فصل: القول في الليل والنهار أيّهما خلق قبل صاحبه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.القول في الليل والنهار أيّهما خلق قبل صاحبه:

قد ذكرنا ما خلق الله تعالى من الأشياء قبل خلق الأوقات، وأن الأزمنة والأوقات إنما هي ساعات الليل والنهار، وأن ذلك إنما هو قطع الشمس والقمر درجات الفلك.
فلنذكر الآن بأيّ ذلك كان الابتداء، أبالليل أم بالنهار؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فإن بعضهم يقول: إنّ الليل خُلق قبل النهار؛ ويستدلّ على ذلك بأن النهار من نور الشمس فإذا غابت الشمس جاء الليل فبان بذلك أن النهار، وهو النور، وارد على الظلمة التي هي الليل، وإذا لم يرد نور الشمس كان الليل ثابتاً، فدّلّ ذلك على أنّ الليل هو الأوّل؛ وهذا قول ابن عباس.
وقال آخرون: كان النهار قبل الليل، واستدلّوا بأن الله تعالى كان ولا شيء معه، ولا ليل ولا نهار، وأن نوره كان يضيءُ به كل شيء خلقه حتى خلق الليل.
قال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليلٌ ولا نهار، نور السموات من نور وجهه.
قال أبو جعفر: والأوّل أولى بالصواب للعلة المذكورة أوّلاً، ولقوله تعالى: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها} 79: 27- 29 فبدأ بالليل قبل النهار.
قال عبيد بن عمير الحارثي: كنت عند عليّ فسأله ابن الكوّاء عن السواد الذي في القمر فقال: ذلك آية محيت، وقال ابن عباس مثله، وكذلك قال مجاهد وقتادة وغيرهما، لذلك خلقهما الله تعالى الشمس أنور من القمر.
قلت: وروى أبو جعفر ههنا حديثاً طويلاً عدة أوراق عن ابن عبّاس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في خلق الشمس والقمر وسيرهما، فإنهما على عجلتين، لكل عجلة ثلاث مئة وستون عروة، يجرها بعددها من الملائكة، وإنهما يسقطان عن العجلتين فيغوصان في بحر بين السماء والأرض، فذلك كسوفهما، ثم إن الملائكة يخرجونهما فذلك تجليتهما من الكسوف، وذكر الكواكب وسيرها، وطلوع الشمس من مغربها، ثم ذكر مدينة بالمغرب تسمى جابرس وأخرى بالمشرق تسمّى جابلق ولكلّ واحدة منهما، عشرة آلاف باب يحرس كلّ باب منها عشرة آلاف رجل، لا تعود الحراسة إليهم إلى يوم القيامة.
وذكر يأجوج ومأجوج ومنسك وثاريس، إلى أشياء أخرى لا حاجة إلى ذكرها، فأعرضت عنها لمنافاتها العقول، ولو صحّ إسنادها لذكرناها وقلنا به، ولكن الحديث غير صحيح، ومثل هذا الأمر العظيم لا يجوز أن يسطر في الكتب بمثل هذا الإسناد الضعيف.
وإذ كنّا قد بيّنا مقدار مدة ما بين أوّل ابتداء الله، عز وجل، في إنشاء ما أراد إنشاءه من خلقه إلى حين فراغه من إنشاء جميعه من سني الدنيا ومدة أزمانها، وكان الغرض في كتابنا هذا ذكر ما قد بينّا أنّا ذاكروه من تاريخ الملوك الجبابرة، والعاصية ربّها والمطيعة ربها، وأزمان الرسل والأنبياء، وكنّا قد أتينا على ذكر ما تصحّ به التأريخات وتُعرف به الأوقات وهو الشمس والقمر، فلنذكر الآن أوّل من أعطاه الله تعالى ملكاً وأنعم عليه فكفر نعمته، وجحد ربوبيّته واستكبر، فسلبه الله نعمته وأخزاه وأذله، ثمّ نتبعه ذكر من استن سنته واقتفى أثره وأحلّ الله به نقمته، ونذكر من كان بإزائه أو بعده من الملوك المطيعة ربها المحمودة آثارها ومن الرسل والأنبياء، إن شاء الله تعالى.

.قصة إبليس لعنه الله وابتداء أمره وإطغائه آدم عليه السلام:

فأوّلهم وإمامهم ورئيسهم إبليس، وكان الله تعالى قد حسّن خلقه وشرّفه وملّكه على سماء الدنيا والأرض فيما ذكر، وجعله مع ذلك خازناً من خُزّان الجنّة، فاستكبر على ربّه، وادّعى الربوبية، ودعا من كان تحت يده إلى عبادته، فمسخه الله تعالى شيطاناً رجيماً، وشوّه خلقه، وسلبه ما كان خوله، ولعنه وطرده عن سمواته في العاجل، ثمّ جعل مسكنه ومسكن أتباعه في الآخرة نار جهنم، نعوذ بالله تعالى من نار جهنم ونعوذ بالله تعالى من غضبه ومن الحور بعد الكور.
ونبدأ بذكر الأخبار عن السلف بما كان الله أعطاه من الكرامة وبادعائه ما لم يكن له، ونتبع ذلك بذكر أحداث في سلطانه وملكه إلى حين زوال ذلك عنه والسبب الذي به زال عنه، إن شاء الله تعالى.

.ذكر الأخبار بما كان لإبليس لعنه الله من الملك وذكر الأحداث في ملكه:

روي عن ابن عباس وابن مسعود أن إبليس كان له ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سمّوا الجنّ لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً، قال ابن عبّاس: ثم إنه عصى الله تعالى فمسخه شيطاناً رجيماً.
وروي عن قتادة في قوله تعالى: {ومن يقل منهم إني إله من دونه} الأنبياء: 21: 29 إنما كانت هذه الآية في إبليس خاصة لما قال ما قال لعنه الله تعالى وجعله شيطاناً رجيماً، وقال: {فذلك نجزيه جهنَّم كذلك نجزي الظالمين} وروي عن ابن جريح مثله.
وأما الأحداث التي كانت في ملكه وسلطانه فمنها ما روي عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان خازناً من خزّان الجنة، قال: وخُلقت الملائكة من نور، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت، وخلق الإنسان من طين، فأوّل من سكن في الأرض الجن، فاقتتلوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله تعالى إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحيّ الذين يقال لهم الجن، فقاتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلمّا فعل ذلك اغترّ في نفسه وقال: قد صنعتُ ما لم يصنعه أحد، فاطّلع الله تعالى على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه أحد من الملائكة الذين معه.
وروي عن أنس نحوه.
وروى أبو صالح عن ابن عبّاس ومُرّة الهمداني عن ابن مسعود أنهما قالا: لما فرغ الله تعالى من خلق ما أحبّ استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سمّوا الجن لأنهم من خزنة الجنّة، وكان إبليس مع ملكه خازناً فوقع في نفسه كبر وقال: ما أعطاني الله تعالى هذا الأمر إلاّ لمزية لي على الملائكة، فاطلع الله على ذلك منه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة، قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، فدعاه ذلك إلى الكبر، وهذا قولٌ ثالث في سبب كبره.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن الله تعالى خلق خلقاً، فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل، فبعث عليهم ناراً فأحرقتهم؛ ثمّ خلق خلقاً آخر، فقال: إني خالق بشراً من طين، فاسجدوا لآدم، فأبوا، فبعث الله تعالى عليهم ناراً فأحرقتهم، ثمّ خلق هؤلاء الملائكة فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين لم يسجدوا.
وقال شهر بن حوشب: إن إبليس كان من الجن الذين سكنوا الأرض وطردهم الملائكة، وأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، وروي عن سعيد بن مسعود نحو ذلك.
وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كما قال الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} الكهف: 18: 50 وجائز أن يكون فسوقه من إعجابه بنفسه لكثرة عبادته واجتهاده، وجائز أن يكون لكونه من الجن.
ومرّة الهمداني، بسكون الميم، والدال المهملة، نسبة إلى همدان: قبيلة كبيرة من اليمن.

.ذكر خلق آدم عليه السلام:

ومن الأحاديث في سلطانه خلق أبينا آدم عليه السلام، وذلك لما أراد الله تعالى أن يطلع ملائكته على ما علم من انطواء إبليس على الكبر ولم يعلمه الملائكة حتى دنا أمره من البوار وملكه من الزوال فقال للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} البقرة: روي عن ابن عباس أن الملائكة قالت ذلك للذي كانوا عهدوا من أمره وأمر الجنّ الذين كانوا سُكان الأرض قبل ذلك فقالوا لربهم تعالى: أتجعل فيها من يكون مثل الجن الذين كانوا يسفكون الدماء فيها ويفسدون ويعصونك ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ فقال الله لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} يعني من انطواء إبليس على الكبر والعزم على خلاف أمري واغتراره، وأنا مبد ذلك لكم منه لتروه عياناً، فلما أراد الله أن يخلق آدم أمر جبرائيل أن يأتيه بطين من الأرض، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني وتشينني، فرجع ولم يأخذ منها شيئاً وقال: يا ربّ إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل، فاستعاذت منه فأعاذها، فرجع وقال مثل جبرائيل، فبعث إليها ملك الموت فعاذت منه، فقال: أنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمر ربي، فأخذ من وجه الأرض فخلطه ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء وطيناً لازباً، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين.
وروى أبو موسى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأسود والأبيض، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيّب» ثم بلّت طينته حتى صارت طيناً لازباً ثم تركت حتى صارت حمأً مسنوناً ثم تركت حتى صارت صلصالاً، كما قال ربّنا، تبارك وتعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون} الحجر: 15: 26 واللازب: الطين الملتزب بعضه ببعض، ثمّ تُرك حتى تغيّر وأنتن وصار حمأً مسنوناً، يعني منتناً، ثمّ صار صلصالاً، وهو الذي له صوت.
وإنما سمّي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، قال ابن عباس: أمر الله بتربة آدم فرفعت، فخلق ادم من طين لازب من حمأ مسنون، وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التزاب فخلق منه آدم بيده لئلا يتكبّر إبليس عن السجود له، قال: فمكث أربعين ليلة، وقيل: أربعين سنة، جسداً ملقىً، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل، أي يصوِّت، قال: فهو قول الله تعالى: {من صلصال كالفخار} الرحمن: 55: 14، يقول: منتن كالمنفوخ الذي ليس بمصمت، ثم يدخل من فيه فيخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئاً، ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت عليّ لأعصينك، فكانت الملائكة تمرّ به فتخافه، وكان إبليس أشدّهم منه خوفاً.
فلما بلغ الحين الذي أراد الله أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} الحجر: 15: 29؛ فلما نفخ الروح فيه دخلت من قبل رأسه، وكان لا يجري شيء من الروح في جسده إلا صار لحماً، فلما دخلت الروح رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، وقيل: بل ألهمه الله التحميد فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال الله له: رحمك ربك يا آدم، فلما دخلت الروح عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما بلغت جفوه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فلذلك يقول الله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} الأنبياء: 21: 37، فسجد له الملائكة كلهم إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين، فقال الله له: يا إبليس ما منعك أن تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، فلم يسجد كبراً وبغياً وحسداً، فقال الله له: {يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} إلى قوله: {لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} ص: 38: 75- 58، فلما فرغ من إبليس ومعاتبته وأبى إلا المعصية أوقع عليه اللعنة وأيأسه من رحمته وجعله شيطاناً رجيماً وأخرجه من الجنة.
قال الشعبيّ: أُنزل إبليس مشتمل الصّمّاء عليه عمامة أعور في إحدى رجليه نعل.
وقال حميد بن هلال: نزل إبليس مختصراً فلذلك كره الاختصار في الصلاة، ولما أنزل قال: يا ربّ أخرجتني من الجنة من أجل آدم وإنني لا أقوى عليه إلا بسلطانك، قال: فأنت مسلّط، قال: زدني، قال: لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله، قال: زدني، قال: صدورهم مساكن لك وتجري منهم مجرى الدم، قال: زدني، قال: أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم.
قال آدم: يا ربّ قد أنظرته وسلّطته عليَّ وإنني لا أمتنع منه إلا بك، قال: لا يولد لك ولد إلا وكّلت به من يحفظه من قرناء السوء، قال: يا ربّ زدني، قال: الحسنة بعشر أمثالها وأزيدها، والسيئة بواحدة وأمحوها، قال: يا ربّ زدني، قال: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً} الزمر: 39: 53، قال: يا رب زدني، قال: التوبة لا أمنعها من ولدك ما كانت فيهم الروح، قال: يا ربّ زدني، قال: أغفر ولا أبالي، قال: حسبي، ثمّ قال الله لآدم: إيتِ أولئك النفر من الملائكة فقل السلام عليكم، فأتاهم فسلّم عليهم، فقالوا له: وعليك السلام ورحمة الله، ثمّ رجع إلى ربّه فقال: هذه تحيّتك وتحيّة ذريتك بينهم.
فلمّا امتنع إبليس من السجود وظهر للملائكة ما كان مستتراً عنهم علّم الله آدم الأسماء كلها.
واختلف العلماء في الأسماء فقال الضحّاك عن ابن عباس: علمه الأسماء كلها التي تتعارف بها الناس: إنسان ودابّة وأرض وسهل وجبل وفرس وحمار وأشباه ذلك، حتى الفُسْوة والفُسَية، وقال مجاهد وسعيد بن جُبير مثله.
وقال ابن زيد: عُلّم أسماء ذرّيته، وقال الربيع: علم أسماء الملائكة خاصة، فلما علمها عرض الله أهل الأسماء على الملائكة فقال: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} البقرة: 2: 31 إني إن جعلت الخليفة منكم أطعتموني وقدّستموني ولم تعصوني، وإن جعلته من غيركم أفسد فيها وسفك الدماء، فإنكم إن لم تعلموا أسماء هؤلاء وأنتم تشاهدونهم فبأن لا تعلموا ما يكون منكم ومن غيركم وهو مغيب عنكم أولى وأحرى، وهذا قول ابن مسعود ورواية أبي صالح عن ابن عباس.
وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا: لما أعلم الله الملائكة بخلق آدم واستخلافه و{قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} البقرة: 1: 30 و{قال إني أعلم ما لا تعلمون} البقرة: 2: 30، قالوا فيما بينهم: ليخلق ربّنا ما يشاء فلن يخلق خلقاً إلا كنا أكرم على الله منه وأعلم منه، فلمّا خلقه وأمرهم بالسجود له علموا أنّه خير منهم وأكرم على الله منهم، فقالوا: إن يكُ خيراً منّا وأكرم على الله منا فنحن أعلم منه، فلمّا أعجبوا بعلمهم ابتلوا بأن علمه الأسماء كلها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} البقرة: 2: 31 إني لا أخلق أكرم منكم ولا أعلم منكم، ففزعوا إلى التوبة، وإليها يفزع كل مؤمن، ف {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} البقرة: 2: 32، قالا: وعلمه اسم كل شيء من هذه: الخيل والبغال والإبل والجن والوحش وكل شيء.

.ذكر إسكان آدم الجنة وإخراجه منها:

فلما ظهر للملائكة من معصية إبليس وطغيانه ما كان مستتراً عنهم وعاتبه الله على معصيته بتركه السجود لآدم فأصرّ على معصيته وأقام على غيّه لعنه الله وأخرجه من الجنة وطرده منها وسلبه ما كان إليه من ملك سماء الدنيا والأرض وخزن الجنّة، فقال الله له: {اخرج منها} يعني من الجنة {فإنّك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين} ص: 38: 77- 78؛ وأسكن آدم الجنة.
قال ابن عباس وابن مسعود: فلما أسكن آدم الجنة كان يمشي فيها فرداً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة واستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها فقال: من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ، قالت له الملائكة لينظروا مبلغ علمه: ما اسمها؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي، وقال الله له: {يا ادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما} البقرة: 2: 35.
وقال ابن اسحاق فيما بلغه عن أهل الكتاب وغيرهم، منهم عبد الله بن عباس قال: ألقى الله تعالى على آدم النوم وأخذ ضلعاً من أضلاعه من شقّه الأيسر ولأم مكانه لحماً وخلق منه حواً، وآدم نائم، فلمّا استيقظ رآها إلى جنبه فقال: لحمي ودمي وروحي، فسكن إليها، فلما زوجه الله تعالى وجعل له سكناً من نفسه قال له: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} البقرة: 2: 35.
وعن مجاهد وقتادة مثله: فلمّا أسكن الله آدم وزوجته الجنة أطلق لهما أن يأكلا كلّ ما أرادا من كل ثمارها غير ثمرة شجرة واحدة، ابتلاءً منه لهما وليمضي قضاؤه فيهما وفي ذريتهما، فوسوس لهما الشيطان، وكان سبب وصوله إليهما أنه أراد دخول الجنة فمنعته الخزنة، فأتى كلّ دابة من دواب الأرض وعرض نفسه عليها أنها تحمله حتى يدخل الجنة لكلّم آدم وزوجته، فكلّ الدواب أبى عليه حتى أتى الحية، وقال لها: أمنعك من ابن آدم فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني، فجعلته بين نابين من أنيابها ثم دخلت به، وكانت كاسية على أرع قوائم من أحسن دابّة خلقها الله كأنها بختيّة، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها.
قال ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها واخفروا ذمّة عدوّ الله فيها.
فلمّا دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فيها فناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة، فوقع ذلك في أنفسهما، ثم أتاهما فوسوس لهما وقال: {يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} طه: 120 {وقال ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} الأعراف: 7: 20، أن تكونا ملكين، أو تخلدان إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة، يقول الله تعالى: {فدلاهما بغرور} الأعراف: 7: 22، وكان انفعال حواء لوسوسته أعظم، فدعاها آدم لحاجته، فقالت: لا إلا أن تأتي ها هنا، فلما أتى قالت: لا إلا أن تأكل من هذه الشجرة، وهي الحنطة، قال: فأكلا منها، فبدت لهما سوءاتهما، وكان لباسهما الظفر، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، قيل: كان ورق التين، وكانت الشجرة من أكل منها أحدث، وذهب آدم هارباً في الجنة، فناداه ربّه: أن يا آدم مني تفرّ؟ قال: لا ياربّ ولكن حياء منك، فقال: يا آدم من أين أتين؟ قال: من قبل حواء يا رب، فقال الله: فإن لها عليّ أن أدميها في كل شهر وأن أجعلها سفيهة، وقد كنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرهاً وتضع كرهاً وتشرف على الموت مراراً، قد كنت جعلتها تحمل يسراً وتضع يسراً، ولوا بليّتها لكان النساء لا يحضن، ولَكُنّ حليمات ولكن يحملن يسراً ويضعن يسراً، وقال الله تعالى له: لألعنن الأرض التي خلقت منها لعنة يتحول بها ثمارها شوكاً، ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة أفضل من الطلح والسدر.
وقال للحيّة: دخل الملعون في جوفك حتى غرّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنةً يتحوّل بها قوائمك في بطنك ولا يكون لك رزق إلا التراب، أنت عدوّة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت واحداً منهم أخذت بعقبه وحيث لقيك شدخ رأسك، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ آدم وإبليس والحيّة، فأهبطهم إلى الأرض، وسلب الله آدم وحواء كلّ ما كانا فيه من النعمة والكرامة.
قيل: كان سعيد بن المسيّب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن سقته حوّاء الخمر حتى سكر فلمّا سكر قادته إليها فأكل.
قلت: والعجب من سعيد كيف يقول هذا والله يقول في صفة خمر الجنة {لا فيها غول} الصافات: 37: 47.

.ذكر اليوم الذي أسكن آدم فيه الجنة واليوم الذي أخرج فيه منها واليوم الذي تاب فيه:

روى أبو هريرة عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة يقلّلها لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إيّاه» قال عبد الله بن سلام: قد علمتُ أيّ ساعة هي، هي آخر ساعة من النهار.
وقال أبو العالية: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة منه، وأهبط إلى الأرض لتسع ساعات مضين من ذلك اليوم، وكان مكثه في الجنّة خمس ساعات منه، وقيل: كان مكثه ثلاث ساعات منه.
فإن كان قائل هذا القول أراد أنه سكن الفردوس لساعتين مضتا من يوم الجمعة من أيّام الدنيا التي هي على ما هي به اليوم، فلم يبعد قوله من الصواب لأن الأخبار كذا كانت واردة عن السلف من أهل العلم بأن آدم خُلق آخر ساعة من اليوم السادس التي مقدار اليوم منها ألف سنة من سنينا، فمعلوم أن الساعة الواحدة من ذلك اليوم ثلاثة وثمانون عاماً من أعوامنا، وقد ذكرنا أنّ آدم بعد أن خمّر ربنا طينته بقي قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين عاماً، وذلك لا شكّ أنه عنى به أعوامنا، ثمّ بعد أن نفخ فيه الروح إلى أن تناهى أمره وأسكن الجنّة وأهبط إلى الأرض غير مستنكر أن يكون مقدار ذلك من سنينا قدر خمس وثلاثين سنة، وإن كان أراد أنّه سكن الجنّة لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من الأيام التي مقدار اليوم منها ألف سنة من سنينا فقد قال غير الحقّ، لأنّ كل من له قول في ذلك من أهل العلم يقول إنّه نفخ فيه الروح آخر نهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس.
وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنّ مكث آدم كان في الجنّة نصف يوم كان مقداره خمسمائة عام، وهذا أيضاً خلاف ما وردت به الأخبار عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن العلماء.

.ذكر الموضع الذي أهبط فيه آدم وحواء من الأرض:

قيل: ثمّ إن الله تعالى أهبط آدم قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلقه فيه، وهو يوم الجمعة، مع زوجته حوّاء من السماء، فقال عليّ وابن عباس وقتادة وأبو العالية: إنّه أهبط بالهند على جبل يقال له نود من أرض سرنديب، وحواء بجدّة، قال ابن عباس: فجاء في طلبها فكان كلّما وضع قدمه بموضع صار قرية، وما بين خطوتيه مفاوز، فسار حتى أتى جمعاً فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، وتعارفا بعرفات فلذلك سميت عرفات، واجتمعا بجمع فلذلك سميت جمعاً، وأهبطت الحيّة بأصفهان، وإبليس بميسان، وقيل: أهبط آدم بالبرية، وإبليس بالأبلة.
قال أبو جعفر: وهذا ما لا يصول إلى معرفة صحته إلا بخبر يجيء مجيء الحجة، ولا نعلم خبراً في ذلك غير ما ورد في هبوط آدم بالهند، فإنّ ذلك مما لا يدفع صحته علماء الإسلام.
قال ابن عباس: فلما أهبط آدم على جبل نود كانت رجلاه تمسان الأرض ورأسه بالسماء يسمع تسبيح الملائكة، فكانت تهابه، فسألت الله أن ينقص من طوله فنقص طوله إلى ستين ذراعاً، فحزن آدم لما فاته من الأنس بأصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال: يا ربّ كنت جارك في دارك ليس لي ربّ غيرك أدخلتني جنّتك آكل منها حيث شئت وأسكن حيث شئت فأهبطتني إلى الجبل المقدس فكنت أسمع أصوات الملائكة وأجد ريح الجنة فحططتني إلى ستين ذراعاً، فقد انقطع عني الصوت والنظر وذهبت عني ريح الجنّة فأجابه الله تعالى: بمعصيتك يا ادم فعلت بك ذلك.
فلما رأى الله تعالي عريّ آدم وحواء أمره أن يذبح كبشاً من الضأن من الثمانية الأزواج التي أنزل الله من الجنة، فأخذ كبشاً فذبحه وأخذ صوفه، فغزلته حواء ونسجه آدم فعمل لنفسه جبّة ولحواء درعاً وخماراً فلبسا ذلك.
وقيل: أرسل إليهما ملكاً يعلمهما ما يلبسانه من جلود الضأن والأنعام، وقيل: كان ذلك لباس أولاده، وأمّا هو وحوّاد فكان لباسهما ما كانا خصفا من ورق الجنّة، فأوحى الله إلى آدم: إن لي حرماً حيال عرشي فانطلق وابن لي بيتاً فيه ثم حفّ به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي، فهنالك أتسجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي، فقال آدم: يا ربّ وكيف لي بذلك لست أقوى عليه ولا أهتدي إليه، فقيّض الله ملكاً فانطلق به نحو مكّة، وكان آدم إذا مرّ بروضة قال للملك: انزل بنا ها هنا، فيقول الملك: مكانك، حتى قدم مكّة، فكان كلّ مكان نزله آدم عمراناً وما عداه مفاوز، فبنى البيت من خمسة أجبل: من طور سينا، وطور زيتون، ولبنان، والجودي، وبنى قواعده من حراء؛ فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات فزراه المناسك التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكّة فطاف بالبيت أسبوعاً، ثم رجع إلى الهند فمات على نود.
فعلى هذا القول أهبط حواء وآدم جميعاً، وإن آدم بنى البيت، وهذا خلاف الذي نذكره إن شاء الله تعالى منه: أنّ البيت أنزل من السماء.
وقيل: حج آدم من الهند أربعين حجّة ماشياً، ولما نزل إلى الهند كان على رأسه إكليل من شجر الجنة، فلما وصل إلى الأرض يبس فتساقط ورقه فنبتت منهن أنواع الطيب بالهند، وقيل: بل الطيب من الورق الذي خصفه آدم وحواء عليهما.
وقيل: لما أمر بالخروج من الجنة جعل لا يمر بشجرة منها إلاّ أخذ منها غصناً فهبط وتلك الأغصان معه فكان أصل الطيب بالهند منها، وزوّده الله من ثمار الجنّة، فثمارنا هذه منها، غير أن هذه تتغيّر وتلك لا تتغيّر، وعلمه صنعة كلّ شيء، ونزل معه من طيب الجنة، والحجر الأسود، وكان أشدّ بياضاً من الثلج، وكان من ياقوت الجنة، ونزل معه عصا موسى، وهي من آس الجنّة ومن لبان، وأنز بعد ذلك العلاة والمطرقة والكلبتان.
وكان حسن الصورة لا يشبهه من ولده غير يوسف، وأنزل عليه جبرائيل بصرّة فيها حنطة، فقال آدم: ما هذا؟ قال: هذا الذي أخرجك من الجنة، فقال: ما أصنع به؟ فقال: انثره في الأرض، ففعل، فأنبته الله من ساعته، ثمّ حصده وجمعه وفركه وذرّاه وطحنه وعجنه وخبزه، كل ذلك بتعليم جبرائيل، وجمع له جبرائيل الحجر والحديد فقدحه فخرجت منه النار، وعلّمه جبرائيل صنعة الحديد والحراثة، وأنزل إليه ثوراً، فكان يحرث عليه، قيل هو الشقاء الذي ذكره الله تعالى بقوله: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} طه: 20: 117.
ثم إن الله أنزل آدم من الجبل وملّكه الأرض وجميع ما عليها من الجن والدوابّ والطير وغير ذلك، فشكا إلى الله تعالى وقال: يا رب أما في هذه الأرض من يسبحك غيري؟ فقال الله تعالى: سأخرج من صلبك من يسبّحني ويحمدني، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري، وأجعل فيها بيتاً أختصه بكرامتي وأسمّيه بيتي وأجعله حرماً آمناً، فمن حرّمه بحُرمتي، فقد استوجب كرامتي، ومن أخاف أهله فيه فقد خفر ذمّتي وأباح حرمتي، أوّل بيت وضع للناس فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إليّ وزارني وضافني، ويحقّ على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وأن يسعف كلاً بحاجته؛ تعمره أنت يا آدم ما كنت حيّاً، ثمّ تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمّة بعد أمّة، ثمّ أمر آدم أن يأتي البيت الحرام، وكان قد أهبط من الجنّة ياقوتة واحدة، وقيل: درّة واحدة، وبقي كذلك حتى أغرق الله قوم نوح، عليه السلام، فرفع وبقي أساسه، فبوّأ الله لإبراهيم، عليه السلام، فبناه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وسار آدم إلى البيت ليحجّه ويتوب عنده، وكان قد بكى هو وحواء على خطيئتهما وما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً، ثم أكلا وشربا بعدها، ومكث آدم لم يقرب حوّاء مائة عام، فحج البيت وتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه، وهو قوله تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} الأعراف: 7: 23.
نود بضم النون، وسكون الواو، وآخره دال مهملة.