فصل: ذكر مقتل الكرماني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مقتل الكرماني:

قد ذكرنا مقتل الحارث بن سريج وأن الكرماني قتله؛ ولما قتله خلصت له مرو وتنحى نصر عنها، فأرسل نصر إليه سالم بن أحوز في رابطته وفرسانه، فوجد يحيى بن نعيم الشيباني واقفاً في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثنى في سبعمائة من فرسان الأزد، وابن الحسن بن الشيخ في ألف من فتيانهم، والجرمي السعدي في ألف من أبناء اليمن. فقال سالم لمحمد بن المثنى: يا محمد قل لهذا الملاح ليخرج إلينا؛ يعني الكرماني. فقال محمد: يا ابن الفاعلة لأبي علي تقول هذا! واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم سالم بن أحوز وقتل من أصحابه زيادة على مائة، ومن أصحاب الكرماني زيادة على عشرين.
فلما قدم أصحاب نصر عليه منهزمين قال له عصمة بن عبد الله الأسدي: يا نصر شأمت العرب! فأما إذ فعلت فشمر عن ساق. فوجه عصمة في جمع، فوقف موقف سالم فنادى يا محمد بن المثنى! لتعلمن أن السمك لا يأكل اللخم واللخم دابة من دواب الماء تشبه السبع يأكل السمك فقال له محمد: يا بن الفاعلة قف لنا إذاً! وأمر محمد السعدي، فخرج إليه في أهل اليمن فاقتلوا قتالاً شديداً، وانهزم عصمة حتى أنى نصراً وقد قتل من أصحابه أربعمائة.
ثم أرسل نصر مالك بن عمرو التميمي في اصحابه، فنادى: يابن المثنى ابز إلي! فبرز إليه، فضربه مالك على حبل عاتقه فلم يصنع شيئاً، وضربه محمد بعمود فشدخ رأسه، والتحم القتال فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم أصحاب نصر وقد قتل منهم سبعمائة، ومن أصحاب الكرماني ثلاثمائة، ولم يزل الشر بينهم حتى خرجوا إلى الخندقين فاقتتلوا قتالاً شديداً.
فلما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه وأنه لا مدد لهم جعل يكتب إلى سيبان ثم يقول للرسول: اجعل طريقك على مضر فإنهم سأخذون كتبك، فكانوا يأخذونها فيقرأون فيها: إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم فلا تثقن بهم ولا تطئن إليهم، فإني أرجو أن يريك الله في اليمانية ما تحب، ولئن بقيت لا أدع لها شرعاً ولا ظفراً. ويرسل رسولاً آخر بكتاب فيه ذكر مضر بمثل ذلك ويأمر الرسول أن يجعل طريقه على اليمانية، حتى صار هوى الفريقي معه، ثم جعل يكتب إلى نصر ابن سيار وإلى الكرماني: إن الإمام أوصاني بكم ولست أعدو رأيه فيكم. وكتب إلى الكور بإظهار الأمر؛ فكان أول من سود أسد بن عبد الله الخزاعي بنسا، ومقاتل بن حكيم، وابن غزوان، ونادوا: يا محمد! يا منصور! وسود أهل أبيورد وأهل مرو الزوذ وقرى مرو.
وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق الكرماني وخندق نصر، وهابه الفريقان، وبعث إلى الكرماني: إني معك. فقبل ذلك الكرماني، فانضم أبو مسلم إليه، فاشتد ذلك على نصر بن سيار، فأرسل إلى الكرماني، ويحك لا تغتر! فوالله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه، فادخل مرو ونكتب كتاباً بيننا بالصلح. وهو يريد أن يفرق بين وين أبي مسلم. فدخل الكرماني منزله، واقام أبو مسلم في العسكر، وخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب. فأبصر نصر منه غرة، فوجه إليه ابن الحارث بن سريج في نحو من ثلاثمائة فارس في الرحبة، فالتقوا بها طويلاً ثم إن لكرماني طعن في خاصرته فخر عن دابته وحماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به، فقتل نصر ابن سيار الكرماني وصلبه وصلب معه سمكة.
وأقبل ابنه علي وقد جمع جمعاً كثير، فصار إلى أبي مسلم واستصحبه معه فقاتلوا نصر بن سيار حتى أخرجوه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو وأقبل أبو مسلم حتى دخل مرو، وأتاه علي بن الكرماني وأعلمه أنه مع وسلم عليه بالإمرة وقال له: مرني بأمرك بإني مساعدك على ماتريد. فقال: أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري. ولما نزل أبو مسلم بين خندق الكرماني ونصر ورأى نصر قوته كتب إلى مروان بن محمد يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه، فإنه يدعوا إلى إبراهيم بن محمد،وكتب بأبيات، شعر:
أرى بين الرماد وميض نارٍ ** وأخشى أن يكون له ضرام

فإن الناس بالعودين تذكى ** وإن الحرب مبدأها كلام

فقلت من التعجب ليت شعري ** أأقاظ أمية أم نيام

نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده. فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده، وكتب له بأبيات، شعر:
أبلغ يزيد وخير القول صدقه ** وقد تيقنت أن لا خير في الكذب

أن خراسان أرض قد رأيت بها ** بيضاً لو أفرج قد حدثت بالعجب

فراخ عامين إلا أنها كبرت ** لما يطرن وقد سربلن بالزغب

ألا تدارك بخيل الله معلمةً ** الهبن نيران حربٍ إيما لهب

فقال يزيد: لا تكثر فليس له عندي رجل.
فلما قرأ مروان كتاب نصر تصادف وصول كتابه وصول رسول لأبي مسلم إلى إبراهيم، وقد عاد من عند إبراهيم ومعه جواب أبي مسلم يلعنه إبراهيم ويسبه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ أمكناه، ويأمر أن لا يدع بخراسان متكلماً بالعربية إلا قتله. فلما قرأ الكتاب كتب إلى عامله بالبلقاء ليسير إلى الحميمة وليأخذ إبراهيم بن محمد فيشده وثاقاً ويبعث به إلى، ففعل ذلك، فأخذه مروان وحبسه.

.ذكر تعاقد أهل خراسان على أبي مسلم:

وفي هذه السنة تعاقدت عامة قبائل العرب بخراسان على قتال أبي مسلم وفيها تحول أبو مسلم من معسكره بسفيذنج إلى الماخوان.
وكان سبب ذلك أن أبا مسلم لما ظهر أمره سارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه ولا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم، وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم لأنه دعا إلى خلع مروان، وأبو مسلم في خباء ليس له حرس ولا حجاب، وعظم أمره عند الناس وقالوا: ظهر رجل من بني هشام له حلم ووقار وسكينة. فانطلق فتية من أهل مرو نساك يطلبون الفقه إلى أبي مسلم فسألوه عن نسبه، فقال: خيري حخير لكم من نسبي؛ وسألوه أشياء من الفقه فقال: أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا، ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم فاعفونا.
فقالوا: ما نعرف لك نسباً ولا نظنك تبقى إلا قليلاً حتى تقتل، وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرع أحد هذين الأميرين. فقال أبو مسلم: أنا أقتلهما إن شاء الله. فأتوا نصراً فأخبروه، فقال: جزاكم الله خيراً، مثلكم من يفتقد هذا ويعرفه. وأتوا شيبان فأعلمه فأرسل إليه نصر: إنا قد أشجى بعضنا بعضاً، فأكفف عني حتى أقاتله، وإن شئت فجامعني إلى حربه حتى أقتله أو انفيه ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه. فهم شيبان أن يفعل ذلك، فأتى الخبر أبا مسلم، فكتب إلى علي بن الكرماني: إنك موتور قتل أبوك، ونحن تعلم أنك لست على راي شيبان، وإنما تقتل لثأرك. فامتنع شيبان من صلح نصر. فدخل على شيبان فثناه عن رأيه، فأرسل نصر إلى شيبان: إنك لمغرور، والله ليفاقمن هذا الأمر حتى يستصغرني في جنبه كل كبير؛ وقال شعراً يخاطب به ربيعة واليمن ويحثهم على الاتفاق معه على حرب أبي مسلم:
أبلغ ربيعة في مروٍ وفي يمنٍ ** أن اغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب

ما بالكم تنشبون الحرب بينكم ** كأن أهل الحجى عن رأيكم غيب

وتتركون عدواً قد أحاط بكم ** ممن تأشب لا دين ولا حسب

لا عرب مثلكم في الناس نعرفهم ** ولا صريح موالٍ إن هم نسبوا

من كان يسألني عن أصل دينهم ** فإن دينهم أن تهلك العرب

قوم يقولون قولا ما سمعت به ** عن النبي ولا جاءت به الكتب

فبينا هم كذلك إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة وعليها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي، فطرده عنها، فقدم على نصر منهزماً وغلب النضر على هراة.
فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني لابن الكرماني وشيبان: اختاروا إما أنكم تهلكون أنتم قبل مضر أو مضر قبلكم. قالوا: وكيف ذلك؟ قال: إن هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شه وقد صار في عسكره مثل عسكركم. قالوا: فما الرأي؟ قال: صالحوا نصراً، فإنكم إن صالحتموه قاتلوا نصراً وتركوكم لأن الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصراً صالحوه وقاتوكم، فقدموا مضر قبلكم ولو سعة من نهار فتقر أعينكم بقتلهم.
فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة، فأجابه وأرسل سالم بن أحوز بكتاب الموادعة، فأتى شيبان وعنده ابن الكرماني: يا أعور! ما أخلقك أن تكون الأعور الذي يكون هلاك مضر على يده! ثم توادعوا سنة وكتبوا كتاباً.
فبلغ ذلك أبا مسلم فكتب إلى شيبان: إنا نوادعك أشهراً فوادعنا ثلاثة أشهر. فقال ابن الكرماني: إني ما صالحت نصراً إنما صالحه شيبان، وأنا لذلك كاره، وأنا موتور بقتله أبي ولا أدع قتاله. فعاود القتال، ولم تعنه شيبان وقال: لا يحل الغدر.
فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره، فأقبل حتى نزل الماخوان، وكان مقامه بسفيذنج اثنين وأربعين يوماً، ولما نزل الماخوان حفر بها خندقاً وجعل للخندق بابين فعسكر به، واستعمل على الشرط أبا نصر مالك بن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل ابن مظفر أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بن صبيح، وعلى القضاء قاسم ابن مجاشع النقيب، وكان القاسم يصلي بأبي مسلم فيقص القصص بعد العصر فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أمية.
ولما نزل أبو مسلم الماخوان أرسل إلى ابن الكرماني: إني معك على نصر. فقال ابن الكرماني: إني أحب أن يلقاني أبو مسلم. فأتاه أبو مسلم فأقام غنده يومين ثم رجع إلى الماخوان، وذلك لخمس خلون من المحرم سنة ثلاثين ومائة.
وكان أول عامل استعمله أبو مسلم على شيء من العمل داود بن كرار، فرد أبو مسلم العبيد عنه واحتفر لهم خندقاً في قرية شوال وولى الخندق داود بن كرار، فلما اجتمعت للعبيد جماعة وجههم إلى موسى بن كعب بأبيورد.
وأمر أبو مسلم كامل بن مظفر أن يعرض الجند ويكتب أسمائهم وأسماء آبائهم ونسبتهم إلى القرى، ويجعل ذلك في دفتر، فبلغت عدتهم سبعة آلاف رجل، ثم إن القبائل من ربيعة ومضر واليمن توادعوا على وضع الحرب وأن تجتمع كلمتهم على محربة أبي مسلم. وبلغ أبا مسلم الخبر معظم عليه وناظر فإذا الماخوان سافلة الماء، فتخوف أن يقطع نصر عنه الماء فتحول إلى آلين، وكان مقامه بالماخوان أربعة أشهر، فنزل آلين وخندق بها.
وعسكر نصر بن سيار على نهر عياض، وجعل عاصم بن عمرو ببلاش جرد، وأبا الذيال بطوسان، فأنزل أبو الذيال جنده على أهلها، وكان عامة أهلها مع أبي مسلم في الخندق، فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وسير إليهم أبو مسلم جنداً، فلقوا أبا الذيال فهزموه وأسروا من أصحابه نحواً من ثلاثين رجلاً، فكساهم أبو مسلم وداوى جراحهم وأطلقهم.
ولما استقر بأبي مسلم معسكره بآلين أمر محرز بن إبراهيم أن يسير في جماعة ويخندق بجيرنج ويجتمع عنده جمع من الشيعة ليقطع مادة نصر من مرو الروذ وبلخ وطخارستان، ففعل ذلك، واجتمع عنده نحو من ألف رجل، فقطع المادة عن نصر.

.ذكر غلبة عبد الله بن معاوية على فارس وقتله:

وفي هذه السنة غلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعقر على فارس وكورها، وقد تقدم ذكر ظهوره بالكوفة وانهزامه وخروجه من الكوفة نحو المدائن.
فلما وصل إليها أتاه ناس من أهل الكوفة وغيرها، فسار إلى الجبال وغلب عليها وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة وأقام بأصبهان.
وكان محرب بن موسى مولى بني يشكرعظيم القدر بفارس، فجاء إلى دار الإمارة بإصطخر فطرد عامل بن عمر عنها وبايع الناس لعبد الله بن معاوية،وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليها، وانضم إلى محارب قواد من أهل الشام، فسار إلى مسلم بن المسيب، وهو عامل ابن عمر بشيراز، فقتله في سنة ثمان وعشرين، ثم خرج محارب إلى اصبهان إلى عبد الله بن معاوية فحوله إلى اصطخر، فأقام بها، وأتاه الناس بنو هاشم وغيرهم، وجبا المال وبعث العمال، وكان معه منصور بن جمهوروسليمان بن هشام بن عبد الملك، وأتاه شيبان بن عبد العزيز الخارجي، على ما تقدم، وأتاه أبو جعفر المنصور، وأتاه عبد الله وعيسى ابنا علي بن عبد الله بن عباس.
ولما قدم ابن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن حنظلة الكلابي إلى عبد الله ابن معاوية، وبلغ سليمان ابن حبيب أن ابن هبيرة استعمل نبلتة على الأهواز فسرح داود بن حاتم، فأقام بكرخ دينار يمنع نباتة من الأهواز، فقاتله فقتل داود وهرب سليمان من الأهواز إلى سابور، وفيها الأكراد قد غلبوا عليها، فقاتلهم سليمان وطردهم عن سابور وكتب إلى ابن معاوية بالبيعة.
ثم إن محارب بن موسى اليشكري نافر ابن معاوية وفارقه وجمع جمعاً فأتى سابور فقاتله يزيد بن معاوية أخو عبد الله، فانهزم محارب وأتى كرمان فأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث فصار معه، ثم نافره فقتله ابن الأشعث وأربعة وعشرين ابناً له، ولم يزل عبد الله بن معاوية باصطخرحتى أتاه ابن ضبارة مع داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة، وسير ابن هبيرة أيضاً معن بن زائدة من وجه آخر، فقاتلهم معن عند مرو شاذان؛ ومعن يقول:
ليس أمير القوم بالخب الخدع ** فر من الموت وفي الموت وقع

وانهزم ابن معاوية فكف معن عنهم، وقتل في المعركة رجل من آل أبي لهب، وكان يقال: يقتل رجل من بني هاشم بمرو الشاذان، وأسروا أسرى كثيرة، فقتل ابن ضبارة منهم عدة كثيرة، وهرب منصور بن جمهور إلى السند، وعبد الرحمن بن يزيد إلى عمان، وعمرو بن سهل بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر،وبعث ببقية الأسرى إلى ابن هبيرة فأطلقهم، ومضى ابن معاوية إلى خراسان. فسار معن بن زائدة يطلب منصور بن جمهور فلم يدركه، فرجع.
وكان ابن معاوية من الخوارج وغيرهم خلق كثير، فأسر منهم أربعون ألفاً، فيهم: عبد الله بن علب بن عبد الله بن عباس، فسبه ابن ضبارة وقال له: ما جاء بك إلى ابن معاوية وقد عرفت خلافة لأمير المؤمنين؟ فقال: كان علي دين فأتيته. فسفع فيه حرب بن قطن الهلالي وقال: هو ابن أختنا، فوهبه له.
فعاب عبد الله بن معاوية ورمى أصحابه باللواط، فسبره ابن ضبارة إلى ابن هبيرة ليخبره أخبار ابن معاوية، وسار في طلب عبد الله بن معاوية إلى شيراز فحصره، فخرج عبد الله بن معاوية منها هارباً ومعه أخواه الحسن ويزيد ابنا معاوية وجماعة من أصحابه، وسلك المفازة على كومان، وقصد خراسان طمعاً في أبي مسلم لأنه يدعو إلى الرضاء من آل محمد وقد استولى على خراسان، فوصل إلى نواحي هراة وعليها أبو نصر مالك بن الهيثم الخزاعي، فأرسل إلى ابن معاوية يسأله عن قدومه، فقال: بلغني أنكم تدعون إلى الرضاء من آل محمد فأتيتكم. فأرسل إليه مالك: انتسب نعرفك. فانتسب له، فقال: أما عبد الله وجعفر فمن أسماء آل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأما معاوية فلا نعرفة في أسمائهم، فقال: إن جدي كان عند معاوية لما ولد له أبي، فطلب إليه أن يسمي إبنه باسمه ففعل، فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم. فأرسل إليه مالك: لقد اشتريتم الإسم الخبيث بالثمن اليسير ولا نرى لك حقاً فيما تدعو إليه. ثم أرسل إلى أبي مسلم يعرفه خبره، فأمره بالقبض عليه وعلى من معه، فقبض عليهم وحبسهم، ثم ورد عليه كتاب أبي مسلم يأمره بإطلاق الحسن ويزيد ابني معاوية وقتل هبد الله بن معاوية، فأمر من وضع فراشاً على وجهه فمات، فأخرج فصلي عليه ودفن؛ وفبره بهراة معروف يزار، رحمه الله.

.ذكر أبي حمزة الخارجي وطالب الحق:

وفي هذه السنة قدم أبو حمزة وبلج بن عقبة الأزدي الخارجي من الحج من فبل عبد الله بن يحيى الحضرمي طالب الحق محكماً للخلاف على مروان بن محمد، فبينما الناس بعرفة ما شعروا إلا وقد طلعت عليهم أعلام وعمائم سود على رؤوس الرماح وهم سبعمائة، ففزع الناس حين رأوهم وسألوهم عن حالهم، فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان. فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ على مكة والمدينة، وطلب منهم هدنة، فقالوا: نحن بحجنا أضن وعليه أشح. فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتى ينفر الناس النفر الأخير، فوقفوا بعرفة على حدة.
فدفع بالناس عبد الواحد فنزل بمنى في منزل السلطان، ونزل أبو حمزة بقرن الثعالب. فأرسل عبد الواحد إلى أبي حمزة الخارجي عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبيد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن في رجال أمثالهم، فدخلوا على أبي حمزة وعليه إزار قطن غليظ، فتقدمهم إليه عبد الله بن الحسن ومحمد بن عبد الله فنسبهما فانتسبا إليه، فعبس في وجههما وأظهر الكراهة لهما ثم سأل عبد الرحمن بن القاسم وعبيد الله بن عمر فانتسبا له، فهش إليهما وتبسم في وجوههما وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما. فقال له عبد الله بن الحسن: والله ما خرجنا لتفضل بين آبائنا، ولكن بعثنا إليك الأمير برسالة، وهذا ربيعة يخبركما.
فلما ذكر له ربيعة نقض العهد قال أبو حمزة: معاذ الله أن ننقض العهد أو نخيس به، لا والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه ولكن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم. فرجعوا إلى عبد الواحد فأبلغوه. فلما كان النفر الأول نفر عبد الواحد فيه ووخلى مكة، فدخلها أبو حمزة بغير قتال؛ فقال بعضهم في عبد الواحد:
زار الحجيج عصابة قد خالفوا ** دين الإله ففر عبد الواحد

ترك الحلائل والإمارة هارباً ** ومضى يخبط كالبعير الشارد

ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة فضرب على أهلها البعث وزادهم في العطاء عشرة عشرة، واستعمل عليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فخرجوا، فلما كانوا بالحرة تلقتهم جزر منحورة فمضوا.

.ذكر ولاية يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلس:

وفي هذه السنة توفي ثوابة بن سلامة أمير الأندلس، وكانت ولايته سنتين وشهوراً، فلما توفي اختلف الناس، فالمضرية أرادت أن يكون الأمير منهم، واليمانية أرادت كذلك أن يكون الأمير منهم، فبقوا بغير أمير، فخاف الصميل الفتنة فأشار بأن يكون الوالي من قريش، فرضوا كلهم بذلك، فاختار لهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكان يومئذ بإلبيرة، فكتبوا إليه بما اجتمع عليه الناس من تأميره، فامتنع. فقالوا له: إن لم تفعل وقعت الفتنة ويكون إثم ذلك عليك. فأجاب حينئذ وسار إلى قرطبة فدخلها وأطاعه الناس.
فلما انتهى إلى أبي الخطار موت ثوابة وولاية يوسف فقال: إنما أراد الصميل أن يصير الأمر إلى مضر؛ وسعى في الناس حتى ثارت الفتنة بين اليمن ومضر.
فلما رأى يوسف ذلك فارق قصر الإمارة بقرطبة وعاد إلى منزله، وسال أبو الخطار إلى شقندة، فاجتمعت إليه اليمانية، واجتمعت المضرية إلى الصميل وتزاحفوا واقتتلوا أياماً كثيرة قتالاً لم يكن بالأتدلس أعظم منه، ثم أجلت الحرب عن هزيمة اليمانية، ومضى أبو الخطار منهزماً فاستتر في رحى كانت للصميل، فدل عليه، فأخذه الصميل وقتله، ورجع يوسف بن عبد الرحمن إاى القصر، وازجاد الصميل شرفاً، وكان اسم الإمارة ليوسفوالحكم إلى الصميل.
ثم خرج على يوسف بن عبد الرحمن ابن علقمة اللخمي بمدينة أربونة، فلم يلبث إلا قليلاً حتى قتل وحمل رأسه إلى يوسف.
وخرج عليه عذره المعروف بالذمي؛ فإنما قيل له ذلك لأنه استعان بأهل الذمة؛ فوجه إليه بوسف عامر بن عمرو، وهو الذي تنسب إليه مفبرة عامر من أبواب قرطبة، فلم يظفر به وعاد مفلولاً، فسار إليه يوسف بن عبد الرحمن فقاتله فقتله واستباح عسكره.
وقد وردت هذه الحادثة من حهة أخرى وفيها بعض الخلاف، وسنذكرهاسنة تسع وثلاثين ومائة عند دخول عبد الرحمن الأموي الأندلس.

.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس عبد الواحد، وهو كان العامل على مكة والمدينة والطائف. وكان على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي، وعلى البصرة عباد بن منصور، وكان على خراسان نصر بن سيار والفتنة بها.
وفيها مات سالم أبو نصر. وفيها مات يحيى بن يعمر العدوي بخراسان، وكان قد تعلم النحو من أبي الأسود الدؤلي، وكان من فصحاء التابعين. وفيها مات أبو الزناد بن عبد الله بن ذكوان. وفيها مات وهب بن كيسان. ويحيى بن أبي كثير اليمامي أبو نصر. وسعيد بن أبي صالح. وأبي اسحاق الشيباني. والحارث بن عبد الرحمن. ورقبة بن مصقلة الكوفي. ومنصور بن زادان مولى عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، وشهد جنازته المسلمون واليهود والنصارى والمجوش لإتفاقهم على صلاحه، وقيل: مات سنة إحدى وثلاثين. ثم دخلت:

.سنة ثلاثين ومائة:

.ذكر دخول أبي مسلم مرو والبيعة بها:

وفي هذه السنة دخل أبو مسلم مرو في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى.
وكان السبب في ذلك في اتفاق ابن الكرماني معه. إن ابن الكرماني ومن معه وسائر القبائل بخراسان لما عاقدوا نصراً على أبي مسلم غظم عليه وجمع أصحابه لحربهم، فكان سليمان بن كثير بإزاء ابن الكرماني، فقال له سليمان: إن أبا مسلم يقول لك: أما تأنف من مصالحة نصر وقد قتل بالأمس أباك وصلبه؟ وما كنت أحسبك تجامع نصراً في مسجد تصليان فيه! فأحفظه هذا الكلام، فرجع عن رأيه وانتقض صلح العرب.
فلما انتقض صلحهم بعث نصر إلى أبي مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعث أصحاب ابن الكرماني،وهم ربيعة واليمن، إلى أبي مسلم بمثل ذلك،فراسلوه بذلك أياماً، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما، ففعلوا، وأمر أبو مسلم الشيعة أن تختار ربيعة واليمن، فإن الشيطان في مضر، وهم أصحاب مروان وعماله وقتلة يحيى بن زيد.
فقدم الوفدان، فجلس أبو مسلم ولأجلسهم وجمع عنده من الشيعة سبعين رجلاً فقال لهم ليختاروا أحد الفريقين. فقام سليمان بن كثير من الشيعة فتكلم، وكان خطيباً مفوهاً، فاختارابن الكرماني وأصحابه، ثم قام أبو منصور طلحة ابن زريق النقيب فاختارهم أيضاً، ثم قام مرثد بن شقيق السلمي فقال: إن مضر قتلة آل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأعوان بني أمية وشيعة مروان الجعدي وعماله ودماؤنا في أعناقهم وأموالنا في أيديهم، ونصر بن سيار عامل مروان يتعد أموره ويدعو له على منبره ويسميه أمير المؤمنين، ونحن نبرأ إلى الله، عز وجل، من أن يكون نصر على هدىً، وقد اخترنا علي بن الكرماني وأصحابه. فقالالسبعون: القول ما مرثد بن شفيق. فنهض وفد وقد نصر عليهم الكآبة والذلة، ورجع وفد ابن الكرماني منصورين. ورجع أبو مسلم من آلين إلى الماخوان وأمر الشيعة أن يبنوا المساكن فقد أغناهم الله من اجتماع كلمة العرب عليهم.
ثم أرسل إلى أبي مسلم علي بن الكرماني ليدخل مدينة مرو من ناحيته وليدخل هو وعشيرته من الناحية الأخرى، فأرسل إليه أبو مسلم: إني لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر على محاربتي، ولكن ادخل أنت وأنشب الحرب مع أصحاب نصر.
فدخل ابن الكرماني فأنشب الحرب، وبعث أبو مسلم شبل بن طهمان النقيب في خيل فدخلوها، ونزل شبل بقصر بخاراخذاه، وبعث إلى أبي مسلم ليدخل إليهم، فسار من الماخوان وعلى مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعي، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم الخزاعي، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع التميمي. فدخل مرو والفريقان يقتتلان، فأمرهما بالكف وهو يتلو من كتاب الله عز وجل: {ودخل المدينة على حين غفلةٍ من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه} القصص: 15 الآية. ومضى أبو مسلم إلى قصر الإمارة، وأرسل إلى الفريقين أن كفوا ولينصرف كل فريق إلى عسكره، ففعلوا وصفت مرو لأبي مسلم، فأمر بأخذ البيعة من الجند، وكان الذي يأخذها أبو منصور طلحة بن رزيق، وكان أحد النقباء عالماً بحجج الهاشمية ومعايب الأموية. وكان النقباء اثنني عشر رجلاً اختارهم محمد بن علي من السبعين الذين كانوا استجابوا له حين بعث رسوله إى خراسان سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة، ووصف له من العدل صفة، وكان منهم من خزاعة: سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وزياد بن صالح، وطلحة بن زريق، وعمرو بن أعين؛ ومن طيء: قحطبة بن شبيب بن خالد ابن معدان؛ ومن تميم: موسى بن كعب أبو عيينة، ولاهز بن قريط، والقاسم ابن مجاشع،وأسلم بن سلام؛ ومن بكر بن وائل: أبو داود بن إبراهيم الشيباني، وأبو علي الهروي، ويقال شبل بن طهمان مكان عمرو بن أعين، وعيسى بن كعب، وأبو النجم إسماعيل بن عمران مكان أبي علي الهروي، وهو ختن أبي مسلم؛ ولم يكن في النقباء أحد والده حتى غير أبي منصور طلحة ابنرريق بن سعد، وهو أبو زينب الخزاعي، وكان قد شهد حرب ابن الأشعث وصحب المهلب وغزامة. وكان أبو مسلم يشاوره في الأمور ويسأله عنها وعما شهد من الحروب.
وكانت البيعة: أبا يعكم على كتاب الله وسنة رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام، وعلى أن لا تسألوا رزقاً ولا طعماً حتى يبتدئكم به ولا تكم.
رزيق بتقديم الراء على الزاي.