فصل: سنة سبع وستين ومائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة وضع المهدي ديوان الأزمة، وولى عليها عمرو بن مربع مولاه، وأجرى المهدي على المجذمين وأهل السجون الأرزاق في جميع الآفاق.
وفيها خرجت الروم إلى الحدث، فهدموا سورها؛ وغزا الصائفة السحن بن قحطبة في ثمانين ألف مرتزق سوى المتطوعة، فبلغ حمة أذرولية، وأكثر التحريق والتخريب في بلاد الروم، ولم يفتح حصناً، ولا لقي جمعاً، وسمته الروم التنين، وقالوا: إنما أتى الحمة ليغتسل من مائها للوضوح الذي به، ورجع الناس سالمين: وفيها غزا يزيد بن أسيد السلمي من ناحية قاليقلا، فغنم، وافتتح ثلاثة حصون، وسبى.
وفيها عزل علي بن سليمان عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بن سليمان، وعزل سلمة بن رجاء عن مصر، ووليها عيسى بن لقمان في المحرم، وعزل عنها في جمادي الآخرة، ووليها واضح مولى المهدي، ثم عزل في ذي القعدة، ووليها يحيى الحرشي.
وفيها خرجت المحمرة بجرجان، عليهم رجل اسمه عبد القهار، فغلب عليها، وقتل بشراً كثيراً، فغزاه عمر بن العلاء من طبرستان، فقتله عمر وأصحابه، وكان العمال من تقدم ذكرهم، فكانت لجزيرة مع عبد الصمد بن علي، وطبرستان والرويان مع سعيد بن دعلج، وجرجان مع مهلهل بن صفوان.
وفيها أرسل عبد الرحمن، صاحب الأندلس، شهيد بن عيسى إلى دحية الغساني، وكان عاصياً في بعض حصون إلبيرة، فقتله، وسير بدراً مولاه إلى إبراهيم بن شجرة البرلسي، وكان قد عصى، فقتله، وسير أيضاً ثمامة بن علقمة إلى العباس البربري، وهو في جمع من البربر، وقد أظهر العصيان، فقتله أيضاً وفرق جموعه.
وفيها سير جيشاً مع حبيب بن عبد الملك القرشي إلى القائد السلمي، وكان حسن المنزلة عند عبد الرحمن أمير الأندلس، فشرب ليلة، وقصد باب القنطرة ليفتحه على سكر منه، فمنعه الحرس، فعاد، فلما صحا خاف، فهرب إلى طليطلة، فاجتمع إليه كثير ممن يريد الخلاف والشر، فعاجله عبد الرحمن بإنفاذ الجيوش إليه، فنازله في موضع قد تحصن فيه، وحصره، ثم إن السلمي طلب البراز، فبرز إليه مملوك أسود، فاختلفا ضربتين فوقعا صريعين، ثم ماتا جميعاً.
وفيها توفي عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، قاضي إفريقية، وقد جاوز تسعين سنة، وسبب موته أنه أكل عند يزيد بن حاتم سمكاً، ثم شرب لبناً، وكان يحيى بن ماسوية الطبيب حاضراً، فقال: إن كان الطب صحيحاً، مات الشيخ الليلة، فتوفي من ليلته تلك، والله أعلم. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وستين ومائة:

.ذكر غزو الروم:

في هذه السنة تجهز المهدي لغزو الروم، فخرج وعسكر بالبردان، وجمع الأجناد من خراسان وغيرها، وسار عنها، وكان قد توفي عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس في جمادى الآخرة، وسار المهدي من الغد، واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد، وسار على الموصل والجزيرة، وعزل عنها عبد الصمد بن علي في مسيرة ذلك.
ولما حاذى قصر مسلمة بن عبد الملك قال العباس بن محمد بن علي للمهدي: إن لمسلمة في أعناقنا منة، كان محمد بن علي مر به، فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: إذا نفدت فلا تحتشمنا! فأحضر المهدي ولد مسلمة ومواليه، وأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأجرى عليهم الأرزاق، وعبر الفرات إلى حلب، وأرسل، وهو بحلب، فجمع من بتلك الناحية من الزنادقة، فجمعوا، فقتلهم، وقطع كتبهم بالسكاكين، وسار عنها مشيعاً لابنه هارون الرشيد، حتى جاز الدرب وبلغ جيحان، فسار هارون، ومعه عيسى بن موسى، وعبد الملك بن صالح، والربيع، والحسن بن قحطبة، والحسن وسليمان ابنا برمك، ويحيى بن خالد بن برمك، وكان إليه أمر العسكر، والنفقات، والكتابة وغير ذلك، فساروا فنزلوا على حصن سمالوا، فحصره هارون ثمانية وثلاثين يوماً ونصب عليه المجانيق، ففتحه الله عليهم بالأمان، ووفى لهم، وفتحوا فتوحاً كثيرة.
ولما عاد المهدي من الغزاة زار بيت المقدس، ومعه يزيد بن منصور والعباس بن محمد بن علي والفضل بن صالح بن علي وعلي بن سليمان بن علي، وقفل المسلمون سالمين، إلا من قتل منهم؛ وعزل المهدي إبراهيم بن صالح عن فلسطين، ثم رده.

.ذكر عدة حوادث:

وفي هذه السنة ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله، وأذربيجان، وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها عزل زفر بن عاصم عن الجزيرة، واستعمل عليها عبد الله بن صالح.
وفيها عزل المهدي معاذ بن مسلم عن خراسان واستعمل عليها المسيب بن زهير الضبي، وعزل يحيى الحرشي عن أصبهن، وولى مكانه الحكم بن سعيد، وعزل سعيد بن دعلج عن طبرستان والرويان، وولاهما عمر بن العلاء، وعزل مهلهل بن صفوان عن جرجان، وولاها هشام بن سعيد.
وكان على مكة والمدينة والطائف واليمامة جعفر بن سليمان؛ وكان على الكوفة إسحاق بن الصباح؛ وعلى البصرة وفارس والبحرين والأهواز محمد بن سليمان؛ وعلى السند نصر بن محمد بن الأشعث؛ وعلى الموصل محمد بن الفضل.
وحج بالناس هذه السنة علي بن المهدي.
وفيها أظهر عبد الرحمن الأموي، صاحب الأندلس، التجهز للخروج إلى الشام بزعمه لمحو الدولة العباسية، وأخذ ثأره منهم، فعصى عليه سليمان بن يقظان، والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عثمان الأنصاري بسرقسطة، واشتد أمرهما، فترك ما كان عزم عليه.
وفيها مات موسى بن علي بن رباح اللخمي بضم العين مصغراً ورباح بالباء الموحدة.
وفيها مات إبرهيم بن طهمان، وكان عالماً فاضلاً، وكان مرجئاً من أهل نيسابور، ومات بمكة.
وفيها توفي أبو الأشهب جعفر بن حيان بالبصرة.
وفيها توفي بكار بن شريح، قاضي الموصل بها، وكان فاضلاً، وولي القضاء بها أبو مكرز الفهري، واسمه يحيى بن عبد الله بن كرز. ثم دخلت:

.سنة أربع وستين ومائة:

في هذه السنة غزا عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب من درب الحدث، فأتاه ميخائيل البطريق، وطاراذ الأرمني البطريق في تسعين ألفاً، فخاف عبد الكبير، ومنع الناس من القتال، ورجع بهم، فأراد المهدي قتله، فشفع فيه فحبسه.
وفيها عزل المهدي محمد بن سليمان عن البصرة، وسائر أعماله، واستعمل صالح بن داود مكانه.
وفيها سار المهدي ليحج، فلما بلغ العقبة ورأى قلة الماء خاف أن الماء لا يحمل الناس، وأخذته أيضاً حمى، فرجع، وسير أخاه صالحاً ليحج بالناس، ولحق الناس عطشٌ شديد حتى كادوا يهلكون، وغضب المهدي على يقطين لأنه صاحب المصانع.
وفيها عزل عبد الله بن سليمان عن اليمن عن سخطة، ووجه من يستقبله، ويفتش متاعه، ويحصي ما معه، واستعمل على اليمن منصور بن يزيد بن منصور، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وكان العمال من تقدم ذكرهم، وعلى الموصل محمد بن الفضل.
وفيها سار عبد الرحمن الأموي إلى سرقسطة، بعد أن كان قد سير إليها ثعلبة بن عبيد في عسكر كثيف، وكان سليمان بن يقظان، والحسين ابن يحيى قد اجتمعا على خلع طاعة عبد الرحمن، كما ذكرنا، وهما بها، فقاتلهما ثعلبة قتالاً شديداً، وفي بعض الأيام عاد إلى مخيمه، فاغتنم سليمان غرته، فخرج إليه، وقبض عليه، وأخذه، وتفرق عسكره، واستدعى سليمان قارله ملك الإفرنج، ووعده بتسليم البلد وثعلبة إليه، فلما وصل إليه لم يصبحبيده غير ثعلبة، فأخذه وعاد إلى بلاده، وهو يظن أنه يأخذ به عظيم الفداء، فأهمله عبد الرحمن مدة، ثم وضع من طلبه من الفرج، فأطلقوه.
فلما كان هذه السنة سار عبد الرحمن إلى سرقسطة، وفرق أولاده في الجهات ليدفعوا كل مخالف، ثم يجتمعون بسرقسطة، فسبقهم عبد الرحمن إليها، وكان الحسين بن يحيى قد قتل سليمان بن يقظان، وانفرد بسرقسطة، فوافاه عبد الرحمن على أثر ذلك، فضيق على أهلها تضييقاً شديداً.
وأتاه أولاده من النواحي، ومعهم كل من كان خالفهم، وأخبروه عن طاعة غيرهم، فرغب الحسين في الصلح، وأذعن للطاعة، فأجابه عبد الرحمن، وصالحه، وأخذ ابنه سعيداً رهينة، ورجع عنه، وغزا بلاد الفرنج، فدوخها، ونهب وسبى وبلغ قلهرة، وفتح مدينة فكيرة، وهدم قلاع تلك الناحية، وسار إلى بلاد البشكنس، ونزل على حصن مثمين الأقرع، فافتتحه، ثم تقدم إلى ملدوثون بن اطلال، وحصر قلعته، وقصد الناس جبلها، وقاتلوهم فيها، فملكوها عنوةً وخربها ثم رجع إلى قرطبة.
وفيها ثارت قتنة بين بربر بلنسية وبربر شنت برية من الأندلس، وجرى بينهم حروب كثيرة قتل فيها خلق كثيرة من الطائفتين، وكانت وقائعهم مشهورة.
وفيها مات شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية التميمي النحوي البصري؛ وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون؛ وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم المنصور، وقيل: مات سنة ثلاث وستين، وكان عمره ثمانياً وسبعين سنة، وقيل ثمانين سنة؛ وسعيد بن عبد العزيز الدمشقي، وسلام بن مسكين النمري الأزدين أبو روح؛ والمبارك بن فضالة بن أبي أمية القرشي، مولى عمر بن الخطاب. ثم دخلت:

.سنة خمس وستين ومائة:

.ذكر غزو الروم:

في هذه السنة سير المهدي ابنه الرشيد لغزو الروم صائفة، في جمادى الآخرة، في خمسة وتسعين ألفاً وتسعمائة وثلاثة وتسعين رجلاً، ومعه الربيع، فوغل هارون في بلاد الروم، ولقيه عسكر لقيظاً قومس القوامسة، فبارزه يزيد بن مزيد الشيباني فأثخنه يزيد وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكرهم.
وساروا إلى الدمستق، وهو صاحب المسالح، فحمل لهم مائة ألف دينار وثلاثة وتسعين ألفاً وأربعمائة وخمسين ديناراً، ومن الورق أحداً وعشرين ألف ألف درهم وأربعة عشر ألفاً وثمانمائة درهم.
وسار الرشيد حتى بلغ خليج القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذٍ عطسة امرأة أليون، وذلك أن ابنها كان صغيراً قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرى الصلح بينها وبين الرشيد على الفدية، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في الطريق، وذلك أنه دخل مدخلاً ضيقاً مخوفاً، فأجابته إلى ذلك، ومقدار الفدية سبعون ألف دينار كل سنة، ورجع عنها.
وكانت الهدنة ثلاث سنين، وكان مقدار ما غنم المسلمون إلى أن اصطلحوا خمسة آلاف رأس سبي وستمائة وثلاثة وأربعين رأساً؛ ومن الدواب الذلل بأدواتها عشرين ألف رأس، وذبح من البقر مائة ألف رأس، وقتل من الروم، في الوقائع، أربعة وخمسون ألفاً، وقتل من الأسارى صبراً ألفان وتسعون أسيراً.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عزل خلف بن عبد الله عن الري، ووليها عيسى مولى جعفر.
وحج بالناس هذه السنة صالح بن المنصور، وكان العمال من تقدم ذكرهم، غير أن البصرة كان على أحداثها والصلاة بها روح بن حاتم؛ وكان على كور دجلة والبحرين، وعمان وكسكر، والأهواز، وفارس، وكرمان المعلى مولى المهدي، وكان على الموصل أحمد بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها غدر الحسين بن يحيى بسرقسطة، فنكث مع عبد الرحمن، فسير إليه عبد الرحمن غالب بن ثمامة بن علقمة في جند كثيف، فاقتتلوا، فأسر جماعة من أصحاب الحسين فيهم ابنه يحيى، فسيرهم إلى الأمير عبد الرحمن، فقتلهم، وأقام ثمامة بن علقمة على الحسين يحصره؛ ثم إن الأمير عبد الرحمن سار سنة ست وستين ومائة إلى سرقسطة بنفسه، فحصرها، وضايقها، ونصب عليها المجانيق ستة وثلاثين منجنيقاً، فملكها عنوة، وقتل الحسين أقبح قتلة، ونفى أهل سرقسطة منها ليمين تقدمت منه، ثم ردهم إليها.
وفيها مات يزيد بن منصور بن عبد الله بن يزيد بن شهر بن مثوب، وهو من ولد شهر ذي الجناح الحميري، خال المهدي، وقد كان ولي اليمن والبصرة والحج.
وفيها توفي فتح بن الوشاح الموصلي الزاهد. ثم دخلت:

.سنة ست وستين ومائة:

في هذه السنة أخذ المهدي البيعة لولده هارون الرشيد بولاية العهد، بعد أخيه موسى الهادي، ولقبه الرشيد. وفيها عزل عبيد الله بن الحسن العنبري عن قضاء البصرة، واستقضي خالد بن طليق بن عمران بن حصين، فاستعفى أهل البصرة منه.

.ذكر القبض على يعقوب بن داود:

وفي هذه السنة سخط المهدي على وزيره يعقوب بن داود طهمان؛ وكان أول أمرهم أن داود بن طهمان، وهو أبو يعقوب، كان يكتب لنصر بن سيار، هو وإخوته، فلما كان أيام يحيى بن زيد كان داود يعلمه ما يسمعه من نصر، فلما طلب أبو مسلم الخراساني بدم يحيى بن زيد أتاه داود، لما كان بينه وبين يحيى، فآمنه أبو مسلم في نفسه، وأخذ ماله الذي استفاد أيام نصر.
فلما مات داود خرج أولاده أهل أدب وعلم، ولم يكن لهم عند بني العباس منزلة، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر، وأظهروا مقالة الزيدية، ودنوا من آل الحسين، وطمعوا أن تكون لهم دولة، فكان داود يصحب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أحياناً، وخرج معه هو وعدة من إخوته، فلما قتل إبراهيم طلبهم المنصور، فأخذ يعقوب وعلياً وحبسهما، فلما توفي المنصور أطلقهما المهدي مع من أطلقه، وكان معهما الحسن بن إبراهيم، فاتصل إلى المهدي بسببه، كما تقدم ذكره، وقيل: اتصل به بالسعاية بآل علي، ولم يزل أمره يرتفع، حتى استوزره.
وكان المهدي يقول: وصف لي يعقوب في منامي، فقيل لي: استوزره، فلما رأيته رأيت الخلقة التي وصفت لي، فاتخذته وزيراً، فلما ولي الوزارة أرسل إلى الزيدية، فجمعهم وولاهم أمور الخلافة في المشرق والمغرب، ولذلك قال بشار بن برد:
بني أميّةً هبّوا طال نومكم ** إنّ الخليفة يعقبو بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ** خليفة الله بين النّاي والعود

فحسده موالي المهدي، وسعوا به، وقيل له: إن الشرق والغرب في يد يعقوب وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد فيأخذوا الدنيا لإسحاق بن الفضل.
فملأ ذلك قلب المهدي، ولما بني المهدي عيساباذ أتاه خادم من خدمه فقال له: إن أحمد بن إسماعيل بن علي قال لي: أبنى متنزهاً أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت المال؟ فحفظها المهدي، ونسي أحمد بن إسماعيل، وظن أن يعقوب قالها، فبينما يعقوب بين يديه إذ لببه فضرب به الأرض، وقال: ألست القائل كيت وكيت؟ فقال: والله ما قتله ولا سمعته! قال: وكان السعاة يسعون بيعقوب ليلاً، ويتفرقون وهم يعتقدون أنه يقبضه بكرةً، فإذا أصبح غدا عليه، فإذا نظر إليه تبسم وسأله عن مبيته.
وكان المهدي مستهتراً بالنساء، فيخوض يعقوب معه في ذلك فيفترقان عن رضى؛ ثم إنه كان ليعقوب برذونٌ كان يركبه، فخرج يوماً من عند المهدي وعليه طيلسان يتقعقع من كثرة دقة، والبرذون مع الغلام، وقد نام الغلام، فركب يعقوب، وأراد تسوية الطيلسان، فنفر من قعقعته، فسقط، فدنا من دابته، فرفسه، فانسكر ساقه، فانقطع عن الركوب، فعاده المهدي من الغد، ثم انقطع عنه، فتمكن السعاة منه، فأظهر المهدي السخط عليه، ثم أمر به فسجن في سجن نصر، وأخذ عماله وأصحابه فحبسوا.
وقال يعقوب بن داود: بعث إلي المهدي يوماً، فدخلت عليه وهو في مجلس مفروش بفرش مورد على بستان فيه شجر، ورؤوس الشجر مع صحن المجلس، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأزهار من الخوخ والتفاح، فما رأيت شيئاً أحسن منه، وعنده جارية عليها نحو ذلك الفرش ما رأيت أحسن منها، فقال لي: يا يعقوب! كيف ترى مجلسنا هذا؟ قلت: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به؛ قال: هو لك بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به؛ قال: فدعوت له، ثم قال لي: يا يعقوب، ولي إليك حاجة أحب أن تضمن لي قضاءها؛ قلت: الأمر لأمير المؤمنين، وعلي السمع والطاعة؛ فاستحلفني بالله وبرأسه، فحلفت لأعملن بما قال، فقال: هذا فلان بن فلان من ولد علي بن أبي طالب، وأحب أن تكفيني مؤونته وتريحني منه وتعجل ذلك؛ قلت: أفعل؛ فأخذته وأخذت الجارية وجميع ما في المجلس، وأمر لي بمائة ألف درهم، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وأدخلت العلوي إلي وسألته عن حاله، فأخبرني، وإذا هو أعقل الناس وأحسنهم إبانةً عن نفسه؛ ثم قال: ويحك يا يعقوب، تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد، صلى الله عليه وسلم! قتل: لا والله، فهل فيك أنت خيرٌ؟ قال: إن فعلت خيراً شكرت، ولك عندي دعاء واستغفار.
فقلت: أي الطرق أحب إليك؟ قال: كذا وكذا، فأرسلت إلى من يثق إليه العلوي، فأخذه وأعطيته مالاً، وأرسلت الجارية إلى المهدي تعلمه الحال، فأرسل إلى الطريق، فأخذ العلوي وصاحبه والمال.
فلما كان الغد استحضرني المهدي وسألني عن العلوي، فأخبرته أني قتلته، فاستحلفني بالله وبرأسه، فحلفت له، فقال: يا غلام أخرج إلينا ما في هذا البيت، فأخرج العلوي وصاحبه والمال، فبقيت متحيراً، وامتنع مني الكلام فما أدري ما أقول، فقال المهدي: قد حل لي دمك، ولكن احبسوه في المطبق ولا أذكر به.
فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئر، فدليت فيها، فبقيت مدة لا أعرف عددها، وأصبت ببصري.
قال: فإني لكذلك إذ دعي بي، وقيل لي: سلم على أمير المؤمنين! فسلمت؛ قال: أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت: المهدي، قال رحم الله المهدي. قلت: فالهادي، قال: رحم الله الهادي. قلت: فالرشيد، قال: نعم! سل حاجتك. قلت: المقام بمكة، فما بقي في مستمتعٌ لشيء ولا بلاغ، فأذن لي، فسرت إلى مكة، قال: فلم تطل أيامه بها حتى مات.
وكان يعقوب قد ضجر بموضعه قبل حبسه، وكان أصحاب المهدي يشربون عنده، فكان يعقوب ينهاه عن ذلك، ويعظه، ويقول: ليس على هذا استوزرتني، ولا عليه صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ؟ فضيق على المهدي حتى قيل:
فدع عنك يعقوب بن داود جانباً ** وأقبل على صهباء طيّبة النّشر

وقال يعقوب يوماً للمهدي في أمر أراده: هذا، والله، السرف! فقال المهدي: ويحك يا يعقوب، إنما يحسن السرف بأهل الشرف، ولولا السرف لم يعرف المكثرون من المقلين.

.ذكر عدة حوادث:

وفي هذه السنة سار المهدي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن، ببغال وإبل، ولم يكن هنالك بريد قبل ذلك.
وفيها اضطربت خراسان على المسيب بن زهير، فولاها الفضل بن سليمان الطوسي أبا العباس، وأضاف إليه سجستان، فاستخلف على سجستان تميم بن سعيد بن دعلج.
وفيها أخذ المهدي داود بن روح بن حاتم، وإسماعيل بن مجالد، ومحمد بن أبي أيوب المكي، ومحمد بن طيفور، في الزندقة، فاستتابهم، وخلى سبيلهم، وبعث داود إلى أبيه، وهو على البصرة، وأمره بتأديبه.
وفيها استعمل إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله على المدينة، وكان على مكة والطائف عبيد الله بن قثم.
وفيها عزل منصور بن يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بن سليمان الربعي.
وفيها أطلق المهدي عبد الصمد بن علي من حبسه؛ وحج بالناس إبراهيم بن يحيى، وكان على الكوفة هاشم بن سعيد، وعلى البصرة روح بن حاتم؛ وعلى قضائها خالد بن طليق؛ وعلى كور دجلة، وكسكر، وأعمال البصرة والبحرين، والأهواز، وفارس، وكرمان، المعلى مولى المهدي؛ وعلى مصر إبراهيم بن صالح؛ وعلى إفريقية يزيد بن حاتم؛ وعلى طبرستان، والرويان، وجرجان يحيى الحرشي؛ وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي؛ وعلى الري سعد مولاه؛ وعلى الموصل أحمد بن إسماعيل الهاشمي، وقيل موسى بن كعب الخثعمي؛ وعلى قضائها علي بن مسهر بن عمير، ولم يكن في هذه السنة صائفة، للهدنة التي كانت فيها.
وفيها قتل بشار بن برد الشاعر الأعمى على الزندقة، وكان خلق ممسوح العينين.
وفيها توفي الجراح بن مليح الرؤاسي، وهو والد وكيع.
وفيها توفي المبارك بن فضالة، وحماد بن سلمة البصري.
وفيها قتل عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية بن هشام، وهذيل بن الصميل، وسمرة بن جبلة، لأنهم اجتمعوا على خلعه مع العلاء بن حميد القشيري، فتقرب بهم. ثم دخلت:

.سنة سبع وستين ومائة:

في هذه السنة سار موسى الهادي إلى جرجان في جمع كثير وجهاز لم يتجهز أحد بمثله لمحاربة ونداد هرمز، وشروين، صاحبي طبرستان، وجعل المهدي على رسائل موسى أبان بن صدقة، ومحمد بن جميل على جنده، ونفيعاً مولى المنصور على حجابته، وعلي بن عيسى بن ماهان على حرسه، فسير الهادي الجنود إليهما، وأمر عليهم يزيد بن مزيد، فحاصرهما.
وفيها توفي عيسى بن موسى بالكوفة، فأشهد روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الوجوه، ودفن، وكان عمره خمساً وستين سنة، ومدة ولايته العهد ثلاثاً وعشرين سنة، وقد تقدم ذكر ولايته العهد وعزله عنه.
وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة، فأخذ يزيد بن الفيض، فأقر، فحبس، فهرب، فلم يقدر عليه. وكان المتولي لأمر الزنادقة الكلوذاني.
وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل وولاه الربيع.
وفيها كان الوباء ببغداد والبصرة، وفشا في الناس سعال شديد.
وفيها توفي أبان بن صدقة، كاتب الهادي، فوجه المهدي مكانه أبا خالد الأحول.
وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام، ومسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، فدخلت فيه دور كثيرة، وكان المتولي لبنائه يقطين بن موسى، فبقي البناء فيه إلى أن توفي المهدي، وكذلك أمر بالزيادة في المسجد الجامع بالموصل، ورأيت لوحاً فيه ذكر ذلك، وهو في حائط الجامع، سنة ثلاث وستمائة وهو باقٍ.
وفيها عزل يحيى الحرشي عن طبرستان والرويان، وما كان إليه، ووليه عمر بن العلاء، وولي جرجان فراشة مولى المهدي.
وفيها أظلمت الدنيا لثلاث مضين من ذي الحجة، حتى تعالى النهار، ولم يكن صائفة، للهدنة، وحج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو على المدينة، ثم توفي بعد فراغه من الحج بأيام، وتولى مكانه إسحاق بن عيسى بن علي.
وفيها طعن عقبة بن سلم الهنائي، اغتاله رجل بخنجر، فمات ببغداد.
وكان على اليمن سليمان بن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري؛ وكان على البصرة محمد بن سليمان، وعلى قضائها عمر بن عثمان التيمي؛ وعلى الموصل أحمد بن إسماعيل الهاشمي، وقيل موسى بن كعب، وباقي الأمصار كما تقدم.
وفي هذه السنة توفي جعفر الأحمر أبو شيبة؛ والحسن بن صالح بن حبي وكان شيعياً عابداً؛ وسعيد بن عبد الله بن عامر التنوخي؛ وحماد ابن سلمة؛ وعبد العزيز بن مسلم.
وفيها أفسد العرب في بادية البصرة بين اليمامة والبحرين، وقطعوا الطريق، وانتهكوا المحارم، وتركوا الصلاة، فأرسل المهدي إليهم جيشاً، فقاتلهم، واشتد القتال، وصبر العرب، فظفروا، وقتلوا عامة العسكر المنفذ إليهم، فقويت شوكتهم وزاد شرهم. ثم دخلت: