فصل: سنة خمسين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك الفرنج مدينة عسقلان:

في هذه السنة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان، وكانت من جملة مملكة الظافر بالله العلوي المصري، وكان الفرنج كل سنة يقصدونها ويحصرونها، فلا يجدون إلى ملكها سبيلاً، وكان الوزراء بمصر لهم الحكم في البلاد،والخلفاء معهم اسم لا معنى تحته، وكان الوزراء كل سنة يرسلون إليها الذخائر والأسلحة والأموال والرجال من يقوم بحفظها، فلما كان في هذه السنة قتل ابن السلار الوزير، على ما ذكرناه، واختلفت الأهواء في مصر، وولي عباس الوزارة، إلى أن استقرت قاعدة، اغتنم الفرنج اشتغالهم عن عسقلان، فاجتمعوا وحصروها، فصبر أهلها، وقاتلوهم قتالاً شديداً، حتى إنهم بعض الأيام قاتلوا خارج السور، وردوا الفرنج إلى خيامهم مقهورين، وتبعهم أهل البلد إليها فأيس حينئذ الفرنج من ملكه.
فبينما هم على عزم الرحيل إذ أتاهم الخبر أن الخلف قد وقع بين أهله، وقتل بينهم قتلى، فصبروا؛ وكان سبب هذا الاختلاف أنهم لما عادوا عن قتال الفرنج قاهرين منصورين، أدعت كل طائفة منهم أن النصرة من جهتهم كانت، وأنهم هم الذين ردوا الفرنج خاسرين، فعظم الخصام بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل، واشتد الخطب حينئذ، وتفاقم الشر، ووقعت الحرب بينهم، فقتل بينهم قتلى، فطمع الفرنج، وزحفوا إليه وقاتلوهم عليه، فلم يجدوا من يمنعهم فملكوه.

.ذكر حصر عسكر الخليفة تكريت وعودهم عنها:

في هذه السنة سير الخليفة المقتفي لأمر الله عسكراً إلى تكريت ليحصروها، وأرسل معهم مقدماً عليهم أبا البدر ابن الوزير عون الدين بن هبيرة وترشك، وهو من خواص الخليفة،وغيرهما، فجرى بين أبي البدر وترشك منافرة أوجبت أن كتب ابن الوزير يشكو من ترشك، فأمر الخليفة بالقبض على ترشك، فعرف ذلك، فأرسل إلى مسعود بلال، صاحب تكريت، وصالحه وقبض على ابن الوزير ومن معه من المتقدمين، وسلمهم إلى مسعود بلال فانهزم العسكر وغرق منه كثير وسار مسعود بلال وترشك من تكريت إلى طريق خراسان فنهبا وأفسدا، فسار المقتفي عن بغداد لدفعهما، فهربا من بين يديه، فقصد تكريت، فحصرها أياماً وجرى له مع أهلها حروب من وراء السور، فقتل من العسكر جماعة بالنشاب، فعاد الخليفة عنها، ولم يملكها.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة وصلت مراكب من صقلية، فيها جمع من الفرنج، فنهبوا مدينة تنيس بالديار المصرية.
وفيها كان بين الكرج بأرمينية وبين صليق، صاحب أرزن الروم، مصاف وحرب شديدة، وانهزم صليق وأسره الكرخ ثم أطلقوه.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن أبي غالب الوراق المعروف بابن الطلاية الزاهد البغدادي بها، وكان من الصاحين، وله حديث ورواية.
وتوفي عبد الملك بن عبد الله بن أبي سهل أبو الفتح بن أبي القاسم الكروخي الهروي، راوي جامع الترمذي، ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتفي ببغداد في ذي الحجة. ثم دخلت:

.سنة تسع وأربعين وخمسمائة:

.ذكر قتل الظافر وخلافة ابنه الفائز:

في هذه السنة، في المحرم، قتل الظاهر بالله أبو إسماعيل بن الحافظ لدين الله عبد المجيد العلوي، صاحب مصر.
وكان سبب قتله أن وزيره عباساً كان له ولد اسمه نصر، فأحبه الظافر، وجعله من ندمائه واحبابه الذين لا يقدر على فراقهم ساعة واحدة، فاتفق أن قدم من الشام مؤيد الدولة الأمير أسامة بن منقذ الكناني في وزارة ابن السلار، واتصل بعباس، فحسن له قتل العادل بن السلار زوج أمه، فقتله، وولاه الظافر الوزارة، فاستبد بالأمر، وتم له ذلك.وعلم الأمراء والأجناد أن ذلك من فعل أبن منقذ، فعزموا على قتله، فخلا بعباس وقال له: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول؟ قال: وما ذلك؟ قال: الناس يزعمون أن الظافر يفعل بابنك نصر؛ وكان نصر خصيصاً بالظافر، وكان ملازماً له ليله ونهاره، وكان من أجمل الناس صورة، وكان الظافر يتهم به، فانزعج لذلك وعظم عليه، وقال: كيف الحيلة؟ قال: تقتله فيذهب عنك العار؛ فذكر الحال لولده نصر، فاتفقا على قتله.
وقيل أن الظافر أقطع نصر بن عباس قرية قليوب، وهي من أعظم قرى مصر، فدخل إليه مؤيد الدولة بن منقذ، وهو عند أبيه عباس. قال له نصر: قد أقطعني مولانا قرية قليوب. فقال له مؤيد الدولة: ما هي في مهرك بكثير؛ فعظم عليه وعلى أبيه، وأنف من هذه الحال، وشرع في قتل الظافر بأمر أبيه، فحضر نصر عند الظافر وقال له: أشتهي أن تجيء إلى داري لدعوة صنعتها، ولا تكثر من الجمع؛ فمشى معه في نفر يسير من الخدم ليلاً، فلما دخل الدار قتله وقتل من معه، وأفلت خادم صغير اختبأ فلم يروه، ودفن القتلى في داره.
وأخبر أخاه عباساً الخبر، فبكر إلى القصر، وطلب إلى الخدم الخصيصين بخدمة الظافر أن يطلبوا له إذناً في الدخول عليه لأمر يريد أن يأخذ رأيه فيه. فقالوا: إنه ليس في القصر. فقال: لا بد منه. وكان غرضه أن يفني التهمة عنه بقتله، وأن يقتل من بالقصر ممن يخاف أن ينازعه فيمن يقيمه في الخلافة؛ فلما ألح عليهم عجزوا عن إحضاره.
فبينما هم يطلبونه حائرين دهشين لا يدرون ما الخبر إذ وصل إليهم الخادم الصغير الذي شاهد قتله، وقد هرب من دار عباس عند غفلتهم عنه، وأخبرهم بقتل الظافر، فخرجوا إلى عباس، وقالوا له: سل ولدك عنه فإنه يعرف أين هو لأنهما خرجا جميعاً. فلما سمع ذلك منهم قال: أريد أن أعتبر القصر لئلا يكون قد اغتاله أحد من أهله؛ فاستعرض القصر، فقتل أخوين للظافر، وهما يوسف وجبريل، وأجلس الفائز بنصر الله أبا القاسم عيسى ابن الظافر بأمر إسماعيل ثاني يوم قتل أبوه، وله من العمر خمس سنين، فحمله عباس على كتفه وأجلسه على سرير الملك وبايع له الناس، وأخذ عباس من القصر من الأموال والجواهر والأعلاق النفيسة ما أراد، ولم يترك فيه إلا ما لا خير فيه.

.ذكر وزارة الصالح طلائع بن رزيك:

كان السبب في وزارة الصالح طلائع بن رزيك أن عباساً، لما قتل الظافر وأقام الفائز، ظن أن الأمر لم يتم له على ما يريده، فكان الحال خلاف ما أعتقده، فإن الكلمة اختلفت عليه، وثار به الجند والسودان، وصار إذا أمر بالأمر لا يلتفت إليه ولا يسمع قوله، فأرسل من بالقصر من النساء والخدم إلى الصالح طلائع بن رزيك يستغيثون به، وأرسلوا شعورهم طي الكتب؛ وكان في منية بني خصيب والياً عليها وعلى أعمالها، وليست من الأعمال الجليلة، وإنما كانت أقرب الأعمال إليهم،وكان فيه شهامة، فجمع ليقصد عباساً، وسار إليه، فلما سمع عباس ذلك خرج من مصر نحو الشام بما معه من الأموال التي لا تحصى كثرة، والتحف والأشياء التي لا توجد إلا هناك مما كان أخذه من القصر. فلما سار وقع به الفرنج فقتلوه وأخذوا جميع ما معه فتقووا به.
وسار الصالح فدخل القاهرة بأعلام سود وثياب سود حزناً على الظافر، والشعور التي أرسلت إليه من القصر على رؤوس الرماح، وكان هذا من الفأل العجيب، فإن الأعلام السود العباسية دخلتها وأزالت الأعلام العلوية بعد خمس عشر سنة.
ولما دخل الصالح القاهرة خلع عليه خلع الوزارة، واستقر في الأمر وأحضر الخادم الذي شاهد قتل الظافر، فأراه موضع دفنه، فأخرجه ونقله إلى مقابرهم في القصر.
ولما قتل الفرنج عباساً أسروا ابنه، فأرسل الصالح إلى الفرنج وبذل لهم مالاً وأخذه منهم، فسار من الشام مع أصحاب الصالح، فلم يكلم أحداً منهم كلمة إلى أن رأى القاهرة فأنشد:
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ** صروف الليالي والجدود العواثر

وادخل القصر، فكان أخر العهد به، فإنه قتل، وصلب على باب زويلة، واستقصى الصالح بيوت الكبار والأعيان بالديار المصرية فأهلك أهلها وأبعدهم عن ديارهم، وأخذ أموالهم، فمنهم من هلك ومنهم من تفرق في بلاد الحجاز واليمن وغيرهما؛ فعل ذلك خوفاً من أن يثوروا عليه وينازعوه في الوزارة؛ وكان ابن منقذ قد هرب مع عباس، فلما قتل هرب إلى الشام.

.ذكر حصر تكريت ووقعة بكمزا:

في هذه السنة أرسل الخليفة المقتفي لأمر الله رسولاً إلى والي تكريت، بسبب من عندهم من المأسورين، وهم ابن الوزير وغيره، فقبضوا على الرسول، فسير الخليفة عسكراً إليهم، فخرج أهل تكريت، فقاتلوا العسكر ومنعوه من الدخول إلى البلد؛ فسار الخليفة بنفسه مستهل صفر فنزل على البلد، فهرب أهله، فدخل العسكر فشعثوا ونهبوا بعضه، ونصب على القلعة ثلاث عشر منجنيقاً، فسقط من أسوارها برج وبقي الحصر كذلك إلى الخامس والعشرين من ربيع الأول.
وأمر الخليفة بالقتال والزحف، فاشتد القتال، وكثر القتلى، ولم يبلغ منها غرضاً فرحل عائداً إلى بغداد، فدخلها أخر الشهر، ثم أمر الوزير عون الدين بن هبيرة بالعود إلى محاصرتها، والاستعداد، والاستكثار من الآلات للحصار، فسار إليها سادس ربيع الآخر، ونازلها وضيق عليها، فوصل الخبر بأن مسعود بلال وصل إلى شهربان ومعه البقش كون خر وترشك في عسكر كثير ونهبوا البلاد، فعاد الوزير إلى بغداد.
وكان سبب وصول هذا العسكر أنهم حثوا الملك محمداً ابن السلطان محمود على قصد العراق، فلم يتهيأ له ذلك، فسير هذا العسكر، وانضاف إليهم خلق كثير من التركمان، فخرج الخليفة إليهم، فأرسل مسعود بلال إلى تكريت، وأخرج منها الملك أرسلان بن السلطان طغرل بن محمد، وكان محبوساً بتكريت، وقال: هذا السلطان نقاتل بين يديه إزاء الخليفة.
والتقى العسكران عند بكمزا بالقرب من بعقوبا، ودام بينهم المناوشة والمحاربة ثمانية عشر يوماًن ثم إنهم التقوا أخر رجب فاقتتلوا، فانهزمت ميمنة عسكر الخليفة وبعض القلب، حتى بلغت الهزيمة بغداد، ونهبت خزائنه، وقتل خازنه، فحمل الخليفة بنفسه هو وولي عهده وصاح: يا آل هاشم! كذب الشيطان؛ وقرأ: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً}؛ وحمل باقي العسكر معه فانهزم مسعود والبقش وجميع من معهم، وتمت الهزيمة، وظفر الخليفة بهم، وغنم عسكره جميع مال التركمان من دواب وغنم وغير ذلك، فبيع كل كبش بدانق؛ وكانوا قد حضروا بنسائهم وأولادهم وخركاتهم وجميع ما لهم، فأخذ جميعه، ونودي: من أخذ من مال التركمان شيئاً فليرده؛ فردوه، فأخذ البقش كون خر الملك أرسلان، وانهزم إلى البلد اللحف وقلعة الماهكي.
وفي هذه الحرب غدر بنو عوف من عسكر الخليفة، ولحقوا بالعجم، ومضى هندي الكردي أيضاً معهم. وكان الملك محمد قد أرسل عسكراً مع خاص بك بن آقسنقر نجدة لكون خر، فلما وصلوا إلى الراذان بلغهم خبر الهزيمة فعادوا، ورجع الخليفة إلى بغداد فدخلها أوائل شعبان، فوصله الخبر أن مسعود بلال وترشك قصدا مدينة واسط فنهبا وخربا، فسير الخليفة الوزير بن هبيرة في عسكر خامس عشر شعبان، فانهزم العجم، فلقيهم عسكر الخليفة ونب نهم شيئاً كثيراً، وعادوا إلى بغداد، فلقب الوزير سلطان العراق ملك الجيوش.
وسير الخليفة عسكرأ إلى بلد اللحف فأخذه وصار في جملته، وأما الملك ألب أرسلان بن طغرل فإن البقش أخذه معه إلى بلده، فأرسل إليه الملك محمد يقول له ليحضر عنده وأرسلان معه، فمات البقش كون خر في رمضان في هذه السنة، وبقي أرسلان مع ابن البقش وحسن الجاندار، فحملاه إلى الجبل، فخاف الملك محمد أن يصل أرسلان إلى زوج أمه فصار معه، وهو أخو البهلوان بن إيلدكز لأمه، وطغرل الذي قتله خوارزمشاه ولد أرسلان هذا، وكان طغرل آخر السلجوقية.

.ذكرملك نور الدين محمود مدينة دمشق:

في هذه السنة، في صفر، نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر مدينة دمشق، وأخذها من صاحبها مجير الدينأبق بن محمد بن بوري بن طغدكين أتابك.
وكان سبب جده في ملكها أن الفرنج لما ملكوا في العام الماضي مدينة عسقلان لم يكن انور الدين طريق إلى أزعاجهم عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان، فلما ملك الفرنج عسقلان طمعوا في دمشق، حتى أنهم استعرضوا كل من بها من مملوك وجارية من النصارى، فمن أراد المقام بها تركوه، ومن أراد العود إلى وطنه أخذوه قهراً شاء صاحبه أم أبى.
وكان لهم على أهلها كل سنة قطيعة يأخذونها منهم، فكان رسلهم يدخلون البلد ويأخذونها منهم، فلما رأى نور الدين ذلك خاف أن يملكها الفرنج فلا يبقى حينئذ بالشام مقام، فأعمل الحيلة في أخذها حيث علم أنها لا تملك قوة، لأن صاحبها متى رأى غلبه راسل الفرنج واستعان بهم فأعانوه لئلا يملكها من يقوى على قتالهم؛ فراسل مجير الدين صاحبها واستماله، وواصله بالهدايا، وأظهر له المودة حتى وثق به فكان نور الدين يقول له في بعض الأوقات: إن فلاناً قد كاتبني في تسليم دمشق؛ يعني بعض أمراء مجير الدين؛ فكان يبعد الذي قيل عنه ويأخذ أقطاعه، فلما لم يبق عنده من الأمراء أحد قدم أميراً يقال له عطا بن حفاظ السلمي الخادم، وكان شهماً شجاعاً، وفوض إليه أمر دولته، فكان نور الدين لا يتمكن معه من أخذ دمشق، فقبض عليه مجير الدين وقتله، فسار نور الدين حينئذ إلى دمشق، وكان قد كاتب من بها من الأحداث واستمالهم، فوعدوه بالتسليم إليه، فلما حصر نور الدين البلد أرسل مجير الدين إلى الفرنج يبذل لهم الأموال وتسليم قلعة بعلبك إليهم لينجدوه وليرحلوا نور الدين عنه، فشرعوا في جمع فارسهم وراجلهم ليرحلوا نور الدين عن البلد، فإلى أن اجتمع لهم ما يريدون تسلم نور الدين البلد، فعادوا بخفي حنين.
وأما كيفية تسليم دمشق فإنه لما حصرها ثار الأحداث الذين راسلهم، فسلموا إليه البلد من الباب الشرقي وملكه، وحصر مجير الدين في القلعة، وراسله في تسليمها وبذل له أقطاعاً من جملته مدينة حمص، فسلمها إليه وسار إلى حمص، ثم إنه راسل أهل دمشق ليسلموا إليه، فعلم نور الدين ذلك فخافه، فأخذ منه حمص، وأعطاه عوضاً عنها بالس، فلم يرضها، وسار منها إلى العراق، وأقام ببغداد وابتنى بها داراً بالقرب من النظامية، وتوفي بها.

.ذكر قصد الإسماعيلية خراسان والظفر بهم:

في هذه السنة، في ربيع الأخر، اجتمع جمع كثير من الإسماعيلية من قهستان، بلغت عدتهم سبعة آلاف رجل ما بين فارس وراجل، وساروا يريدون خراسان لاشتغال عساكرها بالغز، وقصدوا أعمال خواف وما يجاورها، فلقيهم الأمير فرخشاه بن محمود الكاساني في جماعة من حشمه وأصحابه، فعلم أنه لا طاقة له بهم، فتركهم وسار عنهم، وأرسل إلى الأمير محمد بن أنر، وهو من أكابر أمراء خراسان وأشجعهم، يعرفه الحال، وطلب منه المسير إليهم بعسكره ومن قدر عليه من الأمراء ليجتمعوا عليه ويقاتلوهم.
فسار محمد بن أنر في جماعة من الأمراء وكثير من العسكر، واجتمعوا هم وفرخشاه، وواقعوا الإسماعلية وقاتلوهم، وطالت الحرب بينهم، ثم نصر الله المسلمين وانهزم الإسماعيلية، وكثر القتل فيهم، وأخذهم بالسيف من كل مكان،وهلك أعيانهم وسادتهم: بعضهم قتل، وبعضهم أسر، ولم يسلم منهم إلا القليل الشريد، وخلت قلاعهم وحصونهم من حام ومانع، فلولا أشتغال العساكر بالغز لكانوا ملكوها بلا تعب ولا مشقة، وأراحوا المسلمين منهم، ولكن لله أمر هو بالغه.

.ذكر ملك نور الدين تل باشر:

في هذه السنة أو التي بعدها، ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة تل باشر، وهي شمالي حلب من أمنع القلاع.
وسبب ملكها أن الفرنج لما رأوا ملك نور الدين دمشق خافوه، وعلموا أنه يقوى عليهم، ولا يقدرون على الانتصاف منه، لما كانوا يرون منه قبل ملكها، فراسله من بهذه القلعة من الفرنج، وبذلوا له تسليمها، فسير إليهم الأمير حسان المنبجي، وهو من أكابر أمراءه، وكان أقطاعه ذلك الوقت مدينة منبج، وهي تقارب تل باشر، وأمره أن يسير إليها ويتسلمها، فسار إليهم وتسلمها منهم، وحصنها ورفع إليها من الذخائر ما يكفيها سنين كثيرة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة مات أستاذ الدار أبو الفتوح عبد اله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء، وكان له صدقات، ومعروف كثير، ومجالسة للفقراء. ولما مات ولى الخليفة ابنه الأكبر عضد الدين أبا الفرج محمد بن عبد الله ما كان إلى أبيه.
وتوفي عبد الرحمن بن عبد الصمد بن أحمد بن علي أبو القاسم الأكاف النيسابوري. كان زاهداً، عابداً، فقيهاً، مناظراً، وكان السلطان سنجر يزوره ويتبرك بدعائه، وكان ربما حجبه فلا يمكنه من الدخول إليه.
وفيها توفي ثقة الدولة أبو الحسن علي بن محمد الدويني، وكان يخدم أبا نصر أحمد بن الفرج الأبري، فرباه حتى قيل ابن الأبري، وزوجه ابنته شهدة الكاتبة، فقربه المقتفي لأمر الله، ووكله فبنى مدرسة بباب الأزج. ثم دخلت:

.سنة خمسين وخمسمائة:

في هذه السنة سار الخليفة المقتفي لأمر الله إلى دقوتا فحصرها وقاتل من بها، ثم رحل عنها لأنه بلغه أن عسكر الموصل قد تجهزوا للمسير لمنعه عنها، فرحل ولم يبلغ غرضاً.
وفيها استولى شملة التركماني على خوزستان، وكان قد جمع جمعاً كثيراً من التركمان وسار يريد خوزستان، وصاحبه حينئذ ملكشاه بن محمد، فسير الخليفة إليه عسكراً، فلقيهم شملة في رجب، وقاتلهم، فانهزم عسكر الخليفة، وأسر وجوههم، ثم أحسن إليهم وأطلقهم، وأرسل يعتذر، فقبل عذره، وسار إلى خوزستان فملكها وأزاح عنها ملكشاه ابن السلطان محمود.
وفيها سار الغز إلى نيسابور، فملكوها بالسيف، فدخلوها وقتلوا محمد ابن يحيى الفقيه الشافعي ونحواً من ثلاثين ألفاً، وكان السلطان سنجر له اسم السلطنة، وهو معتقل لا يلتفت إليه، حتى إنه أراد كثيراً من الأيام أن يركب، فلم يكن له من يحمل سلاحه، فشده على وسطه وركب.
وكان إذا قدم له طعام يدخر منه ما يأكله وقتاً آخر، خوفاً من انقطاعه عنه، لتقصيرهم في واجبه، ولأنهم ليس هذا مما يعرفونه.
وفيها وثب قسوس الأرمن بمدينة آني فاخذوها من الأمير شداد وسلموها إلى أخيه فضلون.
وفيها، في ذي الحجة، قتل الأتراك القارغلية طمغاج خان بن محمد بما وراء النهر، وألقوه في الصحراء، ونسبوه ألى أشياء قبيحة؛ وكان مدة ملكه مستضعفاً غير مهيب.
وفيها كان في العراق وما جاوره من البلاد زلزلة كبيرة في ذي الحجة.
وفيها توفي يحيى الغساني النحوي الموصلي وكان فاصلاً خيراً؛ وتاج الدين أبو طاهر يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، قاضي جزيرة ابن عمر. ثم دخلت:

.سنة إحدى وخمسين وخمسمائة:

.عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج:

ذكر عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج بصقلية وما كان منهم:
قد ذكرنا سنة ثمان وأربعين وخمسمائة موت رجار ملك صقلية وملك ولده غليالم، وأنه كان فاسد التدبير، فخرج من حكمه عدة من حصون صقلية.
فلما كان هذه السنة قوي طمع الناس فيه، فخرج عن طاعته جزيرة جربة وجزيرة قرقنة، وأظهروا الخلاف عليه، وخالف عليه أهل إفريقية، فأول من أظهر الخلاف عليه، وخالف عليه أهل إفريقية، فأول من أظهر الخلاف عليه عمر بن أبي الحسين الفرياني بمدينة سفاقس، وكان رجار قد استعمل عليها، لما فتحها، أباه أبا الحسن، وكان من العلماء الصالحين، فأظهر العجز والضعف وقال: استعمل ولدي فاستعمله، وأخذ أباه رهينة إلى صقلية.
فلما أراد المسير إليها قال لولده عمر: إنني كبير السن، وقد قارب أجلي، فمتى أمكنتك الفرصة في الخلاف على العدو فافعل، ولا تراقبهم، ولا تنظر في أنني أقتل واحسب أني قد مت؛ فلما وجد هذه الفرصة دعا أهل المدينة إلى الخلاف وقال: يطلع جماعة منكم إلى السور، وجماعة يقصدون مساكن الفرنج والنصارى جميعهم، ويقتلونهم كلهم. فقالوا له: إن سيدنا الشيخ والدك نخاف عليه. قال: هو أمرني بهذا، وإذا قتل بالشيخ ألوف من الأعداء فما مات؛ فلم تطلع الشمس حتى قتلوا الفرنج عن آخرهم، وكان ذلك أول سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
ثم أتبعه أبو محمد بن مطروح بطرابلس وبعدهما محمد بن رشيد بقابس، وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وخرج جميع إفريقية عن حكم الفرنج ما عدا المهدية وسوسة.
وأرسل عمر بن إبي الحسين إلى زويلة، وهي مدينة بينها وبين المهدية نحو ميدان، يحرضهم على الوثوب على من معهم فيها من النصارى، ففعلوا ذلك، وقدم عرب البلاد إلى زويلة، فأعانوا أهلها على من بالمهدية من الفرنج، وقطعوا الميرة عن المهدية.فلما اتصل الخبر بغليالم ملك صقلية أحضر أبا الحسين وعرفه ما فعل ابنه، فأمر أن يكتب إليه ينهاه عن ذلك، ويأمره بالعود إلى طاعته، ويخوفه عاقبة فعله، فقال: من قدم على هذا لم يرجع بكتاب؛ فأرسل ملك صقلية إليه رسولاً يتهدده، ويأمره بترك ما ارتكبه، فلم يمكنه عمر من دخول البلد يومه ذلك، فلما كان الغد خرج أهل البلد جميعهم ومعهم جنازة، والرسول يشاهدهم، فدفنوها وعادوا، وأرسل عمر إلى الرسول يقول له: هذا أبي قد دفنته، وقد جلست للعزاء به، فاصنعوا به ما أردتم.
فعاد الرسول إلى غليالم فأخبره بما صنع عمر بن أبي الحسين، فأخذ أباه وصلبه، فلم يزل يذكر الله تعالى حتى مات.
وأما أهل زويلة فإنهم كثر جمعهم بالعرب وأهل سفاقس وغيرهم، فحصروا المهدية وضيقوا عليها، وكانت الأقوات بالمهدية قليلة، فسير إليهم صاحب صقلية عشرين شينياً فيها الرجال والطعام والسلاح، فدخلوا البلد، وأرسلوا إلى العرب وبذلوا لهم مالاً لينهزموا، وخرجوا من الغد، فاقتتلوا هم وأهل زويلة، فانهزمت العرب، وبقي أهل زويلة وأهل سفاقس يقاتلون الفرنج بظاهر البلد، وأحاط بهم الفرنج، فانهزم أهل سفاقس وركبوا في البحر فنجوا، وبقي أهل زويلة، فحمل عليهم الفرنج فانهزموا إلى زويلة، فوجدوا أبوابها مغلقة فقاتلوا تحت السور، وصبروا حتى قتل أكثرهم ولم ينج إلا القليل فتفرقوا، ومضى بعضهم إلى عبد المؤمن.
فلما قتلوا هرب من بها من الحرم والصبيان والشيوخ في البر، ولم يعرجوا على شيء من أموالهم، ودخل الفرنج زويلة وقتلوا من وجدوا فيها من النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، واستقر الفرنج بالمهدية إلى أن أخذها عبد المؤمن منهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر القبض على سليمان شاه وحبسه بالموصل:

في هذه السنة قبض زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين مودود ابن زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، على الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه عند عمه السلطان سنجر قديماً، وقد جعله ولي عهده، وخطب له في منابر خراسان، فلما جرى لسنجر مع الغز ما ذكرناه، وتقد م على عسكر خراسان، وضعفوا عن الغز، مضى إلى خوارزمشاه فزؤجه ابنة أخيه أقسيس، ثم بلغه عنه ما كرهه فأبعده، فجاء إلى أصفهان فمنعه شحنتها من الدخول، فضى إلى قاشان، فسير إليه محمد شاه ابن أخيه محمود بن محمد عسكراً أبعدوه عنها،فسار إلى خوزستان، فمنعه ملكشاه عنها، فقصد اللحف ونزل البندنيجين، وأرسل رسولاً إلى المقتفي يعلمه بوصوله، وترددت الرسل بينهما، إلى أن أستقر الأمر على أن يرسل زوجته تكون رهينة، فأرسلها إلى بغداد ومعها كثير من الجواري والأتباع، وقال: قد أرسلت هؤلاء رهائن، فإن أذن أمير المؤمنين في دخول بغداد فعلت وإلا رجعت.
فأكرم الخليفة زوجته ومن معها، وأذن له في القدوم إليه، فقدم ومعه عسكر خفيف يبلغون ثلاثمائة رجل، فخرج ولد الوزير ابن هبيرة يلتقيه، ومعه قاضي القضاة والنقيبان، ولم يترجل له ابن الوزير، ودخل بغداد وعلى رأسه الشمسة، وخلع عليه الخليفة، وأقام ببغداد إلى أن دخل المحرم من سنة إحدى وخمسين وخمسمائة فأحضر فيه سليمان شاه إلى دار الخلافة، وأحضر قاضي القضاة والشهود وأعيان العباسيين، وحلف للخليفة على النصح والموافقة ولزوم الطاعة، وأنه لا يتعرض إلى العراق بحال.
فلما حاف خطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه غياث الدنيا والدين وباقي ألقابه، وخلع عليه خلع السلطنة، وسير معه من عسكر بغداد ثلاثة آلاف فارس، وجعل الأمير قويدان صاحب الحلة أمير حاجب معه، وسار نحو بلاد الجبل في ربيع الأول، وسار الخليفة إلى حلوان، وأرسل إلى ملكشاه ابن السلطان محمود اخي السلطان محمد صاحب همذانوغيرها يدعوه إلى موافقته، فقدم في ألفي فارس، فحلف كل منهما لصاحبه وجعل ملكشاه ولي عهد سليمان شاه، وقواهما الخليفة بالمال والأسلحة وغيرها، فساروا واجتمعوا هم وإيلدكز، فصاروا في جمع كبير.
فلما سمع السلطان محمد خبرهم أرسل إلى قطب الدين مودود، صاحب الموصل ونائبه زين الدين يطلب منهما المساعدة والمعاضدة، ويبذل لهما البذول الكثيرة إن ظفر، فأجاباه إلى ذلك ووافقا، فقويت نفسه وسار إلى لقاء سليمان شاه ومن اجتمع معه من عساكره، ووقعت الحرب بينهم في جمادى الأولى، واشتد القتال بين الفريقين، فانهزم سليمان شاه ومن معه، وتشتت العسكر ووصل من عسكر الخليفة، وكانوا ثلاثة آلاف رجل، نحو من خمسين رجلاً، ولم يقتل منهم أحد، وإنما أخذت خيولهم وأموالهم، وتشتتوا وجاؤوا متفرقين.
وفارق سليمان شاه إيلدكز وسار نحو بغداد على شهرزور، فخرج إليه زين الدين علي في جماعة من عسكر الموصل، وكان بشهرزور الأمير بزان مقطعاً لها من جهة زين الدين، فخرج زين الدين وسار، فوقفا على طريق سليمان شاه، فأخذاه أسيراً، وحمله زين الدين إلى قلعة الموصل وحبسه بها مكرماً محترماً، إلى أن كان من أمره ما نذكره سنة خمس وخمسين أن شاء الله؛ فلما قبض سليمان شاه أرسل زين الدين إلى السلطان محمود يعرفه ذلك، ووعده المعاضدة على كل ما يريده منه.