فصل: ذكر موت سليمان بن عبد الملك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة تسع وستعين:

.ذكر موت سليمان بن عبد الملك:

في هذه السنة توفي سليمان بن عبد الملك بن مروان لعشر بقين من صفر، فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، وقيل توفي لعشر مضين من صفر، فتكون ولايته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وكان الناس يقولون: سليمان مفتاح الخبر، ذهب عنهم الحجاج وولي سليمان فأطلق الأسرى وأخلى السجون وأحسن إلى الناس واستخلف عمر بن عبد العزيز. وكان موته بدابق من أرض قنسرين، لبس يوماً حلةً خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرآة فقال: أنا الملك الفتى، فما عاش جمعة، ونظرت إليه جارية فقال: ما تنظرين؟ فقالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ** غير أن لا بقاء للإنسان

ليس فيما علمته فيك عيب ** كان في الناس غير أنك فان

قيل: وشهد سليمان جنازة بدابق فدفنت في حقل فجعل سليمان يأخذ من تلك التربة ويقول: ما أحسن هذه التربة وأطيبها! فما أتى عليه جمعة حتى دفن إلى جانب ذلك القبر.
قيل: حج سليمان وحج الشعراء، فلما كان بالمدينة قافلاً تلقوه بنحو أربعمائة أسير من الروم، فقعد سليمان وأقربهم منه مجلساً عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، فقدم بطريقهم، فقال: يا عبد الله اضرب عنقه! فأخذ سيفاً من حرسي فضربه فأبان الرأس وأطن الساعد وبعض الغل ودفع البقية إلى الوجوه يقتلونهم، ودفع إلى جرير رجلاً منهم، فأعطاه بنو عبس سيفاً جيداً، فضربه فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسيراً، فأعطوه سيفاً ردياً لا يقطع، فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئاً، فضحك سليمان والقوم وشمت به بنو عبس أخوال سليمان، وألقى السيف وأنشأ يقول:
وإن يك سيف خان أو قدر أتى ** بتأخي نفسٍ حتفها غير شاهد

فسيف بني عبسٍ وقد ضربوا به ** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

كذاك سوف الهند تنبو ظباتها ** وتقطع أحياناً مناط القلائد

ورقاء هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، ضرب خالد بن جعفر ابن كلاب وخالد قد أكب على أبيه زهير وضربه بالسيف فصرعه، فأقبل ورقاء فضرب خالداً ضربات فلم يصنع شيئاً، فقال ورقاء بن زهير:
رأيت زهيراً تحت كلكل خالدٍ ** فأقبلت أسعى كالعجول أبادر

فشلت يميني يوم أضرب خالداً ** ويمنعه مبني الحديد المظاهر

.ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز:

في هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز.
وسبب ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما كان بدابق مرض، على ما وصفنا، فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه، وهو غلام لم يبلغ، فقال له رجاء بن حيوة: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على الناس الرجل الصالح. فقال سليمان: أنا أستخير الله وأنظر. ولم أعزم؛ فمكث سليمان يوماً أو يومين ثم خرقه ودعا رجاء فقال: ما ترى في ولدي دواد؟ قال الرجاء: رأيك. قال: فكيف ترى في عمر بن العزيز؟ قال رجاء: فقلت: أعلمه والله خيراً فاضلاً سليماً. قال سليمان: هو على ذلك ولئن وليته ولم أول أحداً سواه لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، وكان عبد الملك قد عهد إلى الوليد وسليمان أن يجعلا أخاهما يزيد ولي عهد، فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر، وكان يزيد غائباً في الموسم. قال رجاء: قلت رأيك. فتكب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة بعدي ومن بعدك يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. وختم الكتاب. وأرسل إلى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته فقال: ادع أهل بيتي. فجمعهم كعب. ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي إليهم وأخبرهم بكتابي ومرهم فيبايعوا من وليت فيه.
ففعل رجاء، فقالوا: ندخل ونسلم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم. فدخلوا، فقال لهم سليمان: في هذا الكتاب، وهو يشير إلى الكتاب الذي في يد رجاء بن حيوة، عهدي فاسمعوا وأطيعوا لمن سيمت فيه. فبايعوه رجلاً رجلاً وتفرقوا.
وقال رجاء: فأتاني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئاً من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ذلك. قال رجاء: ما أنا بمخيبرك حرفاً قال: فذهب عمر عني غضبان.
قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك فقال: إن لي بك حرمةً وموده قديمة وعندي شكر فأعلمني بهذا الأمر، فإن كان إلى غيري تكلمت والله علي أن لا أذكر شيئاً من ذلك أبداً. قال رجاء: فأبيت أن أخبره حرفاً، فانصرف هشام وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول: فإلى من إذاً نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ قال رجاء: ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت حرفته إلى القبلة فيقول حين يفيق: لم يأن بعد. ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئاً، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فحرفته، فمات، فلما غمضته وسجيته وأغلقت الباب أرسلت إلي زوجته فقالت: كيف أصبح؟ فقلت: هو نائم قد تغطى. ونظر إليه الرسول متغطياً فرجع فأخبرها، فظنت أنه نائم، قال: فأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يبرح ولا يترك أحداً يدخل على الخليفة.
قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن جابر فجمع أهل بيت سليمان، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا. فقالوا قد بايعنا مرة. قلت: وأخرى، هذا عهد أمير المؤمنين. فبايعوا الثانية، فلما بايعوا بعد موته رأيت أني قد أحكمت الأمر فقلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات. قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون! وقرأت الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا نبايعه والله أبداً. قلت: أضرب واله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه. قال رجاء: فأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه. فبايعوه.
وغسل سليمان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز ودفن. فلما دفن أتي عمر بمراكب الخلافة ولكل دابة سائس، فقال: ماهذا؟ فقيل: مراكب الخلافة. قال: دابتي أوفق لي، وركب دابته وصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائراً، فقيل له: أمنزل الخلافة؟ فقال: فيه عيال أبي أيوب، يعني سليمان، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا. فأقام في منزله حتى فرغوه.
قال رجاء: فأعجبني ما صنع في الدواب ومنزل سليمان، ثم دعا كاتباً فأملى عليه كتاباً واحداً وأمره أن ينسخه ويسيره إلى كل بلد.
وبلغ عبد العزيز بن الوليد، وكان غائباً، عن موت سليمان، ولم يعلم ببيعة عمر، فعقد لواء ودعا إلى نفسه، فبلغه بيعة عمر بعهد سليمان وأقبل حتى دخل عليه، فقال له عمر: بلغني أنك بايعت من قبلك وأردت دخول دمشق! فقال: قد كان ذاك وذلك أنه بلغني أن سليمان لم يكن عهد لأحد فخفت على الأموال أن تنهب. فقال عمر: لو بايعت وقمت بالأمر لم أنازعك فيه ولقعدت في بيتي. فقال عبد العزيز: ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك، وبايعه، وكان يرجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده.
فلما استقرت البيعة لعمر بن عبد العزيز قال لأمرأته فاطمة بنت عبد الملك: أن أردت صحبتي فردي ما معك من مال وحلى وجوهر إلى بيت مال المسلمين فإنه لهم، فإني لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد. فرددته جميعه.
فلما توفي عمر وولي أخوها يزيد رده عليها وقال: أنا أعلم أن عمر ظلمك. قالت: كلا والله. وامتنعت من أخذه وقالت: ما كنت أطيعه حياً وأعصيه ميتاً. فأخذه يزيد وفرقه على أهله.

.ذكر ترك سب أمير المؤمنين علي عليه السلام:

كان بنو أمية يسبون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فترك ذلك وكتب إلى العمال في الآفاق بتركه.
وكان سبب محبته علياً أنه قال: كنت بالمدينة أتعلم العلم وكنت ألزم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فبلغه عني شيء من ذلك، فأتيته يوماً وهو يصلي، فأطال الصلاة، فقدت أنتظر فراغه، فلما فرغ من صلاته التفت إلي فقال لي: متى عملمت أن الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟ قلت: لم أسمع ذلك. قال: فما الذي بلغني عنك في علي؟ فقلت: معذرة إلى الله وإليك! وتركت ما كنت عليه، وكان أبي إذا خطب فنال من علي، رضي الله عنه، تلجلج فقلت: يا أله إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيراً؟ قال: أوفطنت لذلك؟ قلت: نعم. فقال: يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفروا عنا إلى أولاده.
فلما ولي الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدينا ما يرتكب هذا الأمر العظيم لأجلها، فترك ذلك وكتب بتركه وقرأ عوضه: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} [النحل: 90] الآية؛ فحل هذا الفعل عند الناس محلا حسناً وأكثروا مدحه بسببه؛ فمن ذلك قوله كثير عزة:
وليت فلم تشتم علياً ولن تخف ** برياً ولم تتبع مقالة مجرم

تكلمت بالحق المبين وإنما ** تبين آيات الهدى بالتكلم

وصدقت معروف الذي قلت بالذي ** فعلت فأضحى راضياً كل مسلم

ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه ** من الأود البادي ثقاف المقوم

فقال عمر حين أنشده هذا الشعر: أفلحنا إذاً.

.ذكر عدة حوادث:

وفي هذه السنة وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة، وهو بأرض الروم، يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه له خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً، وحث الناس على معونتهم. وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا من المسلمين جماعة، فوجه عمر حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الترك ولم يفلت منهم إلا اليسير، وقدم على عمر منهم بخمسن أسيراً. وفيها عزل يزيد بن المهلب عن العراق ووجه إلى البصرة عدي بن أرطاة الفزاري وعلى الكوفة عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زبد بن الخطاب العدوي القرشي، وضم إليه أبا الزناد، وكان كاتبه، وبعث عدي في أثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري.
وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حازم، وكان عامل عمر على المدينة. وكان العامل على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى القضاء بها عامر الشعبي. وكان على البصرة عدي بن أرطاة، وعلى القضاء الحسن بن فعزله عدي واستقضى أياساً.
واستعمل عمر بن عبد العزيز على خراسان الجراح بن عبد الله الحمي.
في هذه السنة مات نافع بن جبير بن مطعم بن عدي بالمدينة. ومود ابن الربيع ولد على عهد رسول الله، مطلوب وأبو ظبيان بن حصين بن جندب الجنبي والد قابوس؛ ظبيان بالظاء المعجمة. وفيها توفي أو هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب من سم سقيه عند عوده من الشام، وضع عليه سليمان بن عبد الملك من سقاه، فلما أحس بذلك عاد إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو بالحميمة فعرفه حاله وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده وأعلمه كيف يصنع، ثم مات عنده. وفي أيام سليمان توفي عبيد الله بن شريح المغني المشهول. وعبد الرحمن بن كعب بن مالك أبو الخطاب. ثم دخلت:

.سنة مائة:

.ذكر خروج شوذب الخارجي:

في هذه السنة خرج شوذب، واسمه بسطام، من بني يشكر، في جوخى، وكان في ثمانين رجلاً، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد عاملة بالكوفة أن لا يحركهم حتى سفكوا دماء وفسدوا في الأرض، فإن فعلوا وجه إليهم رجلاً صليباً حازماً في جند.
فبعث عبد الحميد محمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين وأمره بما كتب به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه وقد وقدم عليه محمد بن جرير، فقام بإزائه لا يترحك.
فكان في كتاب عمر: بلغني أنك خرجت غضباً لله ولرسوله ولست أولى بذلك مني، فهلم إلي أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك.
فكتب بسطام إلى عمر: قد أنصفت وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرنك.
وأرسل إلى عمر مولى لبني شيبان حبشياً اسمه عاصم، ورجلاً من بني يشكر، فقدما على عمر بخناصرة فدخلا إليه، فقال لهما: ما أخرجكما هذا المخرج وما الذي نقمتم؟ فقال عاصم: ما نقمنا سيرتك، إنك لتتحرى العدل والإحسان، فاخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضىً من الناس ومشورة أم ابتززتم أمرهم؟ فقال عمر: ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم عليها، وعهد إلي رجل كان قبلي فقمت ولم ينكره على أحد ولم يكرهه غيركم، وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس، فاتركوني ذلك الرجل، فإن خالفت الحق ورغبت عنه فلا طاعة لي عليكم.
قالا: بيننا وبينك أمر واحد قال: ما هو. قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسميتها مظالم، فإن كنت على هدىً وهم على الضلالة فالعنهم وابرأ منهم. فقال عمر: قد علمت أنكم لم تخرجوا طلباً للدنيا ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها، وإن الله، عز وجل، لم يبعث رسول صلى الله عليه وسلم، لعاناً، وقال إبراهيم {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} إبراهيم: 36. وقال الله، عز وجل: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} الأنعام: 90. وقد سميت أعمالهم ظلماً، وكفى بذلك ذماً ونقصاً، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بد منها، فإن قلتم إنها فريضة فأخبرني متى لعنت فرعون؟ قال: ما أذكر متى لعنته.
قال: أفيسعك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم ولا يسعني أن لا ألعن أهل بيتي وهم مصلون صائمون! قال: أما هم كفار بظلمهم؟ قال: لا لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دعا الناس إلى الإيمان، فكان من أقر به وبشرائعه قبل منه، فإن أحدث حدثاً أقيم عليه الحد.
فقال الخارجي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده. قال عمر: فليس أحد منهم يقول لا أعمل بسنة رسول الله، ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم أنه محرم عليهم، ولكن غلب عليهم الشقاء. قال عاصم: فابرأ مما خالف عملك ورد أحكامهم. قال عمر: أخبراني عن أبي بكر وعمر أليسا على حق؟ قالا: بلى. قال: أتعلمان أن أبا بكر حين قاتل أهل الردة سفك دماءهم وسبى الذراري وأخذ الأموال؟ قالا: بلى. قال: أتعلمان أن عمر رد السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية؟ قالا: نعم. قال: فهل برئ عمر من أبي بكر؟ قالا: لا. قال: أفتراون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبراني عن أهل النهروان وهم أسلافكم هل تعلمان أن أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دماً ولم يأخذوا مالاً وأن من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبد الله بن خباب وجاريته وهي حامل؟ قالا: نعم. قال: فهل برئ من لم يقتل ممن قتل واستعرض؟ قالا: لا. قال: أفتبرأون أنتم من أحد من الطائفتين؟ قالا: لا. قال: أفيسعكم أن تتلوا أبابكر وعمر وأهل البصرة وأهل الكوفة وقد علمتم اختلاف أهمالهم ولا يسعني إلا البراءة من أهل بيتي والدين واحد! فاتقوا الله! فإنكم جهال تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتردون عليهم ما قبل، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، فإنكم يخاف عندكم من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وكان من فعل ذلك عند رسول الله آمنا وحقن دمه وماله، وأنتم تقتلونه، ويامن عندكم سائر أهل الأديان فتحرمون دماءهم وأموالهم.
قال اليشكري: أرأيت رجلاً ولي قوماً وأموالهم فعدل فيها ثم صيرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدى الحق الذي يلزمه لله، عز وجل، أو تراه قد سلم؟ قال: لا. قال: أفتسلم هذا الأمر إلى يزيد من بعدك وأنت تعرف أنه لا يقوم فيه بالحق؟ قال: إنما ولاه غيري والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي. قال: أفترى ذلك من صنع من ولاه حقاً؟ فبكى عرم وقال: أنظراني ثلاثاً.
فخرجا من عنده ثم عاد إليه فقال عاصم: أشهد أنك على حق. فقال عمر لليسكري: ما تقول أنت؟ قال: ما أحسن ما وصفت ولكني لا أفتات على المسلمين بأمر، أعرض عليهم ما قلت وأعلم ما حجتهم.
فأما عاصم فأقام عند عمر، فأمر له عمر بالعطاء، فتوفي بعد خمسة عشر يوماً. فكان عم بن عبد العزيز يقول: أهلكني أمر يزيد وخصمت فيه، فأستغفر الله.
فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم من الأموال وأن يخلع يزيد ولاية العهد، فوضعوا على عمر من سقاه سماً، فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثاً حتى مرض ومات، ومحمد بن جرير مقابل الخوارج لا يتعرض إليهم ولا يتعرضون إليه، كل منهم ينتظر عود الرسل من عند عمر بن عبد العزيز، فتوفي والأمر على ذلك.

.ذكر القبض على يزيد بن المهلب واستعمال الجراح على خراسان:

قيل: وفي هذه السنة كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة يأمره بإنفاذ يزيد بن المهلب إليه موثقاً، وكان عمر قد كتب إليه أن يستخلف على عمله ويقبل إليه، فاستخلف مخلداً ابنه وقدم من خراسان ونزل واسطاً، ثم ركب السفن يريد البصرة، فبعث عدي بن أرطاة موسى بن الوجيه الحميري، فلحقه في نهر معقل عند الجسر، فأوثقه وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فدعا به عمر، وكان يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم. وكان يزيد ببغض عمر ويقول: إنه مراءٍ، لما ولي عمر عرف يزيد أنه بعيد من الرياء، وملا دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان، فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني به. فقال له: لا أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها.
وحبسه بحصن حلب، وبعث الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان أميراً عليها، وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس، ففرق أموالاً عظيمة، ثم قدم على عمر فقال له: يا أمير المؤمنين إن الله صنع لهذه الأمة بولايتك وقد ابتلينا بك، فلا نكن نحن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا السيخ؟ أنا أتحمل ما عليه فصالحنني على ما تسأل. فقال عمر فقال له: يا أمير المؤمنين إن الله صنع لهذه الأمة بولايتك وقد ابتلينا بك، فلا نكن نحن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ؟ أنا أتحمل ما عليه فصالحني على ما تسأل. فقال عمر: لا ألا أن يحمل الجميع. فقال: يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينة فخذ بها وإلا فصدق مقالة يزيد واستحلفه فإن لم يفعل فصالحه. فقال عمر: ما آخذه إلا بجميع المال. فخرج مخلد من عنده، فقال عمر: هذا خير من أبيه. ثم لم يلبث مخلد إلا قليلاً حتى مات، فصلى عليه عمر بن عبد العزيزي، فقال: اليوم مات فتى العرب؛ وأنشد:
بكوا حذيفة لم يبكوا مثله ** حتى تبيد خلائق لم تخلق

فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئاً ألبسه جبة صوف وحمله على جمل وقال: سيروا به إلى دهلك. فلما خرج ومروا به على الناس أخذ يقول: أما لي عشيرة؟ إنما يذهب إلى دهلك الفاسق واللص. فدخل سلامة بن نعيم الخولاني على عمر فقال: يا أمير المؤمنين اردد يزيد إلى محبسه فإني أخاف إن أمضيته أن ينزعه قومه، فإنهم قد عصبوا له. فرده إلى محبسه، فبقى فيه حتى بلغه مرض عمر.

.ذكر عزل الجراح واستعمال عبد الرحمن بن نعيم القشيري وعبد الرحمن بن عبد الله:

وقيل: في هذه السنة عزل عمر الجراح بن عبد الله الحكمي عن خراسان واستعمل عليها عبد الرحمن بن نعيم القشيري، وكان عزل الجراح في رمضان.
وكان سبب ذلك أن يزيد لما عزل عن خراسان أرسل عامل العاق عاملاً على جرجان، فأخذ جهم بن زحر الجعفي، وكان على جرجان عاملاً ليزيد بن المهلب، فحبسه وقيده وحبس رهطاً قدموا معه، ثم خرج إلى الجراح بخراسان، فأطلق أهل جرجان عاملهم، وقال الجراح لجهم: لولا أنك ابن عمي لم أوسغك هذا فقال جهم: لولا أنك ابن عمي لم آتك.
وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنتي الحصين بن الحارث، وأما كونه ابن عمه فلأن الحكم والجعفي ابنا سعد القشيري.
فقال له الجراح: خالفت إمامك فاغز لعلك تظفر فيصلح أمرك عنده. فوجهه إلى الختل فغنم منهم ورجع، وأوفد الجراح إلى عمر وفداً رجلين من العرب ورجلاً من الموالي يكنى أبا الصيد، فتكلم العربيان والمولى ساكت، فقال عمر: ما أنت من الوفد؟ قال: بلى. قال: فما يمنعك من الكلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين عشرون ألفاً من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد اسلموا من الذمة يؤخذون بالخراج، فأميرنا عصبي جافٍ يقوم على منبرنا فيقول: أتيتكم حفياً، وأنا اليوم عصبي، والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم. وهو بعد سيف من سيوف الحجاج، قد عمل بالظلم والعدوان. قال عمر: إذن بمثلك يوفد.
فكتب عمر إلى الجراح: انظر من صلى قبلك إلى القبلة فضع عنه الجزية. فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفوراً من الجزية فامتحنهم بالحنان. فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب عمر إليه: إن الله بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، داعياً ولم يبعثه خاتناً، وقال: إيتوني رجلاً صدوقاً أسأله عن خراسان. فقيل له: عليك بأبي مجلز. فكتب إلى الجراح: أن أقبل واحمل أبا مجلز وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم العامري. فخطب الجراح وقال: يا أهل خراسان جئتكم في ثيابي هذه التي علي وعلى فرسي لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي. ولم يكن عنده إلا فرس وبغلة. فسار عنهم، فلما قدم على عمر قال: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان. قال: صدق من وصفك بالجفاء، هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج!
وكان الجراح كتب إلى عمر: إني قدمت خراسان فوجدت قوماً قد أبطرتهم الفتنة، فأحب الأمور إليهم أن يعودوا ليمنعوا حق الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، فكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك. فكتب إليه عمر: يا ابن أم الجراح، أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربن مؤمناً ولا معاهداً سوطاً إلا في الحق، واحذر القصاص، فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتاباً: {لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها}.
فلما قدم الجراح على عمر وقدم أبو مجلز قال له عمر: اخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: يكافي الأكفاء ويعادي الأعداء، وهو أمير يفعل ما يشاء، ويقدم إن وجد من يساعده. قال: فعبد الرحمن بن نعيم؟ قال: يحب العافية والتأني وهو أحب إلي. فولاه الصلاة والحرب، وولى عبد الرحمن القشيري الخراج، وكتب إلى أهل خراسان: إني استعملت عبد الرحمن على حربكم، وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم، وكتب إليهما يأمرهما بالمعروف والإحسان.
فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى مات عمر وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، ووجه مسلمة بن عبد العزيز الحارث بن الحكم فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف.

.ذكر ابتداء الدعوة العباسية:

في هذه السنة وجه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الدعاة في الآفاق.
وكان سبب ذلك أم محمداً كان ينزل أرض الشراة من أعمال البلقاء بالشام، فسار أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى الشام إلى سليمان بن عبد الملك، فاجتمع به محمد بن علي فأحسن صحبته، واجتمع أو هاشم بسليمان وأكرمه وقضى حوائجه، ورأى من علمه وفصاحته ما حسده عليه وخافه، فوضع عليه من وقف على طريقه فسمه في لبن.
فلما مات أو هاشم قصدوا محمداً وبايعوه وعادوا فدعوا الناس إليه، فأجابوهم، وكان الذين سيرهم إلى الآفاق جماعةً، فوجه ميسرة إلى العراق، ووجه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار، خال إبراهيم بن سلمة، إلى خراسان، وعليها الجراح الحكمي، وأمرهم بالدجعاء إليه وإلى أهل بيته. فلقوا من لقوا. ثم انصرفوا بكتب من استجاب لهم إلى محمد بن علي، فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها ميسرة إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فاختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثني عشر رجلاً نقباء، منهم: سليمان بن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود من بني شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميم، وعمران بن إسماعيل أبو النجم مولى آل أبي معيط، ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمر بن أعين أبو حمزة مولى خزاعة، وشبل بن طهمان أبو علي الهروي مولى لبني حنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة، واختار سبعين رجلاً، وكتب إليهم محمد بن علي كتاباً ليكون لهم مثالاً وسيرة يسرون بها.
الحميمة بضم الحاء المهملة. والشراة بالشين المعجمة.