فصل: سنة ثمان وستين ومائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة ثمان وستين ومائة:

في هذه السنة، في رمضان، نقض الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين، وكان من أوله إلى أن نقضوه اثنان وثلاثون شهراً، فوجه علي بن سليمان، وهو على الجزيرة وقنسرين، يزيد بن البدر بن البطال في خيل، فغنموا وظفروا.

.ذكر الخوارج بالموصل:

وفيها خرج بأرض الموصل خارجي اسمه ياسين من بني تميم، فخرج إليه عسكر الموصل، فهزمهم، وغلب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، وكان يميل إلى مقالة صالح بن مسرح الخارجي، فوجه إليه المهدي أبا هريرة محمد بن فروخ القائد وهرثمة بن أعين مولى بني ضبة، فحارباه، فصبر لهما، حتى قتل وعدة من أصحابه، وانهزم الباقون.

.ذكر مخالفة أبي الأسود بالأندلس:

في هذه السنة ثار أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلس، وكان من حديثه: أنه كان في سجن عبد الرحمن بقرطبة من حين هرب أبوه، وقتل أخوه عبد الرحمن، على ما تقدم، وحبس أبو الأسود، وتعامى في الحبس، فصار يحاكي العميان، ولا يطرف عينه لشيء، وبقي دهراً طويلاً، حتى صح عند الأمير عبد الرحمن الأموي ذلك.
وكان في أقصى السجن سرداب يفضي إلى النهر الأعظم يخرج منه المسجونون، فيقضون حوائجهم من غسل وغيره، وكان الموكلون يهملون أبا الأسود لعماه، فإذا رجع من النهر يقول: من يدل الأعمى على موضعه؟ وكان مولى له يحادثه على شاطئ النهر، ولا ينكر عليه، فواعده أن يأتيه بخيل يحمله عليها، فخرج يوماً ومولاه ينتظره، فعبر النهر سباحة، وركب الخيل، ولحق بطليطلة، فاجتمع له خلق كثير، فرجع بهم إلى قتال عبد الرحمن الأموي، فالتقيا على الوادي الأحمر بقسطلونة، واشتد القتال، ثم انهزم أبو الأسود، وقتل من أصحابه أربعة آلاف سوى من تردى في النهر، واتبعه الأموي يقتل من لحق، حتى جاوز قلعة الرباح، ثم جمع، وعاد إلى قتال الأموي، في سنة تسع وستين، فلما أحس بمقدمة الأموي انهزم أصحابه، وهو معهم، فأخذ عياله، وقتل أكثر رجاله، وبقي إلى سنة سبعين، فهلك بقرية من أعمال طليطلة.
وقام بعده أخوه قاسم، وجمع جمعاً، فغزاه الأمير، فجاء إليه بغير أمان فقتله.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها هلك شيلون ملك جليقية، فولوا مكانه اذفونش، فوثب عليه مورقاط، فقتله، فاختل أمرهم، فدخل عليهم نائب عبد الرحمن بطليطلة في عساكره، فقتل، وغنم، وسبى ثم عاد سالماً.
وفيها توفي أبو القاسم بن واسول مقدم الخوارج الصفرية بسجلماسة فجاءةً في صلاة العشاء الآخرة، وكان إمارته اثنتي عشرة سنة وشهراً، وولي بعده ابنه إلياس.
وفيها سير المهدي سعيداً الحرشي في أربعين ألفاً إلى طبرستان.
وفيها مات عمر الكلوذاني، صاحب الزنادقة، وولي مكانه محمد بن عيسى بن حمدوية، فقتل من الزنادقة خلقاً كثيراً.
وحج بالناس علي بن المهدي الذي يقال له ابن ريطة.
وفيها توفي يحيى بن سلمة بن كهيل، وعبيد الله بن الحسن العنبري، قاضي البصرة، ومندل بن علي، ومحمد بن عبد الله بن علاثة بن علقمة القاضي، والحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان قد استعمله المنصور على المدينة خمس سنين، ثم عزله، وحبسه ببغداد، وأخذ ماله. فلما ولي المهدي أخرجه ورد عليه ماله، وكان جواداً إلا أنه كان منحرفاً عن أهل بيته، مائلاً إلى المنصور.
وفيها توفي بشر بن الربيع، وعبثر بن القاسم، عبثر بفتح العين المهملة، وبالباء الموحدة، والثاء المثلثة.

.حوادث سنة تسع وستين ومائة:

.ذكر موت المهدي:

في هذه السنة مات المهدي أبوعبد الله محمد بن عبد الله المنصور بماسبذان، وسبب خروجه إليها أنه قد عزم على خلع ابنه موسى الهادي والبيعة للرشيد بولاية العهد وتقديمه على الهادي، فبعث إليه، وهوبجرجان، في المعنى، فلم يفعل. فبعث إليه في القدوم عليه، فضرب الرسول، وامتنع من القدوم عليه، فسار المهدي يريده، فلما بلغ ماسبذان أكل طعامأن ثم قال إني داخل إلى البهو أنام، فلا توقظوني، حتى أكون أنا الذي أنتبه، فدخله، فنام ونام أصحابه، فاستيقظوا ببكائه، فأتوه مسرعين، فقال: وقف على الباب رجل فقال:
كأني بهذا القصر قد باد أهله ** وأوحش منه ربعه ومنازله

وصار عميد القوم من بعد بهجة ** وملك إلى قبر علية جناد له

فلم يبق إلا ذكره وحديثه ** تنادي عليه معولات حلائله

فبقي بعد ذلك عشرة أيام ومات.
وقد اختلف في سبب موته فقيل إنه كان يتصيد، فطردت الكلاب ظبيأن وتبعته، فدخل باب خربة، ودخلت الكلاب خلفه، ثم تبعها فرس المهدي، فدخلها فدق الباب ظهره، فمات من ساعته.
وقيل: بل بعثت جارية من جواريه إلى ضرة لها بإناء فيه سم، فدعا به المهدي فأكل منه، فخافت الجارية أن تقول إنه مسموم، فمات من ساعته.
وقيل: بل عمدت حسنة جارية له إلى كمثرى فأهدته إلى جارية أخرى كان المهدي يتخطاهأن وسمت منه كمثراة هي أحسن الكمثرى، فاجتاز بالمهدي، فدعا به وكان يحب الكمثرى، فأخذ تلك الكمثرى المسمومة، فأكلهأن فلما وصلت إلى جوفه صاح: جوفي جوفي! فسمعت صوته، فجاءت تلطم وجهها وتبكي وتقول: أردت أن أنفرد بك، فقتلتك! فمات من يومه، ورجعت حسنة وعلى قبتها المسوح، فقال أبوالعتاهية في ذلك:
رحن في الوشي وأقبل ** ن عليهن المسوح

كل نطاح من الدن ** يات له يوم نطوح

لست بالباقي ولوعم ** رت ما عمر نوح

فعلى نفسك نح إن ** كنت لا بد تنوح

وكان موته في المحرم لثمان بقين منه، وكانت خلافته عشر سنين وشهراً؛ وقيل عشر سنين وأربعين يومأن وتوفي وهوابن ثلاث وأربعين سنة، ودفن تحت جوزة كان يجلس تحتهأن وصلى عليه ابنه الرشيد؛ وكان أبيض طويلأن وقيل أسمر بإحدى عينيه نكتة بياض.

.ذكر بعض سيرته:

كان المهدي، إذا جلس للمظالم، قال: أدخلوا علي القضاة، فلولم يكن ردي المظالم إلا للحياء منهم لكفى.
وسعتب المهدي على بعض القواد غير مرة وقال له في آخر ذلك: إلى متى تذنب؟ قال: إلى إبد نسيء ويبقيك الله، فتعفوعنا. فاستحيا منه ورضي عنه.
وقال مسور بن مساور: ظلمني وكيل المهدي، وغصبني ضيعة لي، فكتب إلى المهدي أتظلم، فوصلت الرقعة وعنده عمه العباس، ومحمد بن علاثة، وعافية القاضي، فاستدناني المهدي، وسألني عن حالي، فذكرته، فقال: أترضى بأحد هذين؟ قلت: نعم! فاستدناني حتى التزقت بالفراش، وحاكمني، فقال له القاضي: أطلقها له يا أمير المؤمنين! قال: قد فعلت؛ فقال عمه العباس: والله لهذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم. وخرج المهدي متنزهأن ومعه عمر بن ربيع مولاه، فانقطعا في الصيد من العسكر، وأصاب المهدي جوع، فقال: هل من شيء؟ فقيل له: نرى كوخأن فقصدوه، فإذا فيه نبطي، وعنده مبقلة، فسلموا عليه، فرد السلام، فقالوا: هل من طعام؟ فقال: عندي ربيثاء، وهونوع من الصحناة، وعندي خبز شعير. فقال المهدي: إن كان عندك زيت، فقد أكملت. قال: نعم،وكراث؛ فأتاهما بذلك، فأكلا حتى شبعا. فقال المهدي لعمر بن ربيع: قل في هذا شعراً؛ فقال:
إن من يطعم الربيثاء بالزي ** ت وخبز الشعير بالكراث

لحقيق بصفعة أوبثنيتي ** ن لسوء الصنيع أوبثلاث

فقال المهدي: بئس ما قلت! إمنا هو:
لحقيق ببدرة أوبثنيتي ** ن لحسن الصنيع أوبثلاث

قال: ووافهم العسكر، والخزائن، والخدم، فأمر للنبطي بثلاث بدر وسأنصرف.
وقال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح شديدة أيام المهدي، حتى ظننا أنها أسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب المهدي، فوجدته واضعاً خده على الأرض وهويقول: اللهم احفظ محمداً في أمته! اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم! اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي، فهذه ناصيتي بين يديك. قال: فما لبثنا إلا يسيراً حتى انكشفت الريح وزال عنا ما كنا فيه.
ولما حضرت القاسم بن مجاشع التميمي الروزي الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} آل عمران: 18 الآية؛ ثم كتب: والقاسم يشهد بذلك، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله ووارث الإمامة من بعده. فعرضت الوصية على المهدي بعد موته، فلما بلغ إلى هذا الموضع رمي بهأن ولم ينظر فيها.
وقال الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهوله في ليلة مقمرة، فما أدري أهو احسن أم البهو أم القمر أم ثيابه، فقرأ: {فهل عسيتهم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} محمد 22.
قال: فتمم صلاته، ثم التفت وقال: يا ربيع! قلت لبيك! قال: علي بموسى؛ فقلت في نفسي: من موسى؟ ابنه أم موسى بن جعفر، وكان محبوساً عندي؟ فجعلت أفكر، فقلت: ما هوإلا موسى ابن جعفر، فأحضرته، فقطع صلاته، ثم قال: يا موسى! إني قرأت هذه الآية، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي. قال: نعم، فوثق له فخلاه.
وقال محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: رأيت فيما يرى النائم، في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرفعت رأسي، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء، فإذا فيه: مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وإذ قائل يقول: يمحوهذا الكتاب ويكتب مكانه اسمه رجل من بني هاشم يقال له محمد. قلت: فأنا من بني هاشم، واسمي محمد، فابن من؟ قال: ابن عبد الله. قال: قلت: فأنا ابن عبد اله، فابن من؟ قال: ابن محمد، قلت: فأنا ابن محمد، فابن من؟ قال: ابن علي. قلت: فأنا ابن علي، فابن من؟ قال: ابن عبد الله. قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قال: ابن عباس، فلولم يبلغ العباس ما شككت أني صاحب الأمر.
قال: فتحدثت بها ذلك الزمان، ونحن لا نعرف المهدي، حتى ولي المهدي، فدخل مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه، فرأى اسم الوليد، فقال: أرى اسم الوليد إلى اليوم؛ فدعا بكرسي، فألقي في صحن المسجد، وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه؛ ففعل ذلك، وهوجالس.
وخرج المهدي يطوف بالبيت ليلأن فسمع أعرابية تقول: قومي مقترون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون؛ بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثرت عيالهم؛ أبناء سبيل وأنضاء طريق؛ وصية الله، ووصية الرسول، فهل من آمر لي بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه في أهله! قال: فأمر لها بخمسمائة درهم.
وقال المهدي: ما توسل أحد إلي بوسيلة هي أقرب من تذكيري يداً سلفت مني إليه أتبعها أختهأن وأحسن ربهأن فإن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
وكان بشار بن برد قد هجا صالح بن داود، أخا يعقوب، حين ولي البصرة فقال:
هم حملوا فوق المنابر صالحاً ** خاك فضجت من أخيك المنابر

فبلغ يعقوب هجاؤه، فدخل على المهدي فقال له: إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين. قال: وما قال؟ قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده. فأبى أن يعفيه. فأنشده:
خليفة يزني بعماته ** يلعب بالدبوق والصولجان

أبدلنا الله به غيرة ** ودس موسى في حر الخيزران

فوجه في حمله، فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفوعنه، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الحمارة.
وماتت الياقوتة بنت المهدي، وكان معجباً بها لا يطيق الصبر عنهأن حتى إنه كان يلبسها لبسة الغلمان، ويركبها معه، فلما ماتت وجد عليهأن وأمر أن لا يحجب عنه أحد، فدخل الناس يعزونه وأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أبلغ ولا أوجر من تعزية شبيب بن سيبة، فإنه قال: يا أمير المؤمنين! ما عند الله خير منك، وثواب الله خير لك منهأن وأنا أسأل الله أن لا يحزنك، ولا يفتنك، وأن يعطيك على ما رزئت أجرأن ويعقبك صبرأن ولا يجهد لك بلاء، ولا ينزع منك نعمة، وأحق ما صبر عليه مالا سبيل إلى ردة.

.ذكر خلافة الهادي:

وبويع لابنه موسى الهادي في اليوم الذي مات فيه المهدي، وهومقيم بجرجان، يحارب أهل طبرستان؛ ولما توفي المهدي كان الرشيد معه بماسبذان، فأتاه الموالي والقواد، وقالوا له: إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب، والرأي أن تنادي فيهم بالرجوع، حتى تواريه ببغداد.
فقال هارون: ادعوا إلي أبي يحيى بن خالد، وكان يحيى يتولى ما كان إلى الرشيد من أعمال المغرب، من الأنبار إلى إفريقية، فاستدعي يحيى إلى الرشيد، فقال: ما تقول فيما رأى هؤلاء؟ وأخيره الخبر. قال: لا أرى ذلك، لأن هذا لا يخفي، ولا آمن، إذا علم الجند، أن يتعلقوا بمحمله، ويقولوا: لا نخلي حتى نعطى لثلاث سنين وأكثر، ويتحكموا ويشتطوأن ولكني أرى أن يوارى، رحمه الله، هاهنأن وتوجه نصيراً إلى أمير المؤمنين الهادي الخاتم والقضيب، والتعزية، والتهنئة، فإن الناس لا ينكرون خروجه، إذ هوعلى بريد الناحية، وأن تأمر لمن تبعك من الجند بجوائز مائتين مائتين، وتنادي فيهم بالرجوع فلا تكون لهم همة سوى أهلهم.
ففعل ذلك، فلما قبض الجند الدراهم تنادوا: بغداد بغداد! وأسرعوا إليهأن فلما بلغوها وعلموا خبر المهدي أتوا باب الربيع، وأحرقوه، وأخرجوا من كان في الحبوس، وطالبوا بالأرزاق.
فلما قدم الرشيد بغداد أرسلت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بن خالد تستدعيهما لتشاورهما في ذلك، فأما الربيع فدخل عليها؛ وأما يحيى فامتنع لما يعلم من غيرة الهادي؛ وجمع الأموال حتى أعطى الجند لسنتين فسكتوا.
وكتب الهادي إلى الربيع كتاباً يتهدده بالقتل؛ وكتب إلى يحيى يشكره، ويأمره بأن يقوم بأمر الرشيد.
وكان الربيع يود يحيى ويثق به. فاستشاره فيما يفعل خوفاً من الهادي، فأشار عليه بأن يرسل ولده الفضل إلى طريق الهادي بالهدايا والتحف، ويعتذر إليه، ففعل، ورضي الهادي عنه.
وكان الربيع قد أوصى إلى يحيى بن خالد، وأخذت البيعة للهادي ببغداد، وكتب الرشيد إلى الآفاق بوفاة المهدي، واخذ البيعة للهادي، وسار نصير الوصيف إلى الهادي بجرجان، فعلم بوفاة المهدي والبيعة له، فنادى الرحيل وركل على البريد مجدأن فبلغ بغداد في عشرين يومأن ولما قدمها استوزر الربيع.
وفي هذه السنة أيضاً هلك الربيع.
وفيها اشتد طلب المهدي للزنادقة، فقتل منهم جماعة علي بن يقطين، وقتل أيضاً يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب؛ وكان سبب قتله أنه أتى به إلى المهدي، فأقر بالزندقة، فقال: لوكان ما تقول حقاً لكنت حقيقاً أن تتعصب لمحمد، ولولا محمد من كنت! أما والله لولا أني جعلت على نفسي أن لا أقتل هاشمياً لقتلتك.
قم قال للهادي: أقسمت عليك إن وليت هذا الأمر لتقتلنه! ثم حبسه، فلما مات المهدي قتله الهادي؛ وكذلك أيضاً كان عهده إليه بقتل ولد لداود بن علي بن عبد الله بن عباس كان زنديقأن فمات في الحبس قبل المهدي.
ولما قتل يعقوب أدخل أولاده على الهادي، فأقرت ابنته فاطمة أنها حبلى من أبيهأن فخوفت، فماتت من الفزع.

.ذكر ظهور الحسين بن علي بن الحسن:

وفي هذه السنة ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة، وهوالمقتول بفخ عند مكة.
وكان سبب ذلك أن الهادي استعمل على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فلما وليها أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن، ومسلم بن جندب، الشاعر الهذلي، وعمر بن سلام، مولى آل عمر، على شراب لهم، فأمر بهم، فضربوا جميعأن وجعل في أعناقهم حبال، وطيف بهم في المدينة، فجاء الحسين بن علي إلى العمري وقال له: قد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم لأن أهل العراق لا يرون به بأسأن فلم تطوف بهم؟ فأمر بهم فردوأن وحبسهم.
ثم إن الحسين بن علي، ويحيى بن عبد الله بن الحسن، كفلا الحسن بن محمد، فأخرجه العمري من الحبس، وكان قد ضمن بعض آل أبي طالب بعضأن وكانوا يعرضون، فغاب الحسن بن محمد عن العرض يومين، فأحضر الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله، وسألهما عنه، وأغلظ لهمأن فحلف له يحيى أنه لا ينام حتى يأتيه به، أويدق عليه باب داره، حتى يعلم أنه جاءه به.
فلما خرجا قال له الحسين: سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسناً؟ حلفت له بشيء لا تقدر عليه. فقال: والله لا منت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف. فقال له الحسين: إن هذا ينقض ما كان بيننا وبين أصحابنا في الميعاد.
وكانوا قد تواعدوا على ألا يظهروا بمنى وبمكة في الوسم، فقال يحيى: قد كان ذلك؛ فانطلقا وعملا في ذلك في ليلتهم، وخرجوا آخر الليل، وجاء يحيى حتى ضرب على العمري باب داره، فلم يجده، وجاؤوا فاقتحموا المسجد وقت الصبح. فلما صلى الحسين الصبح أتاه الناس، فبايعوه على كتاب الله وسنة نبيه للمرتضى من آل محمد؛ وجاء خالد البريدي في مائتين من الجند، وجاء العمري، ووزير بن إسحاق الأزرق، ومحمد بن واقد الشروي، ومعهم ناس كثير، فدنا خالد منهم، فقام إليه يحيى وإدريس ابنا عبد الله بن الحسن، فضربه يحيى على أنفه فقطعه، ودار له إدريس من خلفه، فضربه فصرعه، ثم قتلاه، فانهزم أصحابه ودخل العمري في المسودة، فحمل عليهم أصحاب الحسين، فهزمزهم من المسجد، وانتهبوا بيت المال، وكان فيه بضعة عشر ألف دينار، وقيل سبعون ألفأن وتفرق الناس وأغلق أهل المدينة أبوابهم.
فلما كان الغد اجتمع عليهم شيعة بني العباس فقاتلوهم، وفشت الجراحات في الفريقين، واقتتلوا إلى الظهر، ثم افترقوا؛ ثم إن مباركاً التركي أتى شيعة بني العباس من الغد، وكان قدم حاجأن فقاتل معهم، فاقتتلوا أشد قتال إلى منتصف النهار، ثم تفرقوأن ورجع أصحاب الحسين إلى المسجد، وواعد مبارك الناس الرواح إلى القتال؛ فلما غفلوا عنه ركب رواحله وانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فقاتلوا شيئاً من قتال إلى المغرب، ثم تفرقوا.
وقيل إن مباركاً أرسل إلى الحسين يقول له: والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير أيسر علي من أن تشوكك شوكة، أوأقطع من رأسك شعرة، ولكن لا بد من الأعذار، فتبيتني، فإلي منهزم عنك. فوجه إليه الحسن، وخرج إليه في نفر، فلما دنوا من عسكره صاحوا وكبروأن فانهزم هو وأصحابه.
وأقام الحسين وأصحابه أياماً يتجهزون، فكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يومأن ثم خرجوا لست بقين من ذي القعدة، فلما خرجوا عاد الناس إلى المسجد، فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم، فدعوا عليهم.
ولما فارق المدينة قال: يا أهل المدينة! لا خلف الله عليكم بخير. فقالوا: بل أنت لا خلف الله عليك ولا ردك علينا! وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فغسله أهل المدينة.
ولما أتى الحسين مكة أمر فنودي: أيما عبد أتانا فهوحر. فأتاه العبيد. فانتهى الخبر إلى الهادي، وكان قد حج تلك السنة رجال من أهل بيته، منهم: سليمان بن المنصور، ومحمد بن سليمان بن علي، والعباس بن محمد بن علي، وموسى وإسماعيل ابنا عيسى بن موسى، فكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بتوليته على الحرب، وكان قد سار بجماعة وسلاح من البصرة لخوف الطريق، فاجتمعوا بذي طوى، وكانوا قد احرموا بعمرة، فلما قدموا مكة طاقوا وسعوأن وحلوا من العمرة، وعسكروا بذي طوى، وأنضم إليه من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم.
ثم إنهم اقتتلوا يوم التروية، فانهزم أصحاب الحسين، وقتل منهم، وجرح، وانصرف محمد بن سليمان ومن معه إلى مكة، ولا يعلمون ما حال الحسين، فلما بلغوا ذا طوى لحقهم رجل من أهل خراسان يقول: البشرى، البشرى، هذا رأس الحسين! فأخرجه، وبجبهته ضربة طولى، وعلى قفاه ضربة أخرى، وكانوا قد نادوا الأمان، فجاء الحسن بن محمد بن عبد الله، أبوالزفت، فوقف خلف محمد بن سليمان، والعباس بن محمد، فأخذه موسى بن عيسى، وعبد الله بن العباس بن محمد، فقتلاه، فغضب محمد بن سليمان غضباً شديدأن وأخذ رؤوس القتلى، فكانت مائة رأس ونيفأن وفيها رأس الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، وأخذت أخت الحسين، فتركت عند زينب بنت سليمان؛ وغضب على موسى بن عيسى كيف قتل الحسن بن محمد، وقبض أمواله، فلم تزل بيده حتى مات؛ وغضب على مبارك التركي، وأخذ ماله، وجعله سائس الدواب، فبقي كذلك حتى مات المهدي.
وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، فأتى مصر وعلى بريدها واضح مولى صالح بن المنصور، وكان شيعياً لعلي، فحمله على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة، بمدينة وليلة، فاستجاب له من بها من البربر. فضرب الهادي عنق واضح وصلبه.
وقيل: إن الرشيد هوالذي قتله. وإن الرشيد دس إلى إدريس الشماخ اليمامي، مولى المهدي، فأتاه وأظهر أنه من شيعتهم. وعظمه، وآثره على نفسه، فمال إليه إدريس، وأنزله عنده، ثم إن إدريس شكا إليه مرضاً في أسنانه، فوصف له دواء، وجعل فيه سمأن وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر، فأخذه منه وهرب الشماخ؛ ثم استعمل إدريس الدواء، فمات منه، فولى الرشيد الشماخ بريد مصر.
ولما مات إدريس بن عبد الله خلف مكانه إبنه إدريس وأعقب بهأن وملكوهأن ونازعوا بني أمية في إمارة الأندلس، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وحملت الرؤوس إلى الهادي، فلما وضع رأس الحسين بين يدي الهادي قال: كأنكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت! إن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم، فلم يعطهم شيئاً.
وكان الحسين شجاعأن كريمأن قدم على المهدي، فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها في الناس ببغداد والكوفة، وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه إلا فرواً ليس تحته قميص.