فصل: ذكر ظفر الأصفر بالقرامطة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ظفر الأصفر بالقرامطة:

في هذه السنة جمع إنسان يعرف بالأصفر من بني المنتفق جمعاً كثيراً، وكان بينه وبين جمع من القرامطة وقعة شديدة قتل فيها مقدم القرامطة، وانهزم أصحابه وقتل منهم، وأسر كثير.
وسار الأصفر إلى الأحساء، فتحصن منه القرامطة، فعدل إلى القطيف فأخذ ما كان فيها من عبيدهم وأموالهم ومواشيهم وسار بها إلى البصرة.

.ذكر نكتة حسنة:

في هذه السنة أهدى الصاحب بن عباد، أول المحرم، إلى فخر الدولة ديناراً وزنه ألف مثقال، وكان على أحد جانبيه مكتوب:
وأحمر يحكي الشمس شكلاً وصورةً ** فأوصافه مشتقّةٌ من صفاته

فإن قيل دينارٌ فقد صدق اسمه، ** وإن قيل ألفٌ كان بعض سماته

بديعٌ، ولم يطبع على الدهر مثله، ** ولا ضربت أضرابه لسراته

فقد أبرزته دولةٌ فلكيّةٌ ** أقام بها الإقبال صدر قناته

وصار إلى شاهانشاه انتسابه، ** على أنّه مستصغرٌ لعفاته

يخبّر أن يبقى سنين كوزنه ** لتستبشر الدنيا بطول حياته

تأنّق فيه عبده، وابن عبده، ** وغرس أياديه، وكافي كفاته

وكان على الجانب الآخر سورة الإخلاص، ولقب الخليفة الطائع لله، ولقب فخر الدولة، واسم جرجان لأنه ضر بها. قوله: دولة فكلية يعني أن لقب فخر الدولة كان فلك الأمة. وقوله: وكافي كفاته، فإن الصاحب كان لقبه كافي الكفاة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة تتابعت الأمطار، وكثرت البروق والرعود، والبرد الكبار، وسالت منه الأودية، وامتلأت الأنهار والآبار ببلاد الجبل، وخربت المساكن، وامتلأت الأقناء طيناً وحجارةً، وانقطعت الطرق.
وفيها عصى نصر بن الحسن بن الفيرزان بالدامغان على فخر الدولة، واجتاز به أحمد بن سعيد الشبيبي الخراساني مقبلاً من الري ومعه عسكر من الديلم لمحاربته، فلما رأى الجد في أمره راسل فخر الدولة، وعاود طاعته، فأجابه إلى قبول ذلك منه وأقره على حاله؛ وفيها توفي الأمير أبو علي بن فخر الدولة في رجب.
وفيها وقع الوباء بالبصرة والبطائح من شدة الحر، فمات خلق كثير حتى امتلأت منهم الشوارع.
وفي شعبان كثرت الرياح العواصف، وجاءت وقت العصر، خامس شعبان، ريح عظيمة بفم الصلح، فهدمت قطعة من الجامع، وأهلكت جماعة من الناس، وغرقت كثيراً من السفن الكبار المملوءة، واحتملت زورقاً منحدراً فيه دواب، وعدة من السفن، وألقت الجميع على مسافة من موضعها.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب المفيد، كان محدثاً مكثراً، ومولده سنة أربع وثمانين ومائتين.
وأبو حامد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق الحاكم النيسابوري، في ربيع الأول، وهو صاحب التصانيف المشهورة. ثم دخلت:

.سنة تسع وسبعين وثلاثمائة:

.ذكر سمل صمصام الدولة:

كان نحرير الخادم يشير على شرف الدولة بقتل أخيه صمصام الدولة، وشرف الدولة يعرض عن كلامه، فلما اعتقل شرف الدولة واشتدت علته ألح عليه نحرير وقال له: الدولة معه على خطرٍ، فإن لم تقتله فاسلمه. فأرسل في ذلك محمداً الشيرازي الفراش، فمات شرف الدولة قبل أن يصل الفراش إلى صمصام الدولة، فلما وصل الفراش إلى القلعة التي بها صمصام الدولة لم يقدم على سلمه، فاستشار أبا القاسم العلاء بن الحسن الناظر هناك، فأشار بذلك، فسلمه. وكان صمصام الدولة يقول: ما أعماني إلا العلاء لأنه أمضى في حكم سلطان قد مات.

.ذكر وفاة شرف الدولة وملك بهاء الدولة:

في هذه السنة، مستهل جمادى الآخرة، توفي الملك شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة مستسقياً، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن به، وكانت إمارته بالعراق سنتين وثمانية أشهر، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة وخمسة أشهر.
ولما اشتدت علته سير ولده أبا على إلى بلاد فارس، وأصحبه الخزائن والعدد وجماعة كثيرة من الأتراك، فلما أيس أصحابه منه اجتمع إليه أعيانهم وسألوه أن يملك أحداً، فقال: أنا في شغل عما تدعونني إليه. فقالوا له ليأمر أخاه بهاء الدولة أبا نصر أن ينوب عنه إلى أن يعافى ليحفظ الناس لئلا تثور فتنة، ففعل ذلك، وتوقف بهاء الدولة ثم أجاب إليه.
فلما مات جلس بهاء الدولة في المملكة، وقعد للعزاء، وركب الطائع لله أمير المؤمنين إلى العزاء في الزبزب، فتلقاه بهاء الدولة، وقبل الأرض بين يديه، وانحدر الطائع لله إلى داره، وخلع على بهاء الدولة خلع السلطنة، وأقر بهاء الدولة أبا منصور بن صالحان على وزارته.

.ذكر مسير الأمير أبي علي بن شرف الدولة إلى فارس وما كان منه مع صمصام الدولة:

لما اشتد مرض شرف الدولة جهز ولده الأمير أبا علي وسيره إلى فارس ومعه والدته وجواريه، وسير معه من الأموال والجواهر والسلاح أكثرها. فلما بلغ البصرة أتاهم الخبر بموت شرف الدولة، فسير ما معه في البحر إلى أرجان، وسار هو مجداً إلى أن وصل إليها، واجتمع معه من بها من الأتراك، وساروا نحو شيراز، وكاتبهم متوليها وهو أبو القاسم العلاء بن الحسن بالوصول إليها ليسلمها إليهم، وكان المرتبون في القلعة التي بها صمصام الدولة وأخوه أبو طاهر قد أطلقوهما ومعهما فولاذ وساروا إلى سيراف.
واجتمع على صمصام الدولة كثير من الديلم. وسار الأمير أبو علي إلى شيراز، ووقعت الفتنة بها بين الأتراك والديلم، وخرج الأمير أبو علي من داره إلى معسكر الأتراك، فنزل معهم، واجتمع الديلم وقصدوا ليأخذوه ويسلموه إلى صمصام الدولة، فرأوه قد انتقل إلى الأتراك، فكشفوا القناع، ونابذوا الأتراك، وجرى بينهم قتال عدة أيام.
ثم سار أبو علي والأتراك إلى فسا، فاستولوا عليها وأخذوا ما بها من مال، وقتلوا من بها من الديلم، وأخذوا أموالهم وسلاحهم فقووا بذلك.
وسار أبو علي إلى أرجان، وعاد الأتراك إلى شيراز، فقاتلوا صمصام الدولة ومن معه من الديلم، ونهبوا البلد، وعادوا إلى أبي علي بأرجان، وأقاموا معه مديدةً.
ثم وصل رسول من بهاء الدولة إلى أبي علي وأدى الرسالة، وطيب قلبه ووعده، ثم إنه راسل الأتراك سراً، واستمالهم إلى نفسه، وأطعمهم، فحسنوا لأبي علي المسير إلى بهاء الدولة، فسار إليه، فلقيه بواسط منتصف جمادى الآخرة سنة ثمانين وثلاثمائة، فأنزله وأكرمه، وتركه عدة أيام، وقبض عليه، ثم قتله بعد ذلك بيسير، وتجهز بهاء الدولة للمسير إلى الأهواز لقصد بلاد فارس.

.ذكر الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم:

وفي هذه السنة أيضاً وقعت الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم، واشتد الأمر، ودام القتال بينهم خمسة أيام، وبهاء الدولة في داره يراسلهم في الصلح، فلم يسمعوا قوله، وقتل بعض رسله.
ثم إنه خرج إلى الأتراك، وحضر القتال معهم، فاشتد حينئذ الأمر، وعظم الشر، ثم إنه شرع في الصلح، ورفق بالأتراك، وراسل الديلم، فاستقر الحال بينهم، وحلف بعضهم لبعض، وكانت مدة الحرب اثني عشر يوماً.
ثم إن الديلم تفرقوا، فمضى فريق بعد فريق، وأخرج بعضهم، وقبض على البعض، فضعف أمرهم، وقويت شوكة الأتراك، واشتدت حالهم.

.ذكر مسير فخر الدولة إلى العراق وما كان منه:

وفي هذه السنة سار فخر الدولة بن ركن الدولة من الري إلى همذان، عازماً على قصد العراق والاستيلاء عليها.
وكان سبب حركته أن الصاحب بن عباد كان يحب العراق لا سيما بغداد، ويؤثر التقدم بها، ويرصد أوقات الفرصة، فلما توفي شرف الدولة علم أن الفرصة قد أمنت، فوضع على فخر الدولة من يعظم عنده ملك العراق، ويسهل أمره عليه، ولم يباشر هو ذلك خوفاً من خطر العاقبة، إلى أن قال له فخر الدولة: ما عندك في هذا الأمر؟ فأحال على أن سعادته تسهل كل صعب، وعظم البلاد؛ فتجهز وسار إلى همذان، وأتاه بدر بن حسنويه، وقصده دبيس بن عفيف الأسدي، فاستقر الأمر على أن يسير الصاحب بن عباد وبدر إلى العراق على الجادة، ويسير فخر الدولة على خوزستان. فلما سار الصاحب حذر فخر الدولة من ناحيته، وقيل له ربما استماله أولاد عضد الدولة، فاستعاده إليه، وأخذه معه إلى الأهواز فملكها، وأساء السيرة مع جندها، وضيق عليهم، ولم يبذل الماء، فخابت ظنون الناس فيه، واستشعر منه أيضاً عسكره، وقالوا: هكذا يفعل بنا إذا تمكن من إرادته، فتخاذلوا.
وكان الصاحب قد أمسك نفسه تأثراً بما قيل عنه من اتهامه، فالأمور بسكوته غير مستقيمة. فلما سمع بهاء الدولة بوصولهم إلى الأهواز سير إليهم العساكر، والتقوا هم وعساكر فخر الدولة.
فاتفق أن دجلة الأهواز زادت ذلك الوقت زيادة عظيمة وانفتحت البثوق منها، فظنها عسكر فخر الدولة مكيدة، فانهزموا، فقلق فخر الدولة من ذلك، وكان قد استبد برأيه، فعاد حينئذ إلى رأي الصاحب، فأشار ببذل المال، واستصلاح الجند، وقال له: إن الرأي في مثل هذه الأوقات إخراج المال وترك مضايقة الجند، فإن أطلقت المال ضمنت لك حصول أضعافه بعد سنة. فلم يفعل ذلك، وتفرق عنه كثير من عسكر الأهواز، واتسع الخرق عليه، وضاقت الأمور به، فعاد إلى الري، وقبض في طريقه على جماعة من القواد الرازيين، وملك أصحاب بهاء الدولة الأهواز.

.ذكر هرب القادر بالله إلى البطيحة:

في هذه السنة هرب القادر بالله من الطائع لله إلى البطيحة فاحتمى فيها.
وكان سبب ذلك أن إسحاق بن المقتدر والد القادر لما توفي جرى بين القادر وبين أخت له منازعة في ضيعة وطال الأمر بينهما. ثم إن الطائع لله مرض مرضاً أشفى منه، ثم أبل، فسعت إليه بأخيه القادر وقالت له: إنه شرع في طلب الخلافة عند مرضك؛ فتغير رأيه فيه، فأنفذ أبا الحسن بن النعمان وغيره للقبض عليه، وكان بالحريم الطاهري، فأصعدوا في الماء إليه.
وكان القادر قد رأى في منامه كأن رجلاً يقرأ عليه: {الَّذِينَ قَاَلَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمٍ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ} آل عمران: 173 فهو يحكي هذا المنام لأهله ويقول: أنا خائف من طالب يطلبني؛ ووصل أصحاب الطائع لله إليه واستدعوه، فأراد لبس ثيابه، فلم يمكنوه من مفارقتهم، فأخذه النساء منهم قهراً، وخرج عن داره واستتر، ثم سار إلى البطيحة، فنزل على مهذب الدولة، فأكرم نزله، ووسع عليه، وحفظه، وبالغ في خدمته، ولم يزل عنده إلى أن أتته الخلافة، فلما وليها جعل علامته: {حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ} آل عمران: 173.

.ذكر عود بني حمدان إلى الموصل:

في هذه السنة ملك أبو طاهر إبراهيم وأبو عبدالله الحسين ابنا ناصر الدولة ابن حمدان الموصل.
وسبب ذلك أنهما كانا في خدمة شرف الدولة ببغداد، فلما توفي وملك بهاء الدولة استأذنا في الإصعاد إلى الموصل، فأذن لهما، فأصعدا، ثم علم القواد الغلط في ذلك، فكتب بهاء الدولة إلى خواشاذه، وهو يتولى الموصل، يأمره بدفعهما عنها، فأرسل إليهما خواشاذه يأمرهما بالعود عنه، فأعادا جواباً جميلاً، وجدا في السير حتى نزلا بالدير الأعلى بظاهر الموصل.
وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك، فنهبوهم، وخرجوا إلى بني حمدان، وخرج الديلم إلى قتالهم، فهزمهم المواصلة وبنو حمدان، وقتل منهم خلق كثير، واعتصم الباقون بدار الإمارة، وعزم أهل الموصل على قتلهم والاستراحة منهم، فمنعهم بنو حمدان عن ذلك، وسيروا خواشاذه ومن معه إلى بغداد، وأقاموا بالموصل، وكثر العرب عندهم.

.ذكر خلاف كتامة على المنصور:

وفي هذه السنة خرج إنسان آخر من كتامة يقال له أبو الفرج، لا يعرف من أي موضعٍ هو، وزعم أن أباه ولد القائم العلوي، جد المعز لدين الله، فعمل أكثر مما عمله أبو الفهم، واجتمعت إليه كتامة، واتخذ البنود والطبول، وضرب السكة، وجرت بينه وبين نائب المنصور وعساكره بمدينة ميلة وسطيف حروب كثيرة ووقعات متعددة، فسار المنصور إليه في عساكره، وزحف هو إلى المنصور في عساكر كتامة، فكان بينهما حرب شديدة، فانهزم أبو الفرج وكتامة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، واختفى أبو الفرج في غارٍ في جبل، فوثب عليه غلامان كانا له فأخذاه وأتيا به المنصور، فسره ذلك وقتله شر قتلة.
وشحن المنصور بلاد كتامة بالعساكر، وبث عماله فيها، ولم يدخلها عامل قبل ذلك، فجبوا أموالها، وضيقوا على أهلها.
ورجع المنصور إلى مدينة أشير، فأتاه سعيد بن خزرون الزناتي، وكان أبوه قد تغلب على سجلماسة سنة خمس وستين وثلاثمائة، وصار في طاعة المنصور، واختص به، وعلت منزلته عنده، فقال له المنصور يوماً: يا سعيد هل تعرف أحداً أكرم مني؟ وكان قد وصله بمال كثير، فقال: نعم! أنا أكرم منك. فقال المنصور: وكيف ذلك؟ قال: لأنك جدت علي بالمال، وأنا جدت عليك بنفسي. فاستعمله المنصور على طبنة، وزوج ابنه ببعض بنات سعيد. فلامه على ذلك بعض أهله، فقال: كان أبي وجدي يستتبعانهم بالسيف، وأما أنا فمن رماني برمح رميته بكيس، حتى تكون مودتهم طبعاً واختياراً.
ورجع سعيد إلى أهله، وبقي إلى سنة إحدى وثمانين، ثم عاد إلى المنصور زائراً، فاعتل سعيد أياماً، وتوفي أول رجب. ثم قدم فلفل بن سعيد على المنصور، فأحسن إليه، وحمل إليه مالاً كثيراً، فرده إلى طبنة ولاية أبيه.

.ذكر خلاف عم المنصور عليه:

وفي هذه السنة أيضاً خالف أبو البهار عم المنصور بن يوسف بلكين، صاحب إفريقية، عليه لشيء جرى عليه من المنصور لم يحمله له لعزة نفسه، فسار المنصور إليه بتاهرت، ففارقها عمه إلى الغرب بمن معه من أهله وأصحابه، ودخل عسكر المنصور تاهرت فانتهبوها، ثم طلب أهلها الأمان فأمنهم، ثم سار في طلب عمه حتى جاوز تاهرت سبع عشرة مرحلة، ولقي العسكر شدة.
وقصد عمه زيري بن عطية، صاحب فاس، فأكرمه، وأعلى محله، وبقي جنده يغيرون على نواحي المنصور.
وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قصدوا النواحي المجاورة لفاس، فأوقعوا بأصحاب المنصور بها واستولوا عليها. ثم ندم أبو البهار، فسار إلى المنصور معتذراً مما جرى منه، فقبله المنصور، وأحسن إليه وأكرمه، وحمل إليه كل ما يحتاج إليه من مالٍ وغيره.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قبض بهاء الدولة على أبي الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي، وكان قد عظم شأنه مع شرف الدولة، واتسع جاهه، وكثرت أمواله، فلما ولي بهاء الدولة سعى به أبو الحسن المعلم إليه، وأطمعه في أمواله وملكه، وعظم ذلك عنده وقبض عليه.
وفيها أسقط بهاء الدولة ما كان يؤخذ من المراعي من سائر السواد.
وفيها ولد الأمير أبو طالب رستم بن فخر الدولة.
وفيها خرج ابن الجراح الطائي على الحجاج بين سميراء وفيد ونازلهم، فصالحوه على ثلاثمائة ألف درهم، وشيء من الثياب، فأخذها وانصرف.
وفيها بني جامع القطيعة ببغداد.
وفيها توفي محمد بن أحمد بن العباس بن أحمد بن جلاد أبو العباس السلمي النقاش، كان من متكلمي الأشعرية، وعنه أخذ أبو علي بن شاذان الكلام، وكان ثقةً في الحديث. ثم دخلت:

.سنة ثمانين وثلاثمائة:

.ذكر قتل باذ:

في هذه السنة قتل باذ الكردي، صاحب ديار بكر.
وكان سبب قتله أن أبا طاهر والحسين ابني حمدان لما ملكا الموصل طمع فيها باذ، وجمع الأكراد فأكثر، وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك، وكانوا كثيراً، ففي ذلك يقول الحسين البشنوي الشاعر لبني مروان يعتد عليهم بنجدتهم خالهم باذاً من قصيدة:
البشنويّة أنصارٌ لدولتكم، ** وليس في ذا خفاً في العجم والعرب

أنصار باذٍ بأرجيشٍ وشيعته، ** بظاهر الموصل الحدباء في العطب

بباجلايا جلونا عنه غمته ** ونحن في الروع جلاؤون للكرب

وكاتب أهل الموصل فاستمالهم، فأجابه بعضهم فسار إليهم، ونزل بالجانب الشرقي، فضعفا عنه، وراسلا أبا الذواد محمد بن المسيب، أمير بني عقيل، واستنصراه، فطلب منهما جزيرة ابن عمر، ونصيبين، وبلداً، وغير ذلك، فأجاباه إلى ما طلب، واتفقوا، وسار إليه أبو عبدالله بن حمدان وأقام أبو طاهر بالموصل يحارب باذاً.
فلما اجتمع أبو عبدالله وأبو الذواد سارا إلى بلد، وعبرا دجلة، وصارا مع باذ على أرض واحدة وهو لا يعلم، فأتاه الخبر بعبورهما وقد قارباه، فأراد الانتقال إلى الجبل لئلا يأتيه هؤلاء من خلفه وأبو طاهر من أمامه، فاختلط أصحابه، وأدركه الحمدانية، فناوشوهم القتال، وأراد باذ الانتقال من فرس إلى آخر، فسقط واندقت ترقوته، فأتاه ابن أخته أبو علي ابن مروان، وأراده على الركوب فلم يقدر، فتركوه وانصرفوا واحتموا بالجبل.
ووقع باذ بين القتلى فعرفه بعض العرب فقتله وحمل رأسه إلى بني حمدان وأخذ جائزةً سنيةً، وصلبت جثته على دار الإمارة، فثار العامة وقالوا: رجل غازٍ، ولا يحل فعل هذا به؛ وظهر منهم محبة كثيرة له، وأنزلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه.

.ذكر ابتداء دولة بني مروان:

لما قتل باذ سار ابن أخته أبو علي بن مروان في طائفة من الجيش إلى حصن كيفا، وهو على دجلة، وهو من أحصن المعاقل، وكان به امرأة باذ وأهله، فلما بلغ الحصن قال لزوجة خاله: قد أنفذني خالي إليك في مهم؛ فظنته حقاً، فلما صعد إليها أعلمها بهلاكه، وأطمعها في التزوج بها، فوافقته على ملك الحصن وغيره، ونزل وقصد حصناً حصناً، حتى ملك ما كان لخاله، وسار إلى ميافارقين؛ وسار إليه أبو طاهر وأبو عبدالله ابنا حمدان طمعاً فيه، ومعهما رأس باذ، فوجدا أبا علي قد أحكم أمره، فتصافوا واقتتلوا، وظفر أبو علي وأسر أبا عبدالله بن حمدان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم أطلقه فسار إلى أخيه أبي طاهر، وهو بآمد يحصرها، فأشار عليه بمصالحة ابن مروان، فلم يفعل، واضطر أبو عبدالله إلى موافقته، وسارا إلى ابن مروان فواقعاه، فهزمها، وأسر أبا عبدالله أيضاً فأساء إليه وضيق عليه، إلى أن كاتبه صاحب مصر وشفع فيه فأطلقه، ومضى إلى مصر وتقلد منها ولاية حلب، وأقام بتلك الديار إلى أن توفي.
وأما أبو طاهر فإنه لما وصل إلى نصيبين قصده أبو الذواد فأسره وعلياً ابنه والمزعفر أمير بني نمير، وقتلهم صبراً.
وأقام ابن مروان بديار بكر وضبطها، وأحسن إلى أهلها، وألان جانبه لهم، فطمع فيه أهل ميافارقين، فاستطالوا على أصحابه، فأمسك عنهم إلى يوم العيد، وقد خرجوا إلى المصلى، فلما تكاملوا في الصحراء وافى إلى البلد، وأخذ أبا الصقر شيخ البلد فألقاه من على السور، وقبض على من كان معه، وأخذ الأكراد ثياب الناس خارج البلد، وأغلق أبواب البلد، وأمر أهله أن ينصرفوا حيث شاءوا، ولم يمكنهم من الدخول فذهبوا كل مذهب.
وكان قد تزوج ست الناس بنت سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فأتته من حلب، فعزم على زفافها بآمد، فخاف شيخ البلد، واسمه عبد البر، أن يفعل بهم مثل فعله بأهل ميافارقين، فأحضر ثقاته وحلفهم على كتمان سره، وقال لهم: قد صح عزم الأمير على أن يفعل بكم مثل فعله بأهل ميافارقين، وهو يدخل من باب الماء ويخرج من باب الجهاد، فقفوا له في الدركاه، وانثروا عليه هذه الدراهم، ثم اعتمدوا بها وجهه، فإنه سيغطيه بكمه، فاضربوه بالسكاكين في مقتله؛ ففعلوا.
وجرت الحال كما وصف، وتولى قتله إنسان يقال له ابن دمنة كان فيه إقدام وجرأة، فاختبط الناس وماجوا، فرمى برأسه إليهم فأسرعوا السير إلى ميافارقين.
وحدث جماعة من الأكراد نفوسهم بملك البلد، فاستراب بهم مستحفظ ميافارقين لإسراعهم، وقال: إن كان الأمير حياً فادخلوا معه، وإن كان قتل فأخوه مستحق لموضعه فما كان بأسرع من أن وصل ممهد الدولة أبو منصور بن مروان أخو أبي علي إلى ميافارقين، ففتح له باب البلد فدخله وملكه، ولم يكن له فيه إلا السكة والخطبة لما نذكره.
وأما عبد البر فاستولى على آمد، وزوج ابن دمنة، الذي قتل أبا علي ابنته فعمل له ابن دمنة دعوة وقتله، وملك آمداً، وعمر البلد، وبنى لنفسه قصراً عند السور، وأصلح أمره مع ممهد الدولة، وهادى ملك الروم، وصاحب مصر، وغيرهما من الملوك وانتشر ذكره.
وأما ممهد الدولة فإنه كان معه إنسان من أصحابه يسمى شروة، حاكماً في مملكته، وكان لشروة غلام قد ولاه الشرطة، وكان ممهد الدولة يبغضه، ويريد قتله، ويتركه احتراماً لصاحبه، ففطن الغلام لذلك، فأفسد ما بينهما، فعمل شروة طعاماً بقلعة الهتاخ، وهي إقطاعه، ودعا إليها ممهد الدولة، فلما حضر عنده قتله، وذلك سنة اثنتين وأربعمائة، وخرج من الدار إلى بني عم ممهد الدولة، فقبض عليهم وقيدهم، وأظهر أن ممهد الدولة أمره بذلك، ومضى إلى ميافارقين وبين يديه المشاعل، ففتحوا له ظناً منهم أنه ممهد الدولة، فملكها، وكتب إلى أصحاب القلاع يستدعيهم، وأنفذ إنساناً إلى أرزن ليحضر متوليها، ويعرف بخواجه أبي القاسم، فسار خواجه نحو ميافارقين، ولم يسلم القلعة إلى القاصد إليه.
فلما توسط الطريق سمع بقتل ممهد الدولة، فعاد إلى أرزن، وأرسل إلى أسعرد، فأحضر أبا نصر بن مروان أخا ممهد الدولة، وكان أخوه قد أبعده عنه، وكان يبغضه لمنام رآه، وهو أنه رأى كأن الشمس سقطت في حجره، فنازعه أبو نصر عليها وأخذها، فأبعده لهذا، وتركه بأسعرد مضيقاً عليه، فلما استدعاه خواجه قال له دبير: تفلح؟ قال: نعم.
وكان شروة قد أنفذ إلى أبي نصر، فوجدوه قد سار إلى ارزن، فعلم حينئذ انتقاض أمره. وكان مروان والد ممهد الدولة قد أضر، وهو بأرزن، عند قبر ابنه أبي علي، هو وزوجته، فأحضر خواجه أبا نصر عندهما، وحلفه على القبول منه، والعدل، وأحضر القاضي والشهود على اليمين وملكه أرزن، ثم ملك سائر بلاد ديار بكر، فدامت أيامه، وأحسن السيرة، وكان مقصداً للعلماء من سائر الآفاق، وكثروا ببلاده.
وممن قصده أبو عبدالله الكازروني، وعنه انتشر مذهب الشافعي بديار بكر، وقصده الشعراء وأكثروا مدحه وأجزل جوائزهم، وبقي كذلك من سنة اثنتين وأربعمائة إلى سنة ثلاث وخمسين، فتوفي فيها، وكان عمره نيفاً وثمانين سنة، وكانت الثغور معه آمنة، وسيرته في رعيته أحسن سيرةٍ، فلما مات ملك بلاده ولده.