فصل: ذكر عدة حوادث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أمر عمر بن عبد العزيز أهل طرندة بالقفول عنها إلى ملطية، وطرندة وأغلة في البلاد الرومية من ملطية بثلاث مراحل، وكان عبد الله ابن عبد الملك قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة ثلاث وثمانين، وملطية يومئذ خراب، وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثلج ويعودون إلى بلادهم، فلم يزالوا كذلك إلى أن ولي عمر فأمرهم بالعود إلى ملطية وأخلى طرندة خوفاً على المسلمين من العدو وأخرب طرندة، واستعمل على ملطية جعونة بن الحارث أحد بني عامر بن صعصعة.
وفيها كتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد كانت سيرته بلغتهم، فأسلم جيشه بن ذاهر، والملوك تسموا له بأسماء العب، وكان عمر قد استعمل على ذلك الثغر عمرو بن مسلم أخا قتيبة بن مسلم، فعزا بعض الهند، فظفر وبقي ملوك السن مسلمين على بلادهم أيام عمر ويزيد ابن عبد الملك، فلما كان أيام هشام ارتدوا عن الإسلام، وكان سببه ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي وعمرو بن قيس الكندي الصائفة.
وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الفزاري على الجزيرة عاملاً عليها.
وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو. وكان العمال من تقدم ذكرهم إلا عامل خراسان. وكان على حربها عبد الرحمن ابن نعيم، وعلى خراجها عبد الرحمن بن عبد الله آخرها.
وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم على إفريقية، واستعمل السمح بن مالك الخولاني على الأندلس، وكان قد رأى منه أمانةً وديانةً عند الوليد بن عبد الملك فاستعمله.
في هذه السنة مات أبوالطفيل عامر بن واثلة بمكة، وهو آخر من مات من الصحابة. وفيها مات شهر بن حوشب، وقيل سنة اثنتي عشرة ومائة. وفيها توفي القاسم بن مخيمرة الهمداني. وفيها توفي مسلم بن يسار الفقيه، وقيل: سنة إحدى ومائة. وفيها توف أبو أمام أسعد بن سهل بن حنيف، وكان ولد على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فسماه وكناه بجده لأمه أبي أمام أسعد بن زراه، كان قد مات قبل بدر. وفيها توفي بسر بن سعد مولى الحضرميين؛ لسر بضم الباء الموحدة، وبالسين المهملة. وعيسى بن طلح بن عبد الله التيمي. ومحمد بن جبير بن مطعم. وربيعي بن حراس الكوفي؛ جراش بكسر الحاء المهلمة، وبالراء المهملة، وقيل سنة أربع ومائة. وحنش بن عبد الله الصنعاني، كان من أصحاب علي، فلما قتل انتقل إلى مصر، وهو أول من اختط جامع سرقسطة بالأندلس؛ حنش بالحاء المهملة والنون المفتوحتين، والشين المعجمة. ثم دخلت:

.سنة إحدى ومائة:

.ذكر هر ابن المهلب:

قد ذكرنا حبس يزيد بن المهلب، فلم يزل محبوساً حتى اشتد مرض عمر بن العزيز، فعمل في الهرب، فخاف يزيد بن عبد الملك لأنه قد عذب أصهاره آل أبي عقيل، وكانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف، وهي ابنة أخي الحجاج، زوجة يزيد بن عبد الملك.
وكان سبب تعذيبهم أن سليمان بن عبد الملك لما ولي الخلافة طلب آل أبي عقيل فأخذهم وسلمهم إلى يزيد بن المهلب ليخلص أموالهم، فعذبهم وبعث ابن المهلب إلى البلقاء من أعمال دمشق، وبها خزائن الحجاج بن يوسف وعياله، فنقلهم وما معهم إليه، وكان فيمن أتي به أم الحجاج زوجة يزيد ابن عبد الملك، وقيل: بل أخت لها، فعذبها، فأتى يزيد عبد الملك إلى ابن المهلب في منزله فشفع فيها، فلم يشفعه، فقال: الذي قررتم عليها أنا أحمله، فلم يقبل منه، فقال لابن المهلب: أما والله لئن وليت من الأمر شيئاً لأقطعن منك عضوا! فقال ابن المهلب: وأنا والله لئن كان ذلك لأرمينك بمائة ألف سيف. فحمل يزيد بن عبد الملك ما كان عليها، وكان مائة ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك.
فلما اشتد مرض عمر بن عبد العزيز خاف ابن المهلب من يزيد بن عبد الملك، فأرسل إلى مواليه، فأعدوا له إبلاً وخيلاً وواعدهم مكاناً يأتيهم فيه، فأرسل إلى عامل حلب مالاً وإلى الحرس الذين يحفظونه وقال: إن أمير المؤمنين قد ثقل وليس برجاء، وإن ولي يزيد يسفك دمي.
فأخبره، فهرب إلى المكان الذي أعد أصحابه فيه، فركب الدواب وقصد البصرة، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً يقول: إني لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك، ولكني خفت أن يلي يزيد فيقتلني شر قتلة. فورد كتاب وبه رمق، فقال: الهم إن كان يري بالمسلمين سوءاً فألحقه به وهضه فقد هاضني.
ومر يزيد في طريقه بالهذيل بن زفر بن الحارث، وكان يخافه، فلم يشعر الهذيل إلا وقد دخل يزيد منزله ودعا بلبن فشربه، فاستحيا منه الهذيل وعرض عليه خيله وغيرها، فلم يأخذ منه شيئاً.
وقيل في سبب خوف ابن المهلب من يزيد بن عبد الملك ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر وفاة عمر بن عبد العزيز:

قيل: توفي عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة، وكانت شكواه عشرين يوماً، ولما مرض قيل له: لو تداويت. قال: لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربي. وكان موته بدير سمعان، وقيل: بخناصرة، ودفن بدير سمعان. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، وكان عمره تسعاً وثلاثين سنة وأشهراً، وقيل: كان عمره أربعين سنة وأشهراً، وكانت كنيته أباحفص، وكان يقال له أشبح بني أمية، وكان قد رمحته دابة من دواب أبيه فشجته وهو غلام، فدخل على أمه فضمته إليها وعذلت ألاه ولامته حيث لم يجعل معه حاضناً، فقال لها عبد العزيز: اسكتي يا أم عاصم فطوباك إن كان أشبح بني أمية.
قال ميمون بن مهران: قال عمر بن عبد العزيز: لما وضعت الوليد في حفرته تظرت فإذا وجهه أسود، فإذا مت ودفنت فاكشف عن وجهي؛ ففعلت فرأيته أحسن مما كان أيام تنعمه.
وقيل: كان ابن عمر يقول: ياليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً؟ وكانت أمر عمر بن عبد العزيز أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وعو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، ورثاه الشعراء فأكثروا، فقال كثير عزة:
أقول لما أتاني ثم مهلكه ** لا تبعدن قوام الحق والدين

قد غادروا في ضريح اللحد منجدلاً ** بدير سمعان قسطاس الموازين

ورثاه جرير والفرزدق وغيرهما.

.ذكر بعض سيرته:

قبل: لما ولي الخلافة كتب إلى يزيد بن المهلب: أما بعد فإن سليمان كان عبداً من عابد الله أنعم الله عليه عليه ثم قبضه واستخلفني، ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني الله من ذلك من ذلك وقدر لي ليس علي بهين، ولو كانت رغبتي في اخاذ أزواج أو اعتقاد أموال، لكان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بن أفضل ما بلغ بأحد من خلافة، وأنا أخاف فيما ابتليت به حساباً شديداً ومسألة غليظة إلا ما عفا الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك.
فلما قرأ الكتاب قيل له: لست من عماله لأن كلامه ليس ككلام من مضى من أهله. فدعا يزيد الناس إلى البيعة، فبايعوا.
قال مقاتل بن حيان: كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم: أما بعد فاعمل عمل من يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين.
قال طفيل بن مرداس: كتب عمر إلى سليمان بن أبي السري: أن اعمل خانات، فمن مر بك من المسلمين فاقروه يوماً وليلة وعهدوا دوابهم ومن كانت به علة فاقروه يويمين وليلتين، وإن كان منقطعاً به فأبلغه بلده. فما أتاه كتاب عمر قال له أهل سمرقند: قتيبة ظلمنا وغدر بنا فأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف فأذن لنا فليقدم منا وفد على أمير المؤمنين. فأذن لهم، فوجهوا وفداً إلى عمر، فكتب لهم إلى سليمان: إن أهل سمرقند شكروا ظلماً وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرج العرب إلى معسكرهم كما كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة. قال: فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء فيكون صلحاُ جديداً أو ظفراً عنوةً. فقال أهل الصغد: بلى نرضى بما كان ولا نحدث حرباً، وتراضوا بذلك.
قال دواد بن سليمان الحميد: كتب عمر إلى عبد الحميد: أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله وسنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك، فإنه لا قليل من الإثم، ولا تحمل خراباً على عامر ولا عامراً على خراب. انظر الخراب وخذ من ما أطاق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن أجور الضرابين ولا هدية النوروز والمهرجان ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفتوح ولا أجور البيوت، ولا درهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري فإني قد وليتك من ذلك ما ولأني الله، ولا تعجل دورني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه، وانظر من أراد من الذرية أن يحج فعجل له مائة ليحج بها، والسلام.
قال عثمان بن عبد الحميد: حدثني أبي قال: قالت فاطمة بنت عبد الملك، رحمها الله، امرأة عمر: لما مرض عمر اشتد قلقه ليلة، فسهرنا معه، فلما أصبحنا أمرت وصيفاً له يقال له مرثد ليكون عنده، فإن كانت له حاجة كنت قريباً منه، ثم نمنا، فلما انتفخ النهار استيقظت فتوجهت إليه فرأيت مرثداً خارجاً من البيت نائماً، فقلت له: ما أخرجك؟ قال: هو أخرجني، وقال لي: إني أرى شيئاً ما هو بإنس ولا جن، فخرجت فسمعته يتلو: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} القصص: 83. قالت: فدخلت فوجدته بعدما دخلت قد وجه نفسه للقبلة وهو ميت.
قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر أعوده فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لا مرأته فاطمة، وكانت أخت مسلمة: اغسلوا ثياب أمير المسلمين. فقالت: نفعل. ثم عدت فإذا القميص على حاله. فقلت: ألم آمركم أن تغسلوا قميصه؟ فقالت: والله ما له غيره. قيل: وكانت نفقته كل يوم درهمين.
قيل: وكان عبد العزيز قد بعث ابنه إلى المدينة ليتأدب بها، فكتب إلى صالح بن كيسان أن يتعاهده، فأبطأ عمر يوماً عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ فقال: كانت مرجلتي تصلح شعري، فكتب إلى أبيه بذلك، فأرسل أبوه رسولاً، فلم يزل حتى حلق شعره.
وقال محمد بن علي الباقر: إن لكل قوم نجبيبه، وإن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، وإنه يبعث يوم القيامة أمه وحده.
وقال مجاهد: أتينا عمر نعلمه، فلم نبرح حتى تعلمنا منه.
وقال ميمون: كانت العلماء عند عمر تلامذه.وقيل لعمر: ما كان بدء إنابتك؟ قال: أردت ضرب غلام لي فقال: اذكر ليلةً صبيحتها يوم القيامة. وقال عمر: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله.
وقال رياح بن عبيدة: خرج عمر بن عبد العزيز وشيخ متوكئ على يده، فلما فرغ ودخل قلت: أصلح الله الأمير، من الشيخ الذي كان متوكئاً على يدك؟ قال: أرأيته؟ قلت نعم قال: ذاك أخي الخضر أعلمني أني سألي أمر هذه الأمة وأني سأعدل فيها.
قال: وأتاه أصحاب مراكب الخلافة يطلبون علفها، فأمر بها فبيعت، وجعل أثمانها في بيت المال وقال: تكفيني بغلتي هذه. فقال: ولما رجع من جنازة سليمان بن عبد الملك رآه مولى له مغتماً فسأله، فقال: ليس أحد من أمة محمد في شرق الأرض ولا غربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه من غير طلب منه. قال: ولما ولي الخلافة قال لأمرأته وجواريه إنه قد شغل بما في عنقه عن النساء، وخيرهن بين أن يقمن عنده أو يفارقنه، فبكين واخترن المقام معه.
قال: ولما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وكانت أول خطبة خطبها ثم قال: أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن أحداً، ولا يعترض في ما لا يعنيه. فانقشع الشعراء والخطباء وثبت عنده الفقهاء والزهاد وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف قوله فعله. قال: فلما ولي الخلافة أحضر قريشاً ووجوه الناس فقال له: إن فدك كانت بيد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر كذلك، ثم أقطعها مروان، ثم إنها صارت إلي ولم تكن من مالي أعود منها علي، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ قال: فانقطعت ظهور الناس ويئسوا من الظلم.
قال: وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: إن أهلي أقطعوني ما لم يكن إلي أن آخذه ول لهم أن يعطونيه، وإني قد هممت بردة على أربابه. قال: فكيف نصنع بولدك؟ فجرت دموعه وقال: أكلهم إلى الله. قال: وجد لولده ما يجد الناس، فخرج مزاحم حتى دخل على عبد الملك بن عمر فقال ل: إن أمير المؤمنين قد عزوم على كذا وكذا، وهذا أمر يضركم وقد نهيته عنه.
فقال عبد الملك: بئس وزير الخليفة أنت! ثم قام فدخل على أبيه وقال له: إن مزاحماً أخبرني بكذا وكذا فما رأيك؟ قال: إني أريد أن أقوم به العشية. قال: عجله فما يؤمنك أن يحدث لك حدث أو يحدث بقلبك حدث؟ فرفع عمر يديه وقال: الحمد الله الذي جعل من ذريتي من يعينني على ديني! ثم قام به من ساعته في الناس وردها.
قال: لما ولي عمر الخلافة أخذ من أهله ما بأيديهم وسمى ذلك مظالم، ففزع بنو أمية إلى عمته فاطمة بنت مروان، فأتته فقالت له: تكلم أنت يا أمير المؤمنين. فقال: إن الله بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، رحمةً ولم يبعثه عذاباً إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده وترك للناس نهراً شربهم سواء، ثم ولي أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل عملهما، ثم لم يزل النهر يستقي منه يزيد ومروان وعبد الملك ابنه والوليد وسليمان ابنا عبد الملك حتى أفض الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم فلم يرو أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه. فقالت: حسبك، قد أردت كلامك فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئاً أبداً. فرجعت إليهم فأخبرتهن كلامه. وقد قيل: إنها قالت له: إن بني أمية يقولون كذا وكذا، فلما قال لها هذا الكلام قالت له: إنهم يحذرونك يوماً من أيامهم، فغضب وقال: كل يوم أخافه غير يوم القيامة فلا أمنت شره.
فرجعت إليهم فأخبرتهم وقالت: أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده. فسكتوا.
قال: وقال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، وما كان سواهم فهم منتزون.
قال: وقال الشافعي مثله، قال: وكان يكتب إلى عماله بثلاث، فهي تدور بينهم: بإحياء سنة أو إطفاء بدعة، أو قسم في مسكنة، أورد مظلمة.
قال: وكانت فاطمة بنت الحسين بن علي تثني عليه وتقول: لو كان بقي لنا عمر بن عبد العزيز ما احتجنا بعهده إلى أحد. قالت فاطمة امرأته: دخلت عليه وهو في مصلاة ودموعه تجري على لحيته فقلت: أحدث شيء؟ فقال: إني تقلدت أمر أمة محمد فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والغازي والمظلوم المقهور والغريب الأسير والشيخ الكبير وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى الله، فخشيت أن لا تثبت حجتي عند الخصومة، فرحمت نفسي فبكيت.
قيل: ولما مرض ابنه عبد الملك مرض موته، وكان من أشد أعوانه على العدل، دخل عليه عمر فقال له: يا بني كيف تجدك؟ قال: أجدني في الحق. قال: يا بني أن تكون ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك. فقال ابنه: يا أبتاه لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب. فمات في مرضه وله سبععشرة سنة.
قيل: وقالعبد الملك لأبيه عمر: يا أمير المؤمنين ما تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقاً لم تحيه وباطلاً لم تمته؟ فقال: يا بني إن أباك وأجدادك قد دعوا الناس عن الحق فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها وأدبر خيرها، ولكن أيس حسناً ألا تطلع الشمس على في يوم إلا أحييت فيه حقاً وأمت فيه باطلاً حتى يأتيني الموت فأنا على ذلك؟ وقال له أيضاً: يا أمير المؤمنين انقد لأمر الله وإن جاشت بي وبك القدور. فقال: يا بني إن بادهت الناس بما تقول أحوجوني إلى السيف ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف، فكرر ذلك.
قيل: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله نسخة واحدة: أما بعد فإن الله، عز وجل، أكرم بالإسلام أهله، وشرفهم وأعزهم، وضرب الذلة والصغار على من خالفهم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فلا تولين أمور المسلمين أحداً من أهل ذمتهم وخراجهم فتتبسط عليهم أيديهم وألسنتهم فتذلهم بعد أن أعزهم الله، وتهينهم بعد أن أكرمهم الله تعالى، وتعرضهم لكيدهم والاستطالة عليهم، ومع هذا فلا يؤمن غشهم إياهم، فإن الله، عز وجل، يقول: {لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم} آل عمران: 118، {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ} المائدة: 51؛ والسلام.
فهذا القدر كافٍ في التنبيه على فضله وعدله.
وفي هذه السنة مات محمد بن مروان في قول، وأبو صالح ذكوان.

.ذكر خلافة يزيد بن عبد الملك:

وفيها تولى يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة، وكنيته أو خالد، بعهدٍ من أخيه سليمان بعد عمر بن عبد العزيز، ولما احتضر عمر قيل له: اكتب إلى يزيد فأوصه بالأمة، قال: بماذا أوصيه؟ إنه من بني عبد الملك. ثم كتب إليه: أما بعد فاتق يايزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك وتصير إلى من لا يعذرك والسلام.
فلما ولي يزيد نزع أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن المدينة واستعمل عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري عليها، واستقضى عبد الرحمن سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وأراد معاضة ابن حزم فلم يجد عليه سبيلاً، حتى شكا عثمان بن حيان إلى يزيد بن عبد الملك من ابن حزم وأنه ضربه حدين وطلب منه أن يقيده منه، فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتاباً: أما بعد فانظر فيما ضرب ابن حزم ابن حيان، فإن كان ضربه في أمر بينٍ أو أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه.
فأرسل ابن الضحاك فأحضر ابن حزم وضربه حدين في مقام واحد ولم يسأله عن شيء.
وعمد يزيد إلى كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز مما لم يوافق هواه فرده ولم يخف شناعة عاجلة ولا إثماً عاجلاً، فمن ذلك أن محمد بن يوسف أخا الحجاج بن يوسف كان على اليمين، فجعل عليهم خراجاً مجدداً، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله يأمره بالاقتصار على العشر ونصف العشر وترك ما جدده محمد بن يوسف وقال: لأن يأتيني من اليمن حصة ذرة أحب إلي من تقرير هذه الوضيعة، فلما ولي يزيد بعد عمر أمر بردها وقال لعالمه: خذها منهم ولو صاروا حرضاً، والسلام.

.ذكر مقتل شوذب الخارجي:

قد ذكرنا خروجه ومراسلته عمر بن عبد العزيز المناظرته، فلما مات عمر أحب عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو الأمير على الكوفة، أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلى محمد بن جرير يأمره بمناجزة شوذب، واسمه بسطام، ولم يرجع رسولاً شوذب ولم يعلم بموت عمر.
فلما رأوا محمداً يستعد للحرب أرسل إليه شوذب: ما أعجلكم قبل انقضاء المدة! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع الرسولان؟ فأرسل محمد: إنه لا يسعنا ترككم على هذه الحال، فقالت الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح.
فاقتتلوا فأصيب من الخوارج نفر وقتل الكثير من أهل الكوفة وانهزموا، وجرح محمد بن جرير في استه، فدخل الكوفة وتبعهم الخوارج حتى بلغوا الكوفة ثم رجعوا إلى مكانهم.
وأقام شوذب ينتظر صاحبيه، فقدما عليه وأخبراه بموت عمر، ووجه يزيد من عند تميم بن الحباب في ألفين قد أرسلهم، وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا معه وحاربوه فقتلوه وقتلوا أصحابه، ولجأ بعضهم إلى الكوفة وبعضهم إلى يزيد. فأرسل إليهم يزيد نجدة بن الحكم الأزدي في جمع، فقتلوه وهزموا أصحابه، فوجه إليهم يزيد السحاج بن وداع في ألفين، فقتلوه وهزموا أصحابه، وقتل منهم نفر، منهم هدبه ابن عم شوذب. فقال أيوب بن خولي يرثيهم:
تركنا تميماً في الغبار ملحباً ** تبكي عليه عرسه وقرائبه

وقد أسلمت قيس تميماً ومالكاً ** كما أسلم الشحاج أمس أقاربه

وأقبل من حران يحمل رايةً ** يغالب أمر الله والله غالبه

فيا هدب للهيحا ويا هدب للندى ** ويا هدب للخصم الألد يحاربه

وياهدب كم من ملجم قد أجبته ** وقد أسلمته للرياح جوالبه

كان أبو شيبان خير مقاتل ** يرجى وخشى حربه من يحاربه

ففاز ولا قى الله في الخير كله ** وخذمه بالسيف في الله ضاربه

تزود من دنياه درعاً ومغفراً ** وعضباً حساماً لم تخنه مضاربه

وأجرد محبرك السراة كأنه ** إذا انقض وافي الريش حجن مخالبه

وأقام الخوارج بمكانهم حتى دخل مسلمة بن عبد الملك الكوفة، فشكا إليه أهل الكوفة مكان شوذب وخوفوه منه، فأرسل إليه مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي، وكان فارساً، في عشرة آلاف، فأتاه وهو بمكانه، فرأى شوذب وأصحابه ما لا قبل لهم به، فقال لأصحابه: من كان يريد الشهادة فقد جاءته، ومن كان يريد الدنيا فقد ذهبت. فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا فكشفوا سعيداً وأصحابه مراراً حتى خاف سعيد الفضيحة، فوبخ أصحابه وقال: من هذه الشرذمة لا أب لكم تفرون! يا أهل الشام يوماً كأيامكم! فحملوا عليهم فطحنوهم طحناً وقتلوا بسطاماً، وهو شوذب، وأصحابه.