَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ.
وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا وَضَعَ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ، فَالِانْتِفَاعُ بِالْحَائِطِ مِنْ حَيْثُ وَضَعُ الْخَشَبِ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا وَضَعَ صَاحِبُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ خَشَبِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِصَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ هَدْمُ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ الْمُشْتَرَى وَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْإِضْرَارِ بِشَرِيكِهِ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَشَبِ أَنْ لَوْ وَضَعَهُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَهُمَا مُتَصَادِقَانِ فِي أَنَّ أَصْلَ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ صَاحِبَهُ بِرَفْعِ بَعْضِ الْخَشَبِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْحَائِطُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ وَضَعَ الزِّيَادَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَهُوَ غَاصِبٌ، وَإِنْ وَضَعَهَا عَلَيْهِ بِإِذْنِهِ فَالشَّرِيكُ مُعِيرٌ نَصِيبَهُ مِنْ الْحَائِطِ مِنْهُ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَارِيَّةَ وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ خَشَبَةً وَاحِدَةً عَلَى صَاحِبِهِ أَوْ بِفَتْحِ كُوَّةٍ أَوْ يَتَّخِذَ عَلَيْهِ سُتْرَةً أَوْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَى، وَإِنَّمَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَمْ تَكُنْ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ ضَرَرًا مِنْ حَيْثُ تَوْهِينُ الْبِنَاءِ أَوْ زِيَادَةُ الْحَمْلِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وِلَايَةُ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِشَرِيكِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ.
وَإِذَا انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا نَبْنِيهِ كَمَا كَانَ وَنَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعَنَا كَمَا كَانَتْ وَأَبَى الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرْ الْآخَرُ عَلَى الْبِنَاءِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الْبِنَاءِ إلَى الْإِنْفَاقِ بِمَالِهِ وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إتْلَافِ مَالِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَمَّ الْإِنْفَاقَ فِي الْبِنَاءِ فَقَالَ «شَرُّ الْمَالِ مَا تُنْفِقُهُ فِي الْبُنْيَانِ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «إنَّمَا يُتْلِفُ الْمَالَ الْحَرَامُ الرِّبَا وَالْبِنَاءُ» فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ طَلَبِ الْآخَرِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْبَرُ الْآخَرُ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِهِمَا عَلَى قِسْمَةِ الْمُشْتَرَكِ وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُنْفِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبِنَاءِ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ: أَنَا أَبْنِيهِ بِنَفَقَتِي، وَأَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعِي كَمَا كَانَتْ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُنْفِقُ مَالَهُ يَتَوَصَّلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي ذَلِكَ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَإِذَا مَنَعَهُ شَرِيكُهُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا قَاصِدًا إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَهُ فَأَرَادَ الْآخَرُ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعَهُ، كَمَا كَانَتْ فَلَهُ ذَلِكَ بَعْدَ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُ الثَّانِي، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ، فَإِذَا رَدَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا عَلَيْهِ نِصْفَ الْبِنَاءِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ إذَا انْهَدَمَا فَأَبَى صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَبْنِيَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ وَيَبْنِيَ فَوْقَهُ بَيْتَهُ ثُمَّ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِسُفْلِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى إشَارَةً هُنَا إلَى أَنَّهُ اسْتِحْسَانٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ؛ لِأَنَّهُ يَضَعُ الْبِنَاءَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ فِي وَضْعِ الْبِنَاءِ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى بِنَاءِ عُلْوِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ مَا لَمْ يَبْنِ السُّفْلَ، وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا.
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا عَلَى نِصْفَيْنِ وَبَاعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ حِصَّةُ الْآخَرِ قَالَ: يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا بَاعَ يَعْنِي بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا بَاعَ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّمَا أَخَذَ نِصْفَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَنِصْفَهُ عِوَضًا عَمَّا سَلَّمَ لِصَاحِبِهِ مِنْ نَصِيبِهِ، فَكَأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ فَحِينَ اُسْتُحِقَّتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ عِوَضًا عَمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ، وَبَدَلُ الْمُسْتَحَقِّ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْقَابِضِ فِيهِ بِالْبَيْعِ ثُمَّ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ فَيَرُدُّ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاعَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا فَقَدْ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا النِّصْفُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الْآخَرِ فَرَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَقَّ إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ أُعِيدَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَقِيَ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ بَيْتٍ وَاحِدٍ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمَا فِي الدَّارِ شَرِيكًا فِي الْبِنَاءِ وَالْقِسْمَةُ لَا تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَخُصُّ الْبَيْتَ الْقِسْمَةُ تَبْطُلُ فَلَوْ بَقِيَتْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَفَرَّقُ نَصِيبُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَالْقِسْمَةُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلِهَذَا تُعَادُ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَقِيَ نِصْفَيْنِ.
وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ مِنْ مُقَدَّمِهَا بِجَمِيعِ نَصِيبِهِ وَأَخَذَ الْآخَرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ مُؤَخَّرِهَا بِنَصِيبِهِ، وَبَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ نِصْفُ الثُّلُثِ قَالَ: يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ بِرُبُعِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ نِصْفِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فِيمَا بَقِيَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَتَبَ إلَى مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي جَوَابِهِ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ بِاسْتِحْقَاقِ نِصْفِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَوْ لَمْ يَبِعْ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ لَكَانَتْ الْقِسْمَةُ تَبْقَى وَيَتَخَيَّرُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ فَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الْقِسْمَةَ وَرَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبُعِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ فَقَدْ تَعَذَّرَ نَقْضُ الْقِسْمَةِ لِإِخْرَاجِهِ نَصِيبَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَيْهِ بِمَا يَخُصُّ بِهِ الْمُسْتَحِقَّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَلَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ نَصِيبِهِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ نَصِيبِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِرُبُعِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِسْمَةُ تَبْطُلُ بِظُهُورِ شَرِيكٍ ثَالِثٍ لَهُمَا فِي الدَّارِ، وَلَكِنَّ إخْرَاجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ كَانَ صَحِيحًا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى أَصْلِ الشَّرِكَةِ.
وَلَوْ كَانَ عِشْرُونَ جَرِيبَ أَرْضٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ فَاقْتَسَمَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ جَرِيبًا تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ الْآخَرُ خَمْسَةَ أَجْرِبَةٍ تُسَاوِي أَلْفَ حِصَّتِهِ فَبَاعَ صَاحِبُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ مَا فِي يَدِهِ وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ قَالَ: يَرُدُّ صَاحِبُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ رُبُعَ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا فِي يَدِهِ فَإِنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَكَانَ بَيْعُهُ نَافِذًا فِيهِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِرُبُعِ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْبَائِعُ كَانَ نِصْفُهُ لَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ، وَأَخَذَ نِصْفَهُ مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَمَّا سَلَّمَ لِصَاحِبِهِ مِنْ نَصِيبِهِ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ الْأَجْرِبَةِ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْخَمْسَةَ شَائِعًا فِيمَا كَانَ لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَفِيمَا أَخَذَهُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبُعِ قِيمَةِ مَا فِي يَدِهِ.
وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ خَمْسَةَ عَشَرَ جَرِيبًا بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ سَبْعَةَ أَجْرِبَةٍ بِحِصَّةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ، وَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ ثَمَانِيَةَ أَجْرِبَةٍ بِحِصَّةٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ وَبَاعَ مَا بَقِيَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِثُلُثِ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ خَمْسَمِائَةٍ فَجُمْلَةُ ذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَإِنَّمَا سَلَّمَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا وَبِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ قِيمَةَ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا كَانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِذَا سَلَّمَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ مَا يُسَاوِي ثُلُثَيْ الْأَلْفِ وَلِلْآخَرِ مَا يُسَاوِي ثُلُثَ الْأَلْفِ اسْتَقَامَتْ الْقِسْمَةُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ، وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَلِأَنَّ مَا أَخَذَهُ صَاحِبُ الثُّلُثِ، فَإِنَّمَا سَلَّمَ ثُلُثَهُ لَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَثُلُثَيْهِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ فَرَجَعَ بِمَا هُوَ عِوَضُ الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ إذَا كَتَبَ الْكَاتِبُ بَيْنَهُمَا كِتَابَ الْقِسْمَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا إنْ وَقَعَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَتْ بِتَرَاضِيهِمَا بَيَّنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقِسْمَةِ بِقَضَاءٍ أَوْ غَيْرِ قَضَاءٍ حَتَّى إنَّ فِي الْقِسْمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي إذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا تُرَدُّ الْقِسْمَةُ، وَالْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي لَا تُرَدُّ لِمَكَانِ الْعَيْبِ فَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ صِفَةَ الْقِسْمَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: اقْسِمْ مَا عِنْدَكَ فَأَعْطِنِي حِصَّتِي فَأَعْطَاهُ حِصَّتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ تَمَّتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَتَمَامُهَا بِدَفْعِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ إلَيْهِ وَإِمْسَاكِهِ حِصَّةَ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِهِ ابْتِدَاءً بِحُكْمِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ فِيمَا يُسْتَدَامُ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْسَانِ، وَإِنْ قَالَ خُذْ حِصَّتَك وَدَعْ مَا بَقِيَ حَتَّى أَقْبِضَهَا فَأَخَذَ حِصَّتَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قِسْمَةً حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا بَقِيَ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ صَاحِبِهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَتِمُّ بِالْوَاحِدِ فَإِنَّ تَمَامَهَا بِالْحِيَازَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَانَ شَرْطُ سَلَامَةِ الْمَقْبُوضِ لِلْقَابِضِ أَنْ يُسَلِّمَ مَا بَقِيَ لِلْآخَرِ، فَإِذَا هَلَكَ فَقَدْ انْعَدَمَ الشَّرْطُ، فَكَانَ مَا هَلَكَ مِنْ النَّصِيبَيْنِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ النَّصِيبَيْنِ.
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ لِقَوْمٍ وَأَحَدُهُمْ شَاهِدٌ، وَالْآخَرُونَ غُيَّبٌ، فَأَرَادَ الشَّاهِدُ أَنْ يُسْكِنَهَا إنْسَانًا أَوْ يُؤَاجِرَهَا إيَّاهُ فَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ- تَعَالَى- لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُعِيرًا أَوْ مُؤَجِّرًا نَصِيبَ شُرَكَائِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَكَمَا لَا يَتَصَرَّفُ فِي عَيْنِ مِلْكِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لَا يَتَصَرَّفُ فِي مَنْفَعَةِ مِلْكِهِمْ أَيْضًا، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِالْإِسْكَانِ وَالْإِجَارَةِ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَالْقِسْمَةُ لَا تَتِمُّ بِالْوَاحِدِ، وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ خَصْمٌ يُخَاصِمُهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا، وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ الْيَدِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا فِي يَدِهِ بِالْإِسْكَانِ وَالْإِجَارَةِ، وَلَكِنَّهُ إذَا عَلِمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ أَفْتَاهُ بِالْكَفِّ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُفْتِيهِ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ فَفِي الْقِيَاسِ يُمْنَعُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا مَنْفَعَةَ نَصِيبِ شُرَكَائِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا.
(أَلَا تَرَى) لَوْ كَانُوا حَضَرُوا مَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانُوا غُيَّبًا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُمْ بِغَيْبَتِهِمْ، فَكَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ رَضُوا جَمِيعَ الدَّارِ فِي يَدِهِ وَلَيْسَ فِي سُكْنَاهُ إلَّا إثْبَاتُ الْيَدِ إلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ لَا يَضْمَنُ الْعَقَارَ بِالْيَدِ لَا يَضْمَنُهُ بِالسُّكْنَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي سُكْنَاهُ مَنْفَعَةً لِشُرَكَائِهِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ فَإِنَّهَا تَخْرَبُ، وَإِذَا سَكَنَهَا إنْسَانٌ كَانَتْ عَامِرَةً فَفِي هَذَا التَّصَرُّفِ مَنْفَعَةٌ لِشُرَكَائِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ بِالْإِسْكَانِ يُثْبِتُ يَدَ غَيْرِهِ عَلَى الدَّارِ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ شُرَكَاؤُهُ فَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُونَ إذَا حَضَرُوا مِنْ إرْجَاعِهِ وَاسْتِرْدَادِ أَنْصِبَائِهِمْ، وَإِنْ أَجَرَهَا الْحَاضِرُ، وَأَخَذَ الْآخَرُ حِصَّةَ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ تَطِيبُ لَهُ، وَحِصَّةُ نَصِيبِ شُرَكَائِهِ لَا تَطِيبُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ يُؤَاجِرُ فِي حِصَّتِهِمْ فَلَا يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ وَلَكِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، وَيُعْطِي ذَلِكَ شُرَكَاءَهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الْخُبْثِ كَانَ لِمُرَاعَاةِ حَقِّهِمْ فَيَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ.
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ لِيَزْرَعَهَا كَتَبَ إنَّك أَطْعَمْتنِي أَرْضَ كَذَا لِأَزْرَعَ فِيهَا مَا بَدَا لِي مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَتَبَ عَارِيَّةً فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَكْتُبَ أَطْعَمْتَنِي، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِعَارَةِ يُجْعَلُ لَهُ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْعَارِيَّةُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذَا اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُوضَعْ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ نَظِيرُ إعَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَوْ كَتَبَ أَعَرْتنِي كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ الِانْتِفَاعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى، وَإِذَا كَتَبَ أَطْعَمْتنِي كَانَ الْمَفْهُومُ التَّمَكُّنَ مِنْ الزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا يُطْعَمُ عَيْنُهَا، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مَا يَكُونُ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالزِّرَاعَةِ، وَإِذَا كَانَتْ الْإِعَارَةُ لِلسُّكْنَى فَلَفْظُ الْإِعَارَةِ أَقْرَبُ فِي بَيَانِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِذَا كَانَتْ الْإِعَارَةُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَفْظُ الطُّعْمَةِ أَقْرَبُ إلَى بَيَانِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي كُلِّ فَصْلٍ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ:
وَخَرَاجُهَا عَلَى رَبِّهَا؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، وَجَوَابُهُ يَعْتَمِدُ التَّمَكُّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَبِالْإِعَارَةِ لَا يَزُولُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْتَعِيرُ بِتَسْلِيطِ الْمُعِيرِ فَهُوَ كَانْتِفَاعِ الْمُعِيرِ بِهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ أَدَاءَ الْخَرَاجِ؛ فَبِهَذَا الشَّرْطِ يُخْرِجُهُ مِنْ الطُّعْمَةِ، وَتَكُونُ إجَارَةً فَاسِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ خَرَاجَهَا، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ فَيَصِيرُ الْعَقْدُ بِهِ إجَارَةً، وَفَسَادُهَا لِجَهَالَةِ الْخَرَاجِ قَبْلَ هَذَا فِي الْأَرَاضِي الصُّلْحِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ خَرَاجُ الْحَمَاحِمِ وَالْأَرَاضِي جُمْلَةً ثُمَّ يُقْسِمُ عَلَى الْحَمَاحِمِ وَالْأَرَاضِي فَعِنْدَ قِلَّةِ الْحَمَاحِمِ تَزْدَادُ حِصَّةُ الْأَرْضِ، وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْحَمَاحِمِ تُنْتَقَصُ فَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ يَكُونُ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ، وَقِيلَ: بَلْ الْمُرَادُ الْجَهَالَةُ فِي رَوَادِفِ الْخَرَاجِ فَإِنَّ وُلَاةَ الْجَوْرِ أَلْحَقُوا بِالْخَرَاجِ رَوَادِفَ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ يَزْدَادُ، وَيُنْتَقَصُ وَلِإِفْسَادِ هَذَا الْعَقْدِ عِلَّةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْخَرَاجَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْإِجَارَةِ، وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ، فَالْخَرَاجُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ، وَالْمُوصَى لَهُ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ دُونَ الْوَارِثِ، وَبِهِ فَارَقَ الْإِعَارَةَ وَلِأَنَّ لِلْخَرَاجِ تَعَلُّقًا بِالْغَلَّةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إنْ مَنَعَ الْخَرَاجَ لَمْ تَطِبْ لَهُ الْغَلَّةُ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَلَّةِ لِيُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ وَالْمُوصَى لَهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْغَلَّةِ فَيَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ، وَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الْخَرَاجِ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ زَرَعُوا الْأَرْضَ وَاصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْخَرَاجُ، فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ زِرَاعَتِهَا أَوْلَى لَا يَلْزَمُهُ الْخَرَاجُ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّهَا، وَلَمْ يَسْتَحْصِدْ الزَّرْعَ تُرِكَ الزَّرْعُ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْإِجَارَاتِ قَالَ: وَجَعَلَ الْمُسْتَأْجِرُ آخَرَ مَا تَرَكَ فِيهِ، وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ثُمَّ يَبْقَى الزَّرْعُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ وَاجِبٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِصَاحِبِهَا أَجْرُ الْمِثْلِ فِي مُدَّةِ التَّرْكِ وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ حِصَّةُ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ ابْتِدَاءُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمْ إبْقَاؤُهُ بَعْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ الْمُفْسِدِ، وَهُوَ الْمَوْتُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّيْءِ أَهْوَنُ مِنْ ابْتِدَائِهِ، وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا كَرْمٌ أَوْ رَطْبَةٌ لَمْ يُتْرَكْ وَقُطِعَ؛ لِأَنَّهُ لِانْتِهَاءِ ذَلِكَ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ، وَتَطُولُ مُدَّتُهَا فَفِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ إضْرَارٌ بِوَارِثِ الْمُؤَجِّرِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ لِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً، وَهِيَ مُدَّةٌ لَا تَطُولُ عَادَةً.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً ثُمَّ جَعَلَ عَلَيْهَا سَرْجًا وَأَجَّرَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا طَابَ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْأَجْرِ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي بِإِزَاءِ مَنْفَعَةِ مَا زَادَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ رِبْحٌ إلَّا عَلَى ضَمَانِهِ، وَقَبْلَ الزِّيَادَةِ إنَّمَا كَانَ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ كَانَ الْفَضْلُ طَيِّبًا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَجَرَ نِصْفَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَّا دَانِقًا وَمُرَادُهُ: أَجَّرَ نِصْفًا مُعَيَّنًا مِنْهُ أَوْ نِصْفًا شَائِعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَ إجَارَةِ الْمُشَاعِ، وَإِنَّمَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَحَقَّقُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الدَّانِقُ حِصَّةَ النِّصْفِ الْآخَرِ لِيَكُونَ مِائَةَ دِرْهَمٍ إلَّا دَانِقًا حِصَّةَ الَّذِي أَجَرَهُ وَلَا يُقَالُ: قَدْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ نِصْفٍ مِنْ الْبَيْتِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ نِصْفُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ تَنْصِيصِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَجَرَ فِيهِ النِّصْفَ فَقَطْ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْخُبْثَ الَّذِي يُمْكِنُ فِي إجَارَةِ الشَّيْءِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ بِهِ يَسِيرٌ فَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْإِمْكَانِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ زَادَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا قَلِيلًا ثُمَّ أَجَرَهُ بِأَضْعَافٍ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَرَ بَعْضَهُ بِمَا دُونَ الْأَجْرِ الْأَوَّلِ وَالنُّقْصَانُ يَسِيرٌ قُلْنَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَجَرَهُ بِالدَّنَانِيرِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ وَأَشَارَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْخُبْثِ ضَعِيفٌ هُنَا وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ جِنْسَانِ فَبِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ يَنْعَدِمُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الصُّورَةِ جِنْسَانِ، وَفِي الْحُكْمِ جِنْسٌ وَاحِدٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ جُعِلَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَ يُجْعَلَانِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ يَحْصُلُ لَا عَلَى ضَمَانِهِ، وَإِنْ أَجَرَ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْبَدَلَيْنِ مُخْتَلِفٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ عَوْدِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ دَنَّ خَلٍّ فَعَثَرَ الْحَمَّالُ فَانْكَسَرَ الْحَمْلُ قَدْ بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّ الْحَمَّالَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِانْكِسَارِ يَكُونُ بِجِنَايَةِ يَدِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَصَاحِبُ الدَّنِّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي انْكَسَرَ فِيهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَمَلَ وَلَوْ تَعَمَّدَ كَسْرَهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كُسِرَ فِيهِ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِ مَا حَمَلَ وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَكَذَا؛ لِأَنَّ أَجِيرَ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَهُ أَمِينٌ لَا يَضْمَنُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عِنْدَ الْكَسْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ عِنْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إذَا اخْتَارَ صَاحِبُ الدَّنِّ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ لَمْ يُضَمِّنْهُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ أَيْضًا، وَلَكِنْ تُفَرَّقُ عَلَيْهِ الصَّفْقَةُ حِينَ كَسَرَهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطَ عَقْدِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي مِقْدَارِ مَا يَحْمِلُهُ فَيُسْقِطُ حِصَّةَ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ وَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَفْسَخُ الْعَقْدَ فِي مِقْدَارِ مَا يَحْمِلُهُ، وَذَلِكَ مُتَلَاشٍ غَيْرُ قَائِمٍ؟ قُلْنَا: بَلْ هُوَ قَائِمٌ حُكْمًا بِبَقَاءِ بَدَلِهِ فَإِنَّ الْحَمَّالَ ضَامِنٌ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ الْفَسْخُ عِنْدَ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْعَيْنِ يَجُوزُ فَسْخُهُ عَلَى بَدَلِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ قَائِمًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ عَلَى الْقِيمَةِ فِي الْمَنْقُولِ كَتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَوْ انْكَسَرَ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ بِأَنْ أَصَابَهُ حَجَرٌ مِنْ مَكَان أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطٌ أَوْ كَسَرَهُ رَجُلٌ، وَهُوَ عَلَى رَأْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ إذَا تَلِفَ بِمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الدَّنِّ عَبَرَ فَانْكَسَرَ، وَقَالَ الْحَمَّالُ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَانْكَسَرَ أَوْ قَالَ كَانَ مُنْكَسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَمَّالِ وَلَهُ الْأَجْرُ إلَى حَيْثُ انْكَسَرَ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ يَدَّعِي عَلَيْهِ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ الِاسْتِهْلَاكَ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَأَمَّا الْأَجْرُ إلَى حَيْثُ انْكَسَرَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّنِّ صَارَ مُسْتَوْفِيًا ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيُقَرِّرُ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَجْرِ ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يُخْلِفْ بَدَلًا فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِلْحَمَّالِ الْأَجْرُ حَيْثُ انْكَسَرَ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ يَصْبُغُهُ فَصَبَغَهُ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: أَمَرْتُك أَنْ تَصْبُغَهُ أَحْمَرَ وَقَالَ الصَّبَّاغُ: أَمَرْتنِي أَنْ أَصْبُغَهُ أَسْوَدَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَفِيهِ خِلَافُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْإِجَارَاتِ، فَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ قُوِّمَ الثَّوْبُ أَبْيَضَ وَقُوِّمَ مَصْبُوغًا بِذَلِكَ الصِّبْغِ فَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ وَلِأَنَّهُ وَافَقَ فِي أَصْلِ الصِّبْغِ، وَإِنْ خَالَفَ فِي الصِّفَةِ وَلِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنٌ اتَّصَلَ بِهِ فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَجَّانًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي صَبْغِ غَيْرِهِ أَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَصَبَغَهُ وَاخْتَارَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخْذَ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ.
وَإِذَا تَكَارَى الرَّجُلُ دَابَّةً مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إلَى أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْكُوفَةَ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ، وَجَوَانِبُ الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي عَقْدِ السَّلَمِ إذَا شَرَطَ إبْقَاءَ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكُوفَةِ جَازَ الْعَقْدُ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْكُوفَةِ جَازَ الْعَقْدُ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَإِنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ يَبْلُغُ عَلَيْهَا إلَى مَنْزِلِهِ فِي الْعَادَةِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الرَّيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إلَى أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ، وَالْكِرَاءُ إلَى الرَّيِّ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ إلَى مَدِينَتِهَا دُونَ نَوَاحِيهَا، وَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إلَى مَدِينَتِهَا بِالِاسْتِحْسَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الرَّيَّ اسْمٌ لِوِلَايَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى مَدَائِنَ وَنَوَاحِيَ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنَّمَا يُطْلَقُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى مَدِينَتِهَا فِي الْعُرْفِ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَلَوْ سَمَّى مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِهَا كَانَ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ خُرَاسَانُ وَالشَّامُ وَالْعِرَاقُ إنْ سَمَّى مِنْهَا مَكَانًا مَعْلُومًا جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَسَدَ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَنَظِيرُ هَذَا فِي دِيَارِنَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى كَاشْغَرَ جَازَ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ خَاصَّةً، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ كَاشْغَرَ إلَى فَرْغَانَةَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى بِلَادٍ مُتَبَاعِدَةٍ فَتُمْكِنُ فِيهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى أُوزْجَنْدَ جَازَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ أُوزْجَنْدَ إلَى سَمَرْقَنْدَ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ أَوْ إنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى بُخَارَى فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُ بُخَارَى رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ بُخَارَى مِنْ كَرْمِينِيَةَ إلَى قَرِيرٍ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَوَاضِعَ مُتَبَايِنَةٍ بِمَنْزِلَةِ الرَّيِّ فَتَمَكَّنَ فِيهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ تَكَارَى دَابَّتَيْنِ يَحْمِلُ عَلَيْهِمَا إلَى الْمَدَائِنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَأَكْرَى أَحَدَهُمَا بِتِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِمِثْلِ ذَلِكَ الشَّرْطِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً بِحِصَّةِ هَذِهِ الدَّابَّةِ فَلَا يَظْهَرُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي رِبْحٌ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ أَكْرَى أَحَدَهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأَجْرِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ وَبِشَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِإِزَاءِ الدَّابَّةِ الثَّانِيَةِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ رِبْحًا مَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ الْفَضْلِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلَيْنِ يَبْنِيَانِ لَهُ حَائِطًا، فَعَمِلَهُ أَحَدُهُمَا، وَمَرِضَ الْآخَرُ وَهُمَا شَرِيكَانِ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لِلَّذِي لَمْ يَعْمَلْ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا قَبِلَا الْعَقْدَ جَمِيعًا ثُمَّ الَّذِي أَقَامَ الْعَمَلَ فِي نَصِيبِهِ مُسْلِمٌ لِمَا الْتَزَمَهُ، وَفِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ نَائِبٌ عَنْهُ فَقَامَ مَقَامَهُ فَيَكُونُ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي الْإِجَارَاتِ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرِكَةِ هَذَا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ طَعَامًا مَعْلُومًا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ عَلَى دَوَابِّهِ هَذِهِ فَحَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الدَّوَابِّ فَلَهُ الْأَجْرُ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ مَنَافِعَ الدَّوَابِّ الَّتِي عَيَّنَهَا، وَلَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَفِي حَقِّ غَيْرِ تِلْكَ الدَّوَابِّ يُجْعَلُ الْعَقْدُ كَأَنْ لَيْسَ فَكَأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِحَمْلِ طَعَامِهِ عَلَى دَوَابِّهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَبِلَ عَمَلَ الْحَمْلِ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ أَوْفَى مَا قَبِلَهُ سَوَاءٌ حَمَلَ الطَّعَامَ عَلَى تِلْكَ الدَّوَابِّ أَوْ عَلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ تِلْكَ الدَّوَابِّ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بَعْدَ إعْلَامِ مِقْدَارِ الطَّعَامِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَحْمِلُ لَهُ طَعَامًا مَعْلُومًا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ كَانَ الْعَقْدُ جَائِزًا، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ الدَّوَابَّ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ فِي عَيْنِ تِلْكَ الدَّوَابِّ مَقْصُودٌ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ حَمْلُ الطَّعَامِ، فَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ تَعْيِينِ الدَّوَابِّ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ بِإِقَامَةِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ، وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِهِ بِنَفْسِهِ فَحَمَلَهُ عَلَى دَوَابِّهِ أَوْ عَبِيدِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ مَعَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَلَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الطَّعَامِ، وَقَدْ أَوْفَاهُ كَمَا الْتَزَمَ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ؛ لِأَنَّهُ مَا فَارَقَ الطَّعَامَ حِينَ ذَهَبَ مَعَهُ، وَلَا أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَ لَهُ طَرِيقًا فَحَمَلَهُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الطَّعَامِ قَدْ حَصَلَ حِينَ أَوْصَلَ الطَّعَامَ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فِي أَيِّ الطَّرِيقَيْنِ حَمَلَهُ، وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ ضَمِنَهُ إنْ غَرِقَ؛ لِأَنَّهُ عَرَّضَهُ لِلتَّلَفِ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ رَاكِبِ الْبَحْرِ أَنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ مَعَ مَا مَعَهُ، وَإِنْ سَلَّمَ لَهُ الْأَجْرَ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ طَرِيقَانِ فِي الْبَرِّ أَحَدُهُمَا: آمِنٌ وَالْآخَرُ مَخُوفٌ فَحَمَلَهُ فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ، فَإِنْ تَلِفَ كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ سَلِمَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ اسْتِحْسَانًا، فَكَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ فِي طَرِيقِ الْبَحْرِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلَيْنِ يَحْمِلَانِ لَهُ طَعَامًا مِنْ الْفُرَاتِ إلَى أَهْلِهِ فَحَمَلَهُ كُلَّهُ أَحَدُهُمَا، وَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الْعَمَلِ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ، وَقَدْ بَاشَرَاهُ أَوْ بَاشَرَهُ أَحَدُهُمَا بِوَكَالَةٍ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى شَرِكَةِ الْعِنَانِ عَلَى الْوَكَالَةِ ثُمَّ هُوَ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي الْعَمَلِ فَلِلْعَامِلِ نِصْفُ الْأَجْرِ فِي نِصْفِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَبِلَ حَمْلَ نِصْفِ الطَّعَامِ بِنِصْفِ الْأَجْرِ، وَقَدْ حَمَلَهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْحَمْلِ ضَامِنًا لِنِصْفِ الْأَجْرِ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ لَوْ حَمَلَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ غَيْرُ نَائِبٍ عَنْ الْآخَرِ هُنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ بَيْنَهُمَا عَقْدُ شَرِكَةٍ فَلَمْ يَجْعَلْهُ نَائِبًا عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ هُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى مَكَانِ كَذَا فَيَجِيءَ بِأَهْلِهِ كُلِّهِمْ، وَهُمْ خَمْسَةٌ، فَذَهَبَ وَجَاءَ بِهِمْ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ أَوْفَى الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ كُلُّهُ، فَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُمْ قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَلَهُ أَجْرُ ذَهَابِهِ، وَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَنْ جَاءَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ فِي الذَّهَابِ أَقَامَ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى نَحْوِ مَا الْتَزَمَهُ فَاسْتَوْجَبَ أَجْرَ الذَّهَابِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى، فَإِنَّهُ يَتَوَزَّعُ عَلَى حِصَّةِ مَنْ جَاءَ بِهِمْ، وَمَنْ مَاتُوا فَيَلْزَمُهُ بِحِصَّةِ مَنْ جَاءَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ بَعْضَ هَذَا الْعَمَلِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ، وَإِنْ وَجَدَهُمْ كُلَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا فَعَادَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَجْرُ ذَهَابِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الذَّهَابِ أَقَامَ مَا لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ كَمَا الْتَزَمَهُ، وَفِي الرُّجُوعِ هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِالْعَوْدِ إلَى وَطَنِهِ لَيْسَ بِعَامِلٍ لِلْمُسْتَأْجِرِ حِينَ لَمْ يَأْتِ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الذَّهَابِ خَاصَّةً؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَذْهَبُ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ عَامِلًا لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي رُجُوعِهِ وَحْدَهُ تَحْصِيلُ شَيْءٍ مِنْ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَمْ يَكُنْ عَامِلًا لَهُ فِي ذَلِكَ.
فَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ بِكِتَابٍ لَهُ إلَى مَكَانِ كَذَا فَيَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ، فَذَهَبَ بِهِ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ أَوْ تَحَوَّلَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَرَدَّ الْكِتَابَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْكِتَابَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ ذَهَابِهِ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِالْكِتَابِ إلَى فُلَانٍ وَيَأْتِيَهُ بِالْجَوَابِ، فَإِذَا ذَهَبَ بِهِ، وَلَمْ يَرُدَّ الْكِتَابَ، وَلَمْ يَأْتِهِ بِالْجَوَابِ فَهُوَ فِي الذَّهَابِ عَامِلٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ سَاعٍ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَلَيْسَ بِعَامِلٍ فِي الرُّجُوعِ فَيَسْتَحِقُّ حِصَّةَ الذَّهَابِ مِنْ الْأَجْرِ، وَإِنْ رَدَّ الْكِتَابَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَقْصُودِ حِينَ رَدَّ كِتَابَهُ إلَيْهِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لَهُ فِي الذَّهَابِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَهُ أَجْرُ الذَّهَابِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْكِتَابِ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِهِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي أَجْرِ الذَّهَابِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِعَوْدِهِ رَدَّ الْكِتَابَ أَوْ لَمْ يَرُدَّهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِمُجَرَّدِ الذَّهَابِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْكِتَابَ فِي أَهْلِهِ، وَذَهَبَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ الْكِتَابَ مَعَهُ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُضْطَرِبٌ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا إلَى مَكَانِ كَذَا فَيَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ فَوَجَدَ فُلَانًا قَدْ مَاتَ فَرَجَعَ بِالطَّعَامِ إلَى الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرُ، وَهُوَ غَاصِبٌ فِي رَدِّ الطَّعَامِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ ضَامِنٌ إنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَمَلَ الطَّعَامَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَقَدْ أَوْفَى الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ، وَمَا كَانَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ فَتَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ وَانْتَهَى الْعَقْدُ نِهَايَتَهُ ثُمَّ هُوَ فِي الرُّجُوعِ بِالطَّعَامِ غَاصِبٌ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ إنْ هَلَكَ وَبِغَصْبِهِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِيمَا تَقَرَّرَ مِنْ الْأَجْرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ حَمْلِ الطَّعَامِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ فَسَخَ ذَلِكَ حِينَ رَجَعَ بِالطَّعَامِ، وَفَوَّتَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي.
وَإِنْ اسْتَوْدَعَ الطَّعَامَ رَجُلًا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فَهَلَكَ الطَّعَامُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ فِي الدَّفْعِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمِينِ فِي ذَلِكَ الطَّعَامِ مَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى فُلَانٍ وَالْمُودِعُ إذَا أَوْدَعَ الْوَدِيعَةَ رَجُلًا آخَرَ كَانَ ضَامِنًا إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُودَعِ الثَّانِي، وَإِذَا صَارَ ضَامِنًا كَانَ هَذَا، وَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الطَّعَامَ سَوَاءٌ وَلِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ مِنْهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ أَوْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَوْدَعَهُ وَلَهُ الْأَجْرُ، وَهَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الدَّنِّ إذَا تَعَمَّدَ كَسْرَهُ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ هُنَا فِي أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ وَالطَّعَامَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ يُضَمِّنُهُ مِثْلَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ مِنْهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ أَوْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَوْدَعَهُ، وَلَهُ الْأَجْرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدَدِيًّا مُتَقَارِبًا مِنْ الطَّعَامِ كَالْبِطِّيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ انْتَهَى إلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ فَوَجَدَ صَاحِبَهُ قَدْ مَاتَ فَرَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فَأَمَرَ بِبَيْعِهِ أَوْ يَدْفَعُهُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي مَالِ الْغَائِبِ، وَفِعْلُهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَفِعْلُهُ بِأَمْرِ صَاحِبِ الطَّعَامِ سَوَاءٌ، وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ صَاحِبِ الطَّعَامِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلَهُ الْأَجْرُ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ صِدْقَهُ فِيمَا يَقُولُ: وَلِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ فَيُوَلِّيهِ الْقَاضِي مَا تَوَلَّى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نُصِبَ الْقَاضِي لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا، وَلَيْسَ هُنَا خَصْمٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ الطَّعَامُ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ لَهُ.
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: مَنْ جَاءَنِي بِمَتَاعِي مِنْ مَكَانِ كَذَا فَلَهُ دِرْهَمٌ فَذَهَبَ رَجُلٌ فَلَمْ يَجِدْ الْمَتَاعَ ثُمَّ جَاءَ فَلَا أَجْرَ لَهُ أَمَّا إذَا ذَهَبَ فَجَاءَ بِالْمَتَاعِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَهُ الْمُسَمَّى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ- تَعَالَى- مِنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّنَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ النَّسْخِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا اسْتِئْجَارُ الْمَجْهُولِ، وَاسْتِئْجَارُ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا حَمَلَهُ إنْسَانٌ بَعْدَ مَا سَمِعَ كَلَامَهُ، فَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ عَلَى جِهَةِ تِلْكَ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ رَضِيَ الْقَائِلُ بِذَلِكَ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ جِهَةَ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَتِهِ فَأَمَّا إذَا ذَهَبَ فَلَمْ يَجِدْ الْمَتَاعَ فَرَجَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ بِخِلَافِ مَا إذَا خَاطَبَ بِهِ إنْسَانًا بِعَيْنِهِ فَهُنَاكَ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الذَّهَابِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا حِينَ خَاطَبَهُ بِعَيْنِهِ فَكَانَ هُوَ فِي الذَّهَابِ عَامِلًا لِلْمُسْتَأْجِرِ سَاعِيًا فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ فَيَسْتَحِقُّ أَجْرَ الذَّهَابِ، وَهُنَا الْعَقْدُ مَا انْعَقَدَ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ الذَّاهِبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ مَجِيئِهِ بِالْمَتَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَجِئْ بِالْمَتَاعِ لَمْ يَكُنْ عَامِلًا لَهُ فِي الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ ثَوْبًا رَبْطِيًّا فَحَمَلَ عَلَيْهَا هَرَوِيًّا فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ لَمْ يَضْمَنْ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّبْطِيِّ وَالْهَرَوِيِّ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْقِيمَةِ مَا يَكُونُ مُقَيَّدًا دُونَ مَا لَا يُقَيَّدُ كَمَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ التَّعْيِينِ مَا يَكُونُ مُقَيَّدًا دُونَ مَا لَا يُقَيَّدُ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَثْوَابَ الرَّبْطِيَّةَ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا مِنْ الثِّيَابِ الرَّبْطِيَّةِ فَعَطِبَتْ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فَكَذَلِكَ هُنَا.
وَإِذَا تَكَارَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ دَابَّةً، وَنَقَدَهُ الْكِرَاءَ ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْكِرَاءِ ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُكَارِي، وَلَمْ يَرْكَبْ الرَّجُلُ فَعَلَى الْكَفِيلِ أَنْ يَرُدَّ الْكِرَاءَ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ لِلْمُسْتَكْرِي عَنْ الْمُكَارِي مَا وَجَبَ رَدُّهُ مِنْ الْكِرَاءِ الْمَقْبُوضِ وَحِينَ أَفْلَسَ الْمُكَارِي، وَلَمْ يَجِدْ الْمُسْتَكْرِي الدَّابَّةَ لِيَرْكَبَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُكَارِي رَدُّ جَمِيعِ الْكِرَاءِ، وَقَدْ كَفَلَ الْكَفِيلُ بِذَلِكَ فَكَانَ مُطَالَبًا بِهِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ، فَإِنْ رَضِيَ مِنْ الْكَفِيلِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَكَارَا إلَيْهِ فَحَمَلَهُ وَأَنْفَقَ أَكْثَرَ مِنْ الْكِرَاءِ لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُكَارِي إلَّا بِالْكِرَاءِ الَّذِي قَبَضَ مِنْ الْمُسْتَكْرِي؛ لِأَنَّهُ مَا ضَمِنَ عَنْهُ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ فَهُوَ فِي الزِّيَادَةِ مُتَبَرِّعٌ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْكِرَاءِ الْمَقْبُوضِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَا نَقَدَ عَنْهُ الْكِرَاءَ، وَإِنَّمَا أَوْفَى عَنْهُ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْحَمْلِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُكَارِي مَا أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ ذَلِكَ فَكَانَ هُوَ فِي إيفَاءِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مُتَبَرِّعٍ أَوْ كَفِيلٍ بِغَيْرِ الْأَمْرِ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ بِمَا أَوْفَى مِنْ الْحَمْلِ أَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ ضَمَانَ الْكِرَاءِ كَمَا أَنَّهُ بِأَدَاءِ الْمَقْبُوضِ يُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ ضَمَانَ الْكِرَاءِ، وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِيُسْقِطَ بِهِ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمَّا أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ بِالْكِرَاءِ عَنْهُ فَقَدْ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ فِي إيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوَفِّيَ عَنْهُ الْكِرَاءَ، وَبَيْنَ أَنْ يُوَفِّيَ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ بِهِ مُطَالَبَةَ الْمُسْتَكْرِي إيَّاهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ الْمُكَارِي، وَلَمْ يَحْمِلْهُ فَعَلَى الْكَفِيلِ أَنْ يَرُدَّ الْكِرَاءَ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمُكَارِي قَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْكِرَاءِ فَإِنَّهُ كَفَلَ الْكَفِيلَ بِذَلِكَ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَشْهُرًا مَعْلُومَةً يُؤَدِّبُ ابْنَهُ، وَيَقُومُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ، وَهُوَ عَمَلٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمُؤَدِّبِ إقَامَتُهُ عُرْفًا وَلَا دِينًا وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مِثْلِهِ صَحِيحٌ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ بِخِلَافِ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ دِينًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى خِلَافَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مَأْمُورٌ بِهِ دِينًا.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيُجَصِّصَ لَهُ حَائِطًا أَوْ لِيُطَيِّنَ لَهُ سَطْحًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ طِينًا وَلَا جِصًّا مَعْلُومًا فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ ذَلِكَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، فَإِنَّ عَمَلَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ مُتَعَارَفٌ فَكَانَ الْعَمَلُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا؛ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ إنْ عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى الْعَمَلَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَقُولُ: أَنَا مَا رَضِيتُ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ غِلْظَةً مِنْ الْجِصِّ أَوْ الطِّينِ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْغِلْظَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَنْقُدُ لَهُ الدَّرَاهِمَ كُلَّ أَلْفٍ بِكَذَا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى كُلِّ شَهْرٍ بِكَذَا يَنْقُدُ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَقَدَ عَلَى مَنَافِعَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ لِيُقِيمَ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ عَمَلًا مَقْصُودًا فِي النَّاسِ.
وَإِذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا غُيَّبًا وَلَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَلَا وَصِيَّةَ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ الرَّقِيقَ وَالْمَتَاعَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْحِفْظِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَبَيْعُ الْمَنْقُولِ مِنْ الْحِفْظِ فَإِنَّ حِفْظَ الثَّمَنِ رُبَّمَا يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْ حِفْظِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ نَظَرًا لِلْغَائِبِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ نَهَوْهُ عَنْ الْبَيْعِ فَبَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لَهُمْ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ نَصًّا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَهُنَاكَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ نَظَرًا لِلَّذِي أَقَامَهُ مُقَامَ الْمَيِّتِ فَنَهْيُ الْوَرَثَةِ إيَّاهُ عَنْ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ.
وَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا، وَلِلْمَيِّتِ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ بِصَكٍّ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ لِلْوَصِيِّ: حُطَّ عَنِّي النِّصْفَ لِأُعْطِيَك النِّصْفَ وَادْفَعْ إلَيَّ الصَّكَّ، وَكَانَ فِيهِ شُهُودٌ لَا يَشْهَدُونَ إلَّا أَنْ يَرَوْا الصَّكَّ وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ حَطَّ لِلْيَتِيمِ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُ الْوَصِيَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إتْوَاءَ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ يَعْنِي فِي رَدِّ الصَّكِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَطَّ الدَّيْنِ عَنْهُ بَاطِلٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ وَاجِبًا بِعَقْدِهِ فَلَا يَتْوَى بِهِ حَقُّ الْيَتِيمِ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الشُّهُودُ لَا يَشْهَدُونَ مَا لَمْ يَرَوْا الصَّكَّ فَفِي دَفْعِ الصَّكِّ إلَيْهِ إتْوَاءُ مَالِ الْيَتِيمِ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشُّهُودُ يَشْهَدُونَ بِغَيْرِ صَكٍّ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إتْوَاءُ مَالِهِ بَلْ فِيهِ نَظَرٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَسْتَوْفِي نِصْفَ حَقِّهِ فِي الْحَالِ ثُمَّ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا بَقِيَ فَيَسْتَوْفِيهِ، وَحَطُّهُ بَاطِلٌ إذَا أَثْبَتَ الْمَدْيُونُ ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ.
وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ فِي دَارِهِ دَعْوَى فَرَأَى الْوَصِيُّ أَنْ يُصَالِحَهُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ إنْ لَمْ يُصَالِحْهُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُصَالِحَهُ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مَا اسْتَوْجَبَ الْمُدَّعِي شَيْئًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ»، وَمَا يَخَافُهُ الْوَصِيُّ مَوْهُومٌ فَلَيْسَ كُلُّ مُدَّعٍ يَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى دَعْوَاهُ، وَلَا كُلُّ شَاهِدٍ يَرْغَبُ فِي حُضُورِ مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَبَعْدَ الْأَدَاءِ رُبَّمَا تَظْهَرُ عَدَالَتُهُ، وَرُبَّمَا لَا تَظْهَرُ، وَلَوْ أَدَّى شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَوْهُومِ كَانَ مُخْرِجًا مَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ بِمُقَابَلَتِهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ تَحْصُلُ لَهُ حَقِيقَةً وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، وَإِنْ جَاءَ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ عُدُولٍ يَعْرِفُهُمْ الْوَصِيُّ، وَكَانَ الصُّلْحُ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ فِي رَأْيِ الْوَصِيِّ وَسِعَهُ أَنْ يُصَالِحَهُ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ حَقَّ الْمُدَّعِي قَدْ ثَبَتَ ظُهُورُهُ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَفِي هَذَا تَحْصِيلُ الْمَالِ مِنْ الْوَصِيِّ لِلْيَتِيمِ أَوْ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا نُصِبَ الْوَصِيُّ لِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْأَجَلُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: هَذَا إذَا عَلِمَ الْوَصِيُّ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجِبْ إلَى الصُّلْحِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ رَغِبَ فِيهِ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا يَرْغَبُ فِي الصُّلْحِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَالِحَهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ إذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ شُهُودًا يَشْهَدُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِهَذَا التَّأْخِيرِ يَنْعَدِمُ تَمَكُّنُهُ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَصِيِّ أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ ذَلِكَ إلَى وَقْتٍ يَفُوتُهُ.
وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ دَخَلَ فِيهِ رَقِيقُهُ وَدُورُهُ وَكُلُّ عَيْنٍ وَدَيْنٍ هُوَ مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالُهُ فَالْمَالُ يَصِيرُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَسْبُهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَمَالَهُ» الْحَدِيثَ وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ تَبْقَى مَا بَقِيَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَأَمَّا بَعْدَ أَخْذِ الْمَوْلَى الْمَالَ مِنْهُ لَا يَبْقَى مُضَافًا إلَيْهِ شَرْعًا وَعُرْفًا فَلَا يَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِنْهُ فِيمَا سَمَّى مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ قَدْ زَوَّجَهَا إيَّاهُ مَوْلَاهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِتَصَرُّفِهِ صَارَ قَابِضًا الْأَمَةَ مِنْهُ فَالْتَحَقَتْ بِغَيْرِهَا مِمَّا قَبَضَهُ مِنْهُ.
(فَإِنْ قِيلَ) أَلَيْسَ إنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهَا بِتَصَرُّفِهِ فَكَيْفَ يَصِيرُ الْمَوْلَى هُنَا قَابِضًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ قَابِضًا هُنَاكَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لِلْبَائِعِ فِيهَا يَدٌ مُسْتَحِقَّةٌ، وَالْمُشْتَرِي مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِهَا مَا لَمْ يُؤَدِّ الثَّمَنَ، وَإِنْ تَعَيَّبَتْ بِالنِّكَاحِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا الْعَيْبُ فِي عَيْنِهَا لَمْ يُجْعَلْ قَابِضًا بِهِ، وَهُنَا مَا كَانَ لِلْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ يَدٌ مُسْتَحِقَّةٌ وَلَا كَانَ الْمَوْلَى مَمْنُوعًا مِنْ قَبْضِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا فَجَعَلْنَاهُ قَابِضًا لَهَا بِالتَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ بِالتَّزْوِيجِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهَا إلَى الزَّوْجِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِيَدِهِ فِيهَا، وَإِذَا أَنْفَقَ الْمُفَاوِضُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلَ مِنْ نَفَقَةِ صَاحِبِهِ، وَكَانَتْ تَطِيبُ نَفْسُ صَاحِبِهِ بِذَلِكَ، وَكَانَ لِصَاحِبِهِ دَيْنٌ عَلَى الَّذِي أَنْفَقَ لَمْ تَفْسُدْ الْمُفَاوَضَةُ اسْتِحْسَانًا حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّهُ مَتَى فَضَلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الشَّرِكَةِ تَفْسُدُ بِهَا الْمُفَاوَضَةُ، وَإِنْ فَضَلَ بِمَالٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الشَّرِكَةِ لَا تَصْلُحُ بِهَا الْمُفَاوَضَةُ اسْتِحْسَانًا، وَالدَّيْنُ الَّذِي وَجَبَ لِأَحَدِهِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الشَّرِكَةِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ صَارَ نَقْدًا صَالِحًا أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ وَرِثَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ دَارًا أَوْ رَقِيقًا فِي الْقِيَاسِ تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ حَتَّى يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيَصِيرَ مَالًا يَعْنِي حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ نَقْدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّ مَا وَرِثَ أَحَدُهُمَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا، وَلَكِنَّ الدَّارَ وَالرَّقِيقَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ فَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ حَتَّى يَصِيرَ ثَمَنُهُ نَقْدًا فِي يَدِهِ فَحِينَئِذٍ تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الصِّحَّةِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ.
وَإِذَا خَلَعَ امْرَأَتَهُ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ وَقَبْلَ خُلْعِهَا ضَمِنَ أَبُوهَا بِالْمَهْرِ وَضَمِنَ لِلزَّوْجِ مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ، وَتُؤَاخِذُ الِابْنَةُ الزَّوْجَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ فَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْخُلْعِ يُفِيدُ وُجُودَ الْقَبُولِ مِنْ الضَّامِنِ لِلدَّرَكِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيُقَرَّرُ نِصْفُ مَالِهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ فَتَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ مِنْ الدَّرَكِ فِي حَقِّهَا، وَإِضَافَةُ الْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ صَحِيحٌ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُ: الْخُلْعُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالْمَهْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهَا، وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَخْلَعَهَا مِنْ زَوْجِهَا عَلَى مَالِهَا بَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَإِنَّمَا يَجْعَلُهَا عَلَى مَالٍ يَلْزَمُهُ فِي ذِمَّتِهِ فَكَأَنَّهُ خَلَعَهَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَهْرِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ قِصَاصًا بِالْمَهْرِ فَفِيمَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الزَّوْجِ، وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي رَجَعَتْ الِابْنَةُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ فَيُطَالِبَهُ بِذَلِكَ بِسَبَبِ الْخُلْعِ مَعَ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَمْ تَقَعْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ الزَّوْجُ الْبَرَاءَةَ إلَّا بِأَدَاءِ الْمَالِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ.
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ بَارَأْتُكِ بِمَا لَكِ عَلَيَّ مِنْ الْمَهْرِ فَقَبِلَتْ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ وَالْمُبَارَأَةَ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ وَلَوْ قَالَ خَالَعْتُكِ بِمَا لَكِ عَلَيَّ مِنْ الْمَهْرِ فَقَبِلَتْ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بَارَأْتُكِ، وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى حُكْمِهِ ثُمَّ حَكَمَ بِشَيْءٍ لَمْ تَرْضَ بِهِ الْمَرْأَةُ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ حُكْمِهِ، وَمِنْ الْمَهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولٌ، وَهُوَ مَا يَحْكُمُ بِهِ فَإِنَّهُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، وَالْخُلْعُ عَلَى بَدَلٍ مَجْهُولٍ يُوجِبُ عَلَيْهَا رَدَّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْمَهْرِ كَمَا لَوْ خَلَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ نَافِذٌ مِنْهُ، فَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْوِلَايَةُ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْأَقَلُّ، وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَنَّ لَهُ عَلَيْهَا أَقَلَّ مَهْرٍ يَتَزَوَّجُ عَلَيْهِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، وَلَهُ عَلَيْهَا الْمَهْرُ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى فِي الْخُلْعِ مَالًا مَجْهُولَ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فَلَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ، وَلَكِنْ ثَبَتَ حُكْمُ الْغُرُورِ بِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْهَا رَدَّ الْمَقْبُوضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ مَا لَمْ تُزَوِّجْ نَفْسَهَا وَلَا يَلْزَمُهَا بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، وَرُبَّمَا لَا يَرْغَبُ أَوْ لَا يَبْقَى إلَى أَوَانِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وَإِذَا أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ فِي حَقٍّ لَهُ عَلَى رَجُلٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَسَأَلَ الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَعَدَالَتِهِمْ وَبِتَوْكِيلِهِ وَكِيلًا بِالْقِيَامِ مَقَامَهُ بِالْمُطَالَبَةِ وَالْقَبْضِ إلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَلَهُ فِعْلُهُ بَعْدَ مَا يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ هَذَا شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُ وَكِيلًا، وَلَا رَسُولًا لَهُ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكْتُبُ لَهُ بِذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُدَّعِي، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَفِي الِاسْتِحْلَافِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَظَرٌ مِنْهُ لِلْغَائِبِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِهَذَا النَّظَرِ لِغَيْبَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ لَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي أَيْضًا فَرُبَّمَا يَدَّعِي الْخَصْمُ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الْمَالَ وَيَطْلُبُ يَمِينَهُ، وَمِنْ رَأْيِ ذَلِكَ الْقَاضِي أَنْ لَا يَقْضِيَ بِالْمَالِ مَا لَمْ يَحْلِفْ عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ الْغَيْبِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى وَكِيلِهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ؛ فَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَكْتُبُ ذَلِكَ الِاسْتِحْلَافَ فِي كِتَابِهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ النَّظَرِ فِيهِ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ الطَّالِبَ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُك بِحَقٍّ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا وَطَلَبَ اسْتِحْلَافَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْخَصْمَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا وَطَلَبَ يَمِينَهُ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَاضِيًا لَا يُجِيزُ الْكِتَابَ إلَّا عَلَى ذَلِكَ يَعْنِي إنْ كَانَ يَرَى رَأْيَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي اسْتِحْلَافِ الطَّالِبِ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُك بِحَقٍّ فَقَالَ الطَّالِبُ: اسْتَحْلِفْنِي وَاكْتُبْ لِي بِيَمِينِي اسْتَحْلَفَهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُك بِحَقٍّ فَإِنَّ الْمَالَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ يَكْتُبُ لَهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ يَرَى ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي هَذَا الِاسْتِحْلَافِ نَظَرًا لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ وَكِيلًا وَلَا يَحْضُرَ مَجْلِسَ ذَلِكَ الْقَاضِي لِيَسْتَحْلِفَهُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ إلَّا بِهَذَا، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لَهُ، فَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ مَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَتَهُ وَحَالَهُ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلطَّالِبِ فَرُبَّمَا يَكُونُ شَاهِدُهُ الْآخَرُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ فِي مَجْلِسِهِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ حَتَّى إذَا ثَبَتَ الْكِتَابُ عِنْدَهُ وَجَاءَ بِشَاهِدِهِ الْآخَرِ فَشَهِدَ لَهُ قَضَى بِحَقِّهِ لِتَمَامِ الْحُجَّةِ.
وَإِذَا أَسْلَمَتْ مُدَبَّرَةُ الذِّمِّيِّ فَاسْتَسْعَتْ فِي قِيمَتِهَا فَعَجَزَتْ عَنْ السِّعَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي قَوَّمَهَا، وَاسْتَسْعَاهَا لَمْ يَرُدَّهَا وَأَجْبَرَهَا عَلَى السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَضَاءِ قَائِمٌ، وَهُوَ إسْلَامُهَا مَعَ كُفْرِ الْمَوْلَى فَلَا يُعْتَبَرُ عَجْزُهَا بِمَنْزِلَةِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا اسْتَسْعَاهُ الْقَاضِي فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ الشَّرِيكِ السَّاكِتِ فَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي صَالَحَهَا عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْقِيمَةِ فَيُبْطِلَ الْقَاضِي الْفَضْلَ وَيُجْبِرَهَا عَلَى السِّعَايَةِ فِي الْقِيمَةِ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَلَا يَنْقُضُ شَيْئًا لِيُعِيدَ مِثْلَهُ فِي الْحَالِ، وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مِقْدَارِ الْقِيمَةِ فَلَيْسَ فِي نَفْسِ هَذَا الصُّلْحِ فَائِدَةٌ لَهَا فَلَا يَشْتَغِلُ الْقَاضِي بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْقِيمَةِ فَفِي نَقْضِهِ فَائِدَةٌ لَهَا، وَهُوَ سُقُوطُ الزِّيَادَةِ عَنْهَا وَعَجْزُهَا يُسْقِطُ عَنْهَا مَا الْتَزَمَتْ لِمَوْلَاهَا بِاخْتِيَارِهَا لِعَجْزِ الْمُكَاتَبَةِ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ فَلِهَذَا يَبْطُلُ هَذَا الصُّلْحُ عِنْدَ عَجْزِهَا، وَيَجْبُرُهَا عَلَى السِّعَايَةِ فِي الْقِيمَةِ لِإِسْلَامِهَا مَعَ إصْرَارِ مَوْلَاهَا عَلَى الْكُفْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.